موسوعة التفسير

سُورةُ يُونُس
الآيات (67-70)

ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ

غريب الكلمات:

سُلْطَانٍ: أي: حُجَّة، وأصْلُ السُّلطانِ: القوَّةُ والقهرُ، من التَّسلُّط؛ ولذلك سُمِّي السُّلطانُ سُلطانًا [887] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 113)، ((تفسير ابن جرير)) (7/304)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3 /95)، ((المفردات)) للراغب (ص: 247، 420، 724). .
لِتَسْكُنُوا فِيهِ: أي: تهدءُوا فيه مِن التصرُّفِ والحركةِ، وتستقرُّوا لراحةِ أبدانِكم، والسُّكونُ: ثبوتُ الشيءِ بعدَ تحرُّكٍ، وأصلُ (سَكَنَ): يَدُلُّ على خِلافِ الاضْطِرابِ والحركةِ [888] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (12/227) (18/306)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/88)، ((المفردات)) للراغب (ص: 417). .

المعنى الإجمالي:

يُخاطِبُ اللهُ تعالى النَّاسَ مبينًا بعضَ مظاهرِ نِعمِه عليهم، فيقولُ: إنَّه وَحْدَه الذي خلَقَ لهم اللَّيلَ؛ لأجلِ أن يَهدَؤوا ويَستَريحوا فيه مِن العَناءِ والتَّعَب، وجعَلَ لهم النَّهارَ مُضيئًا؛ لِيَسعَوْا لطَلَبِ رِزقِهم، وقَضاءِ حَوائِجِهم، إنَّ في ذلك لدَلالاتٍ للَّذينَ يَسمَعونَ آياتِ اللهِ، ويَعتَبِرونَ بها.
ثمَّ بيَّنَ تعالى أنَّ مُشرِكي العرَبِ زَعَموا أنَّ لله ولدًا، تنزَّه سُبحانَه عن ذلك، هو الغنيُّ عن الزَّوجةِ والوَلَدِ، وعن جميعِ خَلْقِه، له جميعُ ما في السَّمَواتِ وما في الأرضِ، فكيف يكونُ له ولَدٌ ممَّن خلَقَ، وكلُّ شَيءٍ مملوكٌ له؟ وليس عند هؤلاء المُشرِكينَ دليلٌ على أنَّ الله اتَّخذَ ولدًا مِن خَلْقِه، أيقولونَ على الله ما لا يعلمونَ حَقيقتَه وصِحَّتَه؟
ثمَّ وجَّه سُبحانه الخطابَ إلى نبيِّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقال: قلْ- يا محمَّدُ-: إنَّ الذينَ يَختَلِقونَ على الله الكَذِبَ لا يَفوزونَ في الدُّنيا ولا في الآخرةِ، لهم في الدُّنيا متاعٌ قليلٌ، ثمَّ إلينا مَصيرُهم، ثمَّ نُذيقُهم في النَّارِ العذابَ المُوجِعَ؛ بسبَبِ كُفرِهم بالله.

تفسير الآيات:

هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُواْ فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (67).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّها استدلالٌ على مَضمونِ ما قَبلَها مِن نَفيِ وُجودِ شُرَكاءَ له في الخلقِ والتَّقديرِ، ولا بالشَّفاعةِ عنده في التصَرُّفِ والتَّدبيرِ؛ فهو الذي جعلَ لكم الوقتَ قِسمَينِ بمقتضى عِلمِه ومَشيئتِه بدونِ مُساعدٍ ولا شفيعٍ، بل بمَحضِ الحِكمةِ البالغةِ والرَّحمةِ الشَّاملةِ؛ أحدُهما: اللَّيلُ، جعَلَه مُظلِمًا لأجلِ أن تسكُنوا فيه بعد طولِ الحَرَكةِ والتقلُّبِ في الأرضِ، تستريحونَ مِن التَّعَبِ في طلَبِ الرِّزقِ، وثانيهما: النَّهارُ، جعَلَه مُضيئًا ذا إبصارٍ لتَنتَشِروا في الأرضِ، وتقوموا بجميعِ أعمالِ العُمرانِ والكَسبِ [889] يُنظر: ((تفسير المنار)) لمحمد رشيد رضا (11/371). .
هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُواْ فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا.
أي: اللهُ وَحْدَه هو الذي خلَقَ لكم- أيُّها النَّاسُ- اللَّيلَ؛ لأجل أن تَهدَؤوا عن الحَرَكةِ، وتستريحوا فيه مِن العَناءِ والتَّعَب، وجعل لكم النَّهارَ مُضيئًا تُبصِرونَ فيه لِمَعاشِكم، وقضاءِ حوائِجِكم [890] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (12/227، 228)، ((البسيط)) للواحدي (11/254، 255)، ((تفسير القرطبي)) (8/360)، ((تفسير ابن كثير)) (4/282)، ((تفسير السعدي)) (ص: 369).
إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ.
أي: إنَّ في اختلافِ حالِ اللَّيلِ والنَّهارِ بالظُّلمةِ والضِّياءِ، واختلافِ حالِ أهلِهما فيهما بالسُّكونِ والحَرَكةِ، لدَلالاتٍ للَّذينَ يَسمَعونَ آياتِ الله ويَعُونَها، فيَقبلونَها، ويعتَبِرونَ بها على عَظَمتِه وعِلمِه، وقُدرتِه ورَحمتِه، وحِكمَتِه واستحقاقِه وَحْدَه للعبادةِ [891] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (12/228)، ((البسيط)) للواحدي (11/255، 256)، ((تفسير ابن عطية)) (3/131)، ((تفسير القرطبي)) (8/361)، ((مفتاح دار السعادة)) لابن القيم (1/203، 204)، ((تفسير ابن كثير)) (4/282)، ((تفسير السعدي)) (ص: 369)، ((تفسير ابن عاشور)) (11/227، 228). .
كما قال تعالى: هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * إِنَّ فِي اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ [يونس: 5- 6] .
وقال سُبحانه: أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [النمل: 86] .
قَالُواْ اتَّخَذَ اللّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَات وَمَا فِي الأَرْضِ إِنْ عِندَكُم مِّن سُلْطَانٍ بِهَـذَا أَتقُولُونَ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ (68).
قَالُواْ اتَّخَذَ اللّهُ وَلَدًا.
أي: قال مُشرِكو العَرَبِ: الملائكةُ بناتُ اللهِ [892] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (12/229)، ((البسيط)) للواحدي (11/256)، ((تفسير البغوي)) (2/428)، ((تفسير ابن عطية)) (3/131)، ((تفسير ابن عاشور)) (11/229). وممن اختار أنَّ الضميرَ في قَالُوا: عائدٌ على المشركينَ الذين قالوا: الملائكةُ بناتُ الله: ابنُ جريرٍ، والواحدي، والبغوي وابنُ عطيةَ، وابنُ عاشورٍ. يُنظر: المصادر السابقة. قال ابنُ عطيةَ: (الضَّميرُ في قَالُوا للكفَّارِ العَرَب، وذلك قولُ طائفةٍ منهم: الملائكةُ بناتُ الله، والآيةُ بعدُ تعُمُّ كُلَّ مَن قال نحو هذا القَولِ، كالنصارى ومن يُمكِنُ أن يعتَقِدَ ذلك مِن الكَفَرةِ). ((تفسير ابن عطية)) (3/131). ومِن المفسِّرين مَن جعَل الضميرَ في قَالُوا عائدًا على مَن نسَب إلى الله الولدَ، ممن قال: الملائكةُ بناتُ الله، أو عزيرٌ ابنُ الله، أو المسيحُ ابنُ الله. يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (6/85)، ((تفسير المنار)) (11/372). وقال الرازي: (ويحتملُ أن يكونَ قد كان فيهم قومٌ مِن النَّصارَى قالوا ذلك). ((تفسير الرازي)) (17/280). لكن قال ابنُ عاشورٍ بعدَ أن بيَّن أنَّ الضميرَ في قَالُوا يعودُ إلى الذين يَدْعون مَن دونِ الله شركاءَ، قال: (وليسَ المرادُ مِن الضميرِ غيرَهم مِن النَّصارى؛ لأنَّ السورةَ مكيةٌ، والقرآنُ المكيُّ لم يتصدَّ لإبطالِ زيغِ عقائدِ أهلِ الكتابِ). ((تفسير ابن عاشور)) (11/229). !!
سُبْحَانَهُ.
أي: تنزَّه اللهُ عن أن يكونَ له ولَدٌ [893] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (12/229)، ((البسيط)) للواحدي (11/256)، ((تفسير السعدي)) (ص: 369). .
هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَات وَمَا فِي الأَرْضِ.
أي: اللهُ هو الغنيُّ عن الزَّوجةِ والوَلَدِ، وعن جميعِ خَلْقِه، له جميعُ ما في السَّمواتِ وما في الأرضِ، خَلقًا ومُلكًا وتصَرُّفًا، فكيف يَحتاجُ إلى شيءٍ مِن خَلْقِه، وكيف يتَّخِذُ منهم ولدًا [894] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (12/229)، ((تفسير ابن عطية)) (3/131)، ((تفسير القرطبي)) (8/361)، ((تفسير ابن كثير)) (4/282)، ((تفسير السعدي)) (ص: 369). ؟!
كما قال تعالى: وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا * لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا * تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا * أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا * وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا * إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا * وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا [مريم: 88 - 95] .
إِنْ عِندَكُم مِّن سُلْطَانٍ بِهَـذَا.
أي: ليس عندكم- أيُّها المشركون- دليلٌ وحجَّةٌ على أنَّ الله اتَّخذ ولدًا مِن خَلْقِه [895] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (12/229)، ((البسيط)) للواحدي (11/256)، ((تفسير ابن عطية)) (3/131)، ((تفسير القرطبي)) (8/361)، ((إعلام الموقعين)) لابن القيم (2/136)، ((تفسير ابن كثير)) (4/282)، ((تفسير السعدي)) (ص: 369). .
أَتقُولُونَ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ.
أي: أتقولونَ- أيُّها المُشرِكونَ- على اللهِ قَولًا لا تَعلَمونَ حَقيقتَه وصِحَّتَه، فتنسُبونَ إليه الولَد جهلًا منكم بغيرِ دَليلٍ [896] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (12/229)، ((تفسير القرطبي)) (8/361)، ((تفسير الخازن)) (2/454). ؟!
قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ (69).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّ الله تعالى لَمَّا بيَّنَ بالدَّليلِ القاهرِ أنَّ إثباتَ الوَلَدِ لله تعالى قولٌ باطِلٌ، ثم بيَّنَ أنَّه ليس لهذا القائلِ دَليلٌ على صِحَّةِ قَولِه، فقد ظهَرَ أنَّ ذلك المذهَبَ افتراءٌ على الله، ونِسْبة ما لا يليقُ به إليه؛ فبيَّنَ أنَّ مَن هذا حالُه، فإنَّه لا يُفلِحُ البتَّةَ [897] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (17/282). .
قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ.
أي: قُلْ- يا مُحمَّدُ-: إنَّ الذين يَكذِبونَ على اللهِ فيَنسُبونَ إليه الولدَ، لا يفوزونَ، ولا يَنجُونَ، ولا يأمنونَ في الدُّنيا ولا في الآخرةِ [898] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (12/230)، ((تفسير القرطبي)) (8/361)، ((تفسير البيضاوي)) (3/119)، ((تفسير ابن كثير)) (4/283)، ((تفسير الألوسي)) (6/147). .
مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ (70).
مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ.
أي: لهم مَتاعٌ قليلٌ في الدُّنيا يتمَتَّعونَ به إلى انقضاءِ آجالِهم، ثمَّ إلينا مَصيرُهم بعد مَوتِهم [899] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (12/230)، ((البسيط)) للواحدي (11/257)، ((تفسير البغوي)) (2/428)، ((تفسير الخازن)) (2/454). .
ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ.
أي: ثمَّ نُذيقُهم في النَّارِ العذابَ الغليظَ المُوجِعَ؛ بسبَبِ كُفرهِم باللهِ في الدُّنيا [900] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (12/230)، ((تفسير القرطبي)) (8/361)، ((تفسير الخازن)) (2/454)، ((تفسير ابن كثير)) (4/283). .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- قال اللهُ تعالى: هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا مِن لطائفِ المُناسَبة أنَّ النورَ الذي هو كيفيَّةُ زَمَنِ النَّهارِ، شيءٌ وُجوديٌّ، فكان زمانُه حقيقًا بأن يُوصَفَ بأوصافِ العُقَلاءِ، بخلافِ اللَّيلِ؛ فإنَّ ظُلمَتَه عَدَميَّةٌ، فاقتُصِرَ في العبرةِ به على ذِكرِ الفائدةِ الحاصلةِ فيه، وهي أن يسكُنوا فيه [901] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (11/227). .
2- إن قيل: إنَّ قَولَ الله تعالى: هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ يدلُّ على أنَّه تعالى ما خلَقَ اللَّيلَ إلَّا لهذا الوجهِ، وقولَه: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ يدلُّ على أنَّه تعالى أراد بتخليقِ اللَّيلِ والنَّهارِ أنواعًا كثيرةً مِن الدلائلِ، فالجوابُ: أنَّ قَولَه تعالى: لِتَسْكُنُوا لا يدلُّ على أنَّه لا حِكمةَ فيه إلَّا ذلك، بل ذلك يقتضي حصولَ تلك الحكمةِ، أمَّا قَولُه تعالى: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ فالمرادُ: يتدبَّرونَ ما يَسمَعونَ ويَعتَبِرونَ به [902] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (17/280). .
3- قَولُ الله تعالى: قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ يدلُّ على أنَّ صِفةَ العبوديَّةِ تُنافي صِفةَ البُنُوَّةِ، ويؤخَذُ مِن هذا أنَّ الوَلَدَ لا يُستَرَقُّ لأبيه ولا لأُمِّه؛ ولذلك يُعتَقُ الولدُ على مَن يَملِكُه مِن أبٍ أو أمٍّ وإنْ عَلَيَا [903] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (11/231). .
4- قال اللهُ تعالى: إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ في هذه الآيةِ سَمَّى اللهُ تعالى الحُجَّةَ العِلميَّةَ سُلطانًا؛ لأنَّها تُوجِبُ تسَلُّطَ صاحِبِها واقتدارَه، فله بها سُلطانٌ على الجاهلينَ، بل سُلطانُ العِلمِ أعظَمُ مِن سُلطانِ اليَدِ، ولهذا ينقادُ النَّاسُ للحُجَّة ما لا ينقادونَ لليَدِ؛ فإنَّ الحُجَّةَ تنقاد لها القلوبُ، وأمَّا اليدُ فإنَّما ينقادُ لها البدنُ، فالحجَّةُ تأسِرُ القلبَ وتقودُه، وتُذِلُّ المُخالِفَ، وإن أظهَرَ العِنادَ والمكابرةَ، فقَلبُه خاضِعٌ لها ذليلٌ، مقهورٌ تحت سُلطانِها، بل سلطانُ الجاهِ إن لم يكُن معه عِلمٌ يُساسُ به فهو بمَنزلةِ سُلطانِ السِّباعِ والأُسودِ ونحوِها، قُدرة بلا عِلمٍ ولا رحمةٍ، بخلافِ سُلطانِ الحُجَّة، فإنَّه قُدرةٌ بعِلمٍ ورحمةٍ وحِكمةٍ، ومَن لم يكن له اقتدارٌ في عِلمِه، فهو إمَّا لِضَعفِ حُجَّتِه وسُلطانِه، وإمَّا لِقَهرِ سُلطانِ اليَدِ والسَّيفِ له، وإلَّا فالحُجَّةُ ناصرةٌ نَفسَها، ظاهِرةٌ على الباطِلِ، قاهِرةٌ له [904] يُنظر: ((مفتاح دار السعادة)) لابن القيم (1/58). .
5- قال الله تعالى: أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ لما نفَى البُرهانَ عنهم جعَلَهم غيرَ عالِمينَ، فدلَّ على أنَّ كُلَّ مَقالةٍ لا دليلَ عليها ولا برهان، فهي جَهالةٌ، وليسَتْ مِن العلمِ في شيءٍ [905] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (6/85)، ((تفسير أبي السعود)) (4/163)، ((تفسير الشوكاني)) (2/524). .
6- قَولُ الله تعالى: قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ لا يختَصُّ هذا الوعيدُ بالصورةِ المذكورةِ، بل كلُّ من قال في ذاتِ اللهِ تعالى وفي صفاتِه قَولًا بغيرِ عِلمٍ وبِغَيرِ حُجَّةٍ بَيِّنةٍ؛ كان داخلًا في هذا الوعيدِ [906] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (17/282). .

بلاغة الآيات:

1- قَولُه تعالى: هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ
قولُه: هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ: فيه طريقٌ مِن طُرقِ القَصرِ، وهو تعريفُ المسنَدِ والمسنَدِ إليه هُوَ الَّذِي، وهو هنا قصرٌ حقيقيٌّ [907] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (11/227). .
وذكَر عِلَّةَ خلقِ اللَّيلِ فقال: لِتَسْكُنُوا فِيهِ، وحذَفها من النَّهارِ، وذكَر وصْفَ النَّهارِ مُبْصِرًا وحذَفه مِن اللَّيلِ، وكلٌّ مِن المحذوفِ يدُلُّ على مُقابِلِه، والتَّقديرُ: جعَل اللَّيلَ مُظلِمًا؛ لِتَسكُنوا فيه، والنَّهارَ مُبصِرًا؛ لِتتحرَّكوا فيه في مَكاسِبِكم وما تَحتاجون إليه بالحرَكةِ، وهو مِن بابِ الاحتباكِ؛ حيث حَذَفَ مِن كُلٍّ مِن آيتَيِ اللَّيلِ والنَّهارِ ما أثبَتَ مُقابِلَه في الأُخرَى، والعَكس [908] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (6/84، 85)، ((تفسير المنار)) لمحمد رشيد رضا (11/372). .
قولُه: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ ما في اسمِ الإشارةِ ذَلِكَ مِن معنى البُعدِ؛ للإيذانِ ببُعدِ مَنزلةِ المشارِ إليه، وعُلوِّ رُتبتِه [909] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (4/162). .
وقولُه: لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ فيه تخصيصُ الآياتِ بالَّذي يَسمَعون معَ أنَّها منصوبةٌ لِمَصلحةِ الكلِّ؛ لأنَّهم المنتَفِعون بها [910] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (4/162). ، وفي وَصْفِ القومِ بأنَّهم يَسمَعون إشارةٌ إلى أنَّ تلك الآياتِ والدَّلائلَ تَنهَضُ دَلالتُها للعُقولِ بالتَّأمُّلِ فيها، وأنَّ توجُّهَ التَّفكيرِ إلى دَلائلِها غيرُ مُحتاجٍ إلَّا إلى التَّنبيهِ عليها، ولَفْتِه إليها، والوصفُ بالسَّمعِ تعريضٌ بأنَّ الَّذين لم يَهتَدوا بها، ولا تَفطَّنُوا لِدَلالتِها بمَنزِلةِ الصُّمِّ، كقولِه تعالى: أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ [911] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (11/228). [الزخرف: 40] .
2- قوله: قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَما فِي الْأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بِهذا أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ
قولُه: سُبْحَانَهُ تنزيهٌ وتقديسٌ له عمَّا نَسَبوا إليه، وتعجُّبٌ مِن كَلمَتِهم الحمقاءِ [912] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (4/163). .
قولُه: هُوَ الْغَنِيُّ علَّةٌ لِنَفيِ الولَدِ؛ لأنَّ ما يُطلَبُ به الولَدُ مَن يَلِدُ، وما يَطلُبُه له السَّببُ في كلِّه الحاجةُ، فمَنِ الحاجةُ منتفِيَةٌ عنه كان الولَدُ عنه مُنتفِيًا [913] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (2/358)، ((تفسير أبي حيان)) (6/85). .
وجملةُ: لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مُقرِّرةٌ لوصفِ الغِنى بأنَّ ما في السَّمواتِ وما في الأرضِ مِلكُه [914] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (11/231). .
ولَمَّا كان سياقُ الاستدلالِ يَقتَضي التَّأكيدَ، أعاد (ما) فقال: وَمَا فِي الْأَرْضِ [915] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (9/159). .
قولُه: إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا فيه الْتِفاتٌ مِن الغيبةِ إلى الخطابِ؛ لِمَزيدِ المبالَغةِ في الإلزامِ والإفحامِ [916] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (4/163). .
ومِنْ في قولِه: إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا؛ لتأكيدِ النَّفيِ بالاستغراقِ، أي: استغراقِ نفيِ جميعِ أنواعِ الحجَّةِ قَوِيِّها وضَعيفِها، عَقْليِّها وشَرعيِّها [917] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (11/231). .
وقولُه: أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ استفهامٌ مستعمَلٌ في التَّوبيخِ والتَّقريعِ على جَهلِهم واختلافِهم [918] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (6/85)، ((تفسير أبي السعود)) (4/163). .
3- قوله تعالى: قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ
قولُه: قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ فيه تلوينٌ للخِطابِ، وتوجيهٌ له إلى رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ لِيُبيِّنَ لهم سوءَ مَغبَّتِهم، ووَخامةَ عاقِبَتِهم [919] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (4 /163). .
4- قوله تعالى: مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ
قولُه: مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا استِئنافٌ بَيانيٌّ؛ لأنَّ القضاءَ عليه بعدَمِ الفلاحِ يتَوجَّه عليه أن يَسأَلَ سائلٌ: كيف نَراهم في عِزَّةٍ وقُدرةٍ على أذى المسلِمين، وصدِّ النَّاسِ عن اتِّباعِ الرَّسولِ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم؟! فهو جوابٌ على تقديرِ سؤالٍ، أنَّ قائلًا قال: كيف لا يُفلِحون وهم في الدُّنيا مُفلِحون بأنواعٍ ممَّا يتَلذَّذون به؟! فيُجابُ السَّائلُ بأنَّ ذلك تَمتيعٌ في الدُّنيا لا يُعبَأُ به، أو لهم مَتاعٌ في الدُّنيا زائلٌ لا بقاءَ له، ثمَّ يَلْقَون الشَّقاءَ المؤبَّدَ في الآخرةِ، وإنَّما عدَمُ الفلاحِ مَظهَرُه الآخرةُ [920] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (6/85)، ((تفسير ابن عاشور)) (11/233). .
ومادَّةُ (متع) مُؤذِنةٌ بأنَّه غيرُ دائمٍ، وتنكيرُه مؤذِنٌ بتقليلِه، وتقييدُه بأنَّه فِي الدُّنْيَا مؤكِّدٌ للزَّوالِ وللتَّقليلِ [921] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (11/233). .