موسوعة التفسير

سُورةُ الأحقافِ
الآيات (17-20)

ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﰎ

غريب الكلمات:

أُفٍّ: الأُفُّ: الرَّديءُ مِن الكَلامِ، وكُلُّ ما غَلُظَ مِنه وقَبُحَ، وهو اسمُ فِعلٍ يُنبئُ عن التَّضَجُّرِ والاستِثقالِ، أو صَوتٌ يُنبئُ عن ذلك، وأصلُ (أفف): يدُلُّ على تَكَرُّهِ الشَّيءِ [297] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (14/545)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 93)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/16)، ((البسيط)) للواحدي (13/305)، ((المفردات)) للراغب (ص: 79)، ((تفسير الشوكاني)) (3/260). قال الألوسي: (أُفٍّ صوتٌ يَصدُرُ عن المرءِ عندَ تضَجُّرِه، وفيه قِراءاتٌ ولُغاتٌ نحوَ الأربعينَ). ((تفسير الألوسي)) (13/ 177). .
خَلَتِ: أي: مَضَتْ وذَهبَتْ، مِن خلا الزَّمانُ: إذا مَضَى وذهَبَ [298] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (2/588)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/204)، ((المفردات)) للراغب (ص: 297)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 50)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 96). .
الْقُرُونُ: جمعُ قَرْنٍ، وهو: الأُمَّةُ مِنَ النَّاسِ، أو القَومُ المُقترِنونَ في زَمنٍ واحدٍ، غَيْر مُقَدَّرٍ بمدَّةٍ مُعَيَّنةٍ، وقيل: مدَّةُ القرنِ مِئةُ سَنةٍ، وقيل: ثمانونَ، وقيل: ثلاثون، وقيل غيرُ ذلك، والاقترانُ هو اجتِماعُ شيئَينِ أو أشياءَ في معنًى مِن المعاني، وأصلُ (قرن): يدُلُّ على جَمعِ شَيءٍ إلى شَيءٍ [299] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 150)، ((معاني القرآن)) للنحاس (2/400)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/76، 77)، ((المفردات)) للراغب (ص: 667)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 155)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 729). .
وَيْلَكَ: الويلُ: كلمةُ دُعاءٍ بالهلاكِ والعذابِ، وتُستعمَلُ أيضًا في التَّحسُّرِ، وقيل: هي وادٍ في جهنَّمَ، وأصْلُ الوَيلِ: الشَّرُّ وحُلولُه [300] يُنظر: ((العين)) للخليل بن أحمد (8/366)، ((تفسير ابن جرير)) (2/164)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 478)، ((المفردات)) للراغب (ص: 888)، ((تفسير القرطبي)) (9/339)، ((تفسير ابن عاشور)) (25/331). .
أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ: أي: أباطيلُهم وتُرَّهاتُهم، جمعُ أُسطورةٍ، وهي: ما سُطِرَ مِن أخبارِ الأوَّلينَ وكَذِبِهم، وأصلُ (سطر): يدُلُّ على اصطفافِ الشَّيءِ [301] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 37)، ((تفسير ابن جرير)) (9/200)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 57)، ((المفردات)) للراغب (ص: 409)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 94)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 116). .
الْهُونِ: أي: الهَوانِ والذُّلِّ والخِزْيِ، وأصلُ (هون): يدُلُّ على ذُلٍّ [302] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 156)، ((تفسير ابن جرير)) (20/404)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (6 /21)، ((المفردات)) للراغب (ص: 849)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 99)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 962). .
تَفْسُقُونَ: أي: تَخرُجونَ عن الطَّاعةِ، وذلك مِن قولِهم: فسَقَ الرُّطَبُ، إذا خرجَ عَن قِشرِه، والفُسوقُ: خروجٌ مِن الطَّاعةِ إلى المعصيةِ، وخروجٌ مِن الإيمانِ إلى الكُفرِ [303] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/150)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 368)، ((المفردات)) للراغب (ص: 636، 819)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 693)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 117). .

المعنى الإجمالي:

يخبِرُ الله تعالى عن حالِ الأشْقياءِ العاقِّينَ للوالدينِ، فيقولُ: والَّذي قال لِوالِدَيه إذْ دَعَواه إلى الإيمانِ باللهِ واليَومِ الآخِرِ: أُفٍّ لَكما، أتَعِدانِني أن أُبعَثَ بعدَ مَوتي وقد مَضَت أُمَمٌ كَثيرةٌ مِن قَبْلي، ولم يَرجِعْ منهم أحَدٌ؟!
ثمَّ يذكرُ اللهُ تعالى ما ردَّ به الأبَوانِ، فيقولُ: ووالِداه يَطلُبانِ مِن اللهِ الغَوثَ بأن يَهديَ ابنَهما إلى الحَقِّ، يَقولانِ له: وَيْلَك آمِنْ بالبَعثِ بعدَ الموتِ، إنَّ ما وَعَد اللهُ به عِبادَه مِن البَعثِ بعدَ الموتِ حقٌّ لا شَكَّ فيه، فيَقولُ هذا المُكَذِّبُ العاقُّ لوالِدَيه: ما هذا الَّذي تَدْعُوانِني إلى الإيمانِ به إلَّا أحاديثُ الأقدَمينَ ممَّا لا حقيقةَ له!
ثمَّ يُبيِّنُ الله تعالى عقوبةَ هؤلاءِ الأشقياءِ، فيقولُ: أولئك العاقُّونَ المُكَذِّبونَ بالبَعثِ هم الَّذين وَجَب عليهم عذابُ اللهِ في قضائِه السَّابقِ مُندَرِجينَ في جُملةِ مَن يُعَذِّبُهم اللهُ مِنَ الأُمَمِ الكافِرةِ الَّتي مَضَت قَبْلَهم مِنَ الجِنِّ والإنسِ، إنَّهم كانوا خاسِرينَ؛ لأنَّهم استحَبُّوا الكُفرَ على الإيمانِ.
 ويُبيِّنُ سبحانَه أحدَ مظاهرِ عدلِه في حُكمِه بيْنَ عِبادِه، فيقولُ: ولِكُلٍّ مِن هؤلاءِ الفريقَينِ: فَريقِ المؤمِنِ البارِّ بوالِدَيه، وفَريقِ الكافِرِ العاقِّ لِوالِدَيه- مَنازِلُ عندَ اللهِ يومَ القيامةِ بحَسَبِ ما عَمِلوه في الدُّنيا مِن خَيرٍ أو شَرٍّ، ولِيُعطيَهم اللهُ جزاءَ أعمالِهم كامِلةً وافيةً، وهم لا يُظلَمونَ.
ثمَّ يذكرُ تعالى ما يُوبَّخُ به الكفَّارُ عندَ عرضِهم على النَّارِ، فيقولُ: واذكُرْ -يا محمَّدُ- يومَ يُعرَضُ الَّذين كَفَروا على النَّارِ، فيُقالُ لهم تَوبيخًا: ضيَّعتُم وأتلَفْتُم الطَّيِّباتِ الَّتي أنعَمَ اللهُ بها عليكم في حياتِكم الدُّنيا؛ حيثُ استَمتَعْتُم بِها واستَوفيتُموها في دُنياكم؛ فأنتم تُحرَمونَ منها في أُخراكم التي لم تَعمَلوا لأجْلِها شَيئًا؛ فيَومَ القيامةِ تُجزَونَ عذابَ الهُونِ والخِزْيِ والذُّلِّ؛ بسبَبِ استِكبارِكم في الأرضِ بغيرِ الحَقِّ، وبسَبَبِ خُروجِكم عن طاعةِ اللهِ!

تفسير الآيات:

وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آَمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (17).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا ذَكَر اللهُ سُبحانَه المحسِنَ بادِئًا به؛ لِكَونِ المقامِ للإحسانِ؛ أتْبَعَه المُسيءَ المناسِبَ لمقصودِ السُّورةِ، المذكورَ صَريحًا في مَطلَعِها [304] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (18/152). .
وأيضًا لَمَّا ذَكَر تعالَى حالَ الدَّاعينَ للوالِدَينِ، البارِّينَ بهما، وما لَهم عندَه مِن الفَوزِ والنَّجاةِ؛ عَطَف بحالِ الأشقياءِ العاقِّينَ للوالدَينِ، فقال [305] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (7/283). ويُنظر أيضًا: ((تفسير الرازي)) (28/21). :
وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا.
أي: والَّذي قال لِوالِدَيه إذْ دَعَواه إلى الإيمانِ باللهِ واليَومِ الآخِرِ، مُتَضَجِّرًا منهما: أُفٍّ لَكما [306] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/144)، ((تفسير ابن كثير)) (7/283)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (18/152)، ((تفسير السعدي)) (ص: 781)، ((تفسير ابن عاشور)) (26/36، 37)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/224، 225). قال ابنُ الجوزي: (ورُوِيَ عن ابنِ عَبَّاسٍ أنَّها نزَلتْ في عبدِ الرَّحمنِ بنِ أبي بكرٍ قبْلَ إسلامِه، كان أبَواه يَدْعُوانِه إلى الإسلامِ، وهو يأبَى، وعلى هذا جُمهورُ المُفَسِّرينَ). ((تفسير ابن الجوزي)) (4/108). وقال السمعاني: (وأنكَر كثيرٌ مِن أهلِ التَّفسيرِ هذا القولَ، ورُوِيَ عن عائشَةَ أنَّها كانت تُنكِرُ أنَّ المرادَ بالآيةِ أخوها). ((تفسير السمعاني)) (5/155). وممَّن رَدَّ هذا القَولَ مِن المُفَسِّرينَ: الزَّجَّاجُ، والسمعاني، والبغوي، والزمخشري، وابنُ عطية، والرازي، وابن جُزَي، وابن كثير، والبِقاعي، وأبو السعود، وابن عاشور، والشنقيطي. يُنظر: ((معاني القرآن وإعرابه)) للزجاج (4/443)، ((تفسير السمعاني)) (5/156)، ((تفسير البغوي)) (4/196)، ((تفسير الزمخشري)) (4/ 303، 304)، ((تفسير ابن عطية)) (5/99)، ((تفسير الرازي)) (28/21)، ((تفسير ابن جزي)) (2/277)، ((تفسير ابن كثير)) (7/283)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (18/156)، ((تفسير أبي السعود)) (8/ 84)، ((تفسير ابن عاشور)) (26/ 37)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/224). قال ابن جُزَي: (وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا هي على الإطلاقِ فيمَن كان على هذه الصِّفةِ مِن الكُفرِ والعُقوقِ لِوالِدَيه، ويدُلُّ على أنَّها عامَّةٌ قَولُه تعالى: أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ بصيغةِ الجَمعِ، ولو أراد واحِدًا بعَينِه لَقال: ذلك الَّذي حَقَّ عليه القَولُ). ((تفسير ابن جزي)) (2/277). وقال الشِّنقيطي: (والإخبارُ عن لَفظةِ «الَّذي» بقَولِه: أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ بصِيغةِ الجَمعِ: صريحٌ في أنَّ المرادَ بـ «الَّذي» العُمومُ لا الإفرادُ، وخيرُ ما يُفَسَّرُ به القُرآنُ القُرآنُ. وبهذا الدَّليلِ القُرآنيِّ تَعلَمُ أنَّ قَولَ مَن قال في هذه الآيةِ الكريمةِ إنَّها نازِلةٌ في عبدِ الرَّحمنِ بنِ أبي بَكرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ الله عنهما: ليس بصَحيحٍ، كما جَزَمَت عائِشةُ رَضِيَ الله عنها ببُطلانِه [يُنظر ما أخرجه البخاري (4827)]. وفي نَفْسِ آيةِ «الأحقاف» هذه دَليلٌ آخَرُ واضِحٌ على بُطلانِه، وهو أنَّ اللهَ تعالى صَرَّح بأنَّ الَّذين قالوا تلك المقالةَ حَقَّ عليهم القَولُ، وهو قَولُه تعالى: وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ [السجدة: 13]، ومَعلومٌ أنَّ عبدَ الرَّحمنِ بنَ أبي بكرٍ رَضِيَ الله عنهما أسلَمَ وحَسُنَ إسلامُه، وهو مِن خيارِ المُسلِمينَ وأفاضِلِ الصَّحابةِ رَضِيَ اللهُ عنهم). ((أضواء البيان)) (7/224). ويُنظر: ((فتح الباري)) لابن حجر (8/ 577). وقال الزمخشري في معنى أُفٍّ: (هو صوتٌ إذا صوَّت به الإنسانُ عُلِم أنَّه مُتضَجِّرٌ... واللَّامُ للبَيانِ، معناه: هذا التَّأفيفُ لَكما خاصَّةً، ولِأجْلِكما دونَ غَيرِكما). ((تفسير الزمخشري)) (4/304). وقال ابن جرير: (أُفٍّ لَكُمَا يقولُ: قَذَرًا لَكُما ونَتْنًا). ((تفسير ابن جرير)) (21/144). وقال مقاتلُ بنُ سُلَيمانَ: (أُفٍّ لَكُمَا يعني: قُبحًا لكما الرَّديءُ مِنَ الكلامِ). ((تفسير مقاتل ابن سليمان)) (4/21). .
أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي.
أي: يَقولُ هذا العاقُّ لِوالِدَيه المؤمِنَينِ: أتَعِدانِني أن أُبعَثَ بعدَ مَوتي، فأُخرَجَ مِن قَبري حيًّا، والحالُ أنَّه قد مَضَت الأُمَمُ الأُولَى قبْلي، ولم يَرجِعْ منهم أحَدٌ بعدَ مَوتِه [307] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/144، 145)، ((تفسير ابن عطية)) (5/99)، ((تفسير ابن كثير)) (7/284)، ((تفسير السعدي)) (ص: 781)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/226). قال ابنُ عاشور: (المعنى: أنَّه أحال أن يَخرُجَ هو مِنَ الأرضِ بعدَ الموتِ، وقد مَضَت أمَمٌ كَثيرةٌ وطال عليها الزَّمَنُ، فلم يخرُجْ منهم أحدٌ، وهذا مِن سوءِ فَهمِه في مَعنى البَعثِ، أو مِن المغالَطةِ في الاحتِجاجِ؛ لأنَّ وعْدَ البَعثِ لم يُوقَّتْ بزمَنٍ مُعَيَّنٍ، ولا أنَّه يقعُ في هذا العالَمِ). ((تفسير ابن عاشور)) (26/38، 39). ؟!
وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ.
أي: ووالِداه يَطلُبانِ مِن اللهِ أنْ يُغيثَهما بأن يَهديَ ابنَهما إلى الحَقِّ [308] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/145)، ((تفسير القرطبي)) (16/198)، ((تفسير ابن كثير)) (7/284)، ((تفسير السعدي)) (ص: 781)، ((تفسير ابن عاشور)) (26/39)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/226). .
وَيْلَكَ آَمِنْ.
أي: يقولانِ لِوَلدِهما الكافِرِ: وَيْلَك آمِنْ بما وَعَد اللهُ به عِبادَه مِن البَعثِ بعدَ الموتِ [309] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/145)، ((تفسير القرطبي)) (16/198)، ((تفسير ابن كثير)) (7/284)، ((تفسير ابن عاشور)) (26/39)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/226). قال البِقاعي: (إشارةٌ إلى أنَّه لم يَبقَ له إنْ أعرضَ إلَّا الويلُ، وهو الهلاكُ). ((نظم الدرر)) (18/154). .
إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ.
أي: إنَّ ما وَعَد اللهُ به عِبادَه مِن البَعثِ بعدَ الموتِ للحِسابِ والجزاءِ صِدْقٌ لا شَكَّ فيه، ووَعدٌ لا خُلْفَ فيه [310] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/145)، ((تفسير القرطبي)) (16/198)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/226). .
فَيَقُولُ مَا هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ.
أي: فيَقولُ هذا المُكَذِّبُ بالبَعثِ لوالِدَيه: ما هذا الَّذي تَدْعُوانِني إلى الإيمانِ به إلَّا أحاديثُ الأقدَمينَ وقِصَصُهم الَّتي سطَّروها في كُتُبِهم، وهي خُرافاتٌ باطِلةٌ لا حقيقةَ لها [311] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/145)، ((تفسير ابن عطية)) (5/99، 100)، ((تفسير القرطبي)) (16/198)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (18/155)، ((تفسير السعدي)) (ص: 781)، ((تفسير ابن عاشور)) (26/39)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/226). !
أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ (18).
أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ.
أي: أولئك العاقُّونَ المُكَذِّبونَ بالبَعثِ القائِلونَ تلك المقالاتِ: هم الَّذين وَجَب عليهم عذابُ اللهِ، وسبَق عليهم القضاءُ بذلك، كائِنينَ في جُملةِ مَن يُعَذِّبُهم مِنَ الأُمَمِ الكافِرةِ الَّتي مَضَت قَبْلَهم مِنَ الجِنِّ والإنسِ، فسيَدخُلُ أولئك في عِدادِهم [312] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/146)، ((تفسير ابن جزي)) (2/ 240)، ((تفسير ابن كثير)) (7/284)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (18/156، 157)، ((تفسير الشوكاني)) (5/25)، ((تفسير السعدي)) (ص: 782)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/226، 227). .
كما قال تعالى: قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ [الأعراف: 38] .
إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ.
أي: إنَّهم كانوا خاسِرينَ ببَيعِهم الهُدى بالضَّلالِ، والجنَّةَ بالنَّارِ، وخَسِروا أنفُسَهم وأهلِيهم يومَ القيامةِ [313] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/146)، ((تفسير القرطبي)) (16/198)، ((تفسير ابن كثير)) (7/284)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (18/157)، ((تفسير السعدي)) (ص: 782). .
كما قال تعالى: قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ [الزمر: 15] .
وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (19).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّه لَمَّا قَسَّم اللهُ تعالى النَّاسَ في الأعمالِ؛ جمَعَهم في العَدلِ والإفضالِ [314] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (18/157). .
وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا.
أي: ولِكُلٍّ مِن هؤلاءِ الفريقَينِ: فَريقِ المؤمِنِ البارِّ بوالِدَيه، وفَريقِ الكافِرِ العاقِّ لِوالِدَيه- مَنازِلُ عندَ اللهِ يومَ القيامةِ بحَسَبِ ما عَمِلوه في الدُّنيا مِن خَيرٍ وشَرٍّ [315] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/146)، ((تفسير القرطبي)) (16/199)، ((طريق الهجرتين)) لابن القيم (ص: 419)، ((تفسير ابن كثير)) (7/284)، ((تفسير السعدي)) (ص: 782)، ((تفسير ابن عاشور)) (26/40، 41). قال الألوسي: (و«مِنْ» بيانيَّةٌ أو ابتدائيَّةٌ، و «ما» مَوصولةٌ، أي: مِنَ الَّذي عَمِلوه مِنَ الخَيرِ والشَّرِّ، أو مَصدريَّةٌ، أي: مِن عَمَلِهم الخَيرَ والشَّرَّ، ويجوزُ أن تكونَ «مِن» تعليليَّةً بدونِ تقديرِ مُضافٍ). ((تفسير الألوسي)) (13/179). وقال ابن عاشور: (و«مِنْ» في قولِه: مِمَّا عَمِلُوا تبعيضِيَّةٌ). ((تفسير ابن عاشور)) (26/41). .
وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ.
أي: ولِيُعطيَهم اللهُ جزاءَ أعمالِهم الَّتي عَمِلوها كامِلًا وافيًا [316] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/147)، ((البسيط)) للواحدي (20/187)، ((تفسير ابن عاشور)) (26/41). قال الزمخشري: (تَعليلٌ مُعَلَّلُه مَحذوفٌ؛ لدَلالةِ الكلامِ عليه، كأنَّه قيل: ولِيُوَفِّيَهم أعمالَهم ولا يَظلِمَهم حُقوقَهم قَدَّر جزاءَهم على مقاديرِ أعمالِهم، فجَعَل الثَّوابَ دَرَجاتٍ، والعِقابَ دَرَكاتٍ). ((تفسير الزمخشري)) (4/304، 305). ويُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (9/443)، ((تفسير ابن عاشور)) (26/41). .
وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ.
أي: وهم لا يُظلَمونَ شَيئًا مِن جزاءِ أعمالِهم؛ فلا يُنقَصُ مِن ثَوابِ المحسنينَ، ولا يُزادُ في عِقابِ المسيئينَ، ولا يُحمَّلونَ ذُنوبَ غَيرِهم، ولا يُعاقَبونَ على ما لم يَعمَلوه [317] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/147)، ((تفسير القرطبي)) (16/199)، ((تفسير ابن كثير)) (7/284)، ((تفسير السعدي)) (ص: 782). .
كما قال تعالى: الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ [غافر: 17] .
وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ (20).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّه لَمَّا بَيَّن اللهُ تعالى أنَّه يُوصِلُ حَقَّ كُلِّ أحَدٍ إليه؛ بيَّنَ أحوالَ أهلِ العِقابِ أوَّلًا [318] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (28/23). .
وأيضًا لَمَّا كان الظَّاهِرُ في هذه السُّورةِ الإنذارَ، كما يَشهَدُ به مَطلَعُها؛ ذَكَر بَعضَ ما يُبَكَّتُ به المجرِمونَ يومَ البَعثِ الَّذي كانوا به يُكَذِّبونَ، ويكونُ فيه توفيةُ جزاءِ الأعمالِ [319] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (18/159). .
وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ.
أي: واذكُرْ -يا محمَّدُ- يومَ يُعرَضُ الَّذين كَفَروا باللهِ على النَّارِ [320] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/147)، ((الهداية إلى بلوغ النهاية)) لمكي (11/6849)، ((تفسير الثعالبي)) (5/220)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/227، 228). قيل: معنى العَرضِ على النَّارِ: مُباشَرةُ عَذابِها. وممَّن ذهب إلى هذا القَولِ: ابنُ أبي زَمَنين، والزمخشري، وابن عطية، والثعالبي. يُنظر: ((تفسير ابن أبي زمنين)) (4/232)، ((تفسير الزمخشري)) (4/305)، ((تفسير ابن عطية)) (5/100)، ((تفسير الثعالبي)) (5/220). قال الشنقيطي: (وقد ذكَرَ تعالى مِثلَ ما ذكر هنا في قولِه: وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ [الأحقاف: 34] ، وهذا يدُلُّ على أنَّ المرادَ بالعَرضِ مُباشَرةُ العذابِ؛ لقولِه: قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ [الأحقاف: 34] ، وقولِه تعالى: وَحَاقَ بِآَلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ * النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا [غافر: 45، 46]؛ لأنَّه عَرضُ عذابٍ). ((أضواء البيان)) (7/ 227). وقيل: معنى ذلك: كَشفُ الغِطاءِ عن النَّارِ، وتقريبُهم منها، ورؤيتُهم لها. وممَّن ذهب إلى هذا القولِ: مقاتلُ بنُ سُلَيمانَ، والسمرقندي، والقرطبي. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/22)، ((تفسير السمرقندي)) (3/290)، ((تفسير القرطبي)) (16/199). وذلك كما قال تعالى: وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ [الكهف: 53]، وقال: وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ [الفجر: 23] . يُنظر: ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/227-229). .
أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا.
أي: يُقالُ لهم تَوبيخًا: استَمتَعْتُم بالملَذَّاتِ والشَّهَواتِ، فاستَوْفَيْتُموها في دُنياكم؛ فأنتم تُحرَمونَ منها في أُخراكم الَّتي لم تَعمَلوا مِن أجْلِها شَيئًا [321] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/147)، ((تفسير القرطبي)) (16/199، 200)، ((تفسير ابن كثير)) (7/284)، ((تفسير السعدي)) (ص: 782). قال ابن العربي: (لا خِلافَ أنَّ هذه الآيةَ في الكُفَّارِ بنَصِّ القُرآنِ؛ لِقَولِه تعالى في أوَّلِها: وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ، أي: فيُقالُ لهم: أذْهَبتُم طَيِّباتِكم في حياتِكم الدُّنيا، يريدُ: أفْنَيْتُموها في الكُفرِ باللهِ ومَعصيتِه. وإنَّ اللهَ أحَلَّ الطيِّباتِ مِن الحلالِ واللَّذَّاتِ، وأمَرَ باستِعمالِها في الطَّاعاتِ، فصَرَفها الكُفَّارُ إلى الكُفرِ؛ فأوعَدَهم اللهُ بما أخبر به عنهم، وقد يَستعمِلُها المؤمِنُ في المعاصي، فيَدخُلُ في وعيدٍ آخَرَ، وتَنالُه آيةٌ أخرى برجاءِ المَغفِرةِ، ويَرجِعُ أمرُه إلى المشيئةِ، فيُنفِذُ اللهُ فيه ما عَلِمَه منه، وكتَبَه له). ((أحكام القرآن)) (4/127). وقال الشنقيطي: (التَّحقيقُ إن شاء اللهُ في معنى هذه الآيةِ هو أنَّها في الكفَّارِ، وليست في المؤمنينَ الَّذين يتَمتَّعون باللَّذَّاتِ الَّتي أباحها الله لهم؛ لأنَّه تعالى ما أباحها لهم لِيُذهِبَ بها حَسَناتِهم. أمَّا كَوْنُ الآيةِ في الكفَّارِ فقد صرَّح اللهُ تعالى به في قولِه: وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ الآيةَ. والقرآنُ والسُّنَّةُ الصَّحيحةُ قد دَلَّا على أنَّ الكافرَ إنْ عَمِلَ عمَلًا صالحًا مُطابِقًا للشَّرعِ، مُخلِصًا فيه لله؛ كالكافرِ الَّذي يَبَرُّ والِدَيه، ويَصِلُ الرَّحِمَ، ويَقْري الضَّيفَ، ويُنَفِّسُ عن المكروبِ، ويُعينُ المظلومَ يَبتغي بذلك وجْهَ اللهِ: يُثابُ بعمَلِه في دارِ الدُّنيا خاصَّةً بالرِّزقِ والعافيةِ ونحوِ ذلك، ولا نصيبَ له في الآخرةِ. وأمَّا المؤمنُ الَّذي يُجزى بحسَناتِه في الدُّنيا والآخرةِ معًا فلم يُذهِبْ طَيِّباتِه في الدُّنيا؛ لأنَّ حسَناتِه مُدَّخَرةٌ له في الآخرةِ، مع أنَّ اللهَ تعالى يُثيبُه بها في الدُّنيا). ((أضواء البيان)) (7/ 229) بتصرف. !
فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ.
أي: فاليَومَ تُجزَونَ العَذابَ الَّذي يُهينُكم ويُخزيكم ويُذِلُّكم [322] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/149)، ((تفسير ابن كثير)) (7/285)، ((تفسير الشوكاني)) (5/26)، ((تفسير ابن عاشور)) (26/42، 43). .
بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ.
أي: تُجزَونَ عذابَ الهُونِ؛ بسبَبِ استِكبارِكم في الأرضِ ظُلمًا بغيرِ استِحقاقٍ لذلك [323] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/150)، ((تفسير القرطبي)) (16/200)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (18/160، 161)، ((تفسير الشوكاني)) (5/26)، ((تفسير ابن عاشور)) (26/43)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/231). قال الماوَرْدي: (بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يحتملُ ثلاثةَ أوجُهٍ: أحدُها: تَستَعْلُون على أهلِها بغيرِ استِحقاقٍ. الثَّاني: تَتغلَّبون على أهلِها بغيرِ دِينٍ. الثَّالثُ: تَعصُون اللهَ فيها بغيرِ طاعةٍ). ((تفسير الماوردي)) (5/ 281). ممَّن قال في الجملةِ بأنَّ المرادَ: استِكبارُهم عن توحيدِ اللهِ وعن الإيمانِ به وطاعتِه: مقاتلُ ابنُ سُلَيمانَ، وابنُ جرير، والسمرقندي، والواحدي، وابنُ الجوزي، والشوكاني. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/22)، ((تفسير ابن جرير)) (21/150)، ((تفسير السمرقندي)) (3/ 290)، ((البسيط)) للواحدي (20/188)، ((تفسير ابن الجوزي)) (4/ 110)، ((تفسير الشوكاني)) (5/26). وممَّن قال بأنَّ المرادَ: طلبُ العُلوِّ والرِّفعةِ على أهلِ الأرضِ بغيرِ استِحقاقٍ: السمعاني، والقرطبي. يُنظر: ((تفسير السمعاني)) (5/157)، ((تفسير القرطبي)) (16/200). .
كما قال تعالى: ذَلِكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ * ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ [غافر: 75، 76].
وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ.
أي: وتُجزَونَ عَذابَ الهُونِ؛ بسَبَبِ خُروجِكم عن طاعةِ اللهِ، ووُقوعِكم في مَعصيتِه [324] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/150)، ((تفسير الشوكاني)) (5/26)، ((تفسير ابن عاشور)) (26/43)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/231). قال الشوكاني: (جَعَل السَّبَبَ في عذابِهم أمْرَينِ: التَّكَبُّرَ عن اتِّباعِ الحقِّ، والعمَلَ بمعاصي اللهِ سُبحانَه وتعالَى، وهذا شأنُ الكَفَرةِ؛ فإنَّهم قد جمَعوا بيْنَهما). ((تفسير الشوكاني)) (5/26). وقال ابن عاشور: (وقد يأخُذُ المسلِمُ بحَظٍّ مِن هذَينِ الجُرمَينِ فيَكونُ له حَظٌّ مِن جزائِهما الَّذي لَقِيَه الكافِرون، وذلك مُبَيَّنٌ في أحكامِ الدِّينِ). ((تفسير ابن عاشور)) (26/43). .
كما قال تعالى: وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ [السجدة: 20].

الفوائد التربوية:

1- قال تعالى: وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا هذه الآيةُ وإنْ كانت في الكُفَّارِ فهي وازعةٌ لِأُولي النُّهَى مِن المؤمِنينَ عن الشَّهَواتِ، واستِكمالِ الطَّيِّباتِ [325] يُنظر: ((تفسير ابن عطية)) (5/100، 101). ، وقد تورَّع أميرُ المؤمنينَ عمرُ بنُ الخطَّابِ رضيَ الله عنه عن كثيرٍ مِن طَيِّباتِ المآكِلِ والمَشارِبِ، وتَنزَّهَ عنها، وقال: (إنِّي أخافُ أن أكونَ كالَّذين قال اللهُ تعالى لهم وقرَّعهم: أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا) [326] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (7/ 284). ويُنظر ما أخرجه مالكٌ في ((الموطَّأ)) (2/ 936)، وابنُ أبي شَيْبةَ (24524)، وابنُ أبي الدُّنيا في ((الجوع)) (36)، وأبو نُعَيمٍ في ((حلية الأولياء)) (1/ 49). . وقال ابنُ عُمَرَ رضيَ الله عنهما: (لا يُصيبُ عبدٌ مِن الدُّنيا شيئًا إلَّا نقَصَ مِن درَجاتِه عندَ اللهِ، وإن كان عليه كريمًا) [327] أخرجه ابنُ أبي الدُّنيا في ((الزهد)) (297)، وجوَّد إسنادَه ابنُ رجب في ((جامع العلوم والحِكَم)) (2/ 188). قال الحَلِيمي: (هذا الوعيدُ مِن الله [أي: المذكورُ في الآيةِ] وإن كان للكفَّارِ والَّذينَ يُقدِمون على الطَّيِّباتِ المحظورةِ، ولذلك قال: فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ، فقد يُخشى مِثلُه على المُنهَمِكينَ في الطَّيِّباتِ المباحةِ؛ لأنَّ مَن تعَوَّدها مالتْ نفْسُه إلى الدُّنيا، فلم يُؤمَنْ أن يرتبكَ في الشَّهواتِ والمَلاذِّ، كلَّما أجاب إلى واحدةٍ منها دَعَتْه إلى غيرِها، فيَصيرَ إلى ألَّا يُمكِنَه عِصيانُ نفْسِه في هَوًى قطُّ، ويَنسَدَّ بابُ العبادةِ دُونَه، وإذا آلَ به الأمرُ إلى هذا لم يَبعُدْ أن يُقالَ: أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ. فلا يَنبغي أن تُعَوَّدَ النَّفْسُ بما يَميلُ بها إلى الشَّرَهِ، ثمَّ يَصعُبَ تَدارُكُها، ولْتَرْضَ مِن أوَّلِ الأمرِ على السَّدادِ؛ فإنَّ ذلك أهْوَنُ مِن أن يُدرَّبَ على الفسادِ، ثمَّ يَجتهِدَ في إعادتِها إلى الصَّلاحِ، واللهُ أعلَمُ). ((المِنهاج في شُعَب الإيمان)) (3/ 61، 62). وقال ابن حجر: (الحقُّ أنَّ مُلازَمةَ استِعمالِ الطَّيِّباتِ تُفضي إلى التَّرَفُّهِ والبَطَرِ، ولا يأمنُ مِن الوُقوعِ في الشُّبُهاتِ؛ لأنَّ مَنِ اعتاد ذلك قد لا يَجِدُه أحيانًا، فلا يستطيعُ الانتِقالُ عنه فيَقَعَ في المحظورِ، كما أنَّ مَنْعَ تَناوُلِ ذلك أحيانًا يُفضي الى التَّنطُّعِ المنهيِّ عنه، ويَرِدُ عليه صريحُ قولِه تعالى: قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ [الأعراف: 32] ، كما أنَّ الأخذَ بالتَّشديدِ في العبادةِ يُفضي إلى المَلَلِ القاطعِ لأصْلِها، ومُلازَمةَ الاقتِصارِ على الفرائضِ مثلًا وتَرْكِ التَّنفُّلِ يُفضي إلى إيثارِ البِطالةِ وعدَمِ النَّشاطِ إلى العبادةِ، وخيرُ الأمورِ الوسَطُ). ((فتح الباري)) (9/106). .
2- قال الله تعالى: وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا إنَّ الصَّالِحينَ يُؤثِرونَ التَّقَشُّفَ والزُّهدَ في الدُّنيا؛ رَجاءَ أن يكونَ ثَوابُهم في الآخِرةِ أكمَلَ، إلَّا أنَّ هذه الآيةَ لا تدُلُّ على المَنعِ مِن التَّنَعُّمِ [328] قال ابنُ عاشور: (ليس في الآيةِ ما يَقتضي مَنْعَ المُسلِمِ مِن تَناوُلِ الطَّيِّباتِ في الدُّنيا إذا تَوخَّى حَلالَها، وعَمِلَ بواجِبِه الدِّينيِّ فيما عدا ذلك، وإنْ كان الزُّهدُ في الاعتِناءِ بذلك أرفَعَ دَرَجةً، وهي دَرَجةُ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وخاصَّةٍ مِن أصحابِه). ((تفسير ابن عاشور)) (26/43). ؛ لأنَّ هذه الآيةَ ورَدَتْ في حَقِّ الكافِرِ، وإنَّما وبَّخ اللهُ الكافِرَ؛ لأنَّه يَتمَتَّعُ بالدُّنيا، ولم يُؤَدِّ شُكرَ المُنعِمِ بطاعتِه والإيمانِ به، وأمَّا المؤمِنُ فإنَّه يُؤدِّي بإيمانِه شُكرَ المُنعِمِ، فلا يُوَبَّخُ بتمَتُّعِه، والدَّليلُ عليه قَولُه تعالى: قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ [الأعراف: 32] ، والاحتِرازُ عن التَّنَعُّمِ أَوْلى؛ لأنَّ النَّفْسَ إذا اعتادت التَّنَعُّمَ صَعُب عليها الاحتِرازُ والانقِباضُ، وحينَئذٍ فرُبَّما حمَلَه المَيلُ إلى تلك الطَّيِّباتِ على فِعلِ ما لا ينبغي، وذلك ممَّا يَجُرُّ بَعضُه إلى بعضٍ، ويقَعُ في البُعدِ عن اللهِ تعالى بسَبَبِه [329] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (28/23). ويُنظر أيضًا: ((البسيط)) للواحدي (20/188). .
3- مَن صام اليومَ عن شَهَواتِه أفطَرَ عليها بعدَ مماتِه، ومَن تعَجَّل ما حُرِّم عليه قبْلَ وَفاتِه عُوقِبَ بحِرمانِه في الآخرةِ وفَواتِه، وشاهِدُ ذلك قَولُه تعالى: أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا الآيةَ، وقَولُ النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم: ((مَن شَرِبَ الخَمرَ في الدُّنيا لم يَشرَبْها في الآخِرةِ إلَّا أنْ يَتُوبَ )) [330] أخرجه مسلم (2003) مِن حديثِ عبدِ الله بنِ عُمَرَ رضيَ الله عنهما. ، و: ((مَن لَبِسَ الحَريرَ في الدُّنيا لم يَلْبَسْهُ في الآخِرةِ )) [331] يُنظر: ((لطائف المعارف)) لابن رجب (ص: 147). والحديث الأخير أخرجه البخاريُّ (5832)، ومسلمٌ (2073) واللَّفظُ له مِن حديثِ أنسِ بنِ مالكٍ رضيَ الله عنه. ، فمَن تَرَكَ اللَّذَّةَ المحرَّمةَ للهِ استَوْفاها يومَ القيامةِ أكمَلَ ما تكونُ، ومَنِ استَوفاها هنا حُرِمَها هناك أو نُقِصَ كمالَها؛ فلا يَجعَلُ اللهُ لَذَّةَ مَن أسرَعَ في معاصيه ومَحارِمِه كلَذَّةِ مَن ترَكَ شَهوتَه للهِ أبدًا [332] يُنظر: ((حادي الأرواح)) لابن القيم (ص: 241). !

الفوائد العلمية واللطائف:

1- قال تعالى: وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آَمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ ذكَر الله تعالى فريقَ الكافرينَ، ووصَفهم بعقوقِ الوالدَينِ، وبإنكارِهم البعثَ، وفيه أنَّه لا شيءَ أفحشُ مِن عقوقِ الوالدَينِ، وإنكارِ الحشرِ [333] يُنظر: ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (14/ 294). .
2- قَولُ الله تعالى: أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ يَقتَضي أنَّ الجِنَّ يموتونَ كما يموتُ البَشَرُ قَرنًا بعدَ قَرنٍ [334] يُنظر: ((تفسير ابن عطية)) (5/100). .
3- في قَولِه تعالى: أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ أنَّ الجِنَّ مأمورون مَنهيُّونَ مُكَلَّفونَ بالشَّريعةِ الإسلاميَّةِ؛ فقد أخبَرَ اللهُ أنَّ منهم مَن حَقَّ عليه القَولُ -أي: وَجَبَ عليه العَذابُ-، وأنَّه خاسرٌ، ولا يكونُ ذلك إلَّا في أهلِ التَّكليفِ المُستوجِبينَ العِقابَ بأعمالِهم، ثمَّ قال بعدَ ذلك: وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا أي: في الخَيرِ والشَّرِّ يُوَفَّونَها ولا يُظلَمونَ شَيئًا مِن أعمالِهم، وهذا ظاهِرٌ جِدًّا في ثَوابِهم وعِقابِهم، وأنَّ مُسيئَهم كما يَستحِقُّ العذابَ بإساءتِه فمُحسِنُهم يَستحِقُّ الدَّرَجاتِ بإحسانِه وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا؛ فدلَّ ذلك لا مَحالةَ أنَّهم كانوا مأمورينَ بالشَّرائعِ، مُتَعَبَّدِينَ بها في الدُّنيا؛ ولذلك استحَقُّوا الدَّرَجاتِ بأعمالِهم في الآخِرةِ في الخَيرِ والشَّرِّ [335] يُنظر: ((طريق الهجرتين)) لابن القيم (ص: 418). ، ثمَّ قال: وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ، أي: جزاءَها مِن خَيرٍ وشَرٍّ، وجَنَّةٍ ونارٍ، وهذا ظاهِرٌ أو نَصٌّ في أنَّ الجِنَّ يُثابُونَ بالإحسانِ، كما يُعاقَبونَ بالعِصيانِ [336] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (18/158). .
4- في قَولِه تعالى: وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا أنَّ تَفاوُتَ أهلِ النَّارِ في العذابِ هو بحَسَبِ تفاوُتِ أعمالِهم الَّتي دخَلوا بها النَّارَ [337] يُنظر: ((التخويف من النار)) لابن رجب (ص: 181). .
5- أخبَر اللهُ تعالى أنَّ الدُّنيا والغِنى والمالَ إنَّما جَعَلَها اللهُ مُتعةً لِمَن لا نصيبَ له في الآخرةِ؛ وأنَّ الآخِرةَ جَعَلَها للمُتَّقِينَ، فقال جلَّ وعلا: وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا، وقال أيضًا: وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى [طه: 131] ، وإلى هذا المعنى أشار النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم بقولِه لِعُمَرَ رضيَ الله عنه: ((أمَا تَرضَى أنْ تكونَ لهم الدُّنيا ولنا الآخِرةُ؟ )) [338] يُنظر: ((عدة الصابرين)) لابن القيم (ص: 182). والحديث أخرجه مطوَّلًا البخاريُّ (4913) واللَّفظُ له، ومسلمٌ (1479) مِن حديثِ عمرَ بنِ الخطَّاب رضيَ الله عنه. .
6- قَولُ الله تعالى: فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ احتُجَّ به على أنَّ الكُفَّارَ مُخاطَبونَ بفُروعِ الشَّرائعِ؛ لأنَّه عَلَّل عَذابَهم بأمْرَينِ؛ أوَّلُهما: الكُفرُ -على قولٍ في التَّفسيرِ-، وثانيهما: الفِسقُ. وهذا الفِسقُ لا بدَّ أن يكونَ مُغايِرًا لذلك الكُفرِ؛ لأنَّ العَطفَ يُوجِبُ المغايَرةَ؛ فثَبَت أنَّ فِسقَ الكُفَّارِ يُوجِبُ العِقابَ في حَقِّهم، ولا معنى للفِسقِ إلَّا تَركُ المأموراتِ وفِعلُ المَنهيَّاتِ [339] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (28/23). .
7- في قَولِه تعالى: فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أنَّ عُقوبةَ التَّكَبُّرِ الهَوانُ والذُّلُّ [340] يُنظر: ((التخويف من النار)) لابن رجب (ص: 272). .

بلاغة الآيات:

1- قولُه تعالَى: وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آَمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ
- قولُه: وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا ... هذا الفريقُ المَقصودُ مِن هذه الآياتِ المَبْدوءةِ بقَولِه تعالى: وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ [الأحقاف: 15] . وهذا الفريقُ الَّذي كَفَرَ بِرَبِّه وأساء إلى والِدَيْه؛ فجُملةُ وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ الأحسَنُ أنْ تكونَ مَعطوفةً على جُملةِ وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ [الأحقاف: 7] إلخ؛ وهي انتِقالٌ إلى مَقالةٍ أُخْرى مِن أُصولِ شِرْكِهم؛ وهي مَقالةُ إنْكارِ البَعثِ [341] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/36). .
- والمُرادُ بـ (الَّذِي قَالَ): الجِنسُ القائلُ ذلك القولَ؛ ولذلك وَقَعَ الخبَرُ مَجموعًا: أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ [342] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/303)، ((تفسير البيضاوي)) (5/114)، ((تفسير أبي السعود)) (8/83)، ((تفسير ابن عاشور)) (26/36، 37). [الأحقاف: 18] .
- وأُفٍّ: اسْمُ فِعلٍ بمَعنى: أتضَجَّرُ، وهو هنا مُستعمَلٌ كِنايةً عن أقلِّ الأذى؛ فيَكونُ الَّذين يُؤذُون والِدَيْهم بأكثَرَ مِن هذا أوغَلَ في العُقوقِ الشَّنيعِ، وأحْرى بالحُكْمِ؛ بدَلالةِ فَحْوى الخِطابِ [343] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/38). وفحوى الخطاب تقدَّم تعريفه. .
- والاستِفهامُ في أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ إنكارٌ وتَعجُّبٌ، وجُعِلَت جُملةُ الحالِ -وهي وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي- قَيدًا لِمُنتهَى الإنكارِ، أي: كيف يكونُ ذلك في حالِ مُضِيِّ القُرونِ [344] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/38)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (9/178). ؟!
- وقولُهما: وَيْلَكَ دُعاءٌ عليه بالثُّبورِ، والمُرادُ به الحثُّ والتَّحريضُ على الإيمانِ، لا حَقيقةُ الهَلاكِ، حيثُ إنَّ فيه إشْعارًا بأنَّ الفِعلَ المُرتَكبَ حَقيقٌ بأنْ يُهلَكَ مُرتكِبُه، وأنْ يُطلَبَ له الهَلاكُ، فإذا سمِعَ ذلك كان باعثًا على تَرْكِه [345] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/304)، ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (14/293)، ((تفسير أبي حيان)) (9/442)، ((تفسير أبي السعود)) (8/84). ، فكلمةُ (وَيْلَك) كَلمةُ تَهديدٍ وتَخويفٍ [346] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/39). .
- وليستْ جُملةُ وَيْلَكَ آَمِنْ بَيانًا لمعنَى اسْتِغاثَتِهما، ولكنَّها مَقولُ قَولٍ مَحذوفٍ يدُلُّ عليه مَعنى الجُملةِ [347] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/39). .
- وقولُهما: إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ تَعليلٌ لِلْأمْرِ بالإيمانِ، وتَعريضٌ له بالتَّهديدِ مِن أنْ يَحِقَّ عليه وَعْدُ اللهِ [348] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/39)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (9/178). .
- وقولُهما: وَعْدَ اللَّهِ أي: البعثَ، أضافَا الوعدَ إليه تعالَى؛ تَحقيقًا للحقِّ، وتَنبيهًا على خَطَئِه في إسنادِ الوعْدِ إليهما [349] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (8/84). .
2- قولُه تعالَى: أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ
- قولُه: أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ ... اسْتِحضارُ هذا الفريقِ بطَريقِ اسمِ الإشارةِ؛ لِزِيادةِ تَمْييزِ حالِهم العَجيبةِ [350] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (9/442)، ((تفسير ابن عاشور)) (26/39، 40). .
- وتَعريفُ الْقَوْلُ تَعريفُ العهْدِ، وهو قَولٌ مَعهودٌ عِندَ المُسلمينَ؛ لِمَا تَكرَّرَ في القُرآنِ مِن التَّعبيرِ عنه بالقَولِ في نحوِ آيةِ: قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ * لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ [ص: 84، 85]، ونحوِ قولِه: لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ [يس: 7] الآيةَ [351] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/40). .
- وقولُه: إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ تَعليلٌ للحُكمِ بطَريقِ الاستِئنافِ التَّحقيقيِّ [352] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (8/84). .
- وتأْكيدُ الكَلامِ بحَرْفِ (إنَّ)؛ لأنَّهم يَظُنُّون أنَّ ما حصَلَ لهم في الدُّنيا مِن التَّمتُّعِ بالطَّيِّباتِ فَوزًا ليس بعْدَه نَكَدٌ؛ لأنَّهم لا يُؤمِنون بالبَعثِ والجَزاءِ [353] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/40). .
- وإيرادُ فِعلِ الكَونِ كَانُوا خَاسِرِينَ دونَ أنْ يُقالَ: (إنهم خاسِرون)؛ لِلْإشارةِ إلى أنَّ خُسْرانَهم مُحقَّقٌ؛ فكُنِّيَ عن ذلك بجَعْلِهم كائنينَ فيه، فـ (كان) تدُلُّ على أنَّ الخَسارةَ مُتمكِّنةٌ منهم [354] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/40). .
3- قولُه تعالَى: وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ
- قولُه: وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا تَنوينُ (كُلٍّ) تَنْوينُ عِوَضٍ عمَّا تُضافُ إليه (كُل)، وهو مُقدَّرٌ يُعلَمُ مِن السِّياقِ، أي: ولكلِّ الفَريقَينِ -المؤمِنُ البارُّ بوالِدَيْه، والكافرُ الجامِعُ بيْن الكُفْرِ والعُقوقِ- دَرَجاتٌ، أي: مَراتِبُ مِن التَّفاوُتِ في الخَيرِ بالنِّسبةِ لِأهْلِ جَزاءِ الخيرِ، وهمُ المُؤمِنون، ودَرَكاتٌ في الشَّرِّ لِأهْلِ الكُفْرِ [355] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/40، 41). .
- قولُه: وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا التَّعبيرُ عن مَراتبِ المُؤمِنينَ والكافرينَ بالدَّرَجاتِ تَغليبٌ؛ لأنَّ الدَّرَجةَ مَرْتبةٌ في العُلوِّ، وهو عُلُوٌّ اعتباريٌّ إنَّما يُناسِبُ مَراتبَ الخَيرِ، وأمَّا المَرتبةُ السُّفْلى فهي الدَّرَكةُ؛ قال تعالَى: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ [النساء: 145] ؛ ووَجْهُ التَّغليبِ التَّنويهُ بشَأْنِ أهْلِ الخَيرِ [356] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/41). .
 أو عُبِّر بالدَّرَجاتِ؛ لأنَّه تعالَى لَمَّا ذَكَر الفريقَ الأوَّلَ، ووَصَفَهم بثَباتٍ في القَولِ، واستِقامةٍ في الفِعلِ، ورتَّبَ عليه جَزاءَهم، وأوقَعَ قَولَه: وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا [الأحقاف: 15] اسْتِطْرادًا في البَيْنِ، وعقَّبَ ذلك بذِكْرِ فَريقِ الكافرينَ، ووصَفَهم بعُقوقِ الوالدَينِ، وبإنْكارِهم البَعثَ، وجعَلَ العُقوقَ أصْلًا في الاعتبارِ، وكرَّرَ في القِسمِ الأوَّلِ الجَزاءَ -وهو ذِكْرُ الجنَّةِ- مِرارًا ثلاثًا، وأفرَدَ جَزاءَ الكافِرِ -وهو ذِكرُ النَّارِ- وأخَّرَه بعْدَ ذِكرِ ما يَجمَعُهما مِن قَولِه: وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ؛ غلَّب الدَّرَجاتِ على الدَّرَكاتِ لذلك [357] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/304)، ((تفسير البيضاوي)) (5/114)، ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (14/294)، ((تفسير أبي السعود)) (8/84). .
 وقيل: الدَّرَجاتُ هي: الطَّبقاتُ مِن المراتِبِ مُطلَقًا. أو فيه إضمارٌ، تَقديرُه: ولكلِّ فَريقٍ دَرَجاتٌ أو دَرَكاتٌ، لكنْ حُذِفَ الثَّاني اختِصارًا؛ لِدَلالةِ المَذْكورِ عليه [358] يُنظر: ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص: 521). .
وقيل: المرادُ بالدَّرَجاتِ المراتِبُ المُتزايدةُ، إلَّا أنَّ زياداتِ أهلِ الجنَّةِ في الخَيراتِ والطَّاعاتِ، وزياداتِ أهلِ النَّارِ في المعاصي والسَّيِّئاتِ [359] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (28/23). .
- و(مِن) في قولِه: مِمَّا عَمِلُوا تَبْعيضيَّةٌ -على قولٍ في التَّفسيرِ-، والمُرادُ بـ مِمَّا عَمِلُوا جَزاءُ ما عَمِلوا، فيُقدَّرُ مُضافٌ [360] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/41). .
- وقولُه: وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ هو عِلَّةٌ لِمَحذوفٍ دلَّ عليه الكَلامُ، وتَقديرُه: قدَّرْنا جَزاءَهم على مَقاديرِ دَرجاتِهم؛ لِنُوَفِّيَهم جَزاءَ أعْمالِهم، أي: نُجازِيَهم تامًّا وافيًا لا غَبْنَ فيه [361] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/41). .
- وجُملةُ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ احتِراسٌ مَنظورٌ فيه إلى تَوفيةِ أحَدِ الفريقَينِ، وهو الفريقُ المُستحِقُّ للعُقوبةِ؛ لِئلَّا يُحسَبَ أنَّ التَّوفيةَ بالنِّسبةِ إليهم أنْ يكونَ الجَزاءُ أشدَّ ممَّا تَقْتضيهِ أعمالُهم [362] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/41). .
4- قولُه تعالَى: وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ انْتِقالٌ إلى وَعيدِ الكافرينَ على الكُفْرِ بحَذافِرِه، وذلك زائدٌ على الوَعيدِ المُتقدِّمِ المُتعلِّقِ بإنْكارِهم البَعثَ مع عُقوقِهم الوالدَينِ المُسلِمينِ؛ فالجُملةُ مَعطوفةٌ على جُملةِ وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا [الأحقاف: 17] الآياتِ [363] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/41). .
- والكلامُ مَقولُ قَولٍ مَحذوفٍ، تَقديرُه: ويُقالُ لِلَّذِينَ كفَروا يومَ يُعرَضونَ على النَّارِ: أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ ... ومُناسَبةُ ذِكْرِه هنا: أنَّه تَقريرٌ لِمَعنى لَا يُظْلَمُونَ [الأحقاف: 19] ، أي: لا يُظلَمون في جَزاءِ الآخرةِ، مع أنَّنا أنْعَمْنا عليهم في الدُّنيا، ولو شِئْنا لَعَجَّلْنا لهم الجَزاءَ على كُفْرِهم في الحياةِ الدُّنيا، فهو إعذارٌ لهم وتَقريرٌ لِكَونِهم لا يُظلَمونَ، فرُتِّبَ عليه قولُه: فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ؛ فالفاءُ فَصيحةٌ، والتَّقديرُ: إنْ كان كذلك فاليَومَ لم يَبْقَ لكمْ إلَّا جَزاءُ سَيِّئِ أعْمالِكم، وليستِ الفاءُ للتَّفريعِ ولا للتَّسبُّبِ [364] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/42، 43). .
- قولُه: أَذْهَبْتُمْ بهَمزةٍ واحدةٍ، على أنَّه خَبَرٌ مُستعمَلٌ في التَّوبيخِ، وقُرِئَ: أَأَذْهَبْتُمْ بهَمْزتينِ [365] وهي قراءةُ ابنِ كَثيرٍ، وابنِ عامرٍ، وأبي جَعفرٍ، ويَعْقوبَ، وقرأَها الباقونَ بهمزةٍ واحدةٍ. يُنظر: ((النشر في القراءات العشر)) لابن الجزري (1/366). ، وهذا الاستِفهامُ هو على مَعنى التَّوبيخِ والتَّقريرِ؛ فتَؤولُ القِراءتانِ إلى مَعنًى واحدٍ [366] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (9/444)، ((تفسير أبي السعود)) (8/84)، ((تفسير ابن عاشور)) (26/44). .
- وفي هذِه الآيةِ كِنايةٌ عن عَدَمِ الإيمانِ، والمعنى: أنَّه كانتْ تَكونُ لكمْ طَيِّباتُ الآخِرةِ لو آمنْتُم، لكنَّكم لم تُؤمِنوا، فاسْتَعْجَلْتم طَيِّباتِكم في الحياةِ الدُّنيا، ثمَّ بيَّنَ تلك الكِنايةَ بقَولِه: بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ أي: تَترفَّعون عن الإيمانِ -على قولٍ في التَّفسيرِ-، وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ أي: بمَعاصي الجوارحِ. وقدَّمَ ذَنْبَ القلْبِ -وهو الاستِكبارُ- على ذَنْبِ الجوارِحِ؛ إذ أعمالُ الجوارِحِ ناشئةٌ عن مُرادِ القلْبِ [367] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (9/444). ، ولأنَّ أحوالَ القُلوبِ أعظَمُ وَقعًا مِن أعمالِ الجوارحِ [368] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (28/23). .
- قولُه: تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ قَولُه: بِغَيْرِ الْحَقِّ زيادةٌ لِتَشنيعِ الاستِكبارِ بذِكْرِ ما هو صِفةٌ لازِمةٌ له، وهو مُغايَرةُ الحَقِّ، أي: بالباطِلِ، وهي حالٌ لازِمةٌ للاستِكبارِ، كاشِفةٌ لِوَصفِه؛ إذِ الاستِكبارُ لا يكونُ بحَقٍّ في جانِبِ الخَلْقِ [369] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (9/105). والكلام المذكور على قوله تعالى: يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ [الأعراف: 146] . .
وقيل: قَولُه: بِغَيْرِ الْحَقِّ صِلةٌ للاستِكبارِ، وقَيدٌ له؛ فإنَّه يُتَصَوَّرُ أن يَتكَلَّفَ الإنسانُ إعلاءَ نَفْسِه على غَيرِه أو إكثارَه مِنَ الاستِعلاءِ عليه بحَقٍّ، كالتَّرفُّعِ عن المُبطِلينَ، وإهانةِ الجبَّارينَ، واحتِقارِ المحارِبينَ، وإن كان الأصلُ الغالِبُ في الاستِكبارِ أن يكونَ بغيرِ الحَقِّ.
أو المعنى: أنَّهم يَستَكبِرونَ حالةَ كَونِهم مُتلَبِّسينَ بغَيرِ الحَقِّ، أي: مُنغَمِسينَ في الباطِلِ؛ فأمثالُ هؤلاءِ لا قيمةَ للحَقِّ في نَفْسِه عِندَهم، فهم لا يَطلُبونَه، ولا يَبحَثونَ عنه [370] يُنظر: ((تفسير المنار)) لمحمد رشيد رضا (9/170). والكلام المذكور على قوله: يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ [الأعراف: 146] . .