موسوعة التفسير

سُورَةُ آل عِمْرانَ
الآيات (172-176)

ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ

المَعنَى الإجماليُّ:

يُخبِرُ تعالى أنَّ الَّذين امتَثلوا أمْرَ الله وأمرَ رسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بعد غزوةِ أُحُدٍ مباشرةً بأنْ بادَروا بالاستعدادِ للقِتال مرةً أخرى، على ما بهم مِن آلامٍ جسديَّةٍ نتيجةَ الجِراح، وآلامٍ نَفسيَّةٍ بسببِ ما وقَع فيهم من قتْلٍ وهزيمة، للذين أحسنوا مِن هؤلاء عند الله أجرٌ عظيم. هؤلاء لم يَثْنِهم تَخويفُ بعضِ النَّاس لهم بأنَّ كفَّارَ قُرَيشٍ استعدُّوا للكَرَّة عليهم، وأنَّهم لا يَستطيعون مواجهتَهم، فما زادهم ذلك التخويفُ إلَّا إيمانًا ويقينًا، وقالوا: حسبُنا اللهُ ونِعمُ الوكيلُ، فرجَعوا من مَنطقةِ (حَمْراء الأسد)، وكانوا خرَجوا إليها لمدافَعةِ المشركين، رجَعوا بنعمةٍ مِن الله وفضلٍ، لم ينَلْهم أيُّ أذًى مِن أعدائِهم، واتَّبَعوا ما يُرضِي اللهَ تعالى باستجابتِهم لله ولرسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، واللهُ ذو الفَضلِ العظيمِ.
ثمَّ يُخبِرُهم تعالى أنَّ ذلك المخوِّفَ لكم هو الشَّيطانُ، يُريد أنْ يزرَعَ في قلوبكم الخوفَ من أوليائِه، الَّذين هم المشركونَ، ثمَّ نهاهم سبحانه عن الخَوفِ من المشركين، وأمَرهم بالخوفِ مِن اللهِ وحْده إنْ كانوا مُؤمِنينَ.
ثمَّ يَنهَى اللهُ نبيَّه محمَّدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أن يُصيبَه الحزنُ بسبب الَّذين يُبادرون سريعًا في الكُفرِ لشدَّةِ رَغبتِهم فيه؛ فهؤلاءِ بكُفرِهم لن يضُرُّوا اللهَ شيئًا، وإنَّما يُريدُ اللهُ بمسارعتِهم في الكُفرِ ألَّا يجعَلَ لهم أيَّ حظٍّ من نعيمِ الآخِرة، ولهم العذابُ العظيم.

تفسير الآيات:

الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ (172)
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
أنَّ اللهَ تعالى لَمَّا ذمَّ المنافقين برُجوعِهم من غيرِ أنْ يُصيبَهم قرحٌ، ومدَحَ أحوالَ الشُّهداءِ ترغيبًا في الشَّهادة، وأحوالَ مَن كان على مِثل حالِهم ترغيبًا في النَّسج على منوالهم، وختَم بتعليق السَّعادةِ بوصف الإيمان، أخَذ يَذكُرُ ما أثمَر لهم إيمانُهم من المبادَرةِ إلى الإجابةِ إلى ما يَهديهم إليه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، إشارةً إلى أنَّه لم يَحمِلْ على التَّخلُّفِ عن أمْرِه مِن غيرِ عُذرٍ إلَّا صريحُ النِّفاقِ يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (5/123). .
سببُ النُّزول:
عن ابنِ عبَّاسٍ رضِي اللهُ عنهما قال: ((لَمَّا انصَرَفَ المشرِكون عن أُحُدٍ وبلَغوا الرَّوحاءَ الرَّوحاءُ: مَوضِعٌ بينَ مكَّة والمدينة، يَبعُد ما بين ثلاثينَ وأربعينَ مِيلًا من المدينة. يُنظر: ((مرقاة المفاتيح)) للقاري (7/2764). ، قالوا: لا محمَّدًا قتلتموه، ولا الكواعبَ أردَفْتُم، وبِئسَ ما صنعتُم، ارجِعوا، فبلَغ ذلك رسولَ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فندَب النَّاسَ فانتدبوا حتَّى بلَغوا حمراءَ الأسدِ وبئرَ أبي عِنَبَةَ، فأنزَل اللهُ تعالى: الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ [آل عمران: 172...)) أخرجه النسائي في ((السنن الكبرى)) (11083)، والطبراني (11/247) (11632). قال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (6/124): رجاله رجال الصحيح غير محمَّد بن منصور الجواز وهو ثقة. وصحَّح إسنادَه الشوكانيُّ في ((تفسير الشوكاني)) (1/597)، وصحَّحه الوادعيُّ في ((صحيح أسباب النزول)) (66). .]
الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ
أي: الَّذين أَجابوا أمْرَ اللهِ تعالى ورَسولِه عليه الصَّلاة والسَّلام بالنُّهوضِ مجدَّدًا لردِّ هجومِ مُتوقَّعٍ من المشركين عقبَ غزوةِ أُحُدٍ مباشرةً، على الرَّغم ممَّا ألمَّ بهم من جِراحٍ وآلامٍ جَسديَّةٍ، وأُخرى نَفسيَّةٍ بسببِ القتْلِ والهزيمةِ الَّتي لحِقَتْهم في أُحُدٍ يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (6/239-240)، ((تفسير ابن كثير)) (2/165)، ((تفسير السعدي)) (ص: 157)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (2/446). .
عن عائشةَ رضِي اللهُ عنها أنَّها قالتْ لِعُروَةَ عن قوله تعالى: الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ القَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ: ((يا ابنَ أُختي، كانَ أبَواكَ منهُم: الزُّبَيْرُ وأبو بكرٍ، لَمَّا أصاب رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ما أصابَ يومَ أُحُدٍ، وانصَرَفَ عنه المشرِكونَ، خافَ أن يَرْجِعوا، قال: (مَن يَذهَبُ في إثْرِهِم يَذهَبُ في إثْرِهِم: أي: يتَّبِعهم. يُنظر: ((عمدة القاري)) للعيني (17/162). )، فانتدَبَ مِنهُم سَبْعونَ رَجلًا، قال: كان فيهم أبو بكرٍ والزُّبَيرُ)) أخرجه البخاري (4077) واللفظ له، ومسلم (2418) مختصرًا. .
لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ
أي: إنَّ الَّذين أَحسَنوا منهم في أعمالِهم وامتثَلوا ما أمَر اللهُ تعالى به، واجتنَبوا ما نهى عنه، لهم ثوابٌ جَزيلٌ، وأجرٌ واسع من اللهِ تبارَك وتعالَى يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (6/244)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (2/446). .
الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173)
الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ
أي: خوَّفهم وحَذَّرهم بعضُ النَّاسِ من أنَّ كفَّارَ قُرَيشٍ قد أعدُّوا العُدَّةَ للكَرَّةِ عليهم، وأنَّه لا قِبَلَ لهم الآن بقتالِهم يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (6/244)، ((تفسير ابن كثير)) (2/169)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (2/446-447). .
فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ
أي: لم يَجبُنوا ولم يَتزَعْزَعوا، بل منَحهم ذلك التَّخويفُ زيادةً في الطُّمأنينةِ، وقوَّةً في الإيمانِ واليقين، مُعلِنين بأنَّهم وكَلوا أمرَهم إلى اللهِ تعالى وحْدَه ليكفيَهم شرَّ أعدائِهم؛ فهو سبحانه نِعْمَ مَن يُوثَق به في تفويضِ الأمورِ يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (6/245، 252، 253)، ((تفسير ابن كثير)) (2/169)، ((تفسير السعدي)) (ص: 175)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (2/446-447). .
عن ابنِ عباسٍ رضِي اللهُ عنهما قال: ((حسبُنا اللهُ ونِعْمَ الوكيلُ، قالها إبراهيمُ عليه السَّلام حينَ أُلْقِيَ في النَّارِ، وقالها محمَّدٌ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ حينَ قالوا: إنَّ النَّاسَ قد جمَعوا لكم فاخشَوْهم، فزادَهم إيمانًا، وقالوا: حسبُنا اللهُ ونِعْمَ الوكيلُ )) رواه البخاري (4563). .
وعن ابنِ عباسٍ رضِي اللهُ عنهما أيضًا قال: ((كان آخرَ قولِ إبراهيمَ حينَ أُلْقِيَ في النَّارِ: حسْبي اللهُ ونِعْمَ الوكيلُ )) رواه البخاري (4564). .
عن أبي سَعيدٍ الخُدريِّ رضِي اللهُ عنه، أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قال: ((كيف أنعَمُ وقد الْتقمَ صاحبُ القرنِ القرنَ، وحنَى جبهتَه، وأصْغَى سمعَه، ينتظرُ أن يُؤمرَ أن ينفُخَ فينفُخَ، قال المسلمون: فكيف نقولُ يا رسولَ اللهِ؟ قال: قولوا: حسبُنا اللهُ ونِعْمَ الوكيلُ، توكَّلْنا على اللهِ ربِّنا، وربَّما قال سفيانُ: على اللهِ توكَّلْنا )) أخرجه التِّرمذيُّ (3243) واللفظ له، وأحمد (11053). حسنه الترمذيُّ، وصحَّحه الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)) (3243). .
فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ (174)
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
لَمَّا ذكَر اللهُ تعالى أنَّهم توكَّلوا عليه كفاهم سُبحانه ما أهَمَّهم، وردَّ عنهم بأسَ مَن أرادَ كيدَهم يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (2/171). .
سببُ النُّزول:
عن ابنِ عبَّاسٍ رضِي اللهُ عنهما قال: ((... وقد كانَ أبو سُفيانَ قال للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: مَوعدُك مَوسِمُ بَدْرٍ حيث قتلتُم أصحابَنا، فأمَّا الجبانُ فرجَع، وأمَّا الشُّجاعُ فأخَذ أُهْبةَ القِتالِ والتِّجارةِ فلم يَجِدوا به أحدًا، وتسوَّقوا تَسوَّقوا: أي: باعوا واشتروا. ينظر: ((الصحاح)) للجوهري (4/1499). ، فأنزَل اللهُ تعالى: فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ [آل عمران: 174])) أخرجه النسائي في ((السنن الكبرى)) (11083)، والطبراني (11/247) (11632). قال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (6/124): رجاله رجال الصحيح غير محمَّد بن منصور الجواز وهو ثقة. وصحَّح إسنادَه الشوكانيُّ في ((تفسير الشوكاني)) (1/597)، وصحَّحه الوادعيُّ في ((صحيح أسباب النزول)) (66). وقال ابن حجر في ((فتح الباري)) (8/76): رجاله رجال الصحيح إلا أن المحفوظ إرساله عن عكرمة ليس فيه ابن عباس .
فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ
أي: انصرَفَ الصَّحابةُ الَّذين استجابوا للهِ تعالى ورسولِه تأهُّبًا لردعِ المشركين، انصرَفوا مِن مَنطقةِ حمراءِ الأسدِ دون أن يَلقَوْا بها عَدوًّا، راجعين بأَجْرِ الجهادِ في سبيله، وبالأرباحِ الَّتي نالوها من الاتِّجارِ هناك يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (6/253)، ((تفسير ابن كثير)) (2/171)، ((تفسير السعدي)) (ص: 157)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (2/450-451). .
لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ
أي: لم ينَلْهم أيُّ أذًى أو مَكروهٍ مِن عدوِّهم يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (6/253)، ((تفسير ابن كثير)) (2/171)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (2/451). .
وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ
أي: رجَعوا أيضًا برِضَا اللهِ تعالى عنهم؛ فقدْ أرْضَوُا اللهَ تعالى باستجابتِهم لِمَا أمَرهم به، وانقيادِهم لرسولِه عليه الصَّلاة والسَّلام لردعِ الأعداء يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (6/253)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (2/451). .
وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ
أي: إنَّ اللهَ تعالى صاحبُ الفضلِ الكبيرِ والإحسانِ العميمِ على عِبادِه، في الدُّنيا والآخِرَة، ومِن ذلك تَفضُّلُه على هؤلاءِ الصَّحابةِ الكرامِ بالعودةِ مِن غَزوِهم هذا سالِمين مِن العدوِّ، راجِعين برِضا اللهِ تعالى عنهم، وبما نالوه من الأُجورِ الأُخرويَّة، والمكاسِبِ الدُّنيويَّة يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (6/253)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (2/451). .
إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (175)
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
لَمَّا جزَى اللهُ تعالى الَّذين استجابوا بالسَّلامةِ والغَنيمة، ورغَّبهم فيما لديه لتولِّيهم إيَّاه، أَتْبَعَ ذلك بما يَزيدُهم بصيرةً من أنَّ المخوِّفَ لهم مَن كَيدُه ضعيفٌ، وأمْرُه هيِّنٌ خفيفٌ واهٍ سَخيفٌ، وهو الشَّيطان، وساق ذلك مَساقَ التَّعليل لِمَا قبْلَه، مِن حيازتِهم للفضلِ، وبُعدِهم عن السُّوءِ بأنَّ وليَّهم اللهُ، وعدوَّهم الشَّيطانُ، فقال التفاتًا إليهم بزيادةٍ في تنشيطِهم أو تشجيعِهم وتثبيتِهم يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (5/131). :
إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ
أي: إنَّما المخوِّفُ لكم في الحقيقةِ هو الشَّيطانُ، وقد أرادَ أنْ يُوقِعَ في قلوبِكم الخوفَ مِن أَنصارِه حِزبِ المشركين لترهَبوهم يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (6/255-256)، ((التفسير الوسيط)) للواحدي (1/523)، ((مجموع فتاوى ابن تيمية)) (1/56)، ((تفسير ابن كثير)) (2/172)، ((تفسير السعدي)) (ص: 157). .
فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ
أي: فلا تَخافوا مِن المشركين أولياءِ الشَّيطان، وخافوا مِن اللهِ تعالى وحْدَه إنْ كُنتم مؤمنين حقًّا؛ فهو الَّذي يَنصُر أولياءَه، ويملأ قلوبَهم أمنًا، ويَكفيهم شرَّ أعدائِهم يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (6/257)، ((مجموع فتاوى ابن تيمية)) (8/164)، ((تفسير ابن كثير)) (2/172)، ((تفسير السعدي)) (ص: 157). .
وَلَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا يُرِيدُ اللَّهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (176)
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
لَمَّا مدَح اللهُ تعالى سبحانه وتعالى المسارِعين في طاعتِه وطاعةِ رسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وختَم ذلك بالنَّهيِ عن الخوفِ من أولياءِ الشَّيطانِ، أعْقَبه بذَمِّ المسارِعين في الكُفرِ، والنَّهيِ عن الحُزنِ مِن أجلِهم يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (3/441)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (5/132-133). ، فقال:
وَلَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ
أي: لا يُصيبك الحزنُ- يا محمَّدُ- مِن هؤلاءِ الَّذين يُبادِرون بأقوالِهم وأَفعالِهم مُتعجِّلين الوقوعَ في الكفرِ، أو التَّوغُّلَ فيه يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (6/257)، ((تفسير ابن كثير)) (2/173)، ((تفسير السعدي)) (ص: 157)، ((تفسير ابن عاشور)) (4/172). .
إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا
أي: إنَّ هؤلاءِ لن يُلحِقوا باللهِ بمسارعتِهم في الكفرِ، أيَّ نوعٍ من أنواعِ الأذى، صغيرًا كان أو كبيرًا يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (6/257)، ((تفسير السعدي)) (ص: 157-158)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (2/460). .
يُرِيدُ اللَّهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ
أي: يُريدُ اللهُ تعالى بمسارعتِهم في الكُفرِ أنْ يَخذُلَهم، فلا يكونَ لهم أيُّ نصيبٍ مِن نعيم الآخرةِ، قليلًا كان أو كثيرًا يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (6/258)، ((تفسير ابن كثير)) (2/173)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (2/461). .
وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ
أي: إنَّهم مع حِرمانِهم من نعيمِ الآخرة، لهم عقوبةٌ كبيرةٌ عند الله تعالى يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (6/258)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (2/461). .

الفوائد التربوية:

1- لا تتمُّ استجابةُ العبد لله إلَّا باستجابته للرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، بتلقِّي الرِّسالة منه، والنَّصيحة له؛ نَستفيدُ ذلك من قوله تعالى: الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (3/435). .
2- المصائِبُ محكٌّ لمعرفةِ الرِّجال، فلولا فَضلُ الصَّحابة ومَيزتُهم عن الخَلْق ما خرَجوا بعد أنْ أصابَهم القَرحُ؛ قال تعالى: الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (2/448). .
3- على المؤمنِ كلَّما ألَمَّت به المصائبُ أن يلجأَ إلى ربِّه، ويَزدادَ إيمانًا به؛ لقوله: الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (2/449). ، فالَّذي يكفي المؤمنين شرَّ النَّاس هو اللهُ تعالى؛ فالواجبُ على المؤمنين المبالَغةُ في التَّوكُّلِ عليه، وربطُ أمورِهم به تعالى يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (3/439، 437). .
4- الإيمانُ يَزيدُ بالطَّاعاتِ، وينقُصُ بالمعصيةِ؛ كما في قوله تعالى: فَزَادَهُمْ إِيمَانًا يُنظر: ((تفسير الرازي)) (9/434)، ((تفسير أبي حيان)) (3/437). .

الفَوائِدُ العِلميَّةُ واللَّطائِف:

1- أنَّ الحسْبَ هو اللهُ وحده، ولا أحَدَ معه؛ لقوله تعالى: حَسْبُنَا اللَّهُ، ولم يقولوا: حسبُنا اللهُ ورسولُه، بل قالوا: حسبُنا اللهُ وحده؛ فالله وحده هو الحسْبُ، كما أنَّه وحده المتوكَّلُ عليه يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (2/450). .
2- إثباتُ اسم الْوَكِيلُ للهِ تعالى؛ لأنَّ تقديرَ الآية: ونِعْمَ الوكيلُ هو، وقد ذكَر اللهُ تعالى في آيةٍ أخرى أنَّه على كلِّ شيء وكيلٌ؛ فـ: (الوكيلُ) مِن أسماء الله تعالى، ومعناه المتكفِّلُ بشؤونِ عباده، وليس معناه القائمَ بالأمرِ نيابةً عنهم يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (2/450). .
3- إثباتُ الرِّضا لله؛ لقوله: رِضْوَانَ اللَّهِ، والرِّضا: صفةٌ من صفاتِ الله الفِعليَّةِ يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (2/453). .
4- في قولِه تعالى: فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ أنَّ الإنسانَ إذا عَمِل العملَ وسعَى فيه ولم يُكمِلْه، كُتِب له أجرٌ كاملٌ يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (2/452). .
5- مفهومُ قوله تعالى: يُرِيدُ اللَّهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ أنَّ الكافرَ قد يكونُ له حظٌّ في الدُّنيا، وكُفرُه لا يمنَعُه مِن الحظِّ في الدُّنيا يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (2/463). .

بلاغة الآيات:

1- قوله: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ: (مِن) في قوله: مِنْهُمْ للبَيانِ وليست للتَّبعيض، والمقصودُ مِن ذِكرِ الوصفينِ المدحُ والتَّعليل لا التقييد؛ لأنَّ المستجيبينَ كلَّهم مُحسِنون مُتَّقون [5515] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (2/48)، ((تفسير أبي السعود)) (2/113). ، وعبَّر بـ(مِن) الَّتي تصلُحُ للبيانِ والبعضِ؛ ليدومَ رغَبُهم ورهَبُهم [5516] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (5/123). .
2- قوله تعالى: الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ:
- جِيء في قولِه تعالى: الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ بإعادةِ الموصولِ (الَّذين) دون أن تُعطَفَ الصِّلةُ على الصِّلةِ الأولى في قولِه تعالى: الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ؛ اهتمامًا بشأنِ الصِّلة الثَّانية حتَّى لا تكونَ كجُزءِ صِلةٍ يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (4/168). .
- وفي قولِه: الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ التعبيرُ بلفظِ العمومِ معَ إرادةِ الخُصوصِ حيثُ عبَّر بـالنَّاس والمرادُ بعضُ الناسِ وليس كلَّهم، وهذا أسلوبٌ لُغَويٌّ لا يخرُجُ عن قواعدِ اللُّغة العربيَّة، والمرادُ بعضٌ من النَّاس يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (2/449). .
3- قوله: فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ: فيه لفٌّ ونَشرٌ مرتَّبٌ، مع طَيِّ ذِكرِ الملفوفِ والمنشورِ، وهما (السَّلامة بالأجسامِ) الَّتي تعودُ إلى قوله: بِنِعْمَةٍ، و(الرِّبح بالتِّجارة) الَّذي يعودُ إلى قولِه: وَفَضْلٍ [5519] يُنظر: ((إعراب القرآن وبيانه)) لمحيي الدين درويش (2/113)، ((دليل البلاغة القرآنية)) للدبل (ص: 584). .
- في قوله: فَانْقَلَبُوا إيجازٌ؛ فإنَّه يدُلُّ على أنَّهم خرَجوا للقاءِ العدوِّ، وأنَّهم لم يلقَوْا كيدًا، فلم يلبثوا أنِ انقلَبوا إلى أهليهم، ومِثلُ هذا الحذفِ الَّذي يدُلُّ عليه المذكورُ بمجرَّدِ ذِكرِه كثيرٌ في القرآنِ يُنظر: ((تفسير المنار)) لمحمد رشيد رضا (4/200). .
- قوله: مِنَ اللَّهِ: وقَع صفةً لـنِعْمَةٍ؛ تأكيدًا لفخامتِها الذَّاتيَّةِ الَّتي يُفيدها التَّنكيرُ بالفَخامةِ الإضافيَّةِ، أي: نِعمة كائِنة مِن الله تعالى [5521] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (2/114). .
4- قوله: وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ خبرٌ فيه تحسيرٌ للمتخلِّفِ وتخطئةُ رأيِه حيثُ حَرَمَ نفْسَه ما فازوا به ((تفسير البيضاوي)) (2/49). .
- وكرَّر الاسمَ العظيمَ (الله)؛ لبيانِ عِظَمِ الأمرِ يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (5/131). .
5- قوله: وَلَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ: فيه تضمينُ الفِعل يُسَارِعُونَ معنى الفِعل (يَقعون)؛ حيث عُدِّي بـ(في)؛ إشارةً إلى استقرارِهم في الكفرِ، ودوامِ ملابَستهم له في مبدأِ المسارَعةِ ومُنتهاها، وأنَّهم يَعجَلون إلى إظهارِه وتأييدِه، والعملِ به عند سُنوحِ الفُرص، ويَحرِصون على إلقائِه في نفوسِ النَّاس، فعبَّر عن هذا المعنى بقوله: يُسَارِعُونَ، ولو عُدِّي بـ(إلى) لفُهِم منه أنَّهم لم يَكفُروا عند المسارَعة يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (4/172- 173). ، وأمَّا إيثارُ كلمة (إلى) في قولِه تعالى: وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ [آل عمران: 133] ؛ فلأنَّ المغفرةَ والجنَّةَ مُنتهَى المسارعةِ يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (2/115-116). .
6- قوله: إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّه شيئًا: تعليلٌ للنَّهي، وتكميلٌ للتَّسلية، بتحقيق نفْيِ ضررِهم أبدًا، أي: لن يضُرُّوا بذلك أولياءَ اللهِ ألبتَّةَ، وتعليقُ نفيِ الضَّررِ به تعالى؛ لتشريفِهم، والإيذانِ بأنَّ مضارَّتَهم بمنزلةِ مضارَّتِه سبحانه، وفيه مزيدُ مبالَغةٍ في التَّسليةِ [5526] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (2/116). .
- وفيه: تعريضٌ ظاهرٌ باقتصارِ الضَّررِ عليهم، كأنَّه قيل: وإنَّما يضُرُّون أنفسَهم [5527] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (2/116). .
- وتَنكيرُ قوله: شيئًا مع تنوينِه- الَّذي يَزيد النَّكرةَ شياعًا وتنكيرًا، وقلَّةً وحقارةً-؛ لتأكيدِ ما هم عليه من القلَّةِ والحقارةِ، وضآلةِ الشَّأنِ [5528] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (2/116)، ((إعراب القرآن وبيانه)) لمحيي الدين درويش (2/114). .
- وموقع (إنَّ) في مِثل هذا المقامِ لإفادةِ التَّعليلِ؛ فإنها تُغني غَناءَ فاء التَّسبُّب [5529] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (4/173). .
7- قوله: يريدُ اللَّهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ: استئنافٌ مبيِّن لسرِّ ابتلائِهم بما هم فيه مِن الانهماكِ في الكفرِ [5530] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (2/116). .
- وعبَّر بصِيغة الاستقبالِ يُرِيدُ؛ للدَّلالةِ على دَوامِ الإرادةِ واستمرارِها [5531] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (2/116). .