موسوعة التفسير

سورةُ لُقمانَ
الآيات (20-24)

ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ

غَريبُ الكَلِماتِ:

وَأَسْبَغَ: أي: أتمَّ ووسَّعَ وأكمَلَ، وأصلُ (سبغ): يدُلُّ على تمامِ الشَّيءِ وكَمالِه [318] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/129)، ((المفردات)) للراغب (ص: 395)، ((تفسير القرطبي)) (14/73)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 114). .
بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى: أي: بأوثَقِ الأسبابِ. والعُروةُ: ما يُتعلَّقُ به؛ نحوُ عُروةِ الدَّلْوِ والكُوزِ، والوُثقَى: المُحكَمةُ الشَّدِّ [319] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/569)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (4/296)، ((التفسير البسيط)) للواحدي (4/364)، ((تفسير ابن عاشور)) (3/29). .
نَضْطَرُّهُمْ: أي: نُلجِئُهم ونَسوقُهم، أو نُورِدُهم على كُرهٍ منهم، والاضْطِرارُ: حمْلُ الإنسانِ على ما يَضُرُّه، والاضطرارُ في الأصلِ: الإلجاءُ، يُقالُ: اضْطَرَّه إلى كذا، أي: ألجَأَه إليه، وأصلُ (ضرَّ) هنا: خلافُ النَّفْعِ [320] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/570)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/360)، ((المفردات)) للراغب (ص: 505)، ((تفسير القرطبي)) (14/75)، ((تفسير ابن عاشور)) (1/717) و(21/179). .

المعنى الإجماليُّ:

يقولُ تعالى مُنَبِّهًا خلْقَه على نِعَمِه عليهم في الدُّنيا والآخرةِ: ألم تَرَوا -أيُّها النَّاسُ- أنَّ اللهَ وَحْدَه سخَّر لكم ما في السَّمَواتِ وما في الأرضِ مِن منافِعَ كثيرةٍ لا تُحصى، وأتمَّ عليكم نِعَمَه ظاهِرةً وباطِنةً، وغمَركم بها، ومع كُلِّ هذا فمِنَ النَّاسِ مَن يُخاصِمُ في دينِ اللهِ وشَرعِه وتَوحيدِه بلا عِلمٍ عِندَه، وبغيرِ هُدًى ولا كِتابٍ مُبِينٍ للحَقِّ!
ثمَّ يُبيِّنُ الله تعالى عِنادَ هؤلاء المجادِلينَ في اللهِ، وتقليدَهم الأعمى، وأنَّهم إذا قيل لهم: اتَّبِعوا ما أنزَلَ اللهُ على رَسولِه، قالوا: بل نتَّبِعُ ما وَجَدْنا عليه آباءَنا! ويَرُدُّ الله تعالى عليهم، فيقولُ: أيَتَّبِعونَ آباءَهم الضَّالِّينَ ولو كان الشَّيطانُ يدعوهم إلى عذابِ النَّارِ الَّتي تَستَعِرُ بهم؟!
ثمَّ يذكُرُ الله تعالى حالَ المؤمنِ المُستسلِمِ لأمرِ الله، وحُسْنَ عاقبتِه، فيقولُ: ومَن يُخلِصْ عَمَلَه وقَصْدَه لله وحْدَه، وهو مُطيعٌ لله مُتَّبِعٌ لِشَرعِه؛ فقد تَمسَّك بأوثَقِ رِباطٍ يؤدِّي إلى الفَوزِ والنَّجاةِ، وإلى اللهِ وَحْدَه نهايةُ كُلِّ أمرٍ.
ثمَّ يقولُ الله تعالى مسَلِّيًا نبيَّه صلَّى الله عليه وسلَّم: ومَن كَفَر باللهِ فلا يَحزُنْك -يا مُحمَّدُ- كُفرُه؛ إلينا وَحْدَنا مَصيرُهم، فنُخبِرُهم يومَ القيامةِ بما عَمِلوه، إنَّ اللهَ عليمٌ بما تُخفي صدورُهم، نمتِّعُهم في الدُّنيا قليلًا، ثمَّ نُلجِئُهم إلى عذابٍ شديدٍ.

تَفسيرُ الآياتِ:

أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ (20).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا فَرَغ سبحانَه مِن قصَّةِ لُقمانَ؛ رَجَع إلى توبيخِ المشركينَ، وتبكيتِهم، وإقامةِ الحُجَجِ عليهم [321] يُنظر: ((تفسير الشوكاني)) (4/277). .
وأيضًا لَمَّا استدَلَّ سُبحانَه بقولِه تعالى: خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ [لقمان: 10] على الوَحدانيَّةِ، وبَيَّنَ بحِكمةِ لُقمانَ أنَّ مَعرِفةَ ذلك غيرُ مُختصَّةٍ بالنُّبوَّةِ؛ استدَلَّ ثانيًا على الوحدانيَّةِ بالنِّعَمِ، بقولِه تعالى [322] يُنظر: ((تفسير الشربيني)) (3/169). :
أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ.
أي: ألم تَرَوا -أيُّها النَّاسُ- أنَّ اللهَ وَحْدَه هو مَنْ ذلَّل لأجْلِكم وقيامِ مَصالحِكم ما في السَّمواتِ مِن شَمسٍ وقَمَرٍ ونُجومٍ وسَحابٍ ورياحٍ وغَيرِها، وما في الأرضِ مِن حَيواناتٍ وزُروعٍ وأشجارٍ وأنهارٍ وبحارٍ ومعادِنَ، وغيرِ ذلك مِن منافِعَ كثيرةٍ لا تُحصى [323] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/566)، ((تفسير السمرقندي)) (3/26)، ((تفسير القرطبي)) (14/73)، ((تفسير ابن كثير)) (6/347)، ((تفسير السعدي)) (ص: 649)، ((تفسير ابن عاشور)) (21/174). قال ابنُ عاشور: (والخِطابُ في أَلَمْ تَرَوْا يجوزُ أن يكونَ لجميعِ النَّاسِ؛ مُؤمِنِهم ومُشرِكهم؛ لأنَّه امتِنانٌ، ويجوزُ أن يكونَ لخُصوصِ المُشرِكينَ باعتبارِ أنَّه استدلالٌ). ((تفسير ابن عاشور)) (21/174). وممَّن ذهب إلى أنَّ الخِطابَ هنا لعُمومِ النَّاسِ: ابنُ جرير، والقرطبي، وابن كثير، والسعدي. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/566)، ((تفسير القرطبي)) (14/73)، ((تفسير ابن كثير)) (6/347)، ((تفسير السعدي)) (ص: 649). وممَّن قال بأنَّ الخِطابَ للمُشرِكين: السمرقنديُّ، وأبو السعود، والشوكاني، والألوسي. يُنظر: ((تفسير السمرقندي)) (3/26)، ((تفسير أبي السعود)) (7/73)، ((تفسير الشوكاني)) (4/277)، ((تفسير الألوسي)) (11/91). .
كما قال تعالى: وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ * وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ [النحل: 12، 13].
وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً.
أي: وأتَمَّ عليكم نِعَمَه الكثيرةَ الوافيةَ، وأوسعَكم وغَمَرَكم بها، ظاهِرةً كانت أو باطِنةً [324] يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (14/73)، ((تفسير ابن كثير)) (6/347)، ((تفسير السعدي)) (ص: 649)، ((تفسير ابن عاشور)) (21/174، 175). قيل: ظاهِرة على الألسُنِ قَولًا، وعلى الجوارِحِ عَمَلًا، وباطِنة في القُلوبِ اعتِقادًا ومَعرِفةً. وممَّن قال بذلك: ابنُ جرير. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/568). وممَّن قال بنحوِ هذا القولِ مِن السَّلفِ: مجاهدٌ، والرَّبيعُ بنُ أنسٍ. يُنظر: ((تفسير الثعلبي)) (7/318)، ((الدر المنثور)) للسيوطي (6/526). وقيل: الظَّاهِرةُ: الَّتي نعلَمُ بها، والباطِنةُ: الَّتي تخفَى علينا. وممَّن قال بذلك في الجملةِ: البِقاعي، والسعدي، وابن عاشور. يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (15/185)، ((تفسير السعدي)) (ص: 649)، ((تفسير ابن عاشور)) (21/175). وممَّن قال بنحوِ هذا القولِ: ابنُ عبَّاسٍ في روايةٍ عنه. يُنظر: ((تفسير الثعلبي)) (7/318). قال ابنُ عاشور: (الظَّاهرةُ: الواضِحةُ. والباطنةُ: الخفيَّةُ، وما لا يُعلَمُ إلَّا بدليلٍ، أو لا يُعلَمُ أصلًا. وأصلُ الباطنةِ: المُستقرَّةُ في باطنِ الشَّيءِ، أي: داخله... فكم في بدنِ الإنسانِ وأحوالِه مِن نِعَمٍ يَعلَمُها النَّاسُ أو لا يعلمُها بعضُهم، أو لا يعلمُها إلَّا العلماءُ، أو لا يعلمُها أهلُ عصرٍ ثمَّ تنكشفُ لِمَن بعدَهم، وكِلا النَّوعَينِ أصنافٌ دينيَّةٌ ودنيويَّةٌ). ((تفسير ابن عاشور)) (21/175). ويُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/499). وقيل: ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً: أي: محسوسةً ومعقولةً، ما تَعرِفونَه وما لا تَعرِفونه. وممَّن اختار ذلك في الجملةِ: البيضاويُّ، وأبو السعود، والقاسمي. يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (4/215)، ((تفسير أبي السعود)) (7/74)، ((تفسير القاسمي)) (8/33). وقيل: الظَّاهِرةُ: هي البَيِّنةُ للعِيانِ، والظَّاهرةُ لكلِّ أحدٍ، والباطنةُ هي الَّتي لا يَعلمُها إلَّا الإنسانُ المنعَمُ عليه وحْدَه. وأيضًا الظَّاهرةُ تعني أنَّه مِن الواضحِ أنَّها نعمةٌ، وأمَّا الباطنةُ فلا يَتبيَّنُ أنَّها نعمةٌ إلَّا فيما بعدُ، مِن خلالِ معرفةِ آثارِها. قاله: ابن عثيمين. يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين - سورة لُقمان)) (ص: 121). .
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ.
أي: ولكِنْ مع إسباغِ هذه النِّعَمِ على النَّاسِ، فثَمَّةَ مَن يُخاصِمُ منهم في اللهِ؛ كأن يخاصِمَ في وُجودهِ، أو في توحيدِه، أو في أسمائِه وصِفاتِه، أو في دِينِه وأحكامِه وشَرْعِه، بلا عِلمٍ عِندَه، وبِغَيرِ هُدًى [325] قيل: المرادُ بقولِه: وَلَا هُدًى: أي: بغيرِ بيانٍ وحُجَّةٍ وبرهانٍ. وممَّن قال بهذا المعنى في الجملةِ: ابنُ جرير، والثعلبي، والبغوي، وابن الجوزي، وابن كثير. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/568)، ((تفسير الثعلبي)) (7/9)، ((تفسير البغوي)) (3/335)، ((تفسير ابن الجوزي)) (3/224)، ((تفسير ابن كثير)) (6/347). وقيل: المرادُ بقولِه: وَلَا هُدًى أي: مِن رسولٍ. وممَّن اختاره: البيضاوي، وجلال الدين المحلي، والبِقاعي، والقاسمي. يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (4/215)، ((تفسير الجلالين)) (ص: 542)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (15/187)، ((تفسير القاسمي)) (8/33). وقال السعدي: (إنَّه الهديُ الَّذي يَقتدي به بالمُهتدينَ). ((تفسير السعدي)) (ص: 649). وقال ابن عاشور: (إنَّه التَّلَقِّي مِن عالِمٍ). ((تفسير ابن عاشور)) (21/175). ، وبلا كِتابٍ مُبِينٍ للحَقِّ [326] قال الزمخشري في نظيرِ هذه الآيةِ مِن سورةِ الحجِّ: (والمرادُ بالعِلمِ: العِلمُ الضَّروريُّ، وبالهدَى: الاستِدلالُ والنَّظرُ؛ لأنَّه يَهدي إلى المعرفةِ، وبالكتابِ المُنيرِ: الوحْيُ). ((تفسير الزمخشري)) (3/146). ويُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (7/488)، ((تفسير النسفي)) (2/429). وقال الشوكاني معقبًا على هذا القولِ: (والأَولى حمْلُ العلمِ على العمومِ، وحملُ الهدَى على معناه اللُّغَويِّ، وهو الإرشادُ. والمرادُ بالكتابِ المُنيرِ هو القرآنُ). ((تفسير الشوكاني)) (3/519). وقال الرازي: (هذه أمورٌ ثلاثةٌ مرتَّبةٌ: العِلمُ والهدَى والكتابُ، والعِلمُ أعلَى مِن الهدَى، والهدَى مِن الكِتابِ، وبيانُه هو أنَّ العلمَ تدخُلُ فيه الأشياءُ الواضحةُ اللَّائحةُ الَّتي تُعلَمُ مِن غيرِ هدايةِ هادٍ، ثُمَّ الهدَى يدخُلُ فيه الَّذي يكونُ في كتابٍ والَّذي يكونُ مِن إلهامٍ ووحْيٍ، فقال تعالَى: يُجادِلُ ذلك المجادِلُ لا مِن عِلمٍ واضحٍ، ولا مِن هدًى أتاهُ مِن هادٍ، ولا مِن كتابٍ). ((تفسير الرازي)) (25/124). يُبَيِّنُ صِحَّةَ دَعواه [327] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/568)، ((تفسير ابن كثير)) (6/347)، ((تفسير السعدي)) (ص: 649)، ((تفسير ابن عثيمين - سورة لُقمان)) (ص: 123). .
وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ (21).
وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا.
أي: وإذا قيل لأولئك المجادِلينَ في اللهِ: اتَّبِعوا ما أنزَلَ اللهُ على رَسولِه، قالوا مُعارِضينَ: لن نتَّبِعَ ذلك، وإنَّما نتَّبِعُ ما وجَدْنا عليه آباءَنا مِنَ الدِّينِ، ونقَلِّدُهم فيه؛ فإنَّهم كانوا على الحَقِّ [328] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/569)، ((تفسير ابن كثير)) (6/347)، ((تفسير السعدي)) (ص: 650). !
أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ.
أي: أيتَّبِعونَ آباءَهم الضَّالِّينَ حتى لو كان الشَّيطانُ البَعيدُ مِنَ الرَّحمةِ، الشَّديدُ العداوةِ لهم: يَدعوهم بتَزيينِه الباطِلَ لهم إلى أن يُعذَّبوا في النَّارِ الَّتي تَستَعِرُ وتلتَهِبُ؟! فهل هذا مُوجِبٌ لاتِّباعِهم على طريقتِهم، أم أنَّ ذلك مُحَذِّرٌ مِن سُلوكِ سَبيلِهم [329] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/569)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (15/188)، ((تفسير السعدي)) (ص: 650)، ((تفسير ابن عاشور)) (21/176). ؟!
وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (22).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّه لَمَّا بيَّن حالَ المُشرِكِ والمجادِلِ في اللهِ، بيَّن حالَ المسلِمِ المستسلِمِ لأمرِ الله [330] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (25/125). ؛ ليَبِينَ الفَرْقُ، وتتحرَّكَ النُّفوسُ إلى طلبِ الأفضلِ [331] يُنظر: ((تفسير ابن عطية)) (4/353). .
وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى.
أي: ومَن يُخلِصْ عَمَلَه وقَصْدَه لله وحْدَه، وهو مع إخلاصِه مُطيعٌ لله في أمْرِه ونَهْيِه كأنَّه يَراه، ومُتَّبِعٌ لشَريعةِ نبيِّه، ومُحسِنٌ إلى خَلْقِه: فقد تَمسَّك بأَوثَقِ رِباطٍ يَتمسَّكُ به مَن يريدُ الفَوزَ والنَّجاةَ مِنَ الضَّلالِ والعَذابِ [332] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/569)، ((تفسير القرطبي)) (14/74)، ((تفسير ابن كثير)) (6/347)، ((تفسير السعدي)) (ص: 650)، ((تفسير ابن عاشور)) (21/176، 177)، ((تفسير ابن عثيمين - سورة لُقمان)) (ص: 133، 134). .
كما قال تعالى: بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ [البقرة: 112].
وقال سُبحانَه: فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا [البقرة: 256] .
وعن أبي هُريرةَ رَضِيَ الله عنه، قال: ((كان النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بارِزًا يَومًا للنَّاسِ، فأتاه جِبريلُ... قال: ما الإحسانُ؟ قال: أن تَعبُدَ اللهَ كأنَّك تَراه، فإنْ لم تكُنْ تَراهُ فإنَّه يَراك )) [333] رواه البخاري (50) واللفظ له، ومسلم (9). .
وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ.
أي وإلى الله وَحْدَه تَرجِعُ نهايةُ كُلِّ أمرٍ؛ فأمورُ مَن أسلَمَ وَجهَه إلى اللهِ صائِرةٌ إلى اللهِ، ومَوكولةٌ إليه؛ فهو يَنصُرُهم ويُجازيهم إذا قَدِموا عليه جزاءً حَسَنًا وافيًا [334] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/570)، ((تفسير القرطبي)) (14/75)، ((تفسير السعدي)) (ص: 650)، ((تفسير ابن عاشور)) (21/177)، ((تفسير ابن عثيمين - سورة لُقمان)) (ص: 135). .
وَمَنْ كَفَرَ فَلَا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (23).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّه لَمَّا خلا ذَمُّ الَّذين كَفَروا عن الوعيدِ، وانتُقِل منه إلى مَدحِ المُسلِمينَ ووَعْدِهم؛ عُطِف عِنانُ الكلامِ إلى تَسليةِ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بتَهوينِ كُفرِهم عليه؛ لأنَّ مَرجِعَهم إلى اللهِ، فيُريهم الجزاءَ المناسِبَ لكُفرِهم [335] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (21/177). .
وَمَنْ كَفَرَ فَلَا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ.
أي ومَن كَفَر باللهِ وبما جاءَه مِنَ الحَقِّ، فلا يَحزُنْك -يا محمَّدُ- كُفرُه [336] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/570)، ((تفسير ابن كثير)) (6/347)، ((تفسير السعدي)) (ص: 650). .
كما قال تعالى: وَلَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا يُرِيدُ اللَّهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآَخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [آل عمران: 176] .
وقال سُبحانَه: وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ [النمل: 70] .
إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا.
أي: إلينا وَحْدَنا مَصيرُهم، فنُخبِرُهم يومَ القيامةِ بما عَمِلوه في الدُّنيا مِنَ الكُفرِ والمعاصي، ونُجازيهم عليه [337] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/570)، ((تفسير ابن كثير)) (6/347)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (15/191)، ((تفسير السعدي)) (ص: 650)، ((تفسير ابن عاشور)) (21/178). .
إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ.
أي إنَّ اللهَ عَليمٌ بما تُخفي صُدورُهم مِنَ العَقائدِ الباطِلةِ، والإراداتِ السَّيِّئةِ، ولا تخفَى على الله منهم خافيةٌ [338] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/570)، ((تفسير ابن كثير)) (6/347)، ((تفسير السعدي)) (ص: 650). .
نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ (24).
نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا.
أي: نمتِّعُ هؤلاء الكافِرينَ في الدُّنيا تمتيعًا قَليلًا [339] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/570)، ((تفسير القرطبي)) (14/75)، ((تفسير ابن كثير)) (6/347)، ((تفسير السعدي)) (ص: 650)، ((تفسير ابن عاشور)) (21/178). قال ابنُ عاشور: (التَّمتيعُ: العَطاءُ الموقَّتُ، فهو إعطاءُ المتاعِ، أي: الشَّيءِ القليلِ. وقليلًا: صِفةٌ لمصدرٍ مفعولٍ مطلقٍ، أي: تمتيعًا قليلًا، وقِلَّتُه بالنِّسبةِ إلى ما أعدَّ الله للمُسلِمينَ، أو لقِلَّةِ مُدَّتِه في الدُّنيا بالنِّسبةِ إلى مُدَّةِ الآخرةِ). ((تفسير ابن عاشور)) (21/179). وممَّن قال بأنَّ المرادَ: قِلَّةُ التَّمتُّعِ في وصْفِه ونَوعِه وفي زمَنِه: البِقاعي، وابن عثيمين. يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (15/192)، ((تفسير ابن عثيمين - سورة لُقمان)) (ص: 143، 144). وممَّن ذهب إلى أنَّ المرادَ: قِلَّةُ زمنِ التَّمتُّعِ: مقاتلُ بنُ سُليمانَ، ويحيى بنُ سلام، وابنُ جرير، والقرطبيُّ. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (3/437)، ((تفسير يحيى بن سلام)) (2/679)، ((تفسير ابن جرير)) (18/570)، ((تفسير القرطبي)) (14/75). .
ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ.
أي: ثمَّ نُورِدُهم على كُرهٍ منهم إلى عذابٍ شَديدٍ ثَقيلٍ، ونُلجِئُهم إليه [340] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/570)، ((تفسير القرطبي)) (14/75)، ((تفسير ابن كثير)) (6/347)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (15/192)، ((تفسير السعدي)) (ص: 650). قال البقاعي: (لا يَنقَطِعُ عنهم أصلًا، ولا يجِدونَ لهم منه مَخلَصًا مِن جهةٍ مِن جِهاتِه، فكأنَّه في شِدَّتِه وثِقْلِه جِرمٌ غَليظٌ جِدًّا إذا بَرَك على شَيءٍ لا يُقدَرُ على الخَلاصِ منه). ((نظم الدرر)) (15/192). وقال ابنُ عثيمين: (اعلَمْ أنَّ هذا الاضطرارَ يكونُ عندَ خروجِ الرُّوحِ، ويكونُ كذلك في الآخرةِ). ((تفسير ابن عثيمين - سورة لُقمان)) (ص: 146). .
كما قال تعالى: لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ * مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ [آل عمران: 196، 197].
وقال سُبحانه: قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ * مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ [يونس: 69، 70].

الفَوائِدُ التَّربَويَّةُ:

1- في قَولِه تعالى: بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ أنَّه ينبغي للمُجادِل أنْ يكونَ له دليلٌ مِن العقلِ أو مِن النَّقلِ؛ لِقَولِه تعالى: بِغَيْرِ عِلْمٍ فهذا العِلمُ الذَّاتيُّ الَّذي يكونُ بطريقِ العَقلِ، وقَولُه تعالى: وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ هذا العِلمُ المكتَسَبُ؛ فالهُدى مِن الرَّسولِ صلَّى الله عليه وسلَّم، والكتابُ المُنيرُ: القُرآنُ [341] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة لقمان)) (ص: 127). . وذلك على أحدِ الأقوالِ في الآيةِ.
2- قال تعالى: وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وإسلامُ الوَجهِ لله يَتضَمَّنُ إخلاصَ العَمَلِ لله، والإحسانُ هو إحسانُ العَمَلِ لله، وهو فِعلُ ما أمَرَ به فيه، كما قال تعالى: إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا [الكهف: 30] ؛ فإنَّ الإساءةَ في العَمَلِ الصَّالحِ تتضَمَّنُ الاستِهانةَ بالأمرِ به، والاستِهانةَ بنَفسِ العَمَلِ، والاستهانةَ بما وَعَدَه اللهُ مِنَ الثَّوابِ، فإذا أخلصَ العبدُ دِينَه لله، وأحسَنَ العملَ له؛ كان ممَّن أسلَمَ وَجْهَه لله وهو مُحسِنٌ؛ فكان مِنَ الَّذين لهم أجرُهم عندَ رَبِّهم ولا خَوفٌ عليهم ولا هم يَحزَنونَ [342] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (18/251). .
3- في قَولِه تعالى: وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى أنَّ أوثَقَ ما يَستمسِكُ به الإنسانُ مِن نجاةٍ هو الإخلاصُ والمتابَعةُ؛ لأنَّ كلِمةَ الْوُثْقَى اسمُ تفضيلٍ؛ فهي مِثلُ (أوثق) في المذَكَّرِ، والإخلاصُ يؤخَذُ مِن قولِه تعالى: وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ، والمتابعةُ مِن قولِه تعالى: وَهُوَ مُحْسِنٌ [343] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة لقمان)) (ص: 136). .
4- في قَولِه تعالى: وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ الإشارةُ إلى أنَّه ينبغي لِمَن أسلَمَ وجْهَه لله تعالى وهو مُحسِنٌ: أنْ يَصبِرَ؛ لأنَّ العاقِبةَ له، فلا يتعجَّلْ أو يَستبعِدِ الفَرَجَ، أو يَستبعدِ النَّصرَ؛ لأنَّ الأمورَ كلَّها تَرجِعُ إلى ربِّ العزَّةِ سُبحانه وتعالى [344] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة لقمان)) (ص: 137). .
5- في قَولِه تعالى: إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ تخويفٌ مِن مخالَفةِ الإنسانِ باطِنًا [345] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة لقمان)) (ص: 141). .
6- في قَولِه تعالى: إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ أنَّه ينبغي للإنسانِ مُراقبةُ اللهِ سُبحانَه وتعالى دائِمًا؛ لأنَّك إذا عَلِمْتَ بذلك وأيقَنْتَ به، أوجَبَ لك ذلك مُراقبةَ اللهِ عزَّ وجلَّ، والرَّغبةَ إليه، وأنْ تكونَ هِمَّتُك دائمًا في طَلَبِ ما يُرضي اللهَ سُبحانَه وتعالى [346] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة لقمان)) (ص: 142). .

الفَوائِدُ العِلميَّةُ واللَّطائِفُ:

1- في قَولِه تعالى: أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً أنَّ اللهَ جلَّ وعلا يُحِبُّ أنْ يُتمَدَّحَ بما أسْدَى إلى عِبادِه مِن النِّعَمِ [347] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة لقمان)) (ص: 125). .
2- في قَولِه تعالى: أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جوازُ استِخدامِ ما في هذا الكَونِ في السَّمواتِ والأرضِ لِمَصالحِنا؛ لأنَّه مُسَخَّرٌ لنا، فإذا كان مُسَخَّرًا لنا فلَنا أنْ ننتَفِعَ به فيما أحلَّ اللهُ تعالى لنا [348] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة لقمان)) (ص: 125). .
3- قولُه تعالى: سَخَّرَ لَكُمْ تنْبيهٌ على الصَّنعةِ الدَّالَّةِ على الصَّانعِ مِن تَسخيرِ ما في السَّمواتِ وما في الأرضِ [349] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (8/418). .
4- في قَولِه تعالى: وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا تحريمُ التَّقليدِ مع ظُهورِ الحُجَّةِ أَيًّا كان المُقَلَّدُ؛ إذا بانتِ الحُجَّةُ فإنَّه لا تقليدَ، ولكنْ تُتَّبَعُ الحُجَّةُ [350] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة لقمان)) (ص: 131). . فالآيةُ حُجَّةٌ على المقلِّدينَ في تَركِهم اتِّباعَ كِتابِ رَبِّهم واتباعِ سَلَفِهم؛ لأنَّ اللهَ جلَّ جَلالُه لم يُنكِرْ منهم اتِّباعَ الآباءِ خاصَّةً مِن جهةِ النَّسَبِ، إنَّما أنكَرَ تَرْكَ كِتابِه [351] يُنظر: ((النكت الدالة على البيان)) للقصاب (3/629). .
5- قال تعالى: وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ هذه مُناظَرةٌ حَكاها اللهُ بينَ المُسلِمينَ والكُفَّارِ؛ فإنَّ الكُفَّارَ لَجَؤوا إلى تقليدِ الآباءِ، وظَنُّوا أنَّه مُنَجِّيهم لإحسانِهم ظَنَّهم بهم، فحَكَم اللهُ بيْنَهم بقَولِه: أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ، وفي مَوضِعٍ آخَرَ: أَوَلَوْ كَانَ آَبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ [البقرة: 170] ، وفي مَوضِعٍ آخَرَ: قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آَبَاءَكُمْ [الزخرف: 24] ، فأخبَرَ عن بُطلانِ هذه الحُجَّةِ، وأنَّها لا تُنجِّي من عذابِ اللهِ تعالى؛ لأنَّها تقليدُ مَن ليس عندَه عِلمٌ ولا هُدًى مِنَ الله، والمعنى: ولو كان الشَّيطانُ يَدعوهم إلى عذابِ السَّعيرِ يُقَلِّدونَهم؟! ولو كانوا لا عِلمَ عِندَهم ولا هُدًى يُقَلِّدونَهم أيضًا؟! وهذا شأنُ مَن لا غَرَضَ له في الهُدى ولا في اتِّباعِ الحَقِّ، إنْ غَرَضُه بالتَّقليدِ إلَّا دَفْعُ الحَقِّ والحُجَّةِ إذا لَزِمَتْه؛ لأنَّه لو كان مَقصودُه الحَقَّ لاتَّبَعَه إذا ظَهَر له، وقد جِئتُكم بأهدى ممَّا وَجدْتُم عليه آباءَكم، فلو كُنتُم ممَّن يتَّبِعُ الحَقَّ لاتَّبعتُم ما جِئتُكم به؛ فأنتم لم تُقَلِّدوا الآباءَ لِكَونِهم على حَقٍّ؛ فقد جِئتُكم بأهدى مِمَّا وجَدْتُموهم عليه، وإنَّما جَعلْتُم تقليدَهم جُنَّةً لكم تَدفَعونَ بها الحَقَّ الَّذي جِئتُكم به [352] يُنظر: ((بدائع الفوائد)) لابن القيم (4/173، 174). .
6- في قَولِه تعالى: بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ ذمُّ الجَدَلِ بغير بُرهانٍ [353] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة لقمان)) (ص: 127). .
7- في قَولِه تعالى: بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ أنَّ الجَدَلَ بالعِلمِ والهُدى والدَّليلِ مِن القرآنِ لا يُذَمُّ صاحِبُه؛ لأنَّه حَقٌّ [354] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة لقمان)) (ص: 127). .
8- قَولُ الله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ * وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَمَّا كان ضَلالُ الجَمعِ أعجَبَ مِن ضَلالِ الواحِدِ، وكان التَّعجيبُ مِن جِدالِ الواحِدِ تَعجيبًا مِن جدالِ الاثنَينِ فأكثَرَ مِن بابِ الأَولى- أفرَدَ أوَّلًا فقال: مَنْ يُجَادِلُ، وجمَعَ بعدَ ذلك فقال: وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ [355] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (15/187). .
9- في قَولِه تعالى: وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا ذمُّ مَن خالفَ الحقَّ لاتِّباعِ الآباءِ [356] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة لقمان)) (ص: 130). .
10- قال الله تعالى: وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا أكثَرُ دياناتِ الخَلقِ إنَّما هي عاداتٌ أخَذوها عن آبائِهم وأسلافِهم، وتَقليدِهم في التَّصديقِ والتَّكذيبِ، والحُبِّ والبُغضِ، والمُوالاةِ والمُعاداةِ [357] يُنظر: ((قاعدة في المحبة)) لابن تيمية (ص: 142). .
11- في قَولِه تعالى: أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ أنَّ مُخالفةَ الدَّليلِ؛ للتَّقليدِ: هو مِن إجابةِ الشَّيطانِ، وفِعلُ كلِّ شَيءٍ يُوجِبُ العقوبةَ هو مِن تلبيةِ طَلَبِ الشَّيطانِ؛ لأنَّ الشَّيطانَ هو الَّذي يدعو إلى عذابِ السَّعيرِ [358] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة لقمان)) (ص: 131). .
12- في قَولِه تعالى: أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ التَّحذيرُ مِن وَساوِسِ الشَّيطانِ؛ لأنَّ هذا للتَّوبيخِ والإنكارِ، ووَسوسةُ الشَّيطانِ الَّتي يُلقيها في قلبِ بني آدمَ هي مِن الدَّعوةِ [359] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة لقمان)) (ص: 132). .
13- في قَولِه تعالى: أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ أنَّ مَن دعا إلى ما يُوجِبُ العِقابَ فهو شبيهٌ بالشَّياطينِ، بل لنا أنْ نقولَ: إنَّه شيطانٌ! ولهذا قال النَّبيُّ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ في الَّذي يُمانِعُ إذا مُنِعَ مِن المرورِ بيْنَ يدَيِ المُصَلِّي، قال: ((فإنْ أبَى فلْيُقاتِلْه؛ فإنَّما هو شَيطانٌ )) [360] أخرجه البخاري (509)، ومسلم (505) من حديث أبي سعيدٍ الخُدْريِّ رضي الله عنه. ، وقال الله سبحانَه وتعالى: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا [361] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة لقمان)) (ص: 132). [الأنعام: 112] .
14- قال الله تعالى: وَمَنْ كَفَرَ فَلَا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ، التَّعبيرُ هنا بالماضي كَفَرَ، وفي الأوَّلِ بالمُضارعِ يُسْلِمْ؛ بِشارةٌ بدُخولِ كَثيرٍ في هذا الدِّينِ، وأنَّهم لا يَرتَدُّون بعدَ إسلامِهم، وتَرغيبٌ في الإسلامِ لكلِّ مَن كان خارجًا عنه [362] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (15/190). .
15- قال الله تعالى: وَمَنْ كَفَرَ فَلَا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا في قَولِه: فَنُنَبِّئُهُمْ أنّ كلامَه عزَّ وجلَّ بصَوتٍ مسموعٍ؛ لأنَّ ما لا يُسمعُ لا يكونُ فيه إنباءٌ، فلا إنباءَ إلَّا بصَوتٍ مسموعٍ [363] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة لقمان)) (ص: 141). .
16- في قَولِه تعالى: إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ دليلٌ على أنَّ الكافرَ يُحاسَبُ على عَمَلِ القلبِ -وهو كذلك -؛ لأنَّه لولا أنه يُحاسَبُ لم يكُنْ في قَولِه تعالى: إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ كبيرُ فائدةٍ [364] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة لقمان)) (ص: 141). .
17- قَولُه تعالى: إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ، (ذاتُ الصُّدورِ): هي النِّيَّاتُ وأعراضُ النَّفْسِ؛ مِن نَحوِ الحِقدِ، وتَدبيرِ المَكْرِ، والكُفْرِ، ومُناسَبتُه هنا أنَّ كُفْرَ المشركينَ بَعضُه إعلانٌ، وبعضُه إسرارٌ [365] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (21/178). .

بلاغةُ الآياتِ:

1- قوله تعالى: أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ هذا رُجوعٌ إلى تَعدادِ دَلائلِ الوَحدانيَّةِ وما صحِبَ ذلك مِن مِنَّةٍ على الخلْقِ؛ فالكلامُ استِئنافٌ ابتِدائيٌّ عن الكلامِ السَّابقِ، ورُجوعٌ إلى ما سلَفَ في أوَّلِ السُّورةِ في قولِه تعالى: خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ [لقمان: 10] ؛ فإنَّه بعدَ الاستِدلالِ بخلْقِ السَّمواتِ والأرضِ والحيوانِ والأمطارِ، عادَ هنا الاستِدلالُ والامتِنانُ بأنْ سخَّرَ لنا ما في السَّمواتِ وما في الأرضِ [366] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (21/173، 174). . وقيل: هو رُجوعٌ الى سَننِ ما سلَفَ قبْلَ قِصَّةِ لُقمانَ مِن خِطابِ المشركينَ، وتَوبيخٌ لهم على إصرارِهم على ما همْ عليه مع مُشاهَدتِهم لدَلائلِ التَّوحيدِ [367] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (7/73). .
- والاستِفهامُ في قولِه: أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ تَقريرٌ أو إنكارٌ لعدَمِ الرُّؤيةِ، بتَنزيلِهم مَنزلةَ مَن لم يَرَوا آثارَ ذلك التَّسخيرِ؛ لعدَمِ انتفاعِهم بها في إثباتِ الوَحدانيَّةِ [368] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (21/174)، ((إعراب القرآن وبيانه)) لدرويش (7/552). .
- قولُه: وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ في الإضافةِ إلى ضَميرِ اللهِ تنْويهٌ بهذه النِّعَمِ [369] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (21/174). .
- والواوُ في قولِه: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ واوُ الحالِ، والمعنى: قد رأيتُمْ أنَّ اللهَ سخَّرَ لكمْ ما في السَّمواتِ، وأنعَمَ عليكم نِعَمًا ضافيةً، في حالِ أنَّ بعضَكم يُجادِلُ في وَحدانيَّةِ اللهِ، ويَتعامَى عن دَلائلِ وَحدانيَّتِه! وجُملةُ الحالِ هنا خبَرٌ مُستعمَلٌ في التَّعجُّبِ مِن حالِ هذا الفريقِ. ويجوزُ جَعْلُ الواوِ اعتراضيَّةً، والجُملةِ مُعترِضةً بيْنَ جُملةِ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ وبيْنَ جُملةِ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ [370] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (21/175). [لقمان: 25] .
- وقولُه: وَمِنَ النَّاسِ مِن الإظهارِ في مَقامِ الإضمارِ؛ كأنَّه قِيل: ومِنكم، و(مِن) تَبعيضيَّةٌ [371] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (21/175). .
- ونكَّرَ عِلْمٍ؛ لِيُفيدَ السَّلبَ العامَّ لكُلِّ نَوعٍ مِن أنواعِ العِلمِ، أي: لأنَّهم لا عِلمَ لهم بشَيءٍ مِن حالِ السَّبيلِ ولا حالِ غَيرِها، عِلمًا يَستَحِقُّ إطلاقَ العِلمِ عليه، بكَونِه يفيدُ رِبحًا، أو يُبقي على رأسِ مالٍ مِن دينٍ أو دُنيا؛ فإنَّ هذا حالُ مَنِ استبدَل الباطِلَ بالحَقِّ، والضَّلالَ بالهُدى [372] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (15/148). .
2- قوله تعالى: وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ
- قولُه: وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا جاء بِناءُ الفِعلِ   قِيلَ لِمَا لم يُسَمَّ فاعلُه؛ لأنَّه أخصَرُ؛ فلو ذُكِر الآمِرونَ لطالَ الكلامُ؛ لأنَّ الآمِرَ بذلك هو الرَّسولُ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ ومَن يَتبعُه مِنَ المؤمنينَ [373] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (2/103). .
- والاستِفهامُ في قولِه: أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ للإنكارِ والتَّعجُّبِ مِن فَظاعةِ ضَلالِهم وعَماهم؛ بحيث يتَّبِعون مَن يَدْعوهم إلى النَّارِ، وهذا ذمٌّ لهم [374] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (4/216)، ((تفسير أبي السعود)) (7/74)، ((تفسير ابن عاشور)) (21/176). ، وهذا التَّركيبُ مِن بَديعِ التَّراكيبِ العربيَّةِ وأعلاها إيجازًا؛ فـ (لو) للشَّرطِ، وجوابُها محذوفٌ دلَّ عليه الكلامُ السَّابقُ، تقديرُه: لاتَّبَعوهم، والمستفهَمُ عنه هو الارتباطُ الَّذي بيْنَ الشَّرْطِ وجوابِه [375] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (2/106). .
- وعبَّر بالمضارعِ يَدْعُوهُمْ؛ تصويرًا لحالِهم في ضلالِهم، وأنَّه مستمِرٌّ [376] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (15/188). .
3- قولُه تعالى: وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ هذا مُقابِلُ قولِه: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ [لقمان: 20] ، إلى قولِه: يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ [لقمان: 21] ؛ فأولئك الَّذين اتَّبَعوا ما وَجَدوا آباءَهم عليه مِن الشِّركِ على غيرِ بَصيرةٍ، فوقَعُوا في العَذابِ، وهؤلاء الَّذين لم يَتمسَّكوا بدِينِ آبائِهم وأسلَمُوا للهِ لَمَّا دَعاهُم إلى الإسلامِ، فلمْ يَصُدَّهم عن اتِّباعِ الحقِّ إلْفٌ ولا تَقْديسُ آباءٍ؛ فأولئك تَعلَّقوا بالأوهامِ واستَمْسَكوا بها لإرضاءِ أهوائِهم، وهؤلاء استَمْسَكوا بالحقِّ إرضاءً للدَّليلِ، وأولئك أرْضَوُا الشَّيطانَ، وهؤلاء اتَّبعوا رِضا اللهِ [377] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (21/176). .
- قولُه: وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ عُدِّيَ الفِعلُ يُسْلِمْ هنا بـ (إلى)، وقد عُدِّيَ باللَّامِ في سورةِ البقرةِ، في قولِه: بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ [البقرة: 112] ؛ ووجْهُ ذلك: أنَّ مَن أسلَمَ للهِ أعلى دَرجةً ممَّن يُسلِمُ إلى اللهِ؛ لأنَّ (إلى) للغايةِ، واللَّامَ للاختِصاصِ، يقولُ القائلُ: (أسلمْتُ وَجْهي إليك)، أي: توجَّهْتُ نحوَك، ويُنبِئُ هذا عن عدَمِ الوُصولِ؛ لأنَّ التَّوجُّهَ إلى الشَّيءِ قبْلَ الوُصولِ، وقولُه: (أسلمْتُ وَجْهي لك) يُفيدُ الاختِصاصَ، ولا يُنبِئُ عن الغايةِ الَّتي تدُلُّ على المسافةِ وقَطْعِها للوُصولِ، إذا عُلِمَ هذا؛ فإنَّ في (البقرةِ) قالتْ اليهودُ والنَّصارى: لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى، فقال اللهُ ردًّا عليهم: تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ [البقرة: 111] ، ثمَّ بيَّن فسادَ قولِهم بقولِه تعالى: بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ [البقرة: 112] ، أي: أنتُمْ مع أنَّكم تَترُكون اللهَ للدُّنيا، وتَولَّونَ عنه للباطلِ، وتَشترُون بآياتِه ثمَنًا قليلًا؛ تَدخُلون الجنةَ، ومَن كان بكُلِّيَّتِه للهِ لا يَدخُلُها! هذا كلامٌ باطلٌ؛ فأورَدَ عليهم مَن أسلَمَ للهِ، ولا شكَّ أنَّ النَّقضَ بالصُّورةِ الَّتي هي ألْزَمُ أَولى، فأورَدَ عليهم المُخلِصَ الَّذي ليس له أمْرٌ إلَّا اللهُ [378] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (25/125). .
- وإسلامُ الوجْهِ إلى اللهِ تَمْثيلٌ لإفرادِه تعالى بالعِبادةِ، كأنَّه لا يُقبِلُ بوَجْهِه على غيرِ اللهِ [379] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (21/176). .
- وفي تَذْييلِ الآيةِ بقَولِه: وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ إيماءٌ إلى وَعْدِهم بلِقاءِ الكرامةِ عندَ اللهِ في آخِرِ أمْرِهم، وهو الحياةُ الآخرةُ [380] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (21/177). .
- والتَّعريفُ في كَلمةِ الْأُمُورِ للاستِغراقِ، وهو تَعميمٌ يُرادُ به أنَّ أُمورَ المسلمينَ -الَّتي هي مِن مَشْمولاتِ عُمومِ الأُمورِ- صائرةٌ إلى اللهِ، ومَوكولةٌ إليه؛ فجَزاؤهم بالخَيرِ مُناسِبٌ لِعَظَمةِ اللهِ [381] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (21/177). .
- وتَقديمُ قولِه: وَإِلَى اللَّهِ؛ للاهتِمامِ، والتَّنبيهِ إلى أنَّ الرَّاجعَ إليه يُلاقِي جَزاءَه وافيًا [382] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (21/177). .
وقيل: تقديمُ الخبرِ الدَّالِّ على الحصرِ أفاد أنَّه لا أحدَ يستطيعُ أنْ يُدَبِّرَ الكَونَ إلَّا اللهُ، و(إلى) تفيدُ الغايةَ، فغايةُ عاقبةِ الأمورِ إليه، لا إلى غيرِه [383] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة لقمان)) (ص: 137). .
4- قوله تعالى: وَمَنْ كَفَرَ فَلَا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ
- قولُه: وَمَنْ كَفَرَ فَلَا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ هوَّن عليه كُفْرَهم؛ تَسليةً له، وتَعريضًا بقِلَّةِ العِبْءِ بهم؛ لأنَّ مَرجِعَهم إلى اللهِ، فيُرِيهمُ الجزاءَ المناسِبَ لكُفْرِهم؛ فهو تَعريضٌ لهم بالوعيدِ [384] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (21/177) .
- وأفرَد الضَّميرَ باعتبارِ لفظِ (مَن)؛ لإرادةِ التَّنصيصِ على كلِّ فردٍ، فقال: كُفْرُهُ [385] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (15/190). .
- وفي التعبيرِ هنا بالماضي كَفَرَ وفي الأوَّلِ بالمضارعِ يُسْلِمْ بشارةٌ بدخولِ كثيرٍ في هذا الدِّينِ، وأنَّهم لا يرتدُّونَ بعدَ إسلامِهم، وترغيبٌ في الإسلامِ لكلِّ مَن كان خارجًا عنه؛ فالآيةُ مِن الاحتِباكِ [386] الاحتِباك: هو الحذفُ مِن الأوائلِ لدَلالةِ الأواخِرِ، والحذفُ مِن الأواخرِ لدَلالةِ الأوائلِ، إذا اجتمَع الحذفانِ معًا، وله في القرآنِ نظائرُ، وهو مِن إبداعاتِ القرآنِ وعناصرِ إعجازِه، وهو مِن ألطَفِ الأنواعِ. يُنظر: ((الإتقان)) للسيوطي (3/204)، ((البلاغة العربية)) لعبد الرحمن حَبَنَّكَة الميداني (1/347). : ذكَر الحزنَ ثانيًا دليلًا على حذفِ ضِدِّه أوَّلًا، وذكَر الاستِمْساكَ أوَّلًا دليلًا على حذفِ ضدِّه ثانيًا [387] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (15/190)، ((تفسير الشربيني)) (3/194). .
- وجُملةُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ واقعةٌ مَوقِعَ التَّعليلِ للنَّهيِ، وهي أيضًا تَمهيدٌ لِوَعْدِ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بأنَّ اللهَ يَتولَّى الانتِقامَ منهم، المَدلولَ عليه بقولِه: فَنُنَبِّئُهُمْ، مُفرَّعًا على جُملةِ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ؛ كِنايةً عن المُجازاةِ؛ استُعمِلَ الإنباءُ، وأُرِيدَ لازمُه، وهو الإظهارُ [388] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (21/178). .
- وجُملةُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ تَعليلٌ لِجُملةِ فَنُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا؛ فمَوقِعُ حَرفِ (إنَّ) هنا مُغْنٍ عن فاءِ التَّسبُّبِ [389] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (7/74)، ((تفسير ابن عاشور)) (21/178). .
5- قوله تعالى: نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ استِئنافٌ بَيانيٌّ؛ لأنَّ قولَه: إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا [لقمان: 23] يُثِيرُ في نُفوسِ السَّامِعينَ سُؤالًا عن عدَمِ تَعجيلِ الجزاءِ إليهم؛ فبيَّنَ بأنَّ اللهَ يُمهِلُهم زمَنًا، ثمَّ يُوقِعُهم في عذابٍ لا يَجِدون منه مَنْجًى. وهذا الاستِئنافُ وقَعَ مُعترِضًا بيْنَ الجُمَلِ المُتعاطِفةِ [390] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (21/178، 179). .
- وأيضًا قولُه: نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ أي: نُمتِّعُهم زَمانًا قليلًا في دُنياهم، ثمَّ نُلجئُهم إلى عذابٍ شديدٍ في جَهنَّمَ؛ فشبَّه إلزامَهم التَّعذيبَ، وإرهاقَهم إيَّاه باضْطِرارِ المُضْطَرِّ إلى الشَّيءِ الَّذي لا يَقدِرُ على الانفكاكِ منه، والمرادُ: الشِّدَّةُ والثقلُ على المُعذَّبِ، فيَثقُلُ عليهم العذابُ ثقلَ الأجرامِ الغِلاظِ، أو يُضَمُّ إلى الإحراقِ الضَّغطُ [391] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/500)، ((تفسير البيضاوي)) (4/216)، ((تفسير أبي حيان)) (8/419). .
- وفي قولِه: ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ احتِراسٌ مِن أنْ يَغترَّ الكافرُ بأنَّ تخويلَه النِّعَمَ في الدُّنيا يُؤذِنُ برِضا اللهِ؛ فلذلك ذُكِرَ العذابُ هنا. وحرْفُ (ثمَّ) للتَّراخي الرُّتبيِّ كشأنِها في عَطفِ الجُمَلِ مِن غيرِ التِفاتٍ إلى كَونِ مَصيرِهم إلى العذابِ مُتأخِّرًا عن تَمتيعِهم بالمتاعِ القَليلِ [392] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (1/717). .