موسوعة التفسير

سُورةُ الأعرافِ
الآيتان (31-32)

ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ

غريب الكلمات:

نُفَصِّلُ: أي: نُبيِّنُ ونميِّزُ، والتفصيلُ التبيينُ، وقيل: نَأْتِي بِهَا شَيْئًا بعد شَيءٍ، وَلَا نُنَزِّلُها جُمْلَةً مُتَّصِلَةً، وأصلُ (فصل): يدلُّ على تَمييزِ الشَّيءِ مِنَ الشَّيءِ، وإبانَتِه عنه [343] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 154)، ((تفسير ابن جرير)) (10/162)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (4/505)، ((تفسير القرطبي)) (6/437)، ((بصائر ذوي التمييز)) للفيروزابادي (4/194). .

المعنى الإجمالي:

يأمُرُ اللهُ تعالى بني آدَمَ أن يأخُذُوا زينَتَهم مِنَ اللِّباسِ الحَسَنِ، منظرًا ومخبرًا، ساترًا للعورة عند جَميعِ المساجِدِ، وفي جميعِ الصَّلَواتِ، وأن يأكُلُوا ويَشْرَبوا مِمَّا أحَلَّه لهم، ولا يُسرِفوا بالإفراطِ في الأكلِ والشُّربِ فوق ما يَكفِيهم، أو بتجاوُزِ حُدودِ اللهِ بتحريمِ ما أحَلَّه، أو بتناوُلِ ما حَرَّمَه مِنَ المأكولاتِ والمَشروباتِ؛ فاللهُ تعالى لا يُحِبُّ المُسرفينَ.
ثم أمَرَ اللهُ نبيَّه أن يقولَ لجَهَلةِ العَرَب الذين يتعَرَّونَ عند طَوافِهم بالبَيتِ، ويُحَرِّمونَ على أنفُسِهم ما أحلَّه اللهُ لهم؛ أمَرَه أن يقولَ لهم، مُنكِرًا عليهم: مَنِ الذي حَرَّمَ زينةَ اللهِ التي أخرَجَها لعبادِه، كاللِّباسِ الذي خَلَقَه لهم، ومَنِ الذي حَرَّمَ الطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزقِ، وأَمَرَه أن يقولَ لهم: إنَّ الزِّينةَ والطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزقِ هي للَّذينِ آمنوا في الدُّنيا، ويُشارِكُهم فيها الكُفَّارُ، لكنَّها خالصةٌ لهم يومَ القيامةِ، لا يشارِكُهم فيها أحدٌ مِنَ الكَفَرة، كذلك يُفَصِّلُ اللهُ الآياتِ لقومٍ يَعلمونَ.

تفسير الآيتين:

يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (31)
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
لَمَّا أمَرَ اللهُ تعالى بالقِسطِ في الآيةِ الأُولى، وكان مِن جُملةِ القِسْطِ أمرُ اللِّباسِ، وأمرُ المأكولِ والمَشروبِ؛ لا جَرَمَ أتبَعَه بذِكْرِهما، وأيضًا لَمَّا أمَرَ بإقامةِ الصَّلاةِ في قوله: وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وكان سَترُ العَورةِ شَرطًا لصِحَّةِ الصَّلاةِ؛ لا جَرَمَ أتبَعَه بذِكرِ اللِّباسِ [344] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (14/228). ، فقال تعالى:
يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ
سببُ النُّزولِ:
عنِ ابنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما، قال: ((كانَتِ المرأةُ تَطوفُ بالبَيتِ وهي عُريانةٌ، فتقولُ: مَنْ يُعيرُني تِطوافًا [345] التِّطْوافُ: ثَوبٌ تَلبَسُه المرأةُ تَطوفُ به. يُنظر: ((شرح النووي على مسلم)) (18/162)، ((تاج العروس)) للزبيدي (24/107). ؟ تجعلُه على فَرجِها، وتقول:
اليومَ يَبدُو بعضُه أو كُلُّهْ * فما بدا مِنْه فلا أُحِلُّهْ
فنزلَتْ هذه الآيةُ: خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ [الأعراف: 31] ))
[346] رواه مسلم (3028). قال ابنُ رجب الحنبلي: (نزَلَتْ بسبَبِ طَوافِ المُشركينَ بالبَيتِ عُراةً، وقد صحَّ هذا عنِ ابنِ عَبَّاسٍ، وأجمع عليه المُفَسِّرونَ من السَّلَفِ بعده). ((فتح الباري)) (2/334). وروى البخاري (1665) ومسلم (1219) عن عُروةَ بنِ الزُّبير قال: (كان النَّاسُ يطوفون في الجاهليَّة عُراةً إلَّا الحُمْسَ، والحُمْسُ: قُريشٌ وما وَلَدَت، وكانت الحُمْسُ يحتسبونَ على النَّاسِ؛ يعطي الرَّجُلُ الرَّجُلَ الثِّيابَ يطوفُ فيها، وتُعطي المرأةُ المرأةَ الثِّيابَ تَطوفُ فيها، فمَن لم يُعطِه الحُمْسُ طاف بالبَيتِ عُريانًا). ويُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (10/154)، ((تفسير القرطبي)) (7/189)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (26/222). قال ابنُ كثيرٍ: (كانت العربُ- ما عدا قُرَيْشًا- لا يَطُوفون بالبيتِ في ثِيابِهم الَّتي لَبِسوها، يَتَأَوَّلون في ذلك أَنَّهم لا يَطُوفون في ثيابٍ عَصَوُا اللَّه فيها، وكانت قُرَيْشٌ- وهم الحُمْس- يَطُوفون في ثيابِهم، ومَن أعارَه أَحْمَسِيٌّ ثوبًا طَاف فيه، ومن معه ثوبٌ جَديدٌ طاف فيه، ثُمَّ يُلقيه فلا يتملَّكُه أحدٌ، فمن لم يَجِدْ ثوبًا جديدًا، ولا أعارَه أَحْمَسِيٌّ ثَوْبًا، طافَ عريانًا). ((تفسير ابن كثير)) (3/402)، ويُنظر: ((أخبار مكة)) للأزرقي (1/138). .
يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ
أي: يا بني آدَمَ خُذوا زينَتَكم مِنَ اللِّباسِ الحَسَن، واستُروا عَوْراتِكم به عند جميعِ المساجِدِ، في الصَّلواتِ كُلِّها؛ فَرضِها ونَفْلِها، وفي الطَّوافِ والاعتكافِ، وغيرِ ذلك [347] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (10/149)، ((فتح الباري)) لابن رجب (2/335)، ((تفسير السعدي)) (ص: 287)، ((تفسير ابن عاشور)) (8-ب/94). .
عن أبي هُريرةَ رَضِيَ الله عنه، أنَّ أبا بكرٍ الصِّديقَ رَضِيَ الله عنه، بَعَثَه في الحَجَّةِ التي أمَّرَه عليها رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، قبل حَجَّةِ الوَداعِ يومَ النَّحرِ، في رَهْطٍ يُؤَذِّنُ في النَّاسِ: ((ألَا لا يحُجُّ بعد العامِ مُشرِكٌ، ولا يطوفُ بالبَيتِ عُريانٌ )) [348] رواه البخاري (1622) ومسلم (1347). .
وعن أبي هُريرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((لا يُصَلِّي أحدُكم في الثَّوبِ الواحِدِ، ليس على عاتِقَيهِ مِنه شَيءٌ )) [349] رواه البخاري (359) ومسلم (516). .
وعن عبدِ اللهِ بنِ مَسعودٍ رَضِيَ اللهُ عنه، عنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((لا يدخُلُ الجنَّةَ مَن كان في قَلبِه مِثقالُ ذَرَّةٍ مِن كِبرٍ. قال رجل: إنَّ الرَّجُلَ يُحِبُّ أن يكونَ ثَوبُه حَسَنًا، ونَعْلُه حَسَنةً، قال: إنَّ اللهَ جَميلٌ يُحِبُّ الجَمالَ؛ الكِبرُ بَطَرُ الحَقِّ [350] بَطَرُ الحَقِّ: أي: دَفعُه وإنكارُه؛ ترفُّعًا وتجبُّرًا. يُنظر: ((شرح النووي على مسلم)) (2/ 90). ، وغَمْطُ النَّاسِ [351] غَمْطُ النَّاسِ: أي: احتقارُهم. يُنظر: ((شرح النووي على مسلم)) (2/ 90). ) [352] رواه مسلم (91). .
وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا
أي: وكُلُوا واشرَبُوا مِمَّا أحلَلْتُه لكم مِنَ الطَّيباتِ، ولا تُفْرِطُوا في الأكلِ والشُّربِ بالزِّيادةِ على القَدرِ الكافي، ولا تتجاوَزوا حُدودَ اللهِ؛ فتُحَرِّموا ما أحَلَّ اللهُ مِنَ الأطعمةِ والأشرِبَةِ، أو تتناوَلوا ما حَرَّمَه منها [353] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (10/149)، ((تفسير ابن أبي حاتم)) (5/1465)، ((تفسير ابن عطية)) (2/393)، ((تفسير الرازي)) (14/230)، ((تفسير السعدي)) (ص: 287)، ((تفسير ابن عاشور)) (8-ب/95)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (3/165-167). .
كما قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ [البقرة: 172] .
وقال سبحانه: وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ * وَمِنَ الْأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ [الأنعام: 141-142] .
وقال عزَّ وجَلَّ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ * وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ [المائدة: 87-88] .
إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ
أي: إنَّ اللهَ لا يُحِبُّ المجاوِزينَ أمْرَه، الغالينَ فيما أحلَّ أو حرَّم، المُستكثرينَ ممَّا لا ينبغي الاستكثارُ منه؛ مِنَ الطَّعامِ والشَّرابِ وغيرِ ذلك [354] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (10/156)، ((الوجيز)) للواحدي (ص: 378)، ((تفسير الرازي)) (14/230). .
قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (32)
مُناسَبَةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا كان مِنَ المعلومِ أنَّ ما كانوا ألِفُوه واتَّخذوه دِينًا يستعظمونَ تَرْكَه؛ لأنَّ الشَّيطانَ يُوسْوِسُ لهم بأنَّه توسُّعٌ في الدُّنيا، والتَّوَسُّعُ فيها ممَّا ينبغي الزُّهدُ فيه، كما دعا إليه كثيرٌ مِنَ الآياتِ- أكَّدَ سُبحانَه الإذنَ في ذلك بالإنكارِ على مَن حَرَّمَه، مُعْلِمًا أنَّ الزُّهدَ الممدوحَ ما كان مع صِحَّةِ الاعتقادِ في الحلالِ والحرامِ، وأمَّا ما كان مع تبديلِ شَيءٍ مِن الدِّينِ، بتحليلِ حرامٍ، أو عَكْسِه؛ فهو مذمومٌ [355] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (7/388-389). .
وأيضًا لَمَّا حَرَّمَتِ العَرَبُ في جاهِلِيَّتِها زينةَ اللِّباسَ في الطَّوافِ تعبُّدًا وقُربةً، وحَرَّمَ بعضُهم أكْلَ بعضِ الطَّيِّباتِ مِنَ الأَدْهانِ وغَيرِها في حال الإحرامِ بالحَجِّ كذلك، وحَرَّموا مِنَ الحَرْثِ والأنعامِ ما بيَّنه تعالى في سورة الأنعام. وحَرَّمَ غَيرُهم مِنَ الوَثنِيِّينَ وأهلِ الكِتابِ كثيرًا مِنَ الطَّيِّباتِ والزِّينةِ كذلك- جاء دينُ الفِطرةِ الجامِعُ بين مصالِحِ البَشَرِ في معاشِهِم ومَعَادِهم، المُطَهِّرُ المُرَبِّي لأرواحِهم وأجسادهم، يُنكِرُ هذا التحَكُّمَ والظُّلمَ للنَّفْسِ [356] يُنظر: ((تفسير المنار)) لمحمد رشيد رضا (8/345). ، فقال تعالى:
قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ
أي: قُلْ- يا نبيَّ اللهِ- لجَهَلةِ العَرَبِ الذين يتعَرَّونَ عند طَوافِهم بالبَيتِ، ويُحرِّمونَ على أنفُسِهم- بآرائِهم الفاسِدَةِ- ما أحلَلْتُ لهم: مَنِ الَّذي حرَّمَ عليكم زينةَ اللهِ التي أبرَزَها مِنَ العَدَمِ إلى الوُجودِ، ويسَّرَ أسبابَ تَناوُلِها، كالِّلباسِ الذي خَلَقَه اللهُ لعِبادِه؟ ومَنْ حرَّمَ الطَّيِّباتِ مِن كُلِّ ما يُستلَذُّ ويُشتَهى مِن أنواعِ المأكولاتِ والمَشروباتِ وغيرِ ذلك، مِمَّا أحَلَّه اللهُ تعالى لعباده [357] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (10/156)، ((تفسير الرازي)) (14/230)، ((تفسير ابن كثير)) (3/408)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (3/168، 169). وقال الرازي: (يدخُلُ تحت الزِّينةِ جميعُ أنواعِ التَّزيينِ، ويدخُلُ تحتَها تنظيفُ البَدَن مِن جميعِ الوُجوه، ويدخُلُ تحتَها المركوبُ، ويدخُلُ تحتها أيضًا أنواعُ الحُليِّ؛ لأنَّ كُلَّ ذلك زينةٌ، ولولا النصُّ الواردُ في تحريمِ الذَّهَبِ والفِضَّةِ والإبريسَمِ على الرِّجال؛ لكان ذلك داخلًا تحت هذا العمومِ، ويدخُلُ تحت الطَّيباتِ مِنَ الرِّزقِ كلُّ ما يُستلَذُّ ويُشتَهى من أنواعِ المأكولاتِ والمَشْروبات، ويدخل أيضًا تحتَه التمتُّعُ بالنِّساءِ وبالطِّيبِ). ((تفسير الرازي)) (14/230). ؟!
عن أنَسٍ رَضِيَ اللهُ عنه: ((أنَّ نَفَرًا مِن أصحابِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، سألوا أزواجَ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عن عَمَلِه في السِّرِّ؟ فقال بعضُهم: لا أتزوَّجُ النِّساءَ، وقال بعضُهم: لا آكُلُ اللَّحمَ، وقال بعضُهم: لا أنامُ على فِراشٍ، فحَمِدَ اللهَ وأثنى عليه، فقال: ما بالُ أقوامٍ قالوا كذا وكذا؟ لكِنِّي أُصَلِّي وأنامُ، وأصومُ وأُفطِرُ، وأتَزَوَّجُ النِّساءَ؛ فمَن رَغِبَ عن سُنَّتِي فليس مِنِّي )) [358] رواه البخاري (5063) ومسلم (1401). .
قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ
أي: قُل- يا نَبِيَّ اللهِ- لهؤلاءِ المُشركينَ الذين يُحَرِّمونَ ما أحَلَّ اللهُ عزَّ وجلَّ: إنَّ الزِّينةَ والطَّيباتِ مِنَ الرِّزقِ، قد خَلَقَها اللهُ في الدُّنيا للَّذين آمَنوا باللهِ ورَسولِه، ويُشارِكُهم فيها مَن كَفَرَ باللهِ ورَسولِه، ولكنَّها خالصةٌ للمُؤمنينَ في الآخِرَةِ، لا يشارِكُهم فيها أحَدٌ مِنَ الكُفَّارِ يومَئذٍ [359] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (10/159)، ((تفسير ابن كثير)) (3/408)، ((تفسير ابن عاشور)) (8-ب/96)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (3/169 - 171). وقال ابن عاشور: (المعنى: ما هي بحرامٍ، ولكنَّها مباحةٌ للَّذين آمنوا، وإنَّما حَرَمَ المشركون أنفُسَهم من أصنافٍ منها في الحياةِ الدُّنيا كُلِّها، مثل البَحِيرة والسَّائِبة والوَصِيلة والحامِي، وما في بُطونها، وحَرَم بعضُ المشركين أنفُسَهم من أشياءَ في أوقاتٍ مِنَ الحياة الدُّنيا، ممَّا حَرَّموه على أنفُسِهم مِنَ اللِّباسِ في الطَّوافِ، وفي مِنًى، ومِن أكْلِ اللُّحومِ والوَدَك والسَّمْن واللَّبَن، فكان الفَوزُ للمؤمنينَ؛ إذ اتَّبَعوا أمرَ اللهِ بتحليلِ ذلك كُلِّه في جميعِ أوقاتِ الحياةِ الدُّنيا). ((تفسير ابن عاشور)) (8-ب/96).  .
كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ
أي: كهذا التَّفصيلِ الواضِحِ الذي فصَّلْنا لكم به الحلالَ والحَرامَ، وبَيَّنَّا لكم به حُرمةَ كَشْفِ العَوْراتِ، ولُزُومَ سَتْرِها، وإباحةَ الزِّينةِ والطَّيِّبات مِنَ الرِّزقِ؛ نُوَضِّحُ دائمًا في هذا القرآنِ جَميعَ ما يَحتاجُ إلى بيانٍ، وذلك للَّذين يفهمونَ عَنِ اللهِ آياتِه، وينتفعونَ بها [360] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (10/162)، ((تفسير السعدي)) (ص: 287)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (3/172). .
كما قال تعالى: كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ [يونس: 24] .
وقال سبحانه: كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [الروم: 28] .

الفوائد التربوية:

1- أمَرَ اللهُ بقَدرٍ زائدٍ على سَترِ العَورةِ في الصَّلاةِ، وهو أخذُ الزِّينةِ؛ فقال تعالى: خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ فعَلَّقَ الأمرَ بأخذِ الزِّينةِ، لا بِسَترِ العَورةِ؛ إيذانًا بأنَّ العَبدَ ينبغي له أن يلبَسَ أزيَنَ ثيابِه، وأجمَلَها في الصَّلاةِ، وكان لبَعضِ السَّلَفِ حُلَّةٌ بمبلغٍ عظيمٍ مِنَ المالِ، وكان يلبَسُها وقتَ الصَّلاةِ، ويقولُ: (ربِّي أحَقُّ مَن تجمَّلْتُ له في صلاتِي). ومعلومٌ أنَّ اللهَ سبحانه وتعالى يُحِبُّ أن يرى أثَرَ نِعمَتِه على عَبدِه، لا سيَّما إذا وقَفَ بين يَدَيه، فأحسَنُ ما وَقَف بين يديه بملابِسِه ونِعمَتِه التي ألبَسَه إيَّاها ظاهرًا وباطنًا [361] يُنظر: ((الفتاوى الكبرى)) لابن تيمية (5/326)، ((مدارج السالكين)) لابن القيم (2/363). .
2- قولُه تعالى: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ  فيه النهيُ عن الإسرافِ؛ فإنَّ السَّرَفَ يُبغِضُه الله، ويَضُرُّ بَدنَ الإنسانِ ومَعيشَتَه [362] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (5/41)، ((تفسير السعدي)) ( ص:287). .
3- في قَوْلِه تعالى: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إرشادٌ عالٍ، فيه صَلاحٌ للبَشَرِ في دِينِهم ومَعاشِهم ومَعادِهم، لا يَستغنُونَ عنه في وَقتٍ مِنَ الأوقاتِ، ولا عَصْرٍ مِنَ الأعصارِ، وكلُّ ما بَلَغُوه مِن سَعَةِ العِلمِ في الطِّبِّ وغَيرِه، لم يُغْنِهِم عنه، بل هو يُغني المُهتديَ به في أمْرِه ونَهْيِه عَن مُعظَمِ وصايا الطِّبِّ لِحِفظِ الصِّحَّةِ [363] يُنظر: ((تفسير المنار)) لمحمد رشيد رضا (8/342). ، قال عليُّ بنُ الحُسَينِ بنِ واقدٍ: (جَمَعَ اللهُ الطِّبَّ في نِصفِ آيةٍ، فقال: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا) [364] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (3/224).
4- التَّوسيعُ مِنَ الله لعبادِه بالطَّيِّباتِ؛ جَعَلَه لهم ليَسْتعينوا به على عِبادَتِه، فلم يُبِحْه إلَّا لعبادِه المؤمنينَ؛ ولهذا قال تعالى: قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ، أي: لا تَبِعَةَ عليهم فيها، ومفهومُ الآيةِ أنَّ مَن لم يؤمِنْ بالله، بل استعانَ بها على مَعاصِيه، فإنَّها غيرُ خالصةٍ له، ولا مُباحةٍ، بل يُعاقَبُ عليها وعلى التنعُّمِ بها، ويُسألُ عنِ النَّعيمِ يومَ القيامةِ [366] يُنظر: ((تفسير السعدي)) ( ص:287). .

الفوائد العلمية واللطائف:

قال تعالى: يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ جمعَتْ هذه الآيةُ أصُولَ أحكامِ الشَّريعةِ كُلَّها، فجَمَعتِ الأمرَ والنَّهيَ، والإباحةَ والخَبَر [367] يُنظر: ((بدائع الفوائد)) لابن القيم (4/7). .
قال الله تعالى: يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ لهذه الآيةِ وما ورَدَ في معناها مِنَ السُّنَّة، يُستحَبُّ التجمُّلُ عند الصَّلاةِ- ولا سيَّما يومُ الجُمُعة، ويومُ العِيدِ- والطِّيْبُ؛ لأنَّه مِنَ الزِّينةِ، والسِّواكُ؛ لأنَّه مِن تمامِ ذلك [368] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (3/406)، ((تفسير القرطبي)) (7/196). .
في قَولِه تعالى: يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ الأمرُ بسَترِ العَوراتِ عندَ المساجِدِ، فدخلَ في ذلك الطَّوافُ، والصَّلاةُ، والاعتكافُ، وغيرُ ذلك [369] يُنظر: ((تفسير ابن رجب الحنبلي)) (1/478). .
دلَّ قولُه تعالى: خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ على أنَّ الصَّلاةَ في الثَّوْبِ الحَسَنِ غَيرُ مَكروهةٍ، إلَّا أنْ يُخشَى منه الالْتِهاءُ عن الصَّلاةِ، أو حُدوثُ الكِبْرِ [370] يُنظر: ((تفسير ابن رجب الحنبلي)) (1/480). .
قولُ الله تعالى: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا مُطلَقٌ يتناوَلُ الأوقاتَ والأحوالَ، ويتناوَلُ جميعَ المطعوماتِ والمَشروباتِ؛ دلَّ ذلك على أنَّ الأصلَ في الملابِسِ وأنواعِ التَّجَمُّلات والمطاعِمِ؛ الإباحةُ، إلَّا ما ورَدَ النَّصُّ بخِلافِه [371] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (14/230)، ((تفسير الشربيني)) (1/472). .
قولُ اللهِ تعالى: قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ فيه ردٌّ على مَن يتوَرَّعُ عن أكلِ المُستَلَذَّاتِ، ولُبسِ المَلابِسِ الرَّفيعةِ؛ فإنَّ الاستفهامَ المرادُ منه تقريرُ الإنكارِ، والمبالغةُ فيه [372] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (14/230)، ((الإكليل)) للسيوطي ( ص:128). .
قولُ الله تعالى: قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا أي: الزِّينةُ والطَّيِّباتُ هي لهم بالأصالةِ، والكَفَرةُ وإن شارَكُوهم فيها فتَبَعٌ؛ ولذا لم يَقُلْ تعالى: (لِلَّذِينَ آمنوا وغَيرِهم) [373] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (7/389)، ((تفسير الشربيني)) (1/472). .

بلاغة الآيتين:

قولُه تعالى: يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ هذه الجُملةُ تتنَزَّلُ مِنَ التي بَعدَها، وهي قوله: قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ منزلةَ النَّتيجةِ مِنَ الجَدَلِ، فقُدِّمَتْ على الجَدَلِ، فصارَتْ غَرَضًا بمنزلةِ دَعوى، وجُعِلَ الجدلُ حجَّةً على الدَّعوى [374] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (8-ب/92). .
قوله: قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ
قوله: قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ استئنافٌ مُعتَرِضٌ بين الخِطاباتِ المحكِيَّةِ والمُوجَّهة، وهو موضِعُ إبطالِ مَزاعِمِ أهلِ الجاهِليَّةِ فيما حرَّموه من اللِّباسِ والطَّعامِ، وهي زيادةُ تأكيدٍ لإباحةِ التسَتُّر في المساجِدِ، فابتُدِئَ الكلامُ السَّابِقُ بأنَّ اللِّباسَ نِعمةٌ مِنَ اللهِ [375] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (8-ب/95). .
والاستفهامُ في قَولِه: مَنْ حَرَّمَ إنكاريٌّ، قُصِدَ به التهَكُّم؛ إذ جَعَلَهم بمنزلةِ أهلِ عِلمٍ يُطلَبُ منهم البيانُ والإفادةُ، وقرينةُ التهَكُّمِ إضافةُ الزِّينةِ إلى اسمِ اللهِ في قوله: زِينَةَ اللَّهِ، وتعريفُها بأنَّها أخرَجَها اللهُ لعِبادِه، ووصْفُ الرِّزقِ بالطَّيِّباتِ، وذلك يقتَضي عَدَمَ التَّحريمِ؛ فالاستفهامُ يَؤُولُ أيضًا إلى إنكارِ تَحريمِها، وتوبيخِ مُحَرِّمِيها [376] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (2/101)، ((تفسير أبي حيان)) (5/42)، ((تفسير أبي السعود)) (3/224)، ((تفسير ابن عاشور)) (8-ب/96). .
قوله: كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ فيه تعريضٌ بجَهلِ وضَلالِ عُقولِ المُشركينَ الذين استَمَرُّوا على عنادِهم وضَلالِهم، رغمَ ما فُصِّلَ لهم مِنَ الآياتِ [377] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (8-ب/99). .