موسوعة التفسير

سُورةُ الأعرافِ
الآيات (35-39)

ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﰎ ﰏ ﰐ ﰑ ﰒ ﰓ ﰔ ﰕ ﰖ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ

غريب الكلمات:

افْتَرَى: أي: كذَبَ واختَلَق؛ والافتراءُ: الاختِلاقُ، وهو ما عظُم مِن الكَذبِ، ومِنه قيل: افترَى فلانٌ على فلانٍ، إذا قذَفَه بما ليسَ فيه، ويُستَعمَل في القُرآنِ في الكَذِبِ والشِّركِ والظُّلمِ، وأصلُ (فري) قَطْعُ الشَّيءِ، ومِن ذلك: فَرَيت الشيءَ أفْريه فَرْيًا، وهو قطعُه لإصلاحِه، وأفريتَه: إذا أنت قطعتَه للإفسادِ، والافتِراءُ فيهما، وفي الإفسادِ أكثرُ [411] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 31، 128، 280)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 102، 460)، ((المفردات)) للراغب (ص: 634- 635)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 154). .
يَنَالُهُمْ: أي: يَصِلُ إليهم، والنَّوالُ: ما يَنالُه الإنسانُ مِنَ الصِّلة، وأصلُ (نيل): يدُلُّ على إعطاءٍ [412] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/372)، ((المفردات)) للراغب (ص: 830). .
نَصِيبُهُمْ: أي: حظُّهم المنصوبُ، أي: المعيَّنُ، وأصل (نصب): إقامةُ شيءٍ، وإهدافٌ في استواء [413] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 128)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/434)، ((المفردات)) للراغب (ص: 808)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 72). .
ادَّارَكُوا: أي: تَتابعوا فيها واجتَمعوا، أو لَحِق كلٌّ بالآخَر، وأصل (درك): لحوقُ الشَّيءِ بالشَّيءِ، ووصولُه إليه [414] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 167)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 103)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/269). ((المفردات)) للراغب (ص: 312)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 110). .
ضِعْفًا: أي: مُضاعَفًا، وضِعفُ الشَّيءِ: مِثلُه مرةً، وأصل (ضعف): يدلُّ على أنْ يُزادَ الشيءُ مِثلَه [415] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (10/178)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/362)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 110)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 580). .
تَكْسِبُونَ: أي: تَعمَلون وتَجترِحونَ مِنَ المعاصي، والكَسبُ: ما يَتحرَّاه الإنسانُ ممَّا فيه اجتلابُ نفعٍ، وتحصيلُ حظٍّ، وأيضًا: الجمعُ والتَّحصيلُ، وأصلُ (كسب): ابتغاءٌ وطَلَبٌ وإصابةٌ [416] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (10/180)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/179)، ((المفردات)) للراغب (ص: 709)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 769). .

المعنى الإجمالي:

يُخاطِبُ اللهُ بني آدَمَ أنَّه إن جاءَهم رُسُلٌ مِن جِنسِهم البَشَريِّ، يتلونَ عليهم آياتِ كِتابِه، فمَنِ اتَّقى فتَرَك المُحَرَّماتِ، وعَمِلَ الطَّاعاتِ؛ فلا خوفٌ عليهم ممَّا يَستقبِلونَ، ولا هم يحزَنونَ على ما مضى، والَّذين كذَّبوا بآياتِه، واستكبَرُوا عن التَّصديقِ بها، والعَمَلِ بما فيها؛ أولئك هم أصحابُ النَّارِ، ماكِثونَ فيها، لا يخرجونَ منها أبدًا.
ثم أخبَرَ تعالى أنَّه لا أحَدَ أشنَعُ ظُلمًا مِمَّنِ اختَلَق على اللهِ الكَذِبَ، أو كذَّبَ بآياتِه التي أنزَلَها، أولئك ينالُهم نصيبُهم المكتوبُ في اللَّوحِ المحفوظِ؛ مِنَ الأرزاقِ والأعمالِ والآجالِ، والخيرِ والشَّرِّ، إلى أن تأتِيَهم الملائكةُ؛ لتقبِضَ أرواحَهم، فتقولُ لهم الملائكةُ: أين ما كنتم تَدعونَ مِن دونِ اللهِ؟ فيقولون: ضَلُّوا عَنَّا، ويُقِرُّون على أنفُسِهم أنَّهم كانوا كافرينَ.
فيأمُرُهم اللهُ تعالى أن يَدخُلوا في جملةِ أمَمٍ أمثالِهم في الكُفرِ، قد سَلَفَت مِن قَبلِهم مِنَ الجِنِّ والإنسِ، فيدخلونَ جميعًا في النَّارِ، كلَّما دخَلَت أمَّةٌ مِن تلك الأُمَمِ في النَّارِ لَعَنَت أُختَها، حتى إذا اجتمَعَ الأوَّلونَ والآخِرونَ جميعًا في النَّارِ، قالت أُخْراهم لأُولاهم: ربَّنا هؤلاءِ الَّذينَ اتَّبَعْناهم في الدُّنيا، هم من أضَلَّنَا عن سبيلِك؛ فأَعْطِهم ضِعفًا مِن عَذابِ النَّارِ، فيُجيبُهم اللهُ تعالى، أنَّه لكُلٍّ  ضِعفٌ، ولكِنْ لا تعلمونَ.
وقالَتْ أُولاهم لأُخراهم: لم تكُنْ لكم مَزِيَّةٌ علينا، فيقولُ الله لهم جميعًا: فذُوقوا العذابَ بما  كَسَبتُم مِنَ الكُفرِ والمعاصي.

تفسير الآيات:

يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (35)
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
أنَّ اللهَ تعالى لَمَّا بَيَّنَ أحوالَ التَّكليفِ، وبيَّنَ أنَّ لكُلِّ أحدٍ أجلًا مُعَيَّنًا لا يتقدَّمُ ولا يتأخَّرُ- بيَّنَ أنهم بعد الموتِ إن كانوا مُطيعينَ، فلا خوفٌ عليهم ولا حُزنٌ، وإن كانوا متمَرِّدينَ، وقعوا في أشَدِّ العَذابِ [417] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (14/235). ، فقال تعالى:
يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي
أي: يا أولادَ آدَمَ- الذي أخرَجَه الشَّيطانُ بوَساوِسِه مِنَ الجنَّةِ، إلى دارِ البَلاءِ والمِحَنِ- إنْ أتاكُم رُسُلي الَّذين أُرسِلُهم إليكم مِن جِنسِكُم البشريِّ، يتلونَ عليكم آياتِ كُتُبي، ويُبَيِّنونَ لكم ما فيها من عقائِدَ وأحكامٍ وأخبارٍ [418] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (10/165)، ((الوجيز)) للواحدي (ص: 392)، ((تفسير القرطبي)) (7/202)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (3/195). والقولُ بأنَّ المرادَ بـ منكم أي: مِن بني آدَمَ، هو اختيارُ ابنِ عاشور، والشنقيطي. يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (8-ب/108)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (3/193-194). وقال ابن جرير: (منكم يعني: من أنفُسِكم، ومِن عشائِرِكم وقبائِلِكم). ((تفسير ابن جرير)) (10/165). .
فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ
أي: فمَنِ اتَّقى اللهَ منكم، فتَرَك المُحَرَّماتِ، وأصلَحَ أعمالَه فعَمِلَ الطَّاعاتِ؛ فلا خوفٌ عليهم ممَّا يستقبِلونَ، ولا هم على ما مضى يَحزَنونَ [419] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (10/166)، ((تفسير الرازي)) (14/235)، ((تفسير ابن عطية)) (2/397)، ((تفسير ابن كثير)) (3/409)، ((تفسير السعدي (ص: 287)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (3/195-200). .
وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (36)
وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا
أي: والَّذين كذَّبوا منكم بآياتي التي جاءَت بها رُسُلي، واستكبَرُوا فأعرَضُوا عن التَّصديقِ بأخبارِها، والعَمَلِ بأحكامِها [420] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (10/167)، ((تفسير ابن كثير)) (3/409)، ((تفسير السعدي)) (ص: 288)، ((تفسير ابن عاشور)) (8-ب/111). .
أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ
أي: أولئك المُكَذِّبونَ بآياتي، المُستَكبِرونَ عَن طاعَتي؛ هم أهلُ النَّارِ المُلازِمونَ لها، ماكثونَ فيها، لا يخرجونَ منها أبدًا [421] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (1/592) و (10/167)، ((تفسير القرطبي)) (1/330)، ((تفسير ابن كثير)) (3/409)، ((تفسير ابن عاشور)) (1/446). .
فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُوا أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ (37)
فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ
أي: لا أحدَ أشنعُ ظُلمًا ممَّنِ افتَرَى الكَذِبَ على اللهِ، كمن يدَّعي أنَّ لله ولدًا وشريكًا، ويزعُمُ أنَّ اللهَ يأمُرُ بالفواحِشِ، أو كذَّبَ بآياتِ اللهِ التي أنزَلَها على رُسُلِه [422] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (10/167)، ((الوسيط)) للواحدي (2/365)، ((تفسير ابن كثير)) (3/409)، ((تفسير ابن عاشور)) (8-ب/112). .
كما قال تعالى: فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ [الزمر: 32] .
أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ
أي: أولئك الكاذِبونَ على اللهِ، المُكَذِّبون بآياتِه، ينالُهم نَصيبُهم المكتوبُ في اللَّوحِ المَحفوظِ؛ مِنَ الأرزاقِ والأعمالِ والآجالِ، والخَيرِ والشَّرِّ [423] وهذا القولُ اختاره في الجملةِ: ابنُ جريرٍ، والقرطبيُّ، والسعدي، والشنقيطي، وقوَّاه ابنُ كثيرٍ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (10/167) و (10/176)، ((تفسير القرطبي)) (7/203)، ((تفسير ابن كثير)) (3/410)، ((تفسير السعدي)) (ص: 288)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (3/211). .
كما قال تعالى: قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ * مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ [يونس: 69-70] .
وقال عزَّ وجلَّ: وَمَنْ كَفَرَ فَلَا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ * نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ [لقمان: 23-24] .
حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُوا أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ
أي: ينالُهُم ما كُتِبَ لهم في الدُّنْيا إلى أنْ تأتِيَهم الملائكةُ لِقَبضِ أرواحِهم، فإذا جاؤوهم قالوا لهم: أين الَّذين كُنتم تعبدونَهم مع اللهِ؛ فإنَّهم لم يحضُرُوا لِيُنقذِوكم ممَّا أنتم فيه؟ فهلَّا أغاثوكم مِن هذا الكَربِ الذي حلَّ بكم [424] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (10/176)، ((تفسير ابن كثير)) (3/410)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (3/214). قال الشنقيطي: (هذه الرُّسلُ هي: مَلَكُ المَوتِ وأعوانُه، يقبضونَ أرواحَهم، واعلموا أنَّ اللهَ أسنَدَ قَبضَ الرُّوحِ في آيةٍ إلى نفسِه جلَّ وعلا؛ حيث قال عن نفسِه: اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا [الزمر: 42] وأسنَدَه في آيةٍ لمَلكٍ واحدٍ، وهي قولُه في السَّجدةِ: قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ [السجدة: 11] وأسنَدَه في آياتٍ كثيرةٍ لملائكةٍ كثيرةٍ مُرسلينَ لذلك، كقولِه هنا: حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ [الأعراف: 37] ... ولا إشكالَ في الآياتِ؛ لأنَّ إسنادَ التَّوفِّي إلى اللهِ؛ لأنَّ كُلَّ شَيءٍ بمَشيئَتِه وقضائِه وقَدَرِه، فلا تقَعُ وفاةُ أحدٍ إلَّا بمَشيئَتِه جَلَّ وعلا، كمَّا صرَّحَ به في قوله: وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا [آل عمران: 145] ، وإسنادُه لمَلَك الموتِ؛ لأنَّه هو الرَّئيسُ المُوظَّفُ بقَبضِ الأرواحِ، وإسنادُه لملائكةٍ كثيرينَ؛ لأنَّ لمَلَكِ الموتِ أعوانًا كثيرينَ يَقبِضونَ معه أرواحَ النَّاسِ بأمْرِه. قال بعضُ أهل العلمِ: يَقبِضُ أعوانُه الرُّوحَ حتى تبلُغَ الحُلقومَ، فيأخُذُها مَلَكُ الموتِ. والآياتُ دلَّتْ على أنَّ له أعوانًا كثيرةً مِنَ الملائكةِ يقبضونَ معه الأرواحَ). ((العذب النمير)) (3/212- 213). !
قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا
أي: قال الكُفَّارُ لملائكةِ المَوتِ: ذهَبَ عنَّا أولياؤُنا الذين كنَّا نَدعُو مِن دُونِ اللهِ، وغابوا وتركُونَا، فلم ينفَعُونا [425] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (10/176)، ((البسيط)) للواحدي (9/118)، ((تفسير ابن كثير)) (3/410)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (3/220). .
وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ
أي: وأقرَّ الكُفَّارُ واعتَرَفوا على أنفُسِهم عند مُعايَنةِ المَوتِ: أنَّهم كفَرُوا من قبلُ باللهِ [426] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (10/176)، ((البسيط)) للواحدي (9/118)، ((تفسير ابن كثير)) (3/410)، ((تفسير ابن عاشور)) (8-ب/118). .
قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لَا تَعْلَمُونَ (38)
قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ
أي: يقولُ اللهُ يومَ القيامةِ للكافِرينَ: ادخُلُوا في زُمرةِ جَماعاتٍ على شاكِلَتِكم وصِفَاتِكم مِنْ أهلِ المِلَلِ الكافِرةِ مِنَ الجنِّ والإنسِ، الذين مَضَوا في أزمانٍ سَبَقَتْكم، فادخُلوا أنتم وهم في النَّارِ [427] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (10/176- 177)، ((تفسير ابن كثير)) (3/410)، ((تفسير ابن عاشور)) (8-ب/119)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (3/222). .
كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا
أي: كُلَّما دخلَتِ النَّارَ جماعةٌ مِن أهلِ تلك الأديانِ الكافِرةِ، شَتَمَتْ جماعةً أخرى مِن أهلِ دينِها، قد سبَقَتْها في دُخولِ النَّارِ [428] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (10/177)، ((تفسير القرطبي)) (7/204)، ((تفسير ابن عاشور)) (8-ب/121). قال السُّدِّيُّ فيما يرويه ابن جرير بسندِه عنه: (كلَّما دخلَتْ أهلُ ملَّةٍ لعنوا أصحابَهم على ذلك الدِّينِ؛ يلعَنُ المشركونَ المُشركينَ، واليهودُ اليهودَ، والنَّصارى النَّصارى، والصابئونَ الصَّابئينَ، والمجوسُ المجوسَ؛ تلعَنُ الآخِرَةُ الأولى). ((تفسير ابن جرير)) (10/177). قال ابن عاشور: (وسبَبُ اللَّعنِ أنَّ كُلَّ أمَّةٍ إنَّما تدخُلُ النَّارَ بعد أن يتبَيَّنَ لهم أنَّ ما كانوا عليه مِنَ الدِّينِ هو ضَلالٌ وباطِلٌ، وبذلك تقَعُ في نفوسِهم كراهِيَةُ ما كانوا عليه، فإذا دخَلُوا النَّارَ فرَأَوُا الأمَمَ التي أُدخِلَتِ النَّارَ قبلَهم؛ عَلِمُوا أنَّهم أُدخِلُوا النَّارَ بذلك السَّبَبِ، فلَعَنُوهم؛ لكراهِيَةِ دِينِهم ومَنِ اتَّبَعوه). ((تفسير ابن عاشور)) (8-ب/120 - 121). وقال الشنقيطي: (وإنَّما لَعَنَتْها؛ لأنَّ بَعضَ الأممِ تبقى سُنَنُهم في الضَّلالِ والكُفرِ، فيَقتَدِي بها مَن جاء بَعدَهم مِنَ الأُمَم، فيلعَنونَهم لذلك). ((العذب النمير)) (3/224). .
كما قال اللهُ تعالى حاكيًا عن الخليلِ عليه السَّلامُ: وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا [العنكبوت: 25] .
حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا
أي: حتى إذا اجتمَعَ في النَّارِ الأوَّلونَ مِن أهلِ الأديانِ الكافِرةِ، والآخِرونَ مِنهم [429] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (10/177)، ((تفسير ابن كثير)) (3/411)، ((تفسير ابن عاشور)) (8-ب/121). .
قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ
أي: قالت أُخرَاهم دُخولًا النَّارِ- وهم الأتباعُ- لأُولاهم- وهُمُ القادَةُ المَتبُوعونَ؛ لأنَّهم أشَدُّ جُرمًا مِن أتباعِهم، فدَخَلوا النَّارَ قَبلَهم [430] وهذا قولُ مُقاتلٍ، واختاره القرطبيُّ وابنُ كَثيرٍ والشوكاني والشنقيطيُّ. يُنظر: ((تفسير مقاتل)) (2/36)، ((زاد المسير)) لابن الجوزي (2/118)، ((تفسير القرطبي)) (7/205)، ((تفسير ابن كثير)) (3/411)، ((تفسير الشوكاني)) (2/232)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (3/240). قال ابنُ عاشور: (المراد: بـ أُخْرَاهُمْ: الآخِرةُ في الرُّتبة، وهم الأتباعُ والرعِيَّة مِن كلِّ أمَّةٍ مِن تلك الأُمَمِ، لأنَّ كُلَّ أمَّةٍ في عصرٍ لا تخلو مِن قادةٍ ورَعاعٍ، والمراد بـ (الأولى): الأولى في المرتبةِ والاعتبارِ، وهم القادةُ والمتبوعونَ مِن كُلِّ أمَّةٍ أيضًا). ((تفسير ابن عاشور)) (8-ب/122). وقيل: المعنى: قال آخِرُ أهلِ كُلِّ ملَّةٍ كافرةٍ لأُولاهم، الذينَ سَبَقُوهم في الدُّنيا، وشَرَعُوا لهم ذلك الدِّينَ، وهذا قَولُ السُّدِّي، واختاره ابنُ جريرٍ وابنُ عطيةَ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (10/ 178)، ((تفسير ابن عطية)) (2/ 399)، ((زاد المسير)) لابن الجوزي (2/ 118). وأفاد كلا القَولينِ في تفسيرِ هذه الجملةِ مِن الآيةِ: أنَّ الأتباعَ قالوا ذلك لِمَتبوعِيهم ورؤسائِهم. قال الواحدي: (يعني بالأُخرى: آخِرَ الأُمَم، وبالأولى: أوَّلَ الأمَمِ، وبيانه ما قاله السُّدي: (أُخْرَاهُمْ يعني: الذين كانوا في آخِرِ الزَّمان، لِأُولَاهُمْ يعني: الذين شَرَعوا لهم ذلك الدِّينَ. وقال مقاتل: أُخْرَاهُمْ يعني: آخِرَهم دخولًا النَّارَ، وهم الأتباعُ، لِأُولَاهُمْ دخولًا وهم القادةُ. وتأويلُ هذا راجِعٌ إلى معنى القَولِ الأوَّلِ؛ لأنَّ آخِرَهم دخولًا النَّارَ هم الأتباع، والأولى هم القادةُ، فالمعنى على القولينِ جميعًا: قالت الأتباعُ للقادةِ: رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا). ((البسيط)) (9/122). .
رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ
أي قالوا: يا ربَّنا، هؤلاءِ الَّذين اتَّبَعْناهم في الدُّنيا، هم الَّذين أضَلُّونا عن سبيلِكَ، فضاعِفْ لهم العذابَ؛ عذابًا على الضَّلالِ، وعذابًا على الإضلالِ [431] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (10/178)، ((البسيط)) للواحدي (9/122)، ((تفسير ابن كثير)) (3/411)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (3/227). .
كما قال تعالى: وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا * رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا [الأحزاب: 67- 68] .
وقال سبحانه وتعالى: وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ * قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ * وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَادًا وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلَالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [سبأ: 31-33] .
قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لَا تَعْلَمُونَ
أي: قال اللهُ للأتباعِ، الذين يَدعُونَه أن يُضاعِفَ العَذابَ على قادَتِهم الذين أضَلُّوهم: لكلٍّ منكم ومنهم زيادةُ عذابٍ [432] قال ابنُ عاشور: (فأمَّا مُضاعفةُ العَذابِ للقادَةِ؛ فلأنَّهم سَنُّوا الضَّلالَ أو أيَّدُوه ونَصَروه وذبُّوا عنه بالتَّمويه والمُغالطاتِ فأضَلُّوا، وأمَّا مُضاعَفَتُه للأتباعِ؛ فلأنَّهم ضَلُّوا بإضلالِ قادَتِهم، ولأنَّهم بطاعَتِهم العمياءِ لقادَتِهم، وشُكرِهم إيَّاهم على ما يَرسُمون لهم، وإعطائِهم إيَّاهم الأموالَ والرِّشَى؛ يزيدونَهم طُغيانًا وجَراءةً على الإضلالِ، ويُغْرُونَهم بالازديادِ منه). ((تفسير ابن عاشور)) (8-ب/123). وقال الشنقيطي: (مُضاعفةُ العَذابِ للضُّعَفاءِ الأتباعِ؛ ففيها إشكالٌ، وكثيرٌ مِنَ المُفَسِّرين لا يتعرَّضونَ لهذا الإشكالِ؛ لأنَّ اللهَ يقولُ: وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا [الأنعام: 160] وهم لم يُضِلُّوا. وهذا إشكالٌ معروفٌ في هذه الآيةِ، وهو مُضاعفةُ العَذابِ للأتباعِ. فقال بعضُهم: إنَّهم، وإن كانوا أتباعًا، فلا بدَّ لهؤلاءِ الأتباعِ مِن ضُعَفاءَ أُخَرَ، فالواحِدُ يكون تبَعًا لرئيسِه في الضَّلالة، ولكنَّه يُضِلُّ امرأَتَه وأولادَه وبعضَ أقارِبِه، فمعهم هم أيضًا رئاسةٌ في الضَّلالِ قليلةٌ ؛كلٌّ بحَسَبِه، ويضاعَفُ العَذابُ لكلٍّ بحَسَبِه. وقال بعضُ العلماء: مضاعفةُ العَذابِ للرُّؤساءِ بإضلالهم وضَلالِهم، ومضاعَفَتُه للأتباعِ بتقليدِهم الأعمى، وتعصُّبِهم للكُفر، وعدمِ نظَرِهم في المُعجِزات البَيِّناتِ، والأدلَّة الواضِحات التي جاءت بها الرُّسُل، مع الكُفر؛ فقد جمعوا بين التقليدِ الأعمى، والإعراضِ عن سماعِ الحَقِّ، مع الكُفرِ الذي ارتكَبوه. هكذا قاله بعضُ العلماء). ((العذب النمير)) (3/228). ، ولكِنَّكم لا تعلمونَ مِقدارَ ما أعَدَّ اللهُ مِنَ العَذابِ [433] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (10/178، 180)، ((تفسير ابن عاشور)) (8-ب/123)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (3/228). قال ابنُ جرير: (يقول: ولكِنَّكم- يا معشَرَ أهلِ النَّارِ- لا تعلمونَ ما قَدْرُ ما أعَدَّ اللهُ لكم مِنَ العذابِ). ((تفسير ابن جرير)) (10/180). وقال ابنُ عاشور: (والمعنى: أنَّكم لا تعلمونَ الحَقائِقَ، ولا تشعرونَ بخفايا المعاني؛ فلذلك ظَنَنْتم أنَّ مُوجِبَ مُضاعَفةِ العذابِ لهم دُونكم، هو أنَّهم عَلَّمُوكم الضَّلالَ، ولو عَلِمْتُم حَقَّ العِلمِ، لاطَّلَعْتم على ما كان لِطَاعَتِكم إيَّاهم مِنَ الأثَرِ في إغرائِهم بالازديادِ مِنَ الإضلالِ). ((تفسير ابن عاشور)) (8-ب/123). وقال الشنقيطي: (ولكنَّكم لا تعلمونَ قَدرَ ما ينالونَه مِنَ العَذابِ المُهينِ، وشِدَّتِه وهَولِه وألَمِه). ((العذب النمير)) (3/229). .
كما قال تعالى: الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ [النحل: 88] .
وقال اللهُ تبارك وتعالى عن جميعِ أهلِ النَّارِ: فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا [النبأ: 30] .
وقال الله سبحانه: كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا [الإسراء: آية 97].
وَقَالَتْ أُولَاهُمْ لِأُخْرَاهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (39)
وَقَالَتْ أُولَاهُمْ لِأُخْرَاهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ
أي: قال المَتبوعونَ للأتباعِ: لم تكُنْ لَكم مَزِيَّةٌ علينا مِن إيمانٍ وتَقوى، تُوجِبُ أن يكونَ عذابُنا أشَدَّ مِن عذابِكم؛ فنحن وأنتم مُتشارِكونَ في الكُفرِ، وفي استحقاقِ العذابِ، فأيُّ فضلٍ لكم علينا [434] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (10/180)، ((تفسير البغوي)) (2/191)، ((تفسير الرازي)) (14/239)، ((تفسير ابن جزي)) (1/288)، ((تفسير ابن كثير)) (3/411)، ((تفسير الشوكاني)) (2/232)، ((تفسير السعدي)) (ص: 288)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (3/241). ؟
كما قال سبحانه: قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ [سبأ: 32].
فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ
أي: فذُوقوا عذابَ جَهنَّمَ؛ بسبَبِ ما كسَبْتُم في الدُّنيا مِنَ الكُفرِ والمعاصي [435] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (10/ 180)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (3/241). ذكر عددٌ مِنَ المُفَسِّرينَ أنَّ هذا الكلامَ يحتمِلُ أن يكونَ مِن كلامِ القادةِ، ويحتمِلُ أن يكونَ مِن قولِ اللهِ تعالى لهم جميعًا. ومنهم: الرَّازي، وابنُ عطيةَ، وابنُ عاشور. يُنظر: ((تفسير الرازي)) (14/239)، ((تفسير ابن عطية)) (2/399)، ((تفسير ابن عاشور)) (8-ب/124)، ((تفسير الرازي)) (14/239). ويُنظر: ((الدر المصون)) للسمين الحلبي (5/317). واختار ابنُ جريرٍ الاحتمالَ الثاني. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (10/180). .

الفوائد التربوية:

.

الفوائد العلمية واللطائف:

قولُ الله تعالى: يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ إنَّما قال: مِنْكُمْ؛ لأنَّ كَونَ الرَّسولِ منهم، أقطَعُ لعُذرِهم، وأبيَنُ للحُجَّةِ عليهم مِن جهاتٍ: أحدُها: أنَّ مَعرِفَتَهم بأحوالِه وبِطَهارَتِه تكونُ مُتقَدِّمةً. وثانيها: أنَّ مَعرِفَتَهم بما يليقُ بقُدرَتِه تكونُ مُتقَدِّمةً، فلا جَرَمَ لا يقَعُ في المُعجزاتِ التي تظهَرُ عليه شَكٌّ وشُبهةٌ في أنَّها حَصَلت بقدرةِ الله تعالى لا بقُدرَتِه؛ فلهذا السَّبَبِ قال تعالى: وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا [الأنعام: 9] . وثالثها: ما يحصُلُ مِنَ الأُلفةِ وسُكونِ القَلبِ إلى أبناءِ الجِنسِ، بخلافِ ما لا يكونُ مِنَ الجِنسِ، فإنَّه لا يحصُلُ معه الأُلفةُ [437] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (14/235)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (7/394). .
وقولُه: رُسُلٌ مِنْكُمْ يدلُّ على أنَّه قد يُوجَدُ رُسُلٌ آخرونَ ليسُوا مِنَّا، وهو كذلك؛ لأنَّ مِنَ الملائكةِ رُسلًا، والملائكةُ لَيسُوا مِن جِنسِنا؛ كما قال الله: اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ [الحج: 75] وقال: جَاعِلُ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ الآية [438] يُنظر: ((العذب النمير)) للشنقيطي (3/195). [فاطر: 1] .
قولُ اللهِ تعالى: يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ جملةُ: فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ جوابُ الشَّرط، وعدَلَ عن جعلِ الجوابِ اتِّباعَ الرُّسُلِ إلى جَعْلِه التَّقوى والصَّلاحِ، إيماءً إلى حِكمةِ إرسالِ الرُّسُلِ، وتحريضًا على اتِّباعِهم بأنَّ فائِدَتَه للأُمَمِ لا للرُّسُلِ [439] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور) (8-ب/109). .
في قَولِه تعالى عَمَّنِ اتَّقى وأصلَحَ: فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ لم يقُلْ سُبحانَه: (لا يخافُونَ)؛ فهم لا خوفٌ عليهم، وإن كانوا يخافونَ اللهَ، ونفى عنهم أن يَحزَنُوا؛ لأنَّ الحُزنَ إنَّما يكون على ماضٍ، فهم لا يحزنونَ بحالٍ؛ لا في القَبرِ، ولا في عَرَصاتِ القِيامةِ، بخلافِ الخَوفِ، فإنَّه قد يحصُلُ لهم قبل دُخولِ الجَنَّةِ [440] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (7/261). .
قولُ اللهِ تعالى: وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ استُدِلَّ به على أنَّ الفاسِقَ مِن أهلِ الصَّلاةِ، لا يبقى مُخلَّدًا في النَّارِ؛ لأنَّه تعالى بيَّنَ أنَّ المُكَذِّبينَ بآياتِ اللهِ، والمُستكبِرينَ عَن قَبُولِها؛ هم الذين يبقَونَ مُخَلَّدينَ في النَّارِ، فكلمةُ هُمْ تفيدُ الحصرَ، وذلك يقتضي أنَّ مَن لا يكونُ موصوفًا بذلك التَّكذيبِ والاستكبارِ، لا يبقى مُخلَّدًا في النَّارِ [441] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (14/235). .
يُستفادُ مِن قَولِه تعالى: يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ أنَّ جَميعَ الرُّسُلِ قد بلَّغُوا أمَمَهم أنَّ اتِّباعَهم في اتِّقاءِ ما يُفسِدُ فِطرَتَهم مِنَ الشِّركِ وخُرافاتِه، والرَّذائلِ والمعاصي، وفي إصلاحِ أعمالِهم بالطَّاعاتِ- يترتَّبُ عليه الأمنُ مِنَ الخَوفِ مِن كُلِّ ما يُتَوَقَّعُ، والحزنِ على كلِّ ما يقَعُ، وأنَّ تكذيبَ ما جاؤوا به من آياتِ اللهِ، والاستكبارَ عَن اتِّباعِها- يتَرَتَّبُ عليه الخلودُ في النَّارِ، فوق ما بَيَّنَ في آياتٍ أخرى مِن سُوءِ الحالِ في الدُّنيا، وقد سكَتَ عن الجزاءِ الدُّنيويِّ هنا؛ لأنَّ الآيةَ تدلُّ عليه، ولأنَّه لا يظهَرُ للنَّاسِ في كُلِّ وَقتٍ [442] يُنظر: ((تفسير المنار)) لمحمد رشيد رضا (8/366). .
تضمَّنَ قولُه تعالى: فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ ذِكْرَ الصِّنفَينِ المُبطِلَينِ؛ أحدُهما: مُنْشِئُ الباطِلِ والفِرْيَةِ، وواضعُها، وداعي النَّاسِ إليها، والثاني: مُكَذِّبٌ بالحَقِّ، فالأوَّلُ: كُفْرُه بالافتراءِ، وإنشاءِ الباطِلِ. والثَّاني: كُفْرُه بجُحودِ الحَقِّ، وهذان النَّوعانِ يَعرِضانِ لكُلِّ مُبطلٍ [443] يُنظر: ((الرسالة التبوكية)) لابن القيم (ص: 47). .
دلَّ قولُه تعالى: قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ على أنَّ الجنَّ كانوا مُكلَّفينَ في الشَّرائِعِ الماضيةِ قبل بَعثةِ نَبِيِّنا صَلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فأمَّا شَريعَتُه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ، فأجمَعَ المُسلمونَ على أنَّه بُعِثَ إلى الجِنِّ والإنسِ، وأنَّه يجِبُ على الجِنِّ طاعَتُه؛ لأنَّ الإخبارَ عن دُخولِ كُفَّارِ الجنِّ في النَّارِ، إنَّما يكونُ بعد إقامةِ الحُجَّةِ عليهم بالرِّسالةِ [444] يُنظر: ((طريق الهجرتين)) لابن القيم (ص: 417). .
دلَّ قولُه تعالى: قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ على أنَّ كفَّارَ الجنِّ يدخُلونَ النَّارَ، وقد اتَّفقَ العُلَماءُ على ذلك [445] يُنظر: ((النبوات)) لابن تيمية (2/1009). .
في قَولِه تعالى: وَقَالَتْ أُولَاهُمْ لِأُخْرَاهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ دلالةٌ على أنَّ سائِرَ أنواعِ المُكَذِّبينَ بآياتِ الله؛ مُخَلَّدونَ في العذابِ، مُشتَرِكونَ فيه وفي أصلِه- وإن كانوا مُتفاوِتينَ في مقدارِه بحَسَبِ أعمالِهم، وعنادِهم، وظُلْمِهم وافترائِهم- وأنَّ مَوَدَّتَهم التي كانت بينهم في الدُّنيا تنقَلِبُ يومَ القيامةِ عداوةً ومُلاعَنةً [446] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 288). .

بلاغة الآيات:

قوله: يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ
قوله: يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ فيه إعادةُ النِّداء في صَدْرِ هذِه الجُملةِ؛ للاهتمامِ [447] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (8-ب/92). .
وقوله: رُسُلٌ مِنْكُمْ فيه تنبيهٌ لبَنِي آدَمَ بأنَّهم لا يَترقَّبون أنْ تَجيئَهم رُسلُ اللهِ مِن الملائكةِ؛ لأنَّ المُرسَلَ يكونُ مِن جِنسِ مَن أُرْسِلَ إليهم، وفي هذا تعريضٌ بالجَهلةِ مِن الأُممِ الذين أَنكروا رسالةَ الرُّسلِ؛ لأنَّهم مِن جِنسِهم [448] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (8-ب/108). .
وفيه: تلوينٌ للخِطابِ، وتوجيهٌ له إلى كافَّةِ النَّاسِ؛ اهتمامًا بشأنِ ما في حيِّزه [449] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (3/225). .
و(ما) في قوله: إِمَّا زائدة مُؤكِّدة، وهي تُفيدُ مع التأكيدِ عُمومَ الشَّرطِ [450] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (3/225)، ((تفسير ابن عاشور)) (8-ب/108). .
قوله: فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ بناءُ الخبرِ الفِعليِّ يَحْزَنُونَ على المُسنَدِ إليه هُمْ المتقدِّمِ عليه؛ يُفيدُ تَخصيصَ المسنَدِ إليه بذلِك الخَبرِ [451] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (8-ب/110). .
قوله: وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ أفادت هذه الآيةُ تحقيقَ أنَّهم صائِرون إلى النَّارِ بطريقِ قَصرِ مُلازمةِ النَّارِ عليهم في قوله: أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ؛ لأنَّ لفظ أَصْحَابُ مُؤذِنٌ بالملازمةِ، وبما تدلُّ عليه الجملةُ الاسميَّةُ مِن الدَّوامِ والثَّباتِ في قوله: هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [452] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور) (8-ب/111). .
وقوله: وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا الاستكبارُ مُبالغةٌ في التكبُّر؛ فالسِّينُ والتاءُ في قوله: وَاسْتَكْبَرُوا للمُبالغةِ [453] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور) (8-ب/111). .
قوله: فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُوا أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ
قوله: فَمَنْ أَظْلَمُ... الاستفهامُ إنكاريٌّ مُستعمَلٌ في تهويلِ ظُلم هذا الفريقِ، المعبَّر عنه بمَن افترَى على اللهِ كذبًا، أي: لا أحَدَ أَظلمُ ممَّن هذا وصْفُه [454] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (8-ب/112)، ((تفسير أبي السعود)) (4/13). .
وقولُه: أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ جملةٌ مستأنفةٌ استئنافًا بيانيًّا ناشئًا عن الاستفهامِ في قوله: فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا؛ لأنَّ التهويلَ المستفادَ مِن الاستفهامِ يَسترعي السَّامعَ أن يسألَ عمَّا سيُلاقونَه مِن اللهِ تعالى الذي افتَرْوا عليه، وكَذَّبوا بآياتِه [455] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (8-ب/114). .
قولُه: حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُوا أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا الكلامُ الواقعُ هنا بعدَ حتَّى فيه تهويلُ ما يُصيبهم عندَ قَبْضِ أرواحِهم، وهو أدخلُ في تهديدِهم وتَرويعِهم وموعظتِهم، مِن الوعيدِ المتعارَفِ [456] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (8-ب/116). .
وقولُه: أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ الاستفهامُ في قوله: أَيْنَ مَا كُنْتُمْ؛ للتَّوبيخِ والتَّقريرِ، ومُستعمَلٌ في التهكُّمِ والتَّأْييسِ [457] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (5/48)، ((تفسير ابن عاشور)) (8-ب/117). .
قوله: قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا استئنافٌ وقَعَ جوابًا عن سؤالٍ نشَأَ مِن حِكايةِ سؤالِ الرُّسُلِ؛ كأنه قيل: فماذا قالوا عندَ ذلك؟ فقيل: قالوا: ضَلُّوا عَنَّا [458] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (3/226). .
قوله: قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا...
قوله: قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ اسئنافُ كلامٍ نَشأَ بمناسبةِ حِكايةِ حالِ المشركينَ حين أوَّلِ قُدومِهم على الحياةِ الآخِرَةِ، وهي حالةُ وفاةِ الواحدِ منهم، وفيه تذكيرٌ لهم بما حاقَ بأُولئك الأُممِ من عذابِ الدُّنيا، وتعريضٌ بالوعيدِ بأنْ يَحُلَّ بهم مِثلُ ذلك، وتصريحٌ بأنَّهم في عذابِ النَّارِ سواءٌ [459] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (8-ب/118). .
قولُه: قَالَ ادْخُلُوا الإتيانُ بفِعلِ القولِ بصِيغةِ الماضي في قولِه: قَالَ؛ للتنبيهِ على تَحقيقِ وقوعِه، والأمرُ في قولِه: ادْخُلُوا مُستعمَلٌ للوعيدِ، فيتأخَّر تنجيزُه إلى يومِ القِيامةِ [460] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (8-ب/119). .
قولُه: مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ قَدَّمَ الجِنَّ؛ لأنَّهم الأصلُ في الإغواءِ والإضلالِ [461] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (5/48)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (7/397). .
قوله: كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا جملةٌ مُستأنَفةٌ استئنافًا ابتدائيًّا؛ لوصفِ أحوالِهم في النَّار، وتَفظيعِها للسَّامِعِ؛ ليتَّعِظَ أمثالُهم، ويستبشرَ المؤمنون بالسَّلامةِ ممَّا أصابَهم؛ فتكونُ جملةُ حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا داخلةً في حيِّز الاستئنافِ [462] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (8-ب/120). .
وقوله: أُمَّةٌ نكرةٌ وقعَتْ في حيِّزِ عُمومِ الأَزمنةِ، فتُفيدُ العمومَ، أي: كلُّ أُمَّةٍ دخَلَتْ [463] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (8-ب/120). .
قول الله تعالى: وَقَالَتْ أُولَاهُمْ لِأُخْرَاهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ
صِيغةُ الأمْر فَذُوقُوا مُستعمَلَةٌ في الإهانةِ والتَّشفِّي، والتشفي منهم فيما نالَهم مِن عذابِ الضِّعفِ تَرتَّب على تحقُّقِ انتفاءِ الفَضلِ بَينهم في تَضعيفِ العذابِ، الذي أوضَحه بقولِه: لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لَا تَعْلَمُونَ [464] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (8-ب/124). .
وفي هذِه الآيةِ مُناسبةٌ حَسنةٌ، حيثُ قال تعالى هنا في سُورةِ الأعراف: فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ، وورد في سُورةِ الأنفالِ أنَّ عَذابَهم بكُفرِهم، حيث قال: فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ [الأنفال: 35] ؛ وذلك لأنَّ آيةَ الأعرافِ وردَتْ في أخلاطٍ مِن الأُممِ وأصنافٍ مِن المُكذِّبينَ، تَنوَّعَ كُفرُهم وتَكذيبُهم ضُروبًا مِن المخالفاتِ، وافْتَرَوْا على اللهِ سبحانه، فلِشَتَّى مُجترحاتِ هؤلاءِ، واتِّساعِ مُرْتَكَباتِهم، وأنَّهم ضلُّوا وأَضلُّوا؛ ناسَب ما وقَعَ جزاؤُهم عليه ذِكْرَ الاكتسابِ، أمَّا آيةُ الأنفال ففي قومٍ بأعيانِهم، وهم كُفَّارُ قريش مِن أهل مَكَّة، وحالهم معلومةٌ أنَّهم كانوا عَبَدَةَ أوثانٍ، ولم تَتكرَّرْ فيهم الرُّسُلُ، ولا كَفروا بغيرِ التَّكذيبِ به صلَّى الله عليه وسلَّم، وبتَصميمِهم على عِبادِةِ آلهتِهم [465] يُنظر: ((ملاك التأويل)) لأبي جعفر الغرناطي (1/181). .