موسوعة التفسير

سورةُ لُقمانَ
الآيات (16-19)

ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﰎ ﰏ ﰐ ﰑ ﰒ ﰓ ﰔ ﰕ

غَريبُ الكَلِماتِ:

مِثْقَالَ: أي: زِنةَ، وأصلُ (ثقل): يدُلُّ على ضِدِّ الخِفَّةِ [227] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 127)، ((تفسير ابن جرير)) (12/207)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/382)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 167). .
خَرْدَلٍ: الخَردَلُ: حُبوبٌ دَقيقةٌ كحَبِّ السِّمسِمِ هي بُزورُ شَجَرٍ يُسَمَّى عند العَرَبِ الخَرْدَلَ. ويُضرَبُ به المَثَلُ في الصِّغَرِ والحَقارةِ [228] يُنظر: ((لسان العرب)) لابن منظور (11/203)، ((القاموس المحيط)) للفيروزابادي (ص: 992)، ((تفسير ابن عاشور)) (17/86)، ((تفسير الشوكاني)) (3/485). .
تُصَعِّرْ: أي: تُعْرِضْ بوَجهِك وتتكبَّرْ، والتَّصعيرُ: إمالةُ الخَدِّ عن النَّظَرِ؛ عُجْبًا، وأصلُ (صعر): يدُلُّ على مَيلٍ [229] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 344)، ((تفسير ابن جرير)) (18/559)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 164)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/288)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 336). .
مَرَحًا: أي: اختيالًا وبطرًا وكبرًا وفخرًا، والمَرَحُ: شدَّةُ الفرحِ والتَّوسُّعُ فيه، وأصلُ (مرح): يدلُّ على مَسَرَّةٍ لا يكادُ يستَقِرُّ معها المرءُ طَرَبًا [230] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 255)، ((تفسير ابن جرير)) (14/597)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/316)، ((تفسير الثعلبي)) (6/100)، ((المفردات)) للراغب (ص: 764)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 262)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 876). قال الشنقيطي: (وأصلُ المرحِ في اللُّغةِ: شِدَّةُ الفرحِ والنَّشاطِ، وإطلاقُه على مشْيِ الإنسانِ مُتَبَخْتِرًا مَشْيَ المُتكبِّرينَ؛ لأنَّ ذلك مِن لوازمِ شِدَّةِ الفرحِ والنَّشاطِ عادةً). ((أضواء البيان)) (3/156). .
مُخْتَالٍ: أي: مُتكَبِّرٍ ذي فَخرٍ وخُيَلاءَ، والاختيالُ: مأخوذٌ مِنَ (التَّخَيُّل)، والتخيُّلُ: التَّشبُّهُ بالشَّيءِ، فالمُختالُ يَتَخيَّلُ في صورةِ مَن هو أعظَمُ منه؛ كِبْرًا، وأصلُ (خيل): يدُلُّ على حركةٍ في تلَوُّنٍ، والمختالُ في مِشيتِه يتلَوَّنُ في حركتِه ألوانًا [231] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/562)، ((البسيط)) للواحدي (5/98)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 64). .
وَاقْصِدْ: أي: تَواضَعْ واعتَدِلْ، وأصلُ القَصدِ: استِقامةُ الطَّريقِ [232] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/563)، ((المفردات)) للراغب (ص: 672)، ((تفسير القرطبي)) (14/71)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 337). .
وَاغْضُضْ: أي: أنقِصْ واخْفِضْ، يقالُ: غضَّ منه، إذا نقَص منه، وأصلُ (غضض) هنا: يدُلُّ على كَفٍّ ونقصٍ [233] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/563)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 94)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (4/383)، ((الغريبين في القرآن والحديث)) للهروي (4/1377)، ((المفردات)) للراغب (ص: 607)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 263). .

مُشكِلُ الإعرابِ:

قَولُه تعالى: يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ
قَولُه تعالى: إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ: الضَّميرُ (ها) في إِنَّهَا ضميرُ القِصَّةِ، والجملةُ الشَّرطيَّةُ في محلِّ رفعٍ خبَرُ (إنِّ)، أو الضَّميرُ في إِنَّهَا للخَصلةِ مِن الإساءةِ والإحسانِ، أو يَعودُ على ما يُفهَمُ مِن سياقِ الكلامِ، أي: إنَّ الَّتي سألْتَ عنها (إنْ تَكُ). ومِثْقَالَ بالنَّصبِ خَبَرُ تَكُ النَّاقصةِ، واسمُها مُضمَرٌ فيها يعودُ على (ها) في إِنَّهَا. وقُرِئَ برَفعِ مِثْقَالَ [234] قرأه بالرَّفعِ: نافعٌ وأبو جعفرٍ، وقرأه الباقونَ بالنَّصبِ. يُنظر: ((النشر في القراءات العشر)) لابن الجزري (2/324). على أنَّه فاعِلُ تَكُ مِن «كان» التَّامَّةِ، ولَحِقَت فِعلَه تاءُ المضارَعةِ للمُؤنَّثةِ، وأُعيدَ عليه الضَّميرُ في بِهَا مُؤنَّثًا، مع أنَّ مِثْقَالَ لفظٌ غيرُ مُؤَنَّثٍ؛ لأنَّه أُضيفَ إلى حَبَّةٍ فاكتسَبَ التَّأنيثَ منها، أو لأنَّه بمعنى: زِنةُ حبَّةٍ [235] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/495)، ((تفسير ابن عطية)) (4/350)، ((التبيان في إعراب القرآن)) للعكبري (2/1045)، ((تفسير أبي حيان)) (8/414)، ((الدر المصون)) للسمين الحلبي (9/64)، ((تفسير الألوسي)) (11/87)، ((تفسير ابن عاشور)) (21/106). .

المعنى الإجماليُّ:

يَذكُرُ الله تعالى بقيَّةَ وصايا لُقمانَ لابنِه، وأنَّه قال له: يا بُنيَّ، لو كان العملُ مِن خيرٍ أو شرٍّ زِنةَ حبَّةٍ مِن خَردلٍ، فكان في صَخرةٍ أو في جِهةٍ ما في السَّمواتِ أو في الأرضِ؛ فإنَّ اللهَ يأتي به يومَ القيامةِ، ويُوَفِّي جَزاءَه. إنَّ اللهَ يعلَمُ دقائِقَ الأشياءِ وخفايا الأُمورِ، فلا يخفَى عليه شَيءٌ سُبحانَه. يا بُنيَّ، أدِّ الصَّلاةَ تامَّةً، وأْمُرِ النَّاسَ بطاعةِ اللهِ، وانهَهم عن الشِّركِ والمعاصي، وتحمَّلْ ما أصابَك في سَبيلِ ذلك مِن بلاءٍ وأذًى؛ إنَّ ذلك مِن الأمورِ الَّتي أوجَبَها اللهُ على عِبادِه، عَزمًا منه تعالى.
ولا تُمِلْ خَدَّك وتُعرِضْ بوَجهِك عن النَّاسِ؛ تكبُّرًا عليهم، ولا تَمشِ في الأرضِ مُتبختِرًا؛ إنَّ اللهَ لا يحِبُّ كُلَّ مُتكبِّرٍ فَخورٍ على النَّاسِ بما أُعطِيَ مِنَ النِّعَمِ، واعتَدِلْ في مِشيَتِك فامشِ بسَكينةٍ ووَقارٍ وتواضُعٍ، واخفِضْ مِن صَوتِك، إنَّ أقبَحَ الأصواتِ لَصوتُ الحَميرِ إذا رفَعَت صَوتَها بالنَّهيقِ.

تَفسيرُ الآياتِ:

يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (16).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّه لَمَّا نهى لُقمانُ ابنَه عن الشِّركِ؛ نبَّهَه على قُدرةِ اللهِ، وأنَّه لا يُمكِنُ أن يتأخَّرَ عن مَقدورِه شَيءٌ [236] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (8/414). .
يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ.
أي: قال لُقمانُ لابنِه: يا بُنَيَّ، لو كان العملُ مِن خيرٍ أو شرٍّ زِنةَ حبَّةٍ مِن خَردلٍ، فكان في صَخرةٍ أو في جِهةٍ ما في السَّمواتِ أو في الأرضِ؛ فإنَّ اللهَ يأتي به يومَ القيامةِ، ويحاسِبُ عليه، ويُوَفِّي جَزاءَه [237] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/555)، ((تفسير ابن جزي)) (2/138)، ((تفسير العليمي)) (5/307)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (4/159). ممَّن اختار أنَّ المرادَ: أنَّ الله تعالى يحاسِبُ على الأعمالِ مهما دقَّت وصَغُرت وخَفِيَت، فيأتي بها يومَ القيامةِ، ويحاسِبُ عليها، كما قال تعالى: وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ [الأنبياء: 47] . ممَّن اختار هذا في الجملةِ: ابنُ جرير، وابن جُزَي، والبِقاعي، والعليمي، والشنقيطي، وابن عثيمين. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/555، 556)، ((تفسير ابن جزي)) (1/5)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (15/171)، ((تفسير العليمي)) (5/307)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (4/159)، ((تفسير ابن عثيمين - سورة لُقمان)) (ص: 100، 101). قال الزجاج: (هذا مَثَلٌ لأعمالِ العبادِ، أنَّ الله يأتي بأعمالِهم يومَ القيامةِ؛ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ [الزلزلة: 7، 8]). ((معاني القرآن وإعرابه)) (4/197). وقيل: هذا القَولُ مِن لُقمانَ إنَّما قَصَد به إعلامَ ابنِه بقَدْرِ قُدرةِ الله تعالى، وهذه الغايةُ الَّتي أمكَنَه أن يفهِّمَه؛ لأنَّ الخَرْدَلةَ يُقالُ: إنَّ الحسَّ لا يُدرِكُ لها ثِقَلًا، إذ لا تُرَجِّحُ ميزانًا. أي: لو كان للإنسانِ رِزقٌ مِثقالَ حبَّةِ خَرْدَلٍ في هذه المواضِعِ، جاء الله بها حتَّى يَسوقَها إلى مَن هي رِزقُه، أي: لا تهتمَّ للرِّزقِ حتَّى تشتغِلَ به عن أداءِ الفرائضِ، وعن اتِّباعِ سبيلِ مَن أناب إلَيَّ. قاله القرطبي. يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (14/66). ويُنظر أيضًا: ((تفسير ابن عطية)) (4/350). والضَميرُ في إِنَّهَا قيل: إنه عائدٌ إلى الخَصلةِ السَّيِّئةِ أو الحَسَنةِ. وممَّن قال بذلك: القاسمي، وابنُ عثيمين. يُنظر: ((تفسير القاسمي)) (8/30)، ((تفسير ابن عثيمين - سورة لُقمان)) (ص: 100). وقيل: الضَّميرُ عائدٌ إلى الخطيئةِ. وممَّن اختار ذلك: البغوي، والخازن، والشوكاني. يُنظر: ((تفسير البغوي)) (3/588)، ((تفسير الخازن)) (3/398)، ((تفسير الشوكاني)) (4/274). ويُنظر أيضًا: ((تفسير ابن كثير)) (6/337). وقيل: الضَميرُ للقِصَّةِ والحادثةِ، وهو المسمَّى بضميرِ الشَّأنِ، ويقَعُ بصورةِ ضَميرِ المُفرَدةِ المؤنَّثةِ بتأويلِ القِصَّةِ. وممَّن قال: الضَّميرُ ضميرُ القصَّةِ: أبو حيَّان، والسمين الحلبي، وابن عاشور. يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (8/414)، ((الدر المصون)) للسمين الحلبي (9/64)، ((تفسير ابن عاشور)) (21/162). .
إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ.
أي: إنَّ اللهَ يَعلَمُ دقائِقَ الأشياءِ، ويَسلُكُ في إيصالِها لبُلوغِ أمرٍ يُريدُه مَسلَكَ الرِّفقِ، بالوُجوهِ الخَفيَّةِ الغامِضةِ، وهو بالِغُ العِلمِ بخَفايا الأمورِ وبواطِنِها؛ فلا يخفى عليه شَيءٌ سُبحانَه [238] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/557)، ((تفسير ابن كثير)) (6/338)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (15/172، 173)، ((تفسير السعدي)) (ص: 649)، ((تفسير ابن عاشور)) (21/164). .
يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (17).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا نهى لُقمانُ ابنَه أوَّلًا عن الشِّركِ، وأخبَرَه ثانيًا بعِلمِه تعالى وباهِرِ قُدرتِه؛ أمَرَه بما يتوسَّلُ به إلى اللهِ مِن الطَّاعاتِ، فبدأ بأشرَفِها، وهو الصَّلاةُ؛ حيث يَتوجَّهُ إليه بها، ثمَّ بالأمرِ بالمعروفِ والنَّهيِ عن المنكَرِ، ثمَّ بالصَّبرِ على ما يُصيبُه مِنَ المِحَنِ جميعِها، أو على ما يُصيبُه بسَبَبِ الأمرِ بالمعروفِ ممَّن يَبعَثُه عليه، والنَّهيِ عن المنكَرِ ممَّن يُنكِرُه عليه؛ فكثيرًا ما يُؤذَى فاعِلُ ذلك [239] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (8/415). .
وأيضًا انتَقَل مِن تعليمِه أصولَ العَقيدةِ إلى تعليمِه أصولَ الأعمالِ الصَّالحةِ، فابتدَأها بإقامةِ الصَّلاةِ [240] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (21/164). .
يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ.
أي: يا بُنَيَّ، أدِّ الصَّلاةَ تامَّةً مُستقيمةً، كما أمَرَ الله تعالى [241] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/558)، ((الوسيط)) للواحدي (3/444)، ((تفسير ابن كثير)) (6/338)، ((تفسير ابن عاشور)) (21/164). .
وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ.
مُناسَبتُها لِما قَبْلَها:
لَمَّا أمَرَ بتَكميلِه في نَفْسِه؛ تَوفيةً لحَقِّ الحَقِّ؛ عَطَف على ذلك تَكميلَه لِنَفسِه بتكميلِ غَيرِه؛ توفيةً لحَقِّ الخَلقِ؛ وذلك أنَّه لَمَّا كان النَّاسُ في هذه الدَّارِ سَفْرًا، وكان المسافِرُ إنْ أهملَ رَفيقَه حتَّى أُخِذَ، أوشَكَ أن يُؤخَذَ هو- أمَرَه بما يُكَمِّلُ نجاتَه بتكميلِ رَفيقِه، فقال [242] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (15/173، 174). :
وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ.
أي: وأْمُرِ النَّاسَ بتَوحيدِ اللهِ وطاعتِه، واتِّباعِ شَرْعِه [243] يُنظر: ((تفسير يحيى بن سلام)) (2/676)، ((تفسير ابن جرير)) (18/558)، ((تفسير ابن كثير)) (6/338)، ((تفسير ابن عثيمين - سورة لُقمان)) (ص: 105). .
وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ.
أي: وانْهَ النَّاسَ عن الشِّركِ باللهِ ومَعصِيَتِه [244] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/558)، ((الوسيط)) للواحدي (3/444)، ((تفسير ابن كثير)) (6/338). .
وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ.
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا علِم أنَّه لا بدَّ أن يُبتلَى إذا أمَر ونهَى، وأنَّ في الأمرِ والنَّهيِ مَشَقَّةً على النُّفوسِ؛ أمَره بالصَّبرِ على ذلك [245] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 649). ، فالقابِضُ على دينِه في غالِبِ الأزمانِ كالقابِضِ على الجَمرِ؛ لأنَّه يُخالِفُ المُعظَمَ، فيَرمونَه عن قَوسٍ واحدةٍ، لا سيَّما أنَّه أمَرَهم ونهاهم [246] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (15/175). .
وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ.
أي: وتحمَّلْ ما أصابَك مِن بلاءٍ وأذًى [247] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/558)، ((تفسير القرطبي)) (14/68)، ((تفسير ابن كثير)) (6/338)، ((تفسير ابن عاشور)) (21/165). قيل: المرادُ: الصَّبرُ على ما يَنالُه مِن أذَى الخَلقِ؛ بسَبَبِ أمْرِهم بالمعروفِ، ونَهْيِهم عن المنكَرِ. وممَّن قال بهذا المعنى: مقاتلُ بنُ سُليمانَ، وابنُ جرير، والسعدي. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (3/435)، ((تفسير ابن جرير)) (18/558)، ((تفسير السعدي)) (ص: 649). وممَّن قال بهذا القولِ مِن السَّلفِ: سعيدُ بنُ جُبَيْرٍ، وابنُ جُرَيْجٍ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/558)، ((الدر المنثور)) للسيوطي (6/523). وقيل: المرادُ: عمومُ الصَّبرِ على كُلِّ بلاءٍ، سواءٌ كان ما يَلحَقُ الإنسانَ مِن أذى الخَلقِ؛ لقيامِه بعبادةِ الله تعالى، أو لأمْرِهم بالمعروفِ ونَهْيِهم عن المنكَرِ، أو لغيرِ ذلك مِن الأسبابِ، كالمَرَضِ وغَيرِه. وممَّن ذهب إلى العمومِ: البِقاعي. يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (15/175). قال القرطبي: (قيل: أمَرَه بالصَّبرِ على شدائدِ الدُّنيا، كالأمراضِ وغَيرِها، وألَّا يَخرُجَ مِنَ الجَزَعِ إلى معصيةِ اللهِ عَزَّ وجَلَّ، وهذا قولٌ حَسَنٌ؛ لأنَّه يعُمُّ). ((تفسير القرطبي)) (14/68). .
كما قال تعالى: وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ [يونس: 109].
وقال سُبحانه: وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ [المزمل: 10] .
إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ.
أي: إنَّ ذلك [248] قيل: الإشارةُ تعودُ إلى المذكورِ مِن إقامةِ الصَّلاةِ، والأمرِ بالمعروفِ، والنَّهيِ عن المنكرِ، والصَّبرِ على ما أصاب المرءَ. وممَّن قال بذلك: العُليمي، والشوكاني، وابنُ عاشور. يُنظر: ((تفسير العليمي)) (5/308)، ((تفسير الشوكاني)) (4/275)، ((تفسير ابن عاشور)) (21/166). وقيل: تعودُ إلى الأمرِ والنَّهيِ والصَّبرِ. وممَّن اختاره: الواحدي، والبغوي يُنظر: ((البسيط)) للواحدي (18/112)، ((تفسير البغوي)) (3/589). وقيل: تعودُ إلى الصَّبرِ على أذى النَّاسِ. وممَّن قال بذلك: مقاتلُ بنُ سُلَيمانَ، ومكِّي، وابنُ كثير. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (3/435)، ((الهداية إلى بلوغ النهاية)) لمكي (9/5729)، ((تفسير ابن كثير)) (6/338). وممَّن قال بهذا القولِ مِن السَّلفِ: سعيدُ بنُ جُبَيرٍ. يُنظر: ((الدر المنثور)) للسيوطي (6/523). مِن الأمورِ الَّتي أوجبَها اللهُ تعالى على عِبادِه، وتحتاجُ إلى حَزمٍ وعَزمٍ للقيامِ بها [249] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/558)، ((تفسير القرطبي)) (14/69)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (15/175، 176)، ((تفسير السعدي)) (ص: 649)، ((تفسير ابن عاشور)) (21/166). قال ابن جُزَي: (مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ يحتملُ أن يُريدَ: ممَّا أمَر الله به على وجهِ العزمِ والإيجابِ، أو مِن مكارِمِ الأخلاقِ الَّتي يعزِمُ عليها أهلُ الحزمِ والجِدِّ، ولفظُ العزمِ مصدرٌ يُرادُ به المفعولُ، أي: مِن معزوماتِ الأمورِ). ((تفسير ابن جزي)) (2/138). ويُنظر: ((تفسير ابن عطية)) (4/351). .
كما قال تعالى: لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ [آل عمران: 186] .
وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ [الشورى: 43] .
وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (18).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
انتقَلَ لُقمانُ بابنِه إلى الآدابِ في مُعاملةِ النَّاسِ، فنهاه عن احتِقارِ النَّاسِ، وعن التَّفَخُّرِ عليهم، وهذا يقتَضي أمْرَه بإظهارِ مُساواتِه مع النَّاسِ، وعَدِّ نَفْسِه كواحِدٍ منهم [250] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (21/166). .
وأيضًا لَمَّا كان مِن آفاتِ العبادةِ -لا سِيَّما الأمرِ والنَّهيِ؛ لتصَوُّرِهما بصورةِ الاستِعلاءِ- الإعجابُ الدَّاعي إلى الكِبْرِ، قال مُحَذِّرًا مِن ذلك مُعَبِّرًا عن الكِبْرِ بلازِمِه؛ لأنَّ نَفْيَ الأعَمِّ نَفيٌ للأخَصِّ، مُنبِّهًا على أنَّ المطلوبَ في الأمرِ والنَّهيِ اللِّينُ لا الفَظاظةُ والغِلظةُ الحامِلانِ على النُّفورِ [251] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (15/176). :
وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ.
أي: ولا تُمِلْ خَدَّك، وتُعرِضْ بوَجهِك عن النَّاسِ؛ تكَبُّرًا عليهم، وتهاوُنًا واستِحقارًا لشَأنِهم [252] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/559)، ((تفسير القرطبي)) (14/70)، ((تفسير ابن كثير)) (6/338، 339)، ((تفسير السعدي)) (ص: 649)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (6/180). .
عن أبي ذَرٍّ رَضِيَ الله عنه، قال: قال لي النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((لا تَحقِرَنَّ مِنَ المعروفِ شَيئًا، ولو أنْ تَلْقَى أخاك بوَجهٍ طَلْقٍ )) [253] رواه مسلم (2626). .
وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا.
أي: ولا تَمشِ في الأرضِ فَرِحًا مُتبَختِرًا [254] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/562)، ((الوجيز)) للواحدي (ص: 849)، ((تفسير ابن كثير)) (6/339). قال القرطبي عن المرَحِ: (هو النَّشاطُ والمشْيُ فَرَحًا في غيرِ شُغلٍ وفي غيرِ حاجةٍ، وأهلُ هذا الخُلُقِ ملازِمونَ للفَخرِ والخُيَلاء، فالمرِحُ مختالٌ في مِشيَتِه). ((تفسير القرطبي)) (14/70). .
كما قال تعالى: وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا [الإسراء: 37] .
وقال سُبحانَه: وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا [الفرقان: 63] .
إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ.
أي: إنَّ اللهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُتكَبِّرٍ، مَزهُوٍّ، مُعجَبٍ بنَفْسِه، شديدِ الفَخرِ على النَّاسِ بما أُعطِيَ مِن النِّعَمِ [255] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/562)، ((تفسير القرطبي)) (14/71)، ((تفسير ابن كثير)) (6/339)، ((تفسير السعدي)) (ص: 649). .
وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ (19).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا نهَى لُقمانُ ابنَه عن الخُلُقِ الذَّميمِ؛ أمَرَه بالخُلُقِ الكريمِ [256] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (8/415). .
وأيضًا بعدَ أن بيَّنَ لُقمانُ لابنِه آدابَ حُسنِ المعامَلةِ مع النَّاسِ؛ قفَّاها بحُسنِ الآدابِ في حالتِه الخاصَّةِ، وتلك حالتا المَشيِ والتَّكَلُّمِ، وهما أظهَرُ ما يَلوحُ على المرءِ مِن آدابِه [257] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (21/168). .
وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ.
أي: وتوسَّطْ، واعتَدِلْ في مِشيَتِك بلا تكَبُّرٍ ولا استِعجالٍ، بل امشِ بسَكينةٍ ووَقارٍ وتواضُعٍ، بلا سُرعةٍ ولا تباطُؤٍ [258] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/563)، ((تفسير القرطبي)) (14/71)، ((تفسير ابن كثير)) (6/339)، ((تفسير الجلالين)) (ص: 542)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (15/178)، ((تفسير السعدي)) (ص: 649)، ((تفسير ابن عاشور)) (21/166). .
وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ.
أي: واخفِضْ مِن صَوتِك، فلا ترفَعْه مِن غيرِ حاجةٍ [259] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/565)، ((تفسير القرطبي)) (14/71)، ((تفسير ابن كثير)) (6/339)، ((تفسير ابن عاشور)) (21/168). قال القرطبي: (فإنَّ الجَهرَ بأكثَرَ مِنَ الحاجةِ تكَلُّفٌ يؤذي. والمرادُ بذلك كُلِّه التَّواضُعُ). ((تفسير القرطبي)) (14/71). وقال السعدي: (وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ أدَبًا مع النَّاسِ ومع اللهِ). ((تفسير السعدي)) (ص: 649). .
إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ.
أي: إنَّ أقبَحَ الأصواتِ وأشنَعَها لَصَوتُ الحَميرِ إذا رفَعَت صَوتَها بالنَّهيقِ [260] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/563)، ((تفسير القرطبي)) (14/71، 72)، ((تفسير ابن كثير)) (6/339)، ((تفسير السعدي)) (ص: 649). !

الفَوَائِدُ التَّربَويَّةُ:

1- قال الله تعالى حكايةً عن لُقمانَ: يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ؛ لِسَعةِ عِلمِه، وتمامِ خبرتِه، وكمالِ قُدرتِه، ولهذا قال: إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ أي: لطفَ في علمِه وخبرتِه، حتَّى اطَّلَع على البواطنِ والأسرارِ، وخفايا القِفارِ والبحارِ، والمقصودُ مِن هذا: الحثُّ على مُراقَبةِ الله، والعملِ بطاعتِه، مهما أمكَن، والتَّرهيبُ مِن عملِ القبيحِ، قَلَّ أو كثُر [261] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 649). .
2- قال الله تعالى حكايةً عن لُقمانَ: يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ * يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ * وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ * وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ دَعَت هذه الآياتُ إلى معالي الأخلاقِ، وهي أمَّهاتُ الفضائِلِ الثَّلاثِ: الحِكمةِ، والعِفَّةِ، والشَّجاعةِ؛ وأمَرَت بالعَدلِ فيها، وهي وظيفةُ التَّقسيطِ الَّذي هو الوَسَطُ الَّذي هو مَجمَعُ الفضائِلِ، ونَهَت عن مساوئِ الأخلاقِ، وهي الأطرافُ الَّتي هي مَبدأُ الرَّذائِلِ، الحاصِلُ بالإفراطِ والتَّفريطِ؛ فإقامةُ الصَّلاةِ الَّتي هي رُوحُ العبادةِ المبنيَّةِ على العِلمِ هي سِرُّ الحِكمةِ، والأمرُ والنَّهيُ أمرٌ بالشَّجاعةِ ونهيٌ عن الجُبنِ، وفي النَّهيِ عن التَّصعيرِ وما معه نهيٌ عن التَّهَوُّرِ، والقَصدُ في المشيِ والغَضُّ في الصَّوتِ أمرٌ بالعِفَّةِ، ونهيٌ عن الاستِماتةِ والجُمودِ، والخَلاعةِ والفُجورِ [262] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (15/180). .
3- يؤخَذُ مِن قَولِ لُقمانَ لابنِه -فيما حكاه الله عنه-: يَا بَنِي تلَطُّفُ الإنسانِ بمُخاطَبةِ ابنِه، لا سيَّما في مقامِ الموعِظةِ، ويتفَرَّعُ على هذا بيانُ سوءِ معاملةِ بعضِ الآباءِ: إذا أراد أنْ يَعِظَ ابنَه عامَلَه بالعُنفِ والشِّدَّةِ! وهذا خطأٌ، وقد قال النَّبيُّ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: ((إنَّ اللهَ رفيقٌ يحِبُّ الرِّفقَ، ويُعطي على الرِّفقِ ما لا يُعطي على العُنفِ )) [263] أخرجه مسلم (2593) من حديث عائشةَ رضي الله عنها. ، وأنت إذا عَمِلْتَ بهذا فإنَّك سوف تُعامَلُ بالرِّفقِ؛ لأنَّ الرَّسولَ صلَّى الله عليه وسلَّم أخبَرَ بأنَّ اللهَ تعالى يُعطي على الرِّفقِ ما لا يُعطي على العُنفِ، فإذا كان يحصُلُ لك مَقصودُك بالعُنفِ؛ فإنَّ حُصولَه بالرِّفقِ مِن بابِ أَولى [264] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة لقمان)) (ص: 108). .
4- الصَّبرُ على أذَى الخَلقِ عندَ الأمرِ بالمعروفِ، والنَّهيِ عن المنكَرِ: إن لم يُستعمَلْ لَزِمَ أحدُ أمْرَينِ: إمَّا تعطيلُ الأمرِ والنَّهيِ، وإمَّا حُصولُ فِتنةٍ ومَفسَدةٍ أعظَمَ مِن مَفسَدةِ تَركِ الأمرِ والنَّهيِ، أو مِثلِها، أو قريبٍ منها، وكِلاهما معصيةٌ وفَسادٌ؛ قال تعالى: وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ، فمَن أمَرَ ولم يصبِرْ، أو صبَرَ ولم يأمُرْ، أو لم يأمُرْ ولم يصبِرْ: حَصَل مِن هذه الأقسامِ الثَّلاثةِ مَفسَدةٌ، وإنَّما الصَّلاحُ في أن يأمُرَ ويَصبِرَ [265] يُنظر: ((المستدرك على مجموع الفتاوى لابن تيمية)) (3/206). .
5- قَولُ الله تعالى: وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ، وقَولُه: فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ [الأحقاف: 35] ، وقَولُه: وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا [الطور: 48] هذا عامٌّ في وُلاةِ الأُمورِ وفي الرَّعيَّةِ: إذا أمَروا بالمَعروفِ ونَهَوا عن المنكَرِ، فعليهم أن يَصبِروا على ما أُصيبوا به في ذاتِ اللهِ، كما يَصبِرُ المجاهِدونَ على ما يُصابُ مِن أنفُسِهم وأموالِهم؛ فالصَّبرُ على الأذى في العِرْضِ أوْلَى وأوْلَى؛ وذلك لأنَّ مَصلحةَ الأمرِ والنَّهيِ لا تَتِمُّ إلَّا بذلك، وما لا يَتِمُّ الواجِبُ إلَّا به فهو واجِبٌ، ويَندرِجُ في ذلك وُلاةُ الأمورِ؛ فإنَّ عليهم مِن الصَّبرِ والحِلمِ ما ليس على غَيرِهم، كما أنَّ عليهم مِنَ الشَّجاعةِ والسَّماحةِ ما ليس على غَيرِهم؛ لأنَّ مَصلحةَ الإمارةِ لا تَتِمُّ إلَّا بذلك. فكما وَجَب على الأئمَّةِ الصَّبرُ على أذى الرَّعيَّةِ وظُلْمِها إذا لم تَتِمَّ المصلحةُ إلَّا بذلك، أو كان تَركُه يُفضي إلى فسادٍ أكثَرَ منه- فكذلك يجِبُ على الرَّعيَّةِ الصَّبرُ على جَورِ الأئمَّةِ وظُلمِهم، إذا كان في تَركِ الصَّبرِ مَفسَدةٌ راجِحةٌ [266] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (28/180). .
6- قَولُ الله تعالى: وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ يَستلزِمُ العِلمَ بالمعروفِ ليأمُرَ به، والعِلمَ بالمُنكَرِ لِيَنهَى عنه، والأمرَ بما لا يَتِمُّ الأمرُ بالمعروفِ والنَّهيُ عن المنكَرِ إلَّا به؛ مِنَ الرِّفقِ والصَّبرِ، وقد صَرَّح به في قَولِه: وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ، ومِن كَونِه فاعِلًا لِما يَأمُرُ به، كافًّا لِما ينهَى عنه، فتضَمَّن هذا تكميلَ نَفْسِه بفِعلِ الخَيرِ، وتَركِ الشَّرِّ، وتكميلَ غَيرِه بذلك بأمرِه ونَهيِه [267] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 648). .
7- قال الله تعالى: وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ الأمرُ بأن يأمُرَ بالمعروفِ ويَنهى عن المنكَرِ يَقتضي إتيانَ الأمرِ وانتهاءَه في نَفْسِه؛ لأنَّ الَّذي يأمُرُ بفِعلِ الخَيرِ ويَنهى عن فِعلِ الشَّرِّ: يعلَمُ ما في الأعمالِ مِن خيرٍ وشَرٍّ، ومصالِحَ ومفاسِدَ؛ فلا جَرَمَ أن يَتَوقَّاها في نَفْسِه بالأولويَّةِ مِن أمْرِه النَّاسَ ونَهْيِه إيَّاهم [268] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (21/165). .
8- قال تعالى حكايةً عن لقمانَ: وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ، فالآمِرُ بالمعروفِ والنَّاهي عن المنكَرِ إذا أمَر ونهَى، فلا بُدَّ أن يُؤذَى في العادةِ؛ فعليه أن يَصبِرَ ويَحلُمَ [269] يُنظر: ((منهاج السنة النبوية)) لابن تيمية (5/254). ويُنظر أيضًا: ((تفسير ابن كثير)) (6/338). .
9- في قَولِه تعالى: إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ تنبيهٌ على فَضيلةِ العَزمِ في الأمورِ، وكلَّما كان الإنسانُ عازمًا في أمورِه، كان ذلك أنجحَ له وأحسَنَ [270] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (2/523). .
10- في قَولِه تعالى: وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ زَجْرٌ عن احتِقارِ النَّاسِ، ومِشْيةِ الخُيَلاءِ؛ وحثٌّ على التَّواضُعِ، وأخْذِ السَّكينةِ والوَقارِ [271] يُنظر: ((النكت الدالة على البيان)) للقَصَّاب (3/626). .
11- قَولُ الله تعالى: وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا أي: اختيالًا وتَبختُرًا؛ ومشيُ الأشَرِ والبطَرِ والتَّكبرِ جديرٌ بأن يظلِمَ صاحِبُه ويُفحِشَ ويَبغيَ، بل امْشِ هَونًا؛ فإنَّ ذلك يُفضي بك إلى التَّواضُعِ، فتَصِلُ إلى كلِّ خيرٍ [272] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (15/177). .
12- في قَولِه تعالى: وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ أنَّه ينبغي للإنسانِ أنْ يكونَ مَشيُه قَصْدًا: لا إسراعًا مُخِلًّا، ولا دَبيبًا مُتباطِئًا؛ فالإسراعُ الَّذي فيه التَّهوُّرُ والعَجَلةُ والطَّيشُ: مذمومٌ، والتَّباطؤُ والدَّبيبُ أيضًا مَذمومٌ [273] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة لقمان)) (ص: 116). .
13- قَولُ الله تعالى: وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ، قيل: وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ: إشارةٌ إلى الأفعالِ، وقَولُه: وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ: إشارةٌ إلى الأقوالِ؛ فنَبَّه على التَّوسُّطِ في الأفعالِ والأقوالِ، وعلى الإقلالِ مِن فُضولِ الكلامِ [274] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (8/417)، ((تفسير النيسابوري)) (5/427). .
14- في قَولِه تعالى: وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ دَليلٌ على أنَّ الإجهارَ الشَّديدَ في المنطِقِ مذمومٌ [275] يُنظر: ((النكت الدالة على البيان)) للقصاب (3/627). .
15- قوله تعالى: وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ (مِنْ) هذه للتَّبعيضِ، فلم يقُلْ: (اغضضْ صوتَك)، بل قال: (منه)؛ وذلك لأنَّ الإنسانَ لا يُحْمَدُ على رفعِ الصَّوتِ جدًّا، ولا على خَفضِه جدًّا، بل يكونُ أيضًا قَصْدًا بينَ رفعِ الصَّوتِ والإخفاءِ [276] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة لقمان)) (ص: 114). .
16- قال تعالى: وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ، النَّهيُ عن رفعِ الصَّوتِ فوقَ الحاجةِ، فيه إشارةٌ إلى أنَّ فاعلِ ما لا حاجةَ إليه غيرُ حكيمٍ [277] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (15/183). .
17- قال الله تعالى: وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ هذه الآيةُ أدَبٌ مِنَ اللهِ تعالى بتَركِ الصِّياحِ في وُجوهِ النَّاسِ تهاوُنًا بهم، أو بتَركِ الصِّياحِ جُملةً، وكانت العَرَبُ تَفخَرُ بجَهارةِ الصَّوتِ الجَهيرِ وغيرِ ذلك؛ فمَن كان منهم أشَدَّ صَوتًا كان أعَزَّ، ومَن كان أخفَضَ كان أذَلَّ [278] يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (14/72). !

الفَوائِدُ العِلميَّةُ واللَّطائِفُ:

1- قَولُ الله تعالى: يَأْتِ بِهَا اللَّهُ أبلَغُ مِن قَولِ القائِلِ: (يَعلَمُها اللهُ)؛ لأنَّ مَن يَظهَرُ له الشَّيءُ، ولا يَقدِرُ على إظهارِه لغَيرِه، يكونُ حالُه في العِلمِ دونَ حالِ مَن يَظهَرُ له الشَّيءُ، ويُظهِرُه لِغَيرِه [279] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (25/121). .
2- قال الله تعالى: يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ، قيل: خَفاءُ الشَّيءِ يُعرَفُ بصِغَرِه عادةً، وببُعْدِه عن الرَّائي، وبكَونِه في ظُلمةٍ وباحتجابِه؛ فـ فِي صَخْرَةٍ إشارةٌ إلى الحِجابِ، وفِي السَّمَاوَاتِ إشارةٌ إلى البُعدِ، وفِي الْأَرْضِ إشارةٌ إلى الظُّلمةِ؛ فإنَّ جوفَ الأرضِ أظلَمُ الأماكنِ [280] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (8/415). .
3- قَولُ الله تعالى: يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ بدَأ هذه الوَصِيَّةَ بالصَّلاةِ، وختَمَها بالصَّبرِ؛ لأنَّهما مِلاكُ الاستِعانةِ وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ [281] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (15/175). [البقرة: 45] .
4- قَولُ الله تعالى: يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ يُعلَمُ منه أنَّ الصَّلاةَ كانت في سائِرِ المِلَلِ، غيرَ أنَّ هيئتَها اختلَفَت [282] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (25/121). .
5- قَولُ الله تعالى: وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ لذِكْرِ الحِمارِ مِن بلاغةِ الذَّمِّ والشَّتمِ ما ليس لِغَيرِه؛ ولذلك يُستهجَنُ التَّصريحُ باسمِه، وهذا يُفهِمُ أنَّ الرَّفعَ مع الحاجةِ غَيرُ مَذمومٍ؛ فإنَّه ليس بمُستنكَرٍ ولا مُستَبشَعٍ [283] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (15/180). .
6- قَولُه تعالى: إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ استُدِلَّ به على أنَّ رَفْعَ الصَّوتِ في غيرِ محَلِّهِ مُحرَّمٌ؛ لأنَّ هذا التَّشبيهَ يقتضي التَّنفيرَ منه، وقد قال النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم: ((ليس لنا مَثَلُ السَّوءِ )) [284] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة لقمان)) (ص: 117). والحديث أخرجه البخاري (2622) من حديث عبد الله بنِ عبَّاسٍ رضي الله عنهما. .

بلاغةُ الآياتِ:

1- قوله تعالى: يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ هذا شُروعٌ في حِكايةِ بقيَّةِ وَصايا لُقْمانَ، بعدَ تَقريرِ ما في مَطْلَعِها مِن النَّهيِ عن الشِّركِ، وتأْكيدهِ بالاعتراضِ [285] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (7/72). .
- وتَكريرُ النِّداءِ يَا بُنَيَّ؛ لِتَجديدِ نشاطِ السَّامعِ لوَعْيِ الكلامِ [286] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (21/162). ، وفيه تنبيهٌ على فَرطِ النَّصيحةِ؛ لِفَرطِ الشَّفَقةِ [287] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (15/173). .
- وقدِ اجتمَعَ في هذه الجُملةِ يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ ... ثلاثةُ مُؤكِّداتٍ: النِّداءُ، و(إنَّ)، وضميرُ القصَّةِ -على قولٍ-؛ لِعِظَمِ خطَرِ ما بعْدَه، المُفيدِ تقْريرَ وصْفِه تعالى بالعلْمِ المحيطِ بجميعِ المعلوماتِ مِن الكائناتِ، ووَصْفِه بالقُدْرةِ المُحيطةِ بجميعِ المُمْكناتِ؛ بقَرينةِ قولِه: يَأْتِ بِهَا اللَّهُ. وقد أُفِيدَ ذلك بطَريقِ دَلالةِ الفَحْوى [288] فَحْوى الخِطابِ: هو إثباتُ حُكمِ المنطوقِ به للمَسكوتِ عنه بطَريقِ الأَولى، وهو نوعانِ: الأوَّلُ: تَنبيهٌ بالأقَلِّ على الأكثَرِ، كقَولِه تعالى: فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ [الإسراء: 23] ؛ فإنَّه نَبَّه بالنَّهيِ عن قَولِ أُفٍّ على النَّهيِ عن الشَّتمِ والضَّربِ وغيرِ ذلك، ومِثلُه قَولُه تعالى: مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ [آل عمران: 75] . ؛ فذُكِر أدَقُّ الكائِناتِ حالًا مِن حيثُ تعلُّقُ العِلْمِ والقُدرةِ به، وذلك أدقُّ الأجسامِ المُخْتفي في أصلَبِ مكانٍ أو أقصاهُ وأعَزِّه مَنالًا، أو أوسَعِه وأشَدِّه انتشارًا؛ لِيُعلَمَ أنَّ ما هو أقْوى منه في الظُّهورِ والدُّنُوِّ مِن التَّناوُلِ أَولى بأنْ يُحِيطَ به عِلْمُ اللهِ وقُدْرتُه [289] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (21/162). .
- وفي قولِه: إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ ... ما يُعرَفُ في البَلاغةِ بالتَّتميمِ [290] التَّتميم: هو أن يُؤتَى في كلامٍ لا يُوهِمُ غيرَ المرادِ بفضلةٍ تُفيدُ نكتةً. أو بعبارةٍ أخرى هو: الإتيانُ بكلِمةٍ أو كلامٍ متمِّمٍ للمقصودِ، لرَفْعِ اللَّبسِ عنه، وتقريبِه للفَهمِ، أو لزِيادةٍ حسنةٍ، بحيثُ إذا طُرِح مِن الكلامِ نقَص معناه في ذاتِه، أو في صِفاتِه. يُنظر: ((التبيان في البيان)) للطِّيبي (ص: 217)، ((تفسير أبي حيَّان)) (1/120) و(2/333)، ((الإتقان)) للسيوطي (3/252)، ((إعراب القرآن وبيانه)) لمحيي الدين درويش (1/44)، ((مفاتيح التفسير)) لأحمد سعد الخطيب (1/240). ، والمعنى -على قول-: أنَّه تمَّمَ خَفاءَ الخَطيئةِ في نفْسِها بخَفاءِ مكانِها مِن الصَّخرةِ، والأخْفى مِن الصَّخرةِ؛ كأنْ تكونَ في صَخرةٍ مُستقرَّةٍ في أغوارِ الأرضِ السَّحيقةِ، أو في الأعالي مِن أجوازِ [291] جوزُ كلِّ شَيءٍ: وَسَطُه، والجمعُ أجوازٌ. قيل: مِن هذا اشتقاقُ الجَوزاءِ؛ لأنَّها تعترِضُ جوزَ السَّماءِ، أي: وسَطَها. يُنظر: ((جمهرة اللغة)) لابن دُرَيد (1/473). الفضاءِ [292] يُنظر: ((تفسير الزمخشري - حاشية ابن المنير)) (3/496)، ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (12/295)، ((إعراب القرآن وبيانه)) لدرويش (7/544). .
- وقولُه: أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ عطْفٌ على فِي صَخْرَةٍ؛ لأنَّ الصَّخرةَ مِن أجزاءِ الأرضِ، فذكَرَ بعْدَها أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ، على مَعنى: أو كانت في أعزَّ مَنالًا مِن الصَّخرةِ، وعطَفَ عليه أَوْ فِي الْأَرْضِ، وإنَّما الصَّخرةُ جُزءٌ مِن الأرضِ؛ لقصْدِ تَعميمِ الأمكنةِ الأرضيَّةِ؛ فإنَّ الظَّرفيَّةَ تَصدُقُ بهما، أي: ذلك كلُّه سواءٌ في جانبِ عِلمِ اللهِ وقُدرتِه، كأنَّه قال: فتكُنْ في صَخرةٍ، أو حيث كانت مِن العالَمِ العُلويِّ والعالَمِ السُّفليِّ [293] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (21/163). .
- قولُه: يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ قيل: الإتيانُ كِنايةٌ عن التَّمكُّنِ منها، وهو أيضًا كِنايةٌ رَمْزيَّةٌ عن العِلْمِ بها؛ لأنَّ الإتيانَ بأدقِّ الأجسامِ مِن أقْصى الأمكنةِ وأعمَقِها وأصلَبِها، لا يكونُ إلَّا عن عِلْمٍ بكَونِها في ذلك المكانِ، وعِلْمٍ بوسائلِ استخراجِها منه [294] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (21/163). .
- وجُملةُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ يجوزُ أنْ تكونَ مِن كلامِ لُقْمانَ؛ فهي كالمَقصدِ مِن المُقدِّمةِ، أو كالنَّتيجةِ مِن الدَّليلِ؛ ولذلك فُصِلَت ولم تُعطَفْ؛ لأنَّ النَّتيجةَ كبدَلِ الاشتِمالِ يَشتمِلُ عليها القياسُ؛ ولذلك جِيءَ بالنَّتيجةِ كُلِّيَّةً بعدَ الاستدلالِ بجُزئيَّةٍ. ويجوزُ أنْ تكونَ مُعترِضةً بيْنَ كلامِ لُقْمانَ؛ تَعليمًا مِن اللهِ للمُسلِمينَ [295] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (21/164). .
- واللَّطيفُ: مَن يَعلَمُ دقائقَ الأشياءِ، ويَسلُكُ في إيصالِها إلى مَن تَصلُحُ به مَسلَكَ الرِّفقِ؛ فهو وصْفٌ مُؤْذِنٌ بالعِلْمِ والقُدرةِ الكاملَينِ؛ ففي تَعقيبِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ بوَصْفِه بـ (اللَّطيف) إيماءٌ إلى أنَّ التَّمكُّنَ منها وامتلاكَها بكَيفيَّةٍ دَقيقةٍ، تُناسِبُ فَلْقَ الصَّخرةِ، واستخراجَ الخَرْدَلةِ منها، مع سَلامتِهما وسلامةِ ما اتَّصلَ بهما مِن اختلالِ نِظامِ صُنْعِه [296] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (21/164). .
2- قوله تعالى: يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ
- قولُه: يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ خَصَّ الصَّلاةَ؛ لأنَّها أكبَرُ العباداتِ البَدَنيَّةِ [297] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 648). .
- وقَدَّم الأمرَ بالمعروفِ -وإن كان مِن جَلبِ المصالحِ- لأنَّه يَستَلزِمُ تَرْكَ المنكَرِ، وأمَّا تَركُ المُنكَرِ فلا يَستلزِمُ فِعلَ الخَيرِ؛ فإنَّك إذا قُلتَ: لا تأتِ مُنكَرًا، لم يَتناوَلْ ذلك في العُرفِ إلَّا الكَفَّ عن فِعلِ المعصيةِ، لا فِعلَ الطَّاعةِ [298] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (15/173، 174). .
- وفيه تَعقيبُ الأمْرِ بالمعروفِ، والنَّهيِ عن المُنكَرِ بمُلازَمةِ الصَّبرِ؛ ووجْهُه: أنَّ الأمْرَ بالمعروفِ والنَّهيَ عن المُنكَرِ قد يَجُرَّانِ للقائمِ بهما مُعاداةً مِن بعضِ النَّاسِ، أو أذًى مِن بعضٍ، فإذا لم يَصبِرْ على ما يُصِيبُه مِن جرَّاءِ الأمْرِ بالمعروفِ والنَّهيِ عن المُنكَرِ، أوشَكَ أنْ يَترُكَهما. ولَمَّا كانت فائدةُ الصَّبرِ عائدةً على الصَّابرِ بالأجْرِ العظيمِ، عُدَّ الصَّبرُ هنا في عِدادِ الأعمالِ القاصرةِ على صاحِبِها، ولم يُلتفَتْ إلى ما في تَحمُّلِ أذَى النَّاسِ مِن حُسنِ المُعامَلةِ معهم، حتَّى يُذكَرَ الصَّبرُ مع قولِه: وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ [لقمان: 18] ؛ لأنَّ ذلك ليس هو المقصودَ الأوَّلَ مِن الأمْرِ بالصَّبرِ [299] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (21/165). .
- قَولُه: وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ حقَّق بالماضي أنَّه لا بُدَّ مِنَ المُصيبةِ؛ لِيَكونَ الإنسانُ على بصيرةٍ [300] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (15/175). .
- قولُه: إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ فيه التَّأكيدُ بـ (إنَّ)؛ للاهتمامِ [301] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (21/166). . والإشارةُ بـ ذَلِكَ إلى كلِّ ما ذُكِرَ -على قولٍ في التَّفسيرِ-، وما في اسمِ الإشارةِ مِن مَعنى البُعدِ مع قُرْبِ العهْدِ بالمُشارِ إليه؛ للإشعارِ ببُعدِ مَنزلتِه في الفضْلِ [302] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (7/73). .
- وأيضًا جملةُ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ تَعليلٌ لوُجوبِ الامتِثالِ بما سبَقَ مِن الأمرِ والنَّهيِ، وإيذانٌ بأنَّ ما بعْدَها ليس بمَثابتِه [303] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (7/73). .
- وفيه مُناسَبةٌ حَسَنةٌ، حيثُ قال هنا: يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ [لقمان: 17] ، وقال في سُورةِ (الشُّورى): وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ [الشورى: 43] ؛ فأكَّدَ الخبَرَ في هذه الآيةِ، وسقَطَ التَّوكيدُ مِن الأُولى في سُورةِ (لُقمانَ)؛ وذلك لأنَّ آيةَ (الشُّورى) لَمَّا دخَلَها معنى القسَمِ، وكانتْ على تَقديرِه؛ إذِ اللَّامُ في قولِه: وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ تَوطئةٌ له، ودالَّةٌ على تَضمينِ الآيةِ معناهُ؛ ناسَبَ ذلك زِيادةُ لامِ التَّأكيدِ في خبَرِ (إنَّ)، وذلك ظاهرٌ في معنَى الآيةِ. وأمَّا آيةُ (لُقمانَ) فقولُه فيها: إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ مُجرَّدُ إخبارٍ عن حالِ ما وقَعَت الوصيَّةُ به، ولا مَدخَلَ للقسَمِ هنا، ولا معنَى له، فلم تَدخُلْ لامُ التَّأكيدِ في الخبَرِ؛ إذ ليس في الآيةِ معنَى قسَمٍ يَسْتدعِيها، ولا وقَعَ في اللَّفظِ ما يُطابِقُها، فورَدَ كلٌّ على ما يجِبُ ويُناسِبُ، ولو قُدِّرَ العكْسُ لَمَا ناسَبَ [304] يُنظر: ((ملاك التأويل)) لأبي جعفر الغرناطي (2/402، 403). .
3- قوله تعالى: وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ
- قولُه: وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ الصَّعَرُ: داءٌ يُصِيبُ البَعيرَ، فيَلْوي منه عُنقَه، فكأنَّه صِيغَ له صِيغةُ تَكلُّفٍ، بمعنى تَكلُّفِ إظهارِ الصَّعرِ، وهو تَمثيلٌ للاحتِقارِ؛ لأنَّ مُصاعَرةَ الخدِّ هَيئةُ المُحتقِرِ المُستخِفِّ في غالبِ الأحوالِ، والمعنى: لا تَحتقِرِ النَّاسَ؛ فالنَّهيُ عن الإعراضِ عنهم احتقارًا لهم، لا عن خُصوصِ مُصاعرةِ الخدِّ، فيَشملُ الاحتقارَ بالقولِ والشَّتْمِ وغيرِ ذلك، فهو قريبٌ مِن قولِه تعالى: فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ [الإسراء: 23] ، إلَّا أنَّ هذا تَمثيلٌ كِنائيٌّ، والآخَرُ كِنايةٌ لا تَمْثيلَ فيها [305] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (21/166). .
- قولُه: وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا تَمثيلٌ كِنائيٌّ عن النَّهيِ عن التَّكبُّرِ والتَّفاخُرِ، لا عن خُصوصِ المشْيِ في حالِ المرَحِ؛ فيَشملُ الفخْرَ عليهم بالكلامِ وغيرِه [306] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (21/166، 167). .
- ومَوقِعُ قولِه: الْأَرْضِ مَرَحًا بَعدَ (لَا تَمْشِ)، مع أنَّ المشْيَ لا يكونُ إلَّا في الأرضِ؛ هو الإيماءُ إلى أنَّ المشْيَ في مكانٍ يَمْشي فيه النَّاسُ كلُّهم قَوِيُّهم وضعيفُهم؛ ففي ذلك مَوعظةٌ لِلماشي مرَحًا أنَّه مُساوٍ لسائرِ النَّاسِ [307] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (21/167). ، وتذكيرٌ بأنَّ أصلَه ترابٌ، وهو لا يقدرُ أن يَعدُوَه [308] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (15/177). .
- قولُه: إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ تَعليلٌ للنَّهيِ أو مُوجِبِه، وتأْخيرُ الفَخورِ -مع كَونِه بمُقابَلةِ المُصعِّرِ خَدَّه- عن المُخْتالِ -وهو بمُقابَلةِ الماشِي مَرَحًا-؛ لرِعايةِ الفَواصلِ [309] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (4/215)، ((تفسير أبي السعود)) (7/73)، ((تفسير ابن عاشور)) (21/167). .
- وصِيغةُ الافتعالِ في كَلمةِ مُخْتَالٍ؛ للمُبالَغةِ في الوصْفِ [310] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (21/167). .
- جملة إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ يجوزُ أنْ تكونَ مِن كلامِ لُقْمانَ؛ فهي كالمَقصدِ مِن المُقدِّمةِ، أو كالنَّتيجةِ مِن الدَّليلِ، ولذلك فُصِلَت ولم تُعطَفْ؛ لأنَّ النَّتيجةَ كبدَلِ الاشتمالِ يَشتمِلُ عليها القياسُ، ولذلك جِيءَ بالنَّتيجةِ كُلِّيَّةً بعدَ الاستدلالِ بجُزئيَّةٍ. ويجوزُ أنْ تكونَ مُعترِضةً بيْن كلامِ لُقْمانَ؛ تَعليمًا مِن اللهِ للمُسلِمين [311] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (21/164، 167). .
- وفي هذه الآيةِ لَطيفةٌ، وهي: أنَّ اللهَ تعالى قَدَّمَ الكمالَ على التَّكميلِ؛ حيثُ قال: أَقِمِ الصَّلَاةَ، ثمَّ قال: وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ، وفي النَّهيِ قدَّمَ ما يُورِثُه التَّكميلُ على ما يُورِثُه الكَمالُ؛ حيثُ قال: وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ، ثمَّ قال: وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا؛ لأنَّ في طَرَفِ الإثباتِ مَن لا يكونُ كاملًا لا يُمكِنُ أنْ يَصِيرَ مُكمِّلًا؛ فقدَّمَ الكَمالَ، وفي طَرفِ النَّفيِ مَن يكونُ مُتكبِّرًا على غيرِه يكونُ مُتبختِرًا؛ لأنَّه لا يَتكبَّرُ على الغَيرِ إلَّا عندَ اعتقادِه أنَّه أكبَرُ منه مِن وَجْهٍ، وأمَّا مَن يكونُ مُتبختِرًا في نَفْسِه لا يَتكبَّرُ ويَتوهَّمُ أنَّه يَتواضعُ للنَّاسِ؛ فقدَّمَ نَفْيَ التَّكبُّرِ، ثمَّ نَفْيَ التَّبختُرِ؛ لأنَّه لو قد نَفى التَّبختُرَ لَلَزِمَ منه نَفْيُ التَّكبُّرُ، فلا يَحتاجُ إلى النَّهيِ عنه [312] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (25/122). .
4- قوله تعالى: وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ
- جِيءَ بـ (مِن) الدَّالَّةِ على التَّبعيضِ؛ لإفادةِ أنَّه يغُضُّ بَعضَه، أي: بعضَ جَهْرِه، أي: يَنقُصُ مِن جُهورتِه، ولكنَّه لا يَبلُغُ به إلى التَّخافُتِ والسِّرارِ [313] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (21/168). .
- ومِن بديعِ البَلاغةِ في قولِه: إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ أنَّه أتَى بالتَّمثيلِ مُؤكَّدًا بـ (إنَّ) أوَّلًا، وعزَّزَ هذا التَّأكيدَ باللَّامِ، فصار الكلامُ خَبرًا إنْكاريًّا؛ كأنَّ التَّمثيلَ أمْرٌ مَبْتوتٌ فيه لا يَتطرَّقُ إليه الشَّكُّ، وهو مُوضِّحٌ لِتَعليلِ الأمرِ بخفْضِ الصَّوتِ، مَبْنيٌّ على تَشبيهِ الرَّافعينَ أصواتَهم بالحميرِ، وتَمثيلِ أصواتِهم بالنُّهاقِ، وفيه إفراطٌ في التَّحذيرِ عن رفْعِ الصَّوتِ، والتَّنفيرِ عنه [314] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/498)، ((تفسير البيضاوي)) (4/215)، ((تفسير أبي حيان)) (8/417)، ((تفسير أبي السعود)) (7/73)، ((تفسير ابن عاشور)) (21/168)، ((إعراب القرآن وبيانه)) لدرويش (7/545 548). .
- قولُه: إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ وُحِّدَ صَوتُ الحَميرِ ولم يُجمَعْ؛ لأنَّه ليس المُرادُ أنْ يُذكَرَ صوتُ كلِّ واحدٍ مِن آحادِ هذا الجِنسِ حتَّى يُجمَعَ، وإنَّما المرادُ أنَّ كلَّ جِنسٍ مِن الحيوانِ النَّاطقِ له صَوتٌ، وأنكَرُ أصواتِ هذه الأجناسِ صوتُ هذا الجِنسِ؛ فوجَبَ توحيدُه [315] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/498)، ((تفسير البيضاوي)) (4/215)، ((تفسير أبي حيان)) (8/417)، ((تفسير أبي السعود)) (7/73)، ((إعراب القرآن وبيانه)) لدرويش (7/549). . وإنَّما جمَعَ الحميرَ في نَظْمِ القرآنِ، مع أنَّ (صوت) مُفردٌ، ولم يقُلِ: (الحِمارِ)؛ لأنَّ المُعرَّفَ بلامِ الجِنسِ يَسْتوي مُفردُه وجمْعُه، وإنَّما أُوثِرَ لفْظُ الجمْعِ؛ لأنَّ كَلِمةَ (الحَميرِ) أنسبُ لفواصلِ الآياتِ؛ فإنَّ الفواصلَ المُتقدِّمةَ هي:
حَمِيدٌ، عَظِيمٌ، الْمَصِيرُ، خَبِيرٌ، الْأُمُورُ، فَخُورٍ، الْحَمِيرِ [316] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (21/168، 169). ، ولأنَّ المَقصودَ مِن الجَمعِ التَّتميمُ والمبالغةُ في التَّنفيرِ؛ فإنَّ الصَّوتَ إذا تَوافقتْ عليه الحَميرُ كان أنكَرَ [317] يُنظر: ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (12/300). .