موسوعة التفسير

سورة الزمر
الآيات (32-35)

ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ

غريب الكلمات:

مَثْوًى: أي: منزلٌ ومقامٌ ومَأوًى، والثَّواءُ: الإقامةُ مع الاستِقرارِ [697] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 410)، ((تفسير ابن جرير)) (21/197)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 424)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1 /393)، ((المفردات)) للراغب (ص: 181)، ((تفسير القرطبي)) (16/235)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 295). .
لِيُكَفِّرَ: أي: لِيَستُرَ، ولا يؤاخِذَ، وأصلُ (كفر): سترٌ وتغطيةٌ [698] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/191)، ((المفردات)) للراغب (ص: 714)، ((تفسير القرطبي)) (15/257)، ((تفسير الشوكاني)) (5/54). .

المعنى الإجمالي:

يقولُ تعالى محذِّرًا المشركينَ الَّذين افتَرَوا على الله، وكذَّبوا بالحقِّ: لا أحَدَ أظْلَمُ مِمَّن كذَبَ على اللهِ، وكذَّبَ بالحَقِّ إذ جاءَه مِن قِبَلِ الرَّسولِ، أليس في جَهنَّمَ مُستقَرٌّ للكافِرينَ؟
ثمَّ يُبيِّنُ سبحانَه حُسْنَ عاقِبةِ أهلِ الصِّدقِ والإيمانِ، فيقولُ: والَّذين دَعَوا إلى القُرآنِ وما اشتمَلَ عليه مِنَ الحَقِّ، وصَدَّقوا به، أولئكَ هم المتَّقونَ. لهم عِندَ رَبِّهم ما يَشاؤونَ، وذلك جزاءُ الَّذين أحْسَنوا في الدُّنيا؛ لِيُكفِّرَ اللهُ عن المحسِنينَ أسْوَأَ الَّذي عَمِلوه مِنَ السَّيِّئاتِ، ويَجزيَهم اللهُ ثوابَهم بأحسَنِ الَّذي كانوا يَعمَلونَه في الدُّنيا.

تفسير الآيات:

فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ (32).
فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ.    
أي: لا أحَدَ أظلَمُ مِمَّن كذَبَ على اللهِ، فنَسَب إليه باطِلًا -كمَن زعَمَ أنَّ لله شُرَكاءَ في عبادتِه- وكذَّب بالحَقِّ المُشتَمِلِ على الصِّدقِ حينَ بلَغَه [699] يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (3/677)، ((تفسير ابن جرير)) (20/203)، ((تفسير القرطبي)) (15/256)، ((تفسير السعدي)) (ص: 724)، ((تفسير ابن عاشور)) (24/5، 6)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الزمر)) (ص: 230-232). قال الماوَرْدي: (وفي «الصِّدقِ» قَولانِ؛ أحَدُهما: أنَّه لا إلهَ إلَّا اللهُ. قاله ابنُ عبَّاسٍ. الثَّاني: القُرآنُ. قاله مجاهِدٌ وقَتادةُ. ويحتمِلُ ثالثًا: أنَّه البَعثُ والجَزاءُ). ((تفسير الماوردي)) (5/126). ممَّن اختار أنَّ المرادَ بالصِّدقِ هنا: التَّوحيدُ: مقاتلُ بنُ سُلَيمانَ. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (3/677). وممَّن اختار أنَّ المرادَ: الإخبارُ بوحدانيَّةِ الله تعالى، وأنَّه يَبعَثُ عبادَه للجزاءِ: البِقاعي. يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (16/503، 504). وممَّن اختار أنَّ المرادَ بالصِّدق هنا: القُرآنُ: ابنُ جرير، وابنُ أبي زَمَنِين، والثعلبيُّ، والسمعاني، والبغوي، والقرطبي، والخازن، وابن عاشور. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/203)، ((تفسير ابن أبي زمنين)) (4/112)، ((تفسير الثعلبي)) (8/235)، ((تفسير السمعاني)) (4/469)، ((تفسير البغوي)) (4/89)، ((تفسير القرطبي)) (15/256)، ((تفسير الخازن)) (4/57)، ((تفسير ابن عاشور)) (24/6). وممَّن اختار أنَّ المرادَ: التَّوحيدُ والقرآنُ: السمرقنديُّ، وابنُ الجوزي. يُنظر: ((تفسير السمرقندي)) (3/186)، ((تفسير ابن الجوزي)) (4/18). وممَّن اختار العمومَ، وأنَّ المرادَ: ما جاء به محمَّدٌ صلَّى الله عليه وسلَّم: الزمخشري، وابن عطية، والبيضاوي، وأبو حيَّان، والشوكاني. يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/128)، ((تفسير ابن عطية)) (4/531)، ((تفسير البيضاوي)) (5/42)، ((تفسير أبي حيان)) (9/202)، ((تفسير الشوكاني)) (4/530). قال ابن عثيمين: (قوله تعالى: وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ أي: بما كان صادِقًا؛ سواءٌ في القرآنِ أو في السُّنَّةِ، فإنَّه داخلٌ في قولِه تعالى: وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ). ((تفسير ابن عثيمين- سورة الزمر)) (ص: 232). .
كما قال تعالى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآَيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ [الأنعام: 21] .
وقال سُبحانَه: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ [العنكبوت: 68] .
وقال تبارك وتعالى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الْإِسْلَامِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [الصف: 7] .
أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ.
أي: أليس في جَهنَّمَ مَأوًى ومُستَقَرٌّ لأولئك الَّذين كَفَروا؛ بكَذِبِهم على اللهِ، وتَكذيبِهم بالصِّدقِ لَمَّا جاءهم، وكذلك لِكُلِّ كافِرٍ باللهِ تعالى [700] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/203)، ((تفسير القرطبي)) (15/256)، ((تفسير السعدي)) (ص: 724)، ((تفسير ابن عاشور)) (24/7)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الزمر)) (ص: 232-234). ؟
وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (33).
مناسبة الآية لما قبلها:
لَمَّا ذكَرَ تعالى الكاذِبَ المكَذِّبَ، وجِنايتَه وعُقوبتَه؛ ذكَرَ الصَّادِقَ المصَدِّقَ وثَوابَه [701] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 724). .
وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (33).
أي: والَّذين دَعَوا إلى القُرآنِ وما اشتمَلَ عليه مِنَ الحَقِّ، وصدَّقوا به: هم الَّذين تَتحَقَّقُ فيهم صِفةُ التَّقْوى لله تعالى [702] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/206، 208)، ((منهاج السنة)) لابن تيمية (2/33)، ((تفسير ابن كثير)) (7/99)، ((تفسير السعدي)) (ص: 724)، ((تفسير ابن عاشور)) (24/7)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الزمر)) (ص: 241-244). قال ابن جرير: (اختَلَف أهلُ التَّأويلِ في الَّذي جاءَ بالصِّدْقِ وصَدَّق به، وما ذلك؟ فقال بعضُهم: الَّذي جاءَ بالصِّدْقِ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم. قالوا: والصِّدْقُ الَّذي جاء به: لا إلهَ إلَّا اللهُ، والَّذي صَدَّق به أيضًا هو رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم... وقال آخَرونَ: الَّذي جاء بالصِّدْقِ: رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، والَّذي صَدَّقَ به: أبو بكرٍ رَضِيَ اللهُ عنه... وقال آخَرونَ: الَّذي جاء بالصَّدْقِ: رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، والصِّدْقُ: القرآنُ، والمُصَدِّقون به: المؤمِنونَ... وقال آخَرونَ: الَّذي جاء بالصِّدْقِ جبريلُ، والصِّدْقُ: القرآنُ الَّذي جاء به مِن عِنْدِ اللهِ، وصَدَّق به رسولُ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم... وقال آخَرونَ: الَّذي جاء بالصِّدْقِ: المؤمِنونِ، والصِّدْقُ: القرآنُ، وهم المُصَدِّقون به ...). ((تفسير ابن جرير)) (20/204، 205). ويُنظر: ((تفسير الماوردي)) (5/126). قال ابنُ تيميَّةَ: (ذكر البخاريُّ في «صحيحِه» تفسيرَ مجاهِدٍ، وهو أصَحُّ تفاسيرِ التَّابِعينَ، قال: «وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ القُرآنِ، وَصَدَّقَ بِهِ المؤمِنُ يجيءُ يومَ القيامةِ يقولُ: هذا الَّذي أعطَيْتَني عَمِلتُ بما فيه». فذكَرَ الصِّدقَ والمصَدِّقَ به مُثْنيًا عليه، وذكَرَ الكاذِبَ والمكَذِّبَ للحَقِّ، وهما نوعانِ مِن القَولِ مَلْعونانِ هما وأهلُهما). ((الاستقامة)) (1/224، 225). ويُنظر: ((صحيح البخاري)) (6/125) و(9/152). وقال ابنُ كثير: (وهذا القولُ عن مُجاهِدٍ يَشملُ كلَّ المؤمنينَ؛ فإنَّ المؤمنَ يقولُ الحقَّ ويَعمَلُ به، والرَّسولُ صلَّى الله عليه وسلَّم أَوْلى النَّاسِ بالدُّخولِ في هذه الآيةِ على هذا التَّفسيرِ؛ فإنَّه جاء بالصِّدقِ، وصَدَّقَ المُرسَلِينَ، وآمَنَ بما أُنزِل إليه مِن ربِّه والمؤمنونَ). ((تفسير ابن كثير)) (7/99). وقال ابنُ تيميَّةَ: (لَفظُ الآيةِ عامٌّ مُطلَقٌ، لا يَختَصُّ بأبي بَكرٍ ولا بعَليٍّ، بل كلُّ مَن دخَلَ في عُمومِها دخَل في حُكمِها، ولا رَيبَ أنَّ أبا بكرٍ وعُمَرَ وعُثمانَ وعَليًّا أحَقُّ هذه الأمَّةِ بالدُّخولِ فيها، لكِنَّها لا تختَصُّ بهم، وقد قال تعالى: فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ * وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ [الزمر: 32، 33] الآيةَ، فقد ذمَّ اللهُ سبحانه وتعالى الكاذِبَ على الله والمكذِّبَ بالصِّدقِ، وهذا ذمٌّ عامٌّ). ((منهاج السنة النبوية)) (7/189، 190). ويُنظر: ((مقدمة في أصول التفسير)) لابن تيمية (ص: 37). وقال ابن جرير: (والصَّوابُ مِن القَولِ في ذلك أن يُقالَ: إنَّ اللهَ تعالى ذِكرُه عَنى بقولِه: وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ كلَّ مَن دعا إلى توحيدِ الله، وتصديقِ رُسُلِه، والعملِ بما ابتُعِث به رسولُه صلَّى الله عليه وسلَّم؛ مِن بيْنِ رسولِ الله وأتْباعِه والمؤمنينَ به، وأن يُقالَ: الصِّدقُ هو القرآنُ، وشَهادةُ أنْ لا إلهَ إلَّا اللهُ، والمُصَدِّقُ به: المؤمنونَ بالقرآنِ، مِن جميعِ خَلْقِ الله كائنًا مَن كان، مِن نبيِّ الله وأتْباعِه...). ثم ذكَرَ حُجَّتَه في ترجيحِ ذلك. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/206). وقال ابن عطيَّة: (قوله تعالى: وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ معادلٌ لقولِه: فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ [الزمر: 32]، فَمَنْ هنالك للجميعِ والعُمومِ، فكذلك هاهنا هي للجنسِ أيضًا، كأنَّه قال: والفريقُ الَّذي جاء بعضُه بالصِّدقِ وصدَّق بعضُه، ويستقيمُ المعنى واللَّفظُ على هذا التَّرتيبِ ...، وهو أصْوَبُ الأقوالِ). ((تفسير ابن عطية)) (4/531). وقال السعدي: (وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ في قولِه وعمَلِه، فدخل في ذلك الأنبياءُ ومَن قام مَقامَهم، ممَّن صدَق فيما قاله عن خبرِ الله وأحكامِه، وفيما فعَلَه مِن خِصالِ الصِّدقِ. وَصَدَّقَ بِهِ أي: بالصِّدقِ). ((تفسير السعدي)) (ص: 724). ويُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الزمر)) (ص: 241). .
لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ (34).
مناسبة الآية لما قبلها:
لَمَّا مَدَحَهم على تَقْواهم؛ قال في جوابِ مَن سأَلَ عن ثَوابِهم، لافِتًا القَولَ إلى صِفةِ الإحسانِ تعريفًا بمَزيدِ إكرامِهم [703] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (16/506). :
لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ.
أي: لأولئك المتَّقينَ عندَ رَبِّهم يومَ القيامةِ ما تَشتَهيه أنفُسُهم في الجنَّةِ [704] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/208)، ((تفسير القرطبي)) (15/257)، ((تفسير ابن كثير)) (7/99). .
كما قال تعالى: وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ [الشورى: 22] .
وقال سُبحانَه: لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ [ق: 35] .
ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ.
أي: ذلك النَّعيمُ ثَوابُ الَّذين أحسَنوا في الدُّنيا [705] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/208)، ((تفسير القرطبي)) (15/257)، ((تفسير السعدي)) (ص: 724). قوله: الْمُحْسِنِينَ هم الَّذين أحسَنوا في عبادةِ الله، فعبَدوه كأنَّهم يَرَوْنه، فإن لم يَكونوا يَرَوْنه فإنَّه يَراهم، وأحسَنوا إلى عِبادِ الله. يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 724)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الزمر)) (ص: 246). قال ابن عاشور: (الإحسانُ: هو كمالُ التَّقْوى؛ لأنَّه فسَّره النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بأنَّه: «أن تَعبُدَ اللهَ كأنَّك تَراه» [البخاريُّ «50»، ومسلم «9»]). ((تفسير ابن عاشور)) (24/9). .
لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (35).
لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا.
أي: لِيُكفِّرَ [706] قيل: التَّعليلُ هنا راجِعٌ إلى جزاء المحسِنينَ، أي: وجزى هؤلاء المحسِنينَ رَبُّهم بإحسانِهم؛ كي يُكَفِّرَ عنهم أسْوَأَ الَّذي عَمِلوه في الدُّنيا مِن أعمالٍ. وممَّن ذهب إلى هذا المعنى في الجملةِ: ابنُ جرير، ومكِّي، والكرماني. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/208)، ((الهداية إلى بلوغ النهاية)) لمكي (10/6341)، ((تفسير الكرماني)) (2/1014). قال الرسعني: (قوله تعالى: لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا اللَّامُ مِن صِلةِ قولِه تعالى: لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ [الزمر: 34] ). ((تفسير الرسعني)) (6/552). وقال أبو السعود: (لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا إلخ مُتعلِّقٌ بقولِه تعالى: لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ [الزمر: 34] ، لكنْ لا باعتِبارِ مَنطوقِه؛ ضرورةَ أنَّ التَّكفيرَ المذكورَ لا يُتصَوَّرُ كَوْنُه غايةً لِثُبوتِ ما يَشاؤونَ لهم في الآخرةِ، كيف لا وهو بعضُ ما سيَثبُتُ لهم فيها، بل باعتِبارِ فَحْواهُ؛ فإنَّه حيثُ لم يكنْ إخبارًا بما ثبت لهم فيما مَضَى -بل بما سيَثبُتُ لهم فيما سيأتي- كان في معنَى الوعدِ به). ((تفسير أبي السعود)) (7/254). وقيل: التَّعليلُ راجِعٌ إلى الإحسانِ، أي: لَمَّا كان المحسِنُ مَن جَعَل أكبَرَ ذُنوبِه نُصبَ عَينَيه، وعَمِل على هَدْمِه؛ علَّل الإحسانَ بقَولِه: لِيُكَفِّرَ، كأنَّه قال: المحسِنون الَّذين أحسَنوا لهذا الغَرَضِ. وممَّن ذهب إلى هذا المعنى: البِقاعي. يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (16/507). وقيل: اللَّامُ في قولِه تعالى: لِيُكَفِّرَ لامُ العاقبةِ، أي: عاقِبةُ التَّقْوى أن يُكفِّرَ اللهُ عنهم أسْوَأَ الَّذي عَمِلوا. واستظهَر هذا المعنى: ابنُ عثيمين. يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الزمر)) (ص: 248). وقال النَّيسابوري: (قولُه: لِيُكَفِّرَ ظاهرُه تعلُّقُه بـ يَشَاءُونَ؛ فتكونُ لامَ العاقبةِ). ((تفسير النيسابوري)) (6/6). ويحتمِلُ أن تكونَ للتَّعليلِ، بمعنى: أنَّهم اتَّقَوُا اللهَ؛ مِن أجْلِ التَّكفيرِ. ذكره ابنُ عثيمين. يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الزمر)) (ص: 248). اللهُ عن المُحسِنينَ أسْوَأَ الَّذي عَمِلوه مِنَ السَّيِّئاتِ [707] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/208)، ((تفسير الماوردي)) (5/127)، ((تفسير أبي حيان)) (9/204)، ((جامع العلوم والحكم)) لابن رجب (1/441)، ((تفسير الشوكاني)) (4/531)، ((تفسير السعدي)) (ص: 724)، ((تفسير ابن عاشور)) (24/10). قال ابنُ عاشور: (وأَسْوَأَ يَجوزُ أن يكونَ باقيًا على ظاهرِ اسمِ التَّفضيلِ مِن اقتِضاءِ مُفَضَّلٍ عليه... ويجوزُ أن يكونَ «أَسْوَأ» مَسْلوبَ المُفاضَلةِ). ((تفسير ابن عاشور)) (24/10). والقولُ بأنَّ أسْوَأَ اسمُ تفضيلٍ: هو ظاهرُ اختيارِ ابنِ جرير، ومكِّي، وابن الجوزي، واختاره الرسعني، واستظهره أبو حيان، وهو اختيار الشوكاني. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/208)، ((الهداية إلى بلوغ النهاية)) لمكي (10/6341)، ((تفسير ابن الجوزي)) (4/19)، ((تفسير الرسعني)) (6/552)، ((تفسير أبي حيان)) (9/204)، ((تفسير الشوكاني)) (4/531). وممَّن اختار أنَّ المعنى: أنَّ اللهَ تعالى يُكَفِّرُ عنهم أسْوَأَ أعمالِهم، فما ظَنُّك بغيرِ الأسْوَأِ، فإذا غفَر لهم ما هو الأسْوَأُ مِن أعمالِهم غفَر لهم ما دونَه بطريقةِ الأَوْلى: الرسعنيُّ، والشوكاني. يُنظر: ((تفسير الرسعني)) (6/552)، ((تفسير الشوكاني)) (4/531). وقال الماوَرْدي: (قولُه عزَّ وجَلَّ: لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا قبْلَ الإيمانِ والتَّوبةِ. ووَجْهٌ آخَرُ: أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا مِنَ الصَّغائِرِ؛ لأنَّهم يَتَّقونَ الكبائِرَ). ((تفسير الماوردي)) (5/127). وانتقَد الرَّسْعَنيُّ هذَينِ الوَجهَينِ بأنَّه لا معنَى لهما؛ لأنَّ مَدلولَ الأوَّلِ أنَّ المُصَدِّقَ لا يَعمَلُ عَمَلًا يُوصَفُ بالأَسوَأِ، ولأنَّ الثَّانيَ مُشعِرٌ أنَّ المُصدِّقَ لا يَقَعُ في كبيرةٍ. يُنظر: ((تفسير الرسعني)) (6/552). وقال الألوسي: (وقال غيرُ واحدٍ: «أفْعَلُ» على ما هو الشَّائعُ، والأسْوَأُ: الكفرُ السَّابقُ على التَّقْوى والإحسانِ، والمرادُ: تكفيرُ جميعِ ما سلَف منهم قبْلَ الإيمانِ مِن المعاصي بطريقٍ برهانيٍّ). ((تفسير الألوسي)) (12/260). وذكر ابنُ عاشور أنَّه بِناءً على هذا القولِ فالمرادُ بأسْوَأِ عَمَلِهم هو: أعظَمُه سُوءًا، وهو الشِّركُ. يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/10). وقال الرَّسْعَني: (وقيل: الَّذي فَرَطَ منهم هو عندَهم الأسْوَأُ؛ لاستِعظامِهم المعصيةَ، والحَسَنُ الَّذي يَعمَلونَه هو عندَ الله الأحسَنُ؛ لحُسنِ إخلاصِهم فيه؛ فلذلك ذَكَر سَيِّئَهم بالأسْوَأِ، وحَسَنَهم بالأحسَنِ). ((تفسير الرسعني)) (6/552). ويُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/128)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الزمر)) (ص: 250). وقال الألوسي: (لأنَّ التَّفضيلَ هنا مِن بابِ الزِّيادةِ المُطْلَقةِ مِن غيرِ نظرٍ إلى مُفَضَّلٍ عليه، نظرًا إلى وُصولِه إلى أقصى الغايةِ الكماليَّةِ، ثمَّ لَمَّا كانوا مُتَّقِينَ كامِلِي التُّقَى لم يكُنْ في عمَلِهم أسْوَأُ إلَّا فرضًا وتقديرًا). ((تفسير الألوسي)) (12/260). وممَّن نصَّ على أنَّ أَسْوَأَ بمعنى سَيِّئٍ، أي: أنَّه مَسلوبُ المُفاضَلةِ: جلالُ الدِّينِ المحلي. يُنظر: ((تفسير الجلالين)) (ص: 611). قال النسفي: (إضافةُ أَسْوَأَ و«أحسَن» مِن إضافةِ الشَّيءِ إلى ما هو بعضُه مِن غيرِ تفضيلٍ). ((تفسير النسفي)) (3/180). ويُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/128). وقال أبو السعود: (وإضافةُ الأسوأِ والأحسنِ إلى ما بعدَهما ليستْ مِن قبيلِ إضافةِ المفضَّلِ إلى المفضَّلِ عليه، بل مِن إضافةِ الشَّيءِ إلى بعضِه؛ للقصدِ إلى التَّحقيقِ والتَّوضيحِ، مِن غيرِ اعتبارِ تفضيلِه عليه، وإنَّما المُعتبرُ فيهما مطلقُ الفضلِ والزَّيادةِ، لا على المضافِ إليه المعيِّنِ بخصوصِه...، وحمْلُ الزِّيادةِ على الحقيقةِ وإنْ أمكَنَ في الأوَّلِ [أي: قولِه: أَسْوَأَ] بِناءً على أنَّ تخصيصَ الأسْوَأِ بالذِّكرِ لبيان تكفيرِ ما دُونَه بطريقِ الأولويَّةِ ضرورةَ استِلزامِ تكفيرِ الأسْوَأِ لتكفيرِ السَّيِّئِ، لكنْ لَمَّا لم يكُنْ ذلك في الأحسَنِ كان الأحسَنُ نظْمَهما في سلكٍ واحدٍ مِن الاعتِبارِ). ((تفسير أبي السعود)) (7/255). ويُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/10). وقال السعدي: (عَمَلُ الإنسانِ له ثَلاثُ حالاتٍ: إمَّا أسْوَأُ، أو أحسَنُ، أو لا أسْوَأُ ولا أحسَنُ؛ والقِسمُ الأخيرُ قِسمُ المباحاتِ وما لا يَتعَلَّقُ به ثَوابٌ ولا عِقابٌ، والأسْوَأُ: المعاصي كُلُّها، والأحسَنُ: الطَّاعاتُ كُلُّها؛ فبهذا التَّفصيلِ يَتبَيَّنُ معنى الآيةِ). ((تفسير السعدي)) (ص: 724). .
وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ.
مناسبتها لما قبلها:
لَمَّا ذَكَر سبحانَه ما يَدُلُّ على دفعِ المَضارِّ عنهم؛ ذَكَر ما يدُلُّ على جَلْبِ أعظَمِ المنافِعِ إليهم [708] يُنظر: ((تفسير الشوكاني)) (4/531). .
وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ.
أي: ويَجزيَهم اللهُ ثَوابَهم بأحسَنِ الَّذي كانوا يَعمَلونَه مِنَ الطَّاعاتِ [709] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/208)، ((تفسير السمرقندي)) (3/186)، ((تفسير القرطبي)) (15/257). قال أبو حيان: (والظَّاهرُ أنَّ بِأَحْسَنِ أفعَلُ تفضيلٍ، فقيل: لِينظرَ إلى أحسَنِ طاعاتِه فيُجزى الباقي في الجزاءِ على قياسِه، وإن تخلَّف عنه بالتَّقصيرِ. وقيل: بأحسَنِ ثَوابِ أعمالِهم. وقيل: بأحسَنَ مِن عمَلِهم، وهو الجنَّةُ، وهذا يَنْبو عنه بِأَحْسَنِ الَّذِي). ((تفسير أبي حيان)) (9/204، 205). وممَّن اختار أنَّ المعنى: يَجزيهم بأجرِ أحسَنِ الأعمالِ، وهي الجنَّةُ: الماوَرْديُّ، والقرطبيُّ. يُنظر: ((تفسير الماوردي)) (5/127)، ((تفسير القرطبي)) (15/257). وقيل: المرادُ بالأحسَنِ: الأحسَنُ مِن الطَّاعاتِ؛ فثَمَّ حَسَنٌ وأحسَنُ منها، فإذا كان جزاءُ أحسَنِ أعمالِهم أنَّ لهم ما يَشاؤونَ عندَ رَبِّهم، كان جزاءُ ما هو دونَ الأحسَنِ مِن أعمالِهم جَزاءً دُونَ ذلك. قاله ابنُ عاشور. يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/11). وممَّن نصَّ على أنَّ أحْسَنَ هنا بمعنى حَسَنٍ، أي: أنَّه مَسلوبُ المُفاضَلةِ: جلالُ الدِّينِ المحلِّي. يُنظر: ((تفسير الجلالين)) (ص: 611). وقيل: المعنى: يَجزيهم بمحاسِنِ أعمالِهم، ولا يَجزيهم بمَساوئِها. وممَّن اختاره: مقاتلُ بنُ سُلَيمانَ، والسمرقنديُّ، وابنُ الجوزي، والخازن، والعُلَيمي. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (3/677)، ((تفسير السمرقندي)) (3/186)، ((تفسير ابن الجوزي)) (4/19)، ((تفسير الخازن)) (4/58)، ((تفسير العليمي)) (6/70). وقيل: المرادُ بالأحسَنِ: الطَّاعاتُ كُلُّها. ومِمَّن ذهب إلى هذا القولِ: السعدي. يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 724). قال الشوكاني: (وإضافةُ الأحسَنِ إلى ما بَعْدَه ليست مِن إضافةِ المفَضَّلِ إلى المفَضَّلِ عليه، بل مِن إضافةِ الشَّيءِ إلى بَعضِه؛ قَصدًا إلى التَّوضيحِ، مِن غَيرِ اعتِبارِ تَفضيلٍ). ((تفسير الشوكاني)) (4/531). ويُنظر: ((تفسير النسفي)) (3/180). قال الزمخشري: (وأمَّا التَّفضيلُ فإيذانٌ بأنَّ... الحَسَنَ الَّذي يَعمَلونَه هو عندَ اللهِ الأحسَنُ؛ لحُسنِ إخلاصِهم فيه، فلذلك ذكَرَ... حَسَنَهم بالأحسَنِ). ((تفسير الزمخشري)) (4/128). وقيل: المعنى: أنَّ اللهَ يَعُدُّ لهم مَحاسِنَ أعمالِهم بأحسَنِها في زيادةِ الأجرِ وعِظَمِه؛ لفَرطِ إخلاصِهم فيها. ومِمَّن ذهب إلى هذا المعنى: البيضاوي، والشربيني. يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (5/43)، ((تفسير الشربيني)) (3/448). قال الألوسي: (جُوِّزَ أن يكونَ المعنى: لَنَجزيَنَّهم بحَسَبِ أحسَنِ أفرادِ أعمالِهم، أي: لَنُعطيَنَّهم بمُقابَلةِ الفَردِ الأَدنى مِن أعمالِهم ما نُعطيه بمُقابَلةِ الفَردِ الأعلى منها مِنَ الأجرِ الجَزيلِ، لا أنَّا نُعطي الأجرَ بحَسَبِ أفرادِها المُتفاوِتةِ في مَراتِبِ الحُسنِ بأنْ نَجزيَ الحَسَنَ منها بالحَسَنِ، والأحسَنَ بالأحسَنِ). ((تفسير الألوسي)) (7/461). وقال ابنُ عثيمين: (بَشَّرهم بأنَّه يَجزيهم أحسَنَ ما كانوا يَعمَلونَ، لا أنَّه يَجزيهم الحَسَنةَ بمِثلِها، بل أحسَنَ). ((تفسير ابن عثيمين- سورة الزمر)) (ص: 250). .
قال تعالى: وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [النحل: 96، 97].
وعن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: قال رَسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((إذا أحسَنَ أحَدُكم إسلامَه، فكُلُّ حَسَنةٍ يَعمَلُها تُكتَبُ له بعَشرِ أمثالِها إلى سَبْعِ مِئةِ ضِعفٍ، وكُلُّ سَيِّئةٍ يَعمَلُها تُكتَبُ له بمِثلِها )) [710] رواه البخاري (42) واللَّفظُ له، ومسلم (129). .

الفوائد التربوية:

1- تجِدُ كثيرًا من المُنتَسِبينَ إلى عِلمٍ ودينٍ لا يَكذِبونَ فيما يَقولونَه، بل لا يَقولونَ إلَّا الصِّدقَ، لكِنْ لا يَقبَلونَ ما يُخبِرُ به غَيرُهم مِنَ الصِّدقِ، بل يَحمِلُهم الهَوى والجَهلُ على تَكذيبِ غَيرِهم وإن كان صادِقًا؛ إمَّا تكذيبِ نَظيرِه، وإمَّا تكذيبِ مَن ليس مِن طائفتِه. ونَفْسُ تَكذيبِ الصَّادِقِ هو مِنَ الكَذِبِ؛ ولهذا قرَنَه بالكاذِبِ على اللهِ، فقال: فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ [711] يُنظر: ((منهاج السنة النبوية)) لابن تيمية (7/192). .
2- قال الله تعالى: وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ: هو مَن شَأنُه الصِّدقُ في قَولِه وعَمَلِه وحالِه، فالصِّدقُ: في هذه الثَّلاثةِ؛ فالصِّدقُ في الأقوالِ: استِواءُ اللِّسانِ على الأقوالِ كاستِواءِ السُّنبُلةِ على ساقِها، والصِّدقُ في الأعمالِ: استِواءُ الأفعالِ على الأمرِ والمُتابعةِ كاستِواءِ الرَّأسِ على الجَسَدِ، والصِّدقُ في الأحوالِ: استِواءُ أعمالِ القَلبِ والجوارِحِ على الإخلاصِ، واستِفراغُ الوُسعِ، وبَذْلُ الطَّاقةِ؛ فبذلك يكونُ العَبدُ مِن الَّذين جاؤوا بالصِّدقِ، وبحَسَبِ كمالِ هذه الأُمورِ فيه وقيامِها به تكونُ صِدِّيقيَّتُه [712] يُنظر: ((مدارج السالكين)) لابن القيم (2/258). ، ولا يَكْفي صِدقُك، بل لا بدَّ مِن صدقِك وتصديقِك للصادِقينَ، فكثيرٌ مِن النَّاسِ يَصدُقُ، ولكنْ يَمنَعُه مِن التَّصديقِ كِبْرٌ أو حسدٌ أو غيرُ ذلك [713] يُنظر: ((مدارج السالكين)) لابن القيم (1/473). ، فلا بدَّ في المدحِ مِن الصِّدقِ والتَّصديقِ؛ فصِدقُه يدُلُّ على عِلمِه وعدلِه، وتصديقُه يدُلُّ على تَواضُعِه وعدَمِ استِكبارِه [714] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 724). .
3- قولُه تعالى: ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ فيه الحَثُّ على الإحسانِ؛ والأمرُ بالإحسانِ والحَثُّ عليه كثيرٌ في الكتابِ والسُّنَّةِ، والإحسانُ يَتَضَمَّنُ الإحسانَ في عبادةِ اللهِ تعالى، والإحسانَ إلى عبادِ اللهِ تعالى، والإحسانُ إلى عبادِ اللهِ تعالى يكونُ بالقولِ وبالفعلِ وبالجاهِ وغيرِ ذلك مِن أنواعِ الإحسانِ، فلا تَدَّخِرْ وُسْعًا في بَذْلِ الإحسانِ إلى إخوانِك؛ فإنَّ ذلك ممَّا يكونُ سببًا لدُخولِ الجنَّةِ، ويكونُ أيضًا سببًا في عَونِ اللهِ تعالى لك؛ فإنَّ اللهَ تعالى في عَوْنِ العبدِ ما كان العبدُ في عَونِ أخيه [715] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الزمر)) (ص: 247). .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- قَولُه تعالى: فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ فيه أنَّ الكَذِبَ على اللهِ تعالى أظلَمُ أنواعِ الكَذِبِ، وإذا كان النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم يقولُ: ((إنَّ كَذِبًا علَيَّ ليس ككَذِبٍ على أحَدٍ !)) [716] أخرجه البخاري (1291)، ومسلم في مقدمة ((صحيحه)) (4) من حديث المُغيرةِ بنِ شُعْبةَ رضي الله عنه. ، فما بالُكم بالكَذِبِ على اللهِ تعالى الَّذي أرسَلَه [717] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الزمر)) (ص: 237). ؟!
2- قَولُه تعالى: فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ فيه سؤالٌ، فـ (أظلمُ) صيغةُ تفضيلٍ، أي: أنَّه يفوقُ غيرَه، ويفضلُه في الظُّلمِ، وإذا كان المعنى: لا أحدَ أظلمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ، فإنَّ هذا يُشكِلُ عليه آياتٌ أُخرى، كقولِه: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا [الأنعام: 93] ، وقولِه: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ [البقرة: 114] ، مما قد يُتوهَّمُ منه شِبهُ تعارضٍ.
الجواب من وجهين:
 أحدُهما: أنَّه لا تعارُضَ أصلًا بيْن الآياتِ؛ وإنَّما دلَّت الآياتُ على أنَّ كلَّ مَن ذُكِرَ في قولِه: فَمَنْ أَظْلَمُ لا يُمكِنُ أنْ يَفوقَه أحدٌ مِن أهلِ الدُّنيا في الظُّلمِ، إلَّا أنَّهم جميعًا مُتساوونَ لا يَفوقُ بعضُهم بعضًا، وهمْ يَفوقون غيرَهم في الظُّلمِ، كما لو قلْتَ: ليس في هذا البلدِ أعلَمُ مِن زَيدٍ، وليس فيه أعلَمُ مِن عَمرٍو -وزيدٌ وعمرٌو مُستويانِ في العِلمِ-؛ فتكون صادقًا، ولا مُعارَضةَ بيْن قولَيك.
الوجهُ الثَّاني: أنَّها تَتخصَّصُ بِصِلاتِها، وعليه فيكونُ المعنى: فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى [الأعراف: 37] : أنَّه لا أحَدَ مِن جِنسِ المفترينَ أظلَمُ ممَّن افتَرى على اللهِ كذِبًا، ولا أحَدَ مِن جِنسِ المانِعينَ أظْلَمُ ممَّن منَعَ مَساجِدَ اللهِ، ولا أحَدَ مِن جِنسِ المكذِّبينَ أظلَمُ ممَّنْ كذَبَ على اللهِ وكذَّبَ بالصِّدْقِ... وهكذا [718] يُنظر: ((العذب النمير)) للشنقيطي (1/512)، و(3/209). ويُنظر أيضًا: ((البرهان في علوم القرآن)) للزركشي (4/74-77). والوجهُ الأوَّلُ مُخرَّجٌ على قاعدةِ: (نفْيُ التَّفضيلِ لا يَستلزِمُ نفْيَ المُساواةِ). يُنظر: ((قواعد التفسير)) لخالد السبت (2/528). .
3- في قَولِه تعالى: فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وُجوبُ التَّحَرِّي في تفسيرِ القُرآنِ؛ لأنَّ المُفَسِّرَ للقُرآنِ شاهِدٌ على اللهِ تعالى بأنَّه أرادَ كذا وكذا، وقد يكونُ الأمرُ على خِلافِ ذلك، فيكونُ كاذِبًا على اللهِ [719] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الزمر)) (ص: 237). !
4- في قَولِه تعالى: فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ أنَّ مَنِ ادَّعَى النُّبُوَّةَ وهو كاذِبٌ فهو مِن أكفَرِ الكُفَّارِ، وأظلَمِ الظَّالِمينَ [720] يُنظر: ((الجواب الصحيح)) لابن تيمية (6/421). .
5- أنَّ مَن كَذَّبَ بالشَّيءِ المباشِرِ له فهو أعظمُ ممَّن كَذَّب بما سَمِع؛ لأنَّ الواسِطةَ بيْنَه وبيْنَ الواقعِ قد تُضْعِفُ مَقامَ الصِّدْقِ عندَه؛ لقَولِه تبارك وتعالى: إِذْ جَاءَهُ [721] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الزمر)) (ص: 240). .
6- قال تعالى: أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ في قَولِه: مَثْوًى بَيانُ خَطَأِ ما يُطلِقُه كَثيرٌ مِن النَّاسِ اليومَ: إذا مات الإنسانُ قالوا: ذَهَبَ إلى مَثواهُ الأخيرِ! فإذا جُعِلَ القَبرُ هو المَثوى الأخيرَ فلا بَعثَ، ولكِنَّ كَثيرًا مِن العامَّةِ يأخُذونَ الكَلِماتِ لا يُفَكِّرون في معناها، والمَثوى الأخيرُ هو إمَّا الجنَّةُ وإمَّا النَّارُ، وعلى هذا فيَجِبُ التَّنبُّهُ لهذه العبارةِ [722] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الزمر)) (ص: 240). !
7- قولُه تعالى: أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ فيه أنَّ المؤمنَ لا يَخْلُدُ في النَّارِ؛ لقولِه سُبحانَه وتعالى: مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ، والمؤمنُ ليستِ النَّارُ مَثوًى له! بل إنْ عُذِّبَ في النَّارِ - على قَدْرِ ذَنْبِه - فمآلُه إلى الجنَّةِ [723] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الزمر)) (ص: 240). .
8- في قَولِه تعالى: وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ فائدةٌ أصوليَّةٌ، وهي: أنَّ المَوصولَ مِن صِيَغِ العُمومِ؛ فقد أخبَر عن الاسمِ المَوصولِ (الَّذي) -وهو اسمٌ مُفرَدٌ- بكلمةٍ دالَّةٍ على الجَمعِ، فقال: أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ، ولم يقُلْ: هو المُتَّقي، وذلك لأنَّ الاسمَ الموصولَ يُفيدُ العُمومَ، وإن كان مُفرَدًا [724] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الزمر)) (ص: 241، 245). قال الشنقيطي: (قد تَقَرَّرَ عندَ العلماءِ أن لفظةَ «الَّذي» تأتي بمعنَى «الَّذين»، وإتيانُ «الَّذي» بمعنَى «الَّذين» أمْرٌ لا شَكَّ فيه، وهو كثيرٌ في القرآنِ وفي كلامِ العربِ، وإيضاحُه: أنَّ لفْظَ «الَّذي» مُفْرَدٌ، وأنَّ معناها جَمْعٌ؛ لأنَّه اسمٌ مَوصولٌ، والمَوصولاتُ صِيَغُ عُمومٍ؛ تَعُمُّ كلَّ ما تَشملُه صِلاتُها، فقد يُراعَى لفظُ «الَّذي» فيُفرَدُ، وقد يُراعى معناه وهو شاملٌ لِكُلِّ ما تَشملُه صِلَتُه فيَعُمُّ، ويكونُ بمعنَى الجَمعِ. وإتيانُ «الَّذي» بمعنَى «الَّذين» في القرآنِ العظيمِ وفي كلامِ العربِ كثيرٌ جِدًّا، فمِن أمثلتِه في القرآنِ العظيمِ: مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ [البقرة: 17] أي: كمثلِ الَّذينَ اسْتَوْقَدُوا، بدليلِ قولِه بعدَه يَلِيهِ: ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ [البقرة: 17] . وكقولِه تعالى: وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ؛ لأنَّ معناه: والَّذين جاؤوا بالصِّدقِ وصَدَّقُوا به، بدليلِ قولِه بعدَه: أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ). ((العذب النمير)) (5/630). .
9- في قَولِه تعالى: وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ مَدْحُ مَن جاء بالصِّدقِ وصَدَّق بالحَقِّ الَّذي جاءه، وهذه حالُ مَن لم يَقبَلْ إلَّا الصِّدقَ، ولم يَرُدَّ ما يَجيئُه به غَيرُه مِن الصِّدقِ، بل قَبِلَه ولم يُعارِضْ بيْنَهما، ولم يَدفَعْ أحَدَهما بالآخَرِ [725] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (18/240). ، وأمَّا مَن لم يُصَدِّقْ بما يَشُكُّ فيه فلا حَرَجَ عليه [726] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الزمر)) (ص: 245). .
10- في قَولِه تعالى: لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ سُؤالٌ: هذا الوَعدُ يَدخُلُ فيه كُلُّ ما يَرغَبُ المكَلَّفُ فيه، فإنْ قيلَ: لا شَكَّ أنَّ الكَمالَ مَحبوبٌ لِذَاتِه، مَرغوبٌ فيه لِذَاتِه، وأهلُ الجنَّةِ لا شَكَّ أنَّهم عُقَلاءُ، فإذا شاهَدوا الدَّرَجاتِ العاليةَ الَّتي هي للأنبياءِ وأكابِرِ الأَولياءِ، عَرَفوا أنَّها خَيراتٌ عاليةٌ، ودَرَجاتٌ كامِلةٌ، والعِلمُ بالشَّيءِ مِن حيثُ إنَّه كَمالٌ وخَيرٌ يُوجِبُ المَيلَ إليه، والرَّغبةَ فيه، وإذا كان كذلك فهم يَشاؤونَ حُصولَ تلك الدَّرَجاتِ لأنفُسِهم؛ فوَجَب حُصولُها لهم بحُكمِ هذه الآيةِ! وأيضًا فإنْ لم يَحصُلْ لهم ذلك المرادُ كانوا في الغُصَّةِ ووَحشةِ القَلبِ!
 الجوابُ: أنَّ اللهَ تعالى يُزيلُ الحِقدَ والحَسَدَ عن قُلوبِ أهلِ الآخِرةِ، وذلك يقتَضي أنَّ أحوالَهم في الآخرةِ بخِلافِ أحوالِهم في الدُّنيا [727] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (26/453). .
ويجوزُ أنَّ الله يُلهِمُهم أنْ يَشاؤوا ما لا يتجاوزُ قَدْرَ ما عيَّن اللهُ مِن الدَّرجاتِ في الجنَّةِ؛ فإنَّ أهلَ الجنَّةِ مُتفاوِتونَ في الدَّرَجاتِ.
ويجوزُ أنَّ مَا يَشَاءُونَ ممَّا يقعُ تحتَ أنظارِهم في قُصورِهم، ويَحجُبُ الله عنهم ما فوقَ ذلك بحيثُ لا يَسألون إلَّا ما هو مِن عطاءِ أمثالِهم، وهو عظيمٌ، ويَقلعُ اللهُ مِن نفوسِهم ما ليس مِن حُظوظِهم.
 ويجوزُ أنَّ مَا يَشَاءُونَ كنايةٌ عن سَعةِ ما يُعطَوْنَه [728] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/8، 9). .
11- في قَولِه تعالى: لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ أنَّهم سَلَّموا له في الأُولى ما يَشاءُ؛ فسَلَّم لهم في الأُخرى ما يَشاؤونَ [729] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (16/506). .
12- قال تعالى: وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ * لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ * لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ [الزمر: 33 - 35] فهؤلاء الصِّدِّيقونَ المُتَّقونَ قد أخبَرَ سُبحانَه أنَّ لهم أعمالًا سَيِّئةً يُكَفِّرُها، ولا رَيبَ أنَّها ظُلمٌ للنَّفْسِ، وقال تعالى: وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ * وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ [آل عمران: 133 - 135] ، فأخبَرَ سُبحانَه عن صِفاتِ المتَّقينَ، وأنَّهم يقَعُ منهم ظُلمُ النَّفْسِ، والفاحِشةُ، لكِنْ لا يُصِرُّونَ على ذلك [730] يُنظر: ((طريق الهجرتين)) لابن القيم (ص: 199). . فليس مِن شرطِ أولياءِ اللهِ المُتَّقِينَ ألَّا يَكونوا مُخْطِئِينَ في بعضِ الأشياءِ خطأً مغفورًا لهم! بل ولا مِن شرطِهم تَرْكُ الصَّغائرِ مُطلقًا! بل ولا مِن شرطِهم تَرْكُ الكبائرِ أو الكفرِ الَّذي تَعْقُبُه التَّوبةُ! فقد وَصَفَهم اللهُ تعالى بأنَّهم هم المُتَّقونَ -والمُتَّقون هم أولياءُ اللهِ-؛ ومع هذا فأَخْبَر أنَّه يُكَفِّرُ عنهم أسْوَأَ الَّذي عمِلوا [731] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (11/66). .
13- في قَولِه تعالى: أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا «أسوأُ» اسمُ تفضيلٍ، وهو على بابِه -وذلك على قولٍ-؛ فإذا كان اللهُ تعالى يُكَفِّرُ عنهم أسْوَأَ ما عَمِلوا، فما دونَه مِن بابِ أَولى، ويكونُ التَّعبيرُ بالأسْوَأِ مِن بابِ البِشارةِ لهم [732] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الزمر)) (ص: 249). ، وفيه دَلالةٌ على سُقوطِ العِقابِ عنهم على أكمَلِ الوُجوهِ، ومعنَى تكفيرِها أن يَستُرَها عليهم بالمَغفِرةِ [733] يُنظر: ((تفسير الشربيني)) (3/448). ، وقد عُلِمَ أنَّه إذا مُحِيَ الأكبَرُ انمحَى الأصغَرُ؛ لأنَّ الحَسَناتِ يُذهِبْنَ السَّيِّئاتِ؛ فلِلَّه دَرُّ أهلِ البَصائِرِ، والإخلاصِ في الإعلانِ والسَّرائِرِ [734] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (16/507). .
14- قَولُه تعالى: الَّذِي عَمِلُوا، وقولُه: الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ فيه أنَّ الخَطَراتِ الَّتي تَخطُرُ على القُلوبِ لا حُكمَ لها؛ وقد جاء الحديثُ مُؤَيِّدًا لذلك، فقال النَّبيُّ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: ((إنَّ اللهَ تَجاوَزَ عن أُمَّتي ما حَدَّثَتْ به أنفُسَها، ما لم تَعمَلْ أو تَتكلَّمْ )) [735] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الزمر)) (ص: 250). والحديث أخرجه البخاري (5269) واللَّفظُ له، ومسلمٌ (127) من حديث أبي هريرةَ رضي الله عنه. .
15- قال تعالى: وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ فمَن كان في هذه الدَّارِ مُحسِنًا في وَقتٍ ما، يَعبُدُ اللهَ كأنَّه يَراه؛ فهو في الآخِرةِ كُلَّ حينٍ يَراه [736] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (16/508). ! قال القُشَيْريُّ: (ثمَّ أحسَنُ الأعمالِ عليها أحسَنُ الثَّوابِ، وأحسَنُ الثَّوابِ الرُّؤيةُ؛ فيَجِبُ أن تكونَ على الدَّوامِ) [737] يُنظر: ((تفسير القشيري)) (3/282). .

بلاغة الآيات:

1- قولُه تعالى: فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ
- قولُه: فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ بيانٌ وتَفسيرٌ للَّذِين يكونُ بيْنَهم الخُصومةُ [738] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/127، 128)، ((تفسير أبي حيان)) (9/202، 203)، ((تفسير أبي السعود)) (7/254). .
- وأفادَتِ الفاءُ في قولِه: فَمَنْ أَظْلَمُ تَفْريعَ ما بعدَها على ما قَبْلَها تَفريعَ القَضاءِ عن الخُصومةِ الَّتي في قَولِه: ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ [الزمر: 31] ؛ فالاختِصامُ كُنِّيَ به عن الحُكمِ بيْنَهم فيما خالَفوا فيه وأنْكَروهُ [739] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/5). . وقد كُنِّيَ عن كَونِهِم مَدِينِينَ بتَحْقيقِ أنَّهم أظلَمُ؛ لأنَّ مِن العَدلِ ألَّا يُقَرَّ الظَّالِمُ على ظُلمِه، فإذا وُصِفَ الخَصمُ بأنَّه ظالِمٌ، عُلِمَ أنَّه مَحْكومٌ عليه [740] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/5). .
- وأيضًا في قوله: فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ قد عُدِلَ عن صَوغِ الحُكمِ عليهم بصِيغةِ الإخْبارِ إلى صَوغِه في صُورةِ الاستِفْهامِ؛ للإيماءِ إلى أنَّ السَّامِعَ لا يَسَعُه إلَّا الجَوابُ بأنَّهم أظلَمُ؛ فالاستِفهامُ كِنَايةٌ، مُرادٌ به أنَّهم أظلَمُ الظَّالِمِين، وأنَّه لا ظالِمَ أظلَمُ منهم، فآلَ مَعْناه إلى نَفيِ أنْ يكونَ فَريقٌ أظلَمَ منهم؛ فإنَّهم أتَوْا أصْنافًا مِن الظُّلمِ العَظيمِ: ظُلمِ الاعتِداءِ على حُرمةِ الرَّبِّ بالكَذِبِ في صِفاتِه؛ إذْ زَعَموا أنَّ له شُرَكاءَ في الرُّبوبيَّةِ، والكَذِبِ عليه بادِّعاءِ أنَّه أمَرَهم بما هم عليه مِن الباطِلِ، وظُلمِ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بتَكْذيبِه، وظُلمِ القُرآنِ بنِسْبَتِه إلى الباطِلِ، وظُلمِ المُؤمِنينَ بالأذى، وظُلمِ حَقائِقِ العالَمِ بقَلْبِها وإفْسادِها، وظُلمِ أنفُسِهم بإقْحامِها في العذابِ الخالِدِ [741] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/5، 6). .
- وعُدِلَ عن الإتيانِ بضَميرِهِم إلى الإتيانِ بالموصولِ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ؛ لِمَا في الصِّلةِ مِن الإيماءِ إلى وَجهِ كَونِهم أظلَمَ النَّاسِ، وإنَّما اقتُصِرَ في التَّعْليلِ على أنَّهم كَذَبوا على اللهِ، وكَذَّبوا بالصِّدقِ؛ لأنَّ هَذَينِ الكَذِبَينِ هُما جِماعُ ما أتَوْا به مِن الظُّلمِ [742] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (9/203)، ((تفسير ابن عاشور)) (24/6). .
- قولُه: إِذْ جَاءَهُ أي: وَقْتَ مَجيئِه، وهذا يدُلُّ على أنَّه كذَّبَ بالحَقِّ بمُجرَّدِ بُلوغِهِ إيَّاه بدُونِ مُهلةٍ، وفاجَأَهُ بالتَّكْذيبِ مِن غَيرِ فِكرٍ، ولا ارْتياءٍ، ولا نَظَرٍ، ومِن غَيرِ وَقفةٍ لإعْمالِ رُؤيةٍ، ولا اهتِمامٍ بمَيْزٍ بيْنَ حقٍّ وباطِلٍ، بلْ وَقتَ مَجيئِهِ كذَّبَ به [743] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/127، 128)، ((تفسير أبي حيان)) (9/202، 203)، ((تفسير أبي السعود)) (7/254)، ((تفسير ابن عاشور)) (24/6). !
- وجمُلةُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ مُبيِّنةٌ لِمَضْمونِ جُملةِ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ، أي: أنَّ ظُلمَهم أوجَبَ أنْ يَكونَ مَثْواهُم في جَهنَّمَ [744] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/6). .
- والاستِفْهامُ أَلَيْسَ تَقْريريٌّ، وإنَّما وُجِّهَ الاستِفْهامُ إلى نَفْيِ ما المقصودُ التَّقْريرُ به، جَرْيًا على الغالِبِ في الاستِفْهامِ التَّقْريريِّ، وهي طَريقةُ إرْخاءِ العِنانِ للمُقرَّرِ بحيثُ يُفتَحُ له بابُ الإنكارِ، عِلمًا مِن المُتكلِّمِ بأنَّ المُخاطَبَ لا يَسَعُه الإنكارُ، فلا يَلبَثُ أنْ يُقِرَّ بالإثباتِ. ويجوزُ أنْ يكونَ الاستِفْهامُ إنْكارِيًّا؛ ردًّا لاعتِقادِهِم أنَّهم ناجُونَ مِن النَّارِ، الدَّالِّ عليه تَصميمُهم على الإعْراضِ عن التَّدبُّرِ في دَعْوةِ القُرآنِ [745] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/6، 7)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (8/418). .
- وفيه تَوعُّدٌ للكافِرينَ تَوعُّدًا فيه احتِقارُهم على جِهةِ التَّوقيفِ [746] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (9/203). .
- وقولُه: لِلْكَافِرِينَ ممَّا قامَ فيه الظَّاهِرُ مَقامَ المُضمَرِ، أي: مَثوًى لهم، وفيه تَنبيهٌ على عِلَّةِ كَذِبِهم وتَكْذيبِهم، وهو الكُفرُ [747] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (9/203). ، وأفاد الإظهارُ في مَقامِ الإضمارِ أيضًا العمومَ -أي أنَّه مَثْوًى له ولغيرِه مِن الكافرينَ-، وتسجيلَ الوصفِ على هؤلاء بأنَّهم كفَّارٌ [748] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الزمر)) (ص: 232). .
أو التَّعريفُ في (الكافِرينَ) للجِنْسِ المُفيدِ للاستِغْراقِ، فشَمِل الكافِرينَ المُتحَدَّثَ عنهم شُمولًا أوَّلِيًّا، وتكونُ الجُملةُ مُفيدةً للتَّذْييلِ أيضًا، ويكونُ اقتِضاءُ مَصيرِ الكافِرينَ المُتحَدَّثِ عنهم إلى النَّارِ ثابِتًا بشِبهِ الدَّليلِ الَّذي يعُمُّ مَصيرَ جَميعِ الجِنْسِ الَّذي هُمْ من أصْنافِه، وليس في الكلامِ إظهارٌ في مَقامِ الإضمارِ [749] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/7). .
- والجَمْعُ في الكافِرينَ باعتِبارِ معْنَى (مَن) في قَولِه: فَمَنْ أَظْلَمُ؛ فإنَّه يُرادُ به جَمْعٌ، كما أنَّ الإفْرادَ في الضَّمائرِ السَّابقةِ باعتِبارِ لَفظِها، أو لجِنْسِ الكَفَرةِ، وهُم داخِلونَ في الحُكمِ دُخولًا أوَّليًّا [750] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (9/203)، ((تفسير أبي السعود)) (7/254). .
2- قولُه تعالَى: وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ * لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ
- جُملةُ وَصَدَّقَ بِهِ صِلةُ مَوصولٍ مَحْذوفٍ، تَقْديرُه: والَّذي صدَّقَ به، والقَرينةُ ظاهِرةٌ؛ لأنَّ الَّذي صَدَّقَ غَيرُ الَّذي جاءَ بالصِّدقِ؛ فالعَطفُ عَطفُ جُملةٍ كامِلةٍ، وليس عَطْفَ جُملةِ صِلةٍ [751] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/7). .
- وأيضًا قولُه: وَصَدَّقَ بِهِ كِنايةٌ عن كَونِه صَلَواتُ اللهِ عليه صارَ صادِقًا بسَبَبِ القُرآنِ؛ وذلك أنَّه صَلَواتُ اللهِ عليه جاءَ بالصِّدقِ الَّذي هو القُرآنُ -على أحدِ الأوجُهِ في التَّفسيرِ-، وسُمِّيَ بالصِّدقِ مُبالَغةً، كما أشارَ إليه بقَولِه: بِالصِّدْقِ أي: بالأمْرِ الَّذي هو الصِّدقُ بعَينِه، أي: جاءَ بالقُرآنِ الَّذي هو مَحضُ الصِّدقِ، والحالُ أنَّه هو السَّبَبُ في صَيْرورتِه صادِقًا؛ لأنَّه مُعجِزةٌ، والمُعجِزةُ تَصْديقٌ مِن اللهِ الَّذي لا يُصَدِّقُ إلَّا الصَّادِقَ [752] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/128)، ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (13/385). .
- وقولُه: وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ مُعادِلٌ لِقَولِه: فَمَنْ أَظْلَمُ. وقَولُه: وَصَدَّقَ بِهِ مُقابِلٌ لِقَولِه: وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ، و(الَّذي) جِنسٌ، كأنَّه قال: والفريقُ الَّذي جاء بالصِّدقِ، ويدُلُّ عليه: أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ؛ فإنَّه جمْعٌ، كما أنَّ قولَه: فَمَنْ أَظْلَمُ يُرادُ به جمْعٌ؛ ولذلك قال: مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ؛ فإنَّه سبحانه لَمَّا ذَكَر الظَّالِمينَ بالكذِبِ ذَكَر أضْدادَهم الَّذين يُخاصِمونَهم عِندَ ربِّهم -وهم المُحسِنون- بالصِّدقِ، ولعلَّه أفْردَ الضَّميرَ إشارةً إلى قِلَّةِ المَوصوفِ بهذا الوصفِ مِن الصِّدقِ، وهذا الفريقُ هو الرُّسُلُ وأتْباعُهم؛ ولذلك حصَرَ التَّقْوَى فيهم بقولِه: أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ [753] يُنظر: ((تفسير ابن عطية)) (4/531)، ((تفسير أبي حيان)) (9/203، 204)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (6/447). .
- والضَّميرُ في (بِه) في قولِه: وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ يجوزُ أنْ يعودَ على (الصِّدقِ)، ويجوزُ أنْ يعودَ على (الَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ)، والتَّصْديقُ بكِلَيْهِما مُتلازِمٌ، وإذْ قد كان المُصَدِّقونَ بالقُرآنِ أو بالنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مَن ثَبَتَ له هذا الوَصْفُ كان مُرادًا به أصْحابُ مُحمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وهُم جمَاعةٌ، فلا تَقَعُ صِفَتُهم صِلةً (للَّذِي)؛ لأنَّ أصْلَه للمُفرَدِ؛ فتَعيَّنَ تَأويلُه بـ (فَريقٍ)، وقَرينَتُه أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ، وإنَّما أُفرِدَ عائِدُ المَوْصولِ في قَولِه: وَصَدَّقَ بِهِ رَعْيًا لِلَفْظِ (الَّذي)؛ وذلك كُلُّه مِن الإيجازِ [754] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/8). . وقيلَ: جِيءَ بقَولِه: وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ على الإفْرادِ، ثمَّ حُمِلَ عليه: أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ، وحُكِمَ بقَولِه: لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ، والتَّأويلُ أنْ يُقالَ: إنَّ الرَّسولَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ إمامُ أُمَّتِه وقُدوَتُهم، وإنَّ مَجيئَه بالصِّدقِ وتَصْديقَه كمَجيئِهم به وتَصْديقِهم، كما يُقالُ لِرَئيسِ القَومِ وكَبيرِهِم: يا فُلانُ، افْعَلوا، ونحوُه قَولُه تعالى: وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ، أي: مُوسى وقَومَه، بدَليلِ قَولِه: لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ [755] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/128)، ((تفسير البيضاوي)) (5/42)، ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (13/383)، ((تفسير أبي حيان)) (9/203)، ((تفسير أبي السعود)) (7/254). [المؤمنون: 49] .
- وقولُه: أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ خَبرٌ عنِ اسْمِ المَوصُولِ (الَّذي). وجِيءَ باسْمِ الإشارةِ أُولَئِكَ وهو للبعيدِ -مع دُنُوِّ التَّحدُّثِ عنهم- لعُلُوِّ مرتبتِهم [756] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/8)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الزمر)) (ص: 244). ، وللعِنايةِ بتَمْييزِهم أكمَلَ تَمْييزٍ. وضَميرُ الفَصْلِ هُمُ يُفيدُ قَصْرَ جِنْسِ المُتَّقينَ على الَّذي جاءَ بالصِّدقِ وصَدَّقَ به؛ لأنَّه لا مُتَّقِيَ يَومَئذٍ غَيرُ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وأصحابِه، وكُلُّهم مُتَّقونَ، والمَعْنى: أولئك هُمُ الَّذين تحقَّقَ فيهم ما أُريدَ مِن إنْزالِ القُرآنِ الَّذي أُشيرَ إليه في قَولِه: قُرْآَنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ [757] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/8). [الزمر: 28] .
- وفي هذه الآيةِ والآيةِ السَّابِقةِ احتِباكٌ [758] تقدَّم تعريفُه (ص: 37). : فذَكَر الكَذِبَ والتَّكذيبَ أوَّلًا؛ دليلًا على الصِّدقِ والتَّصديقِ ثانيًا، والاتِّقاءَ وجزاءَه وما يَتْبَعُه ثانيًا؛ دَليلًا على ضِدِّه أوَّلًا، وسِرُّه: أنَّه ذَكَر في شِقِّ المُسيءِ أنْكَأَ ما يكونُ مِن الكَذِبِ والتَّكذيبِ في أقبَحِ مَواضِعِه -ولا سيَّما عندَ العرَبِ-، وأسَرَّ ما يكونُ في شِقِّ المحسِنِ مِن استِقامةِ الطَّبعِ وحُسنِ الجَزاءِ [759] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (16/506). .
- وجُملةُ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ مُستأنَفةٌ استِئْنافًا بيانيًّا؛ لأنَّهم لَمَّا قُصِرَ عليهم جِنسُ المُتَّقينَ كان ذلك مُشعِرًا بمَزِيَّةٍ عَظيمةٍ، فكان يَقتَضي أنْ يَسأَلَ السَّامِعُ عن جَزاءِ هذه المَزِيَّةِ؛ فبُيِّنَ له أنَّ لهم ما يَشاؤُونَ عِندَ اللهِ، ومَا يَشَاءُونَ هو ما يُريدونَ ويَتَمنَّونَ، أي: يُعْطيهمُ اللهُ ما يَطلُبونَ في الجَنَّةِ. ويجوزُ أنَّ مَا يَشَاءُونَ كِنايةٌ عَن سَعةِ ما يُعطَوْنَه [760] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (7/254)، ((تفسير ابن عاشور)) (24/8، 9). .
- وفي قَولِه: عِنْدَ رَبِّهِمْ عُدِلَ عن اسْمِ الجَلالةِ إلى وَصْفِ رَبِّهِمْ؛ إيماءً إلى أنَّه يُعْطيهم عطاءَ الرُّبوبيَّةِ، والإيثارِ بالخَيرِ [761] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/9). .
- وفي قَولِه: ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ تَنويهٌ بالوَعدِ الصَّادِقِ مِن اللهِ، والمُشارُ إليه هو مَا يَشَاءُونَ؛ لِمَا تَضمَّنَه مِن أنَّه جَزاءٌ لهم على التَّصْديقِ، وأُشيرَ إليه باسْمِ الإشارةِ؛ لِتضَمُّنِه تَعْظيمًا لِشَأنِ المُشارِ إليه [762] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/9). .
- والمُرادُ بالمُحْسِنينَ: أولئك المَوْصوفونَ بأنَّهم المُتَّقونَ، وكان مُقتَضَى الظَّاهِرِ أنْ يُؤْتى بضَميرِهم فيُقالَ: ذلك جَزاؤُهم؛ فوقَعَ الإظهارُ في مَقامِ الإضْمارِ لإفادةِ الثَّناءِ عليهم بأنَّهم مُحسِنونَ، ونُبِّهَ بالظَّاهِرِ على العِلَّةِ المُقتَضِيةِ لِحُصولِ الثَّوابِ [763] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (9/204)، ((تفسير ابن عاشور)) (24/9). .
3- قولُه تعالَى: لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ
- اللَّامُ في قولِه: لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا ... للتَّعْليلِ، وهي مُتعلِّقةٌ بـ الْمُحْسِنِينَ، أي: الَّذين أحْسَنُوا لِيُكفِّرَ، أو تَتعلَّقُ بفِعلٍ مَحذوفٍ دلَّ عليه قولُه: لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ، والمَعْنى: أنَّ اللهَ وَعَدَهُم وَعْدًا مُطلَقًا؛ لِيُكفِّرَ عنهم أَسْوَأَ ما عَمِلوهُ، أي: ما وَعَدَهُم بذلك الجَزاءِ إلَّا لأنَّه أرادَ أنْ يُكفِّرَ عنهم سَيِّئاتِ ما عَمِلوا، والمَقْصودُ مِن هذا الخَبَرِ إعْلامُهم به؛ لِيَطمَئِنُّوا من عَدَمِ مُؤاخَذَتِهم على ما فَرَطَ منهم مِن الشِّركِ وأحْوالِه [764] يُنظر: ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (13/388)، ((تفسير أبي حيان)) (9/204)، ((تفسير أبي السعود)) (7/254، 255)، ((تفسير ابن عاشور)) (24/10). .
- وأيضًا في قولِه: لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا ... إظهارُ اسْمِ الجَلالةِ (الله) في مَوضِعِ الإضْمارِ بضَميرِ (ربِّهم)؛ لِزَيادةِ تَمكُّنِ الإخبارِ بتَكْفيرِ سيِّئاتِهِم تَمْكينًا لاطْمِئْنانِ نُفوسِهم بوَعْدِ رَبِّهم، ولإبرازِ كَمالِ الاعتِناءِ بمَضْمونِ الكلامِ [765] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (7/255)، ((تفسير ابن عاشور)) (24/11). .
- وإضافةُ الأسْوَأِ والأحسَنِ إلى ما بَعْدَهما في قَولِه: لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ قيل: هي مِن إضافةِ الشَّيءِ إلى بَعضِه؛ للقَصدِ إلى التَّحْقيقِ والتَّوْضيحِ مِن غَيرِ اعتِبارِ تَفْضيلِهِ عليه، والزِّيادةُ المُعتَبَرةُ فيهما هي في الأوَّلِ بالنَّظرِ إلى ما يَليقُ بحالِهِم مِن استِعْظامِ سَيِّئاتِهم وإنْ قَلَّتْ، واستِصْغارِ حَسَناتِهِم وإنْ جَلَّتْ، والثَّاني بالنَّظَرِ إلى لُطفِ أكرَمِ الأكْرَمينَ مِن استِكْثارِ الحَسَنةِ اليَسيرةِ، ومُقابَلَتِها بالمَثُوباتِ الكَثيرةِ [766] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (7/255). .
- والجَمْعُ بيْنَ صِيغتَيِ الماضِي والمُستَقبَلِ في صِلةِ المَوْصولِ الثَّاني الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ دُونَ الأوَّلِ الَّذِي عَمِلُوا؛ للإيذانِ باستِمْرارِهم على الأعمالِ الصَّالحةِ بخِلافِ السَّيِّئةِ [767] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (7/255). ، ودوامِهم على الخَيرِ مجدِّدينَ له وقتًا بعدَ وقتٍ؛ لأنَّه في طبائعِهم، فهم عَريقونَ في تعاطيه [768] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (16/508). .
- والبِاءُ في قَولِه: بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ للسَّبَبيَّةِ، أي: يَجْزيهم أجْرًا على أحسَنِ أعْمالِهِم، وإذا كان الجَزاءُ على العَمَلِ الأحسَنِ بهذا الوَعدِ، وهو لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ؛ فدَلَّ على أنَّهم يُجازَونَ على ما هو دُونَ الأحسَنِ مِن مَحاسِنِ أعْمالِهم؛ بدَلالةِ إيذانِ وَصفِ (الأحسَنِ) بأنَّ عِلَّةَ الجَزاءِ هِيَ الأحسَنيَّةُ، وهي تَتضمَّنُ أنَّ لِمَعْنى الحُسنِ تأثيرًا في الجَزاءِ، فإذا كان جزاءُ أحسَنِ أعْمالِهِم أنَّ لهم ما يَشاؤُونَ عِندَ ربِّهم، كان جزاءُ ما هو دُونَ الأحسَنِ مِن أعْمالِهِم جزاءً دُونَ ذلك؛ بأنْ يُجازَوْا بزِيادةٍ وتَنْفيلٍ على ما استَحَقُّوهُ على أحسَنِ أعْمالِهم بزِيادةِ تَنعُّمٍ، أو كَرامةٍ، أو نَحوِ ذلك [769] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (9/204، 205)، ((تفسير ابن عاشور)) (24/11). . وذلك على قولٍ في التفسيرِ.
- وفيه مُناسَبةٌ حَسَنةٌ، حيثُ قال هنا: وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ، بلَفظِ (الَّذي)، وقال في سُورةِ (النَّحلِ): وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [النحل: 96] ، بلَفظِ (ما)؛ ووَجْهُه: أنَّ هذه السُّورةَ خُصَّتْ بـ (الَّذي)؛ لِيُوافِقَ ما قبْلَه، وهو: أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا، وقبْلَه: وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ، وخُصَّت سُورةُ (النَّحلِ) بـ (ما) للمُوافَقةِ أيضًا، وهو قولُه: إِنَّمَا عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ [النحل: 95] ، ومَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ [النحل: 96] ؛ فتَلاءَمَ اللَّفظانِ في السُّورتينِ [770] يُنظر: ((أسرار التكرار في القرآن)) للكرماني (ص: 218). . وقيل: لَمَّا كان مَقصودُ هذه السُّورةِ أخَصَّ مِن مَقصودِ سُورةِ (النَّحلِ)، وكانت (الَّذي) و(مَنْ) أقَلَّ إبهامًا مِن (ما)؛ قال: (الَّذي)، أي: العمَلُ الَّذي، وهو مِن إضافةِ الشَّيءِ إلى ما هو بعْضُه، كخاتمِ فِضَّةٍ [771] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (16/508). .