موسوعة التفسير

سورةُ الرُّومِ
الآيتان (28-29)

ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ

المعنى الإجماليُّ:

يقولُ الله تعالى مبيِّنًا قُبحَ الشركِ: مَثَّل اللهُ لكم -أيُّها المُشرِكونَ- مَثَلًا مِن أنفُسِكم يوضِّحُ قُبحَ الشِّركِ وبُطلانَه؛ هل لكم مِن مَماليكِكم شُرَكاءُ فيما رزَقْناكم، فتَسْتَووا فيه أنتم وهم، تخافونَهم مِنَ التَّصَرُّفِ فيه كما يَخافُ الرَّجُلُ الحُرُّ منكم شَريكَه الحُرَّ في المالِ يكونُ بيْنَهما؟! فإذا لم تَرضَوا لأنفُسِكم بأن يكونَ مماليكُكم شُرَكاءَ لكم في رِزقِكم، فكيف تجعَلونَ لله مِن عَبيدِه شُرَكاءَ في مُلكِه؟! هكذا نُبَيِّنُ الآياتِ لِقَومٍ يَعقِلونَ عن اللهِ الأمثالَ فيُوحِّدونَه.
ثمَّ يُبيِّنُ تعالى أنَّ المشركينَ إنَّما عبَدوا غيرَه سفهًا مِن أنفُسِهم وجهلًا، فيقولُ: بل اتَّبَع هؤلاء المُشرِكونَ أهواءَهم؛ جَهلًا منهم بالحَقِّ، فلا أحدَ يَهدي مَن قدَّر اللهُ إضلالَه بسبَبِ ظُلمِه، وليس لهم مِن ناصِرينَ مِن عذابِ اللهِ.

تَفسيرُ الآيتينِ:

ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (28).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّه تعالى أتْبَعَ ضَرْبَ المَثَلِ لإمكانِ إعادةِ الخَلقِ عَقِبَ دَليلِ بَدْئِه بضَربِ مَثَلٍ لإبطالِ الشِّركِ عَقِبَ دليلَيه المتقَدِّمَينِ في قَولِه تعالى: يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ [الروم: 19] ، وقَولِه: وَيُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا [الروم: 19] ؛ لِيَنتظِمَ الدَّليلُ على هذينِ الأصلينِ المُهِمَّينِ: أصلِ الوَحدانيَّةِ، وأصلِ البَعثِ، ويَنكَشِفَ بالتَّمثيلِ والتَّقريبِ بعدَ نُهوضِه بدليلِ العَقلِ. والخِطابُ للمُشِركينَ [321] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (21/85). .
وأيضًا: بعدَ أن بَيَّن القُدرةَ على الإعادةِ بإقامةِ الأدِلَّةِ عليها، ثمَّ ضَرَب لذلك مثَلًا- أعقَبَ ذلك بذِكرِ المَثَلِ على الوَحدانيَّةِ بعدَ إقامةِ الدَّليلِ عليها [322] يُنظر: ((تفسير المراغي)) (21/43). .
ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ.
أي: مثَّل اللهُ لكم قُبحَ الشِّركِ وبُطلانَه لأجْلِ إفهامِكم -أيُّها المُشرِكونَ- بمَثَلٍ تَعرِفونَه؛ لِكَونِه مأخوذًا مِن أحوالِكم [323] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/489)، ((تفسير ابن كثير)) (6/312)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (15/79)، ((تفسير السعدي)) (ص: 640)، ((تفسير ابن عاشور)) (21/85). .
هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ.
أي: هل مِن رَقيقِكم الَّذين تَملِكونَهم -مَعْشَرَ المُشرِكينَ الأحرارِ- مَن يُشارِكُكم فيما أعطَيْناكم مِنَ الرِّزقِ، فتَكونوا أنتم وهم فيه مُتساوِينَ، تَخافونَهم مِنَ التَّصَرُّفِ فيه كما يَخافُ الرَّجُلُ الحُرُّ منكم شَريكَه الحُرَّ أن يَتصَرَّفَ في مالِهما بشَيءٍ دونَ رِضاه أو إذنِه، أو بما فيه ضَرَرٌ عليه؟! هذا لا يكونُ، فكما لا يَرضى أحَدٌ منكم أن يكونَ عَبيدُه شُرَكاءَ له في رِزقهِ، فاللهُ لا يَرضى أن يكونَ له شَريكٌ مِن عَبيدِه في عبادتِه [324] يُنظر: ((تأويل مشكل القرآن)) لابن قتيبة (ص: 222)، ((تفسير ابن جرير)) (18/489-491)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (27/354، 365) و(1/156) و(3/302، 303)، ((درء تعارض العقل والنقل)) لابن تيمية (7/392)، ((مدارج السالكين)) لابن القيم (1/254)، ((تفسير ابن كثير)) (6/312، 313)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (15/79-81)، ((تفسير السعدي)) (ص: 640)، ((تفسير ابن عثيمين - سورة الروم)) (ص: 157-159). .
كما قال تعالى: وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ [النحل: 71] .
كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ.
أي: مِثْلَ ذلك التَّفصيلِ والتبيينِ نُفَصِّلُ آياتِ القُرآنِ؛ لِيَتبَيَّنَ الحَقُّ لِقَومٍ ذَوي عَقلٍ وفَهمٍ [325] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/491)، ((تفسير السمعاني)) (4/208)، ((تفسير السعدي)) (ص: 640)، ((تفسير ابن عاشور)) (21/87)، ((تفسير ابن عثيمين - سورة الروم)) (ص: 161-163). .
بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (29).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّه إذا عُلِمَ مِن المثالِ السَّابِقِ أنَّ مَنِ اتَّخَذَ مِن دُونِ اللهِ شَريكًا يَعبُدُه ويَتوكَّلُ عليه في أمورِه، فإنَّه ليس معه مِنَ الحَقِّ شَيءٌ، فما الَّذي أوجَبَ له الإقدامَ على أمرٍ باطِلٍ وضَحَ له بُطلانُه وظهَرَ بُرهانُه؟ لقد أوجَبَ لهم ذلك اتِّباعُ الهوى؛ فلهذا قال [326] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (1/640). :
بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ.
أي: لم يَعقِلْ أولئك الَّذين ظَلَموا أنفُسَهم بالشِّركِ آياتِ القُرآنِ المُفصَّلةَ، فيتَّبِعوها، وإنَّما اتَّبَعوا أهواءَهم؛ جَهلًا منهم بالحَقِّ، ودونَ برهانٍ لديهم على صِحَّةِ شِركِهم [327] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/492)، ((تفسير ابن كثير)) (6/313)، ((تفسير الشوكاني)) (4/258)، ((تفسير السعدي)) (ص: 640)، ((تفسير ابن عاشور)) (21/87، 88). .
كما قال تعالى: فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ [القصص: 50] .
فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ.
أي: فلا أحَدَ يُوفِّقُ لاتِّباعِ الحَقِّ مَن قدَّرَ اللهُ إضلالَه بسَبَبِ ظُلمِه [328] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/492)، ((تفسير ابن كثير)) (6/313)، ((تفسير السعدي)) (ص: 640)، ((تفسير ابن عاشور)) (21/88)، ((تفسير ابن عثيمين - سورة الروم)) (ص: 169). قال ابن عاشور: (معنى مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ: مَن قدَّر له الضَّلالَ، وطُبِع على قَلبِه؛ فإسنادُ الإضلالِ إلى اللهِ إسنادٌ لِتَكوينِه على ذلك، لا للأمرِ به). ((تفسير ابن عاشور)) (21/88). .
كما قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [الأنعام: 144] .
وقال سُبحانَه: وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ [إبراهيم: 27] .
وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ.
أي: وليس لِلَّذينَ أضَلَّهم اللهُ مِن ناصِرينَ يُنقِذونَهم مِن عَذابِ اللهِ، أو يَهدونَهم مِن الضَّلالِ [329] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/492)، ((تفسير ابن كثير)) (6/313)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (15/82، 83)، ((تفسير السعدي)) (ص: 640). .

الفَوائِدُ التَّربَويَّةُ:

1- في قَولِه تعالى: بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ الحثُّ على طلَبِ العِلمِ، والعَمَلِ به [330] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الرُّوم)) (ص: 168). ؛ فالجاهِلُ لا يَكُفُّه شَيءٌ، أمَّا العالِمُ فإنَّه إذا اتَّبَع هواه فرُبَّما ردَعَه عِلمُه [331] يُنظر: ((تفسير الشربيني)) (3/167). .
2- في قَولِه تعالى: فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ لَفْتُ انتباهِ الإنسانِ إلى سُؤالِ الهدايةِ مِن رَبِّه دائِمًا، فإذا عَلِمْتَ أنَّه لا أحدَ يَهدي مَن أضَلَّ اللهُ، لا تَلجَأُ في طَلَبِ الهِدايةِ إلَّا إليه، ولا تعتَمِدُ إلَّا عليه، وتسأَلُه دائِمًا الثَّباتَ [332] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الرُّوم)) (ص: 168). .

الفَوائِدُ العِلميَّةُ واللَّطائِفُ:

1- إثباتُ القياسِ، ووجْهُ ذلك ضَربُ المَثَلِ ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ [333] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الرُّوم)) (ص: 163). .
2- قال الله تعالى: هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ يَحتَجُّ سُبحانَه عليهم بما في عُقولِهم مِن قُبحِ كَونِ مَملوكِ أحَدِهم شَريكًا له، فإذا كان أحَدُكم يَستَقبِحُ أن يكونَ مملوكُه شَريكَه، ولا يَرضى بذلك، فكيف تَجعَلونَ لي مِن عَبيدي شُرَكاءَ تَعبُدونَهم كعِبادتي؟! وهذا يُبَيِّنُ أنَّ قُبْحَ عبادةِ غيرِ اللهِ تعالى مُستَقِرٌّ في العُقول والفِطَرِ، والسَّمعُ نَبَّهَ العُقولَ وأرشدَها إلى مَعرفةِ ما أُودِعَ فيها مِن قُبْحِ ذلك [334] يُنظر: ((مدارج السالكين)) لابن القيم (1/254). .
3- قال الله تعالى: لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ إشارةٌ إلى أنَّهم إن لم يَعمَلوا بمُقتضى ذلك كانوا مجانينَ؛ لأنَّ التَّمثيلَ يَكشِفُ المعانيَ بالتَّصويرِ والتَّشكيلِ كَشفًا لا يَدَعُ لَبسًا، فمَن خَفِيَ عليه لم يكُنْ له تمييزٌ [335] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (15/81). .
4- مُتَّبِعُ الهَوى ليس أهلًا أن يُطاعَ، ولا يكونُ إمامًا ولا مَتبوعًا؛ فإنَّ اللهَ سُبحانَه وتعالى عَزَلَه عن الإمامةِ، ونَهى عن طاعتِه؛ أمَّا عَزْلُه فإنَّ اللهَ سُبحانَه وتعالى قال لخليلِه إبراهيمَ: إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ [البقرة: 124] ، أي: لا ينالُ عهدي بالإمامةِ ظالِمًا، وكُلُّ مَنِ اتَّبَع هواه فهو ظالمٌ، كما قال الله تعالى: بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ. وأمَّا النَّهيُ عن طاعتِه فلِقَولِه تعالى: وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا [336] يُنظر: ((روضة المحبين)) لابن القيم (ص: 475). [الكهف: 28] .

بلاغةُ الآيتينِ:

1- قَولُه تعالى: ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ
- قولُه: هَلْ لَكُمْ ... إلخ تَصْويرٌ للمثَلِ، وتَكرَّرَ (مِن) ثلاثَ مرَّاتٍ في قولِه تعالى: مِنْ أَنْفُسِكُمْ، ومِنْ مَا مَلَكَتْ، ومِنْ شُرَكَاءَ؛ فالأُولى للابتداءِ، كأنَّه قال: أخَذَ مثَلًا وانْتزَعَه مِن أقرَبِ شَيءٍ منكم، وهي أنفُسُكم، ولم يَبعُدْ، والثَّانيةُ للتَّبعيضِ، والثَّالثةُ مَزِيدةٌ مُؤكِّدةٌ لِمَعنى النَّفيِ المُستفادِ مِن الاستفهامِ الإنكاريِّ في قولِه: هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ؛ فالجمْعُ بيْنَ هذه الحروفِ في كلامٍ واحدٍ مِن قَبِيلِ الجِناسِ [337] الجِناسُ (أو التَّجنيسُ): هو تشابُه لفظينِ في النُّطقِ، واختِلافُهما في المعنى، وهو مِنَ المحاسِنِ اللَّفظيَّةِ، وفنٌّ بديعٌ في اختيارِ الألفاظِ الَّتي تُوهِمُ في البَدْءِ التَّكريرَ، لكنَّها تُفاجِئُ بالتَّأسيسِ واختِلافِ المعنى. ويَنقسِمُ الجِناسُ إلى نوعَينِ: لَفظيٍّ، ومعنويٍّ، وكلٌّ منهما يَندرِجُ تحتَه أنواعٌ. ومِن أنواعِ الجناسِ المعنويِّ: الجِناسُ المصحَّفُ، ويُسمَّى أيضًا جِناسَ الخطِّ: وهو تشابُه اللَّفظَينِ في الكتابةِ مع الاختلافِ في نقطِ الحروفِ؛ مِثلُ: جنَّةٍ وحبَّةٍ، و(يَسْقي) و(يَشفي) في قوله تعالى: وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ [الشعراء: 79، 80]. كما يَنقسِمُ إلى: جِناسٍ مماثِل: وهو الجِناسُ التَّامُّ، الَّذي يكونُ اللَّفظانِ المُتشابِهانِ فيه مِن نوعٍ واحدٍ مِن أنواعِ الكلامِ؛ كاسمَينِ، أو فِعلَينِ. وجِناسٍ مُغايِرٍ «محرَّف»: وهو ما اختلَف فيه اللَّفظانِ في هيئةِ الحُروفِ، واتَّفَقَا في نَوعِها وعدَدِها وترتيبِها. وله فروعٌ أخرى. يُنظر: ((البرهان)) للزركشي (3/450-452)، ((الإتقان)) للسيوطي (5/1757)، ((البلاغة العربية)) لعبد الرحمن بن حسن حَبَنَّكَة الميداني (2/485، 488، 491، 497)، ((جواهر البلاغة)) للهاشمي (ص: 325 وما بعدها). التَّامِّ [338] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/478)، ((تفسير البيضاوي)) (4/206)، ((تفسير أبي حيان)) (8/387)، ((تفسير أبي السعود)) (7/59)، ((تفسير ابن عاشور)) (21/85). .
- وهذا المثَلُ تَشبيهُ هَيئةٍ مُركَّبةٍ بهَيئةٍ مُركَّبةٍ؛ شُبِّهَت الهيئةُ المُنتزَعةُ مِن زعْمِ المشركينَ أنَّ الأصنامَ شُركاءُ للهِ في التَّصرُّفِ، ودافِعون عن أوليائِهم ما يُرِيدُه اللهُ مِن تسلُّطِ عِقابٍ أو نحْوِه؛ إذ زَعَموا أنَّهم شُفعاؤُهم عندَ اللهِ، وهمْ مع ذلك يَعترِفون بأنَّها مَخلوقةٌ للهِ؛ فإنَّهم يَقولون في تَلبيتِهم: «لبَّيكَ لا شريكَ لك، إلَّا شريكًا هو لك» [339] ينظر ما أخرجه مسلم (1185) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما. . هذه الهيئةُ شُبِّهَت بهَيئةِ ناسٍ لهمْ عبيدٌ صاروا شُركاءَ في أرزاقِ سادتِهم شَرِكةً على السَّواءِ، فصار سادتُهم يَحْذَرون إذا أرادوا أنْ يَتصرَّفوا في تلك الأرزاقِ أنْ يكونَ تَصرُّفُهم غيرَ مَرْضيٍّ لِعَبيدِهم، وهذا التَّشبيهُ وإنْ كان مُنصرِفًا لِمَجموعِ المُركَّبِ مِن الهَيئتينِ قد بلَغَ غايةَ كَمالِ نَظائرِه؛ إذ هو قابلٌ للتَّفريقِ في أجزاءِ ذلك المُركَّبِ بتَشبيهِ مالِكِ الخلْقِ كلِّهم بالَّذين يَملِكون عَبيدًا، وتَشبيهِ الأصنامِ الَّتي هي مَخلوقةٌ للهِ تعالى بمَماليكِ النَّاسِ، وتَشْبيهِ تَشريكِ الأصنامِ في التَّصرُّفِ مع الخالقِ في مُلْكِه بتَشريكِ العبيدِ في التَّصرُّفِ في أرزاقِ سادتِهم، وتَشْبيهِ زعْمِهم عُدولَ اللهِ عن بعضِ ما يُرِيدُه في الخلْقِ لأجْلِ تلك الأصنامِ وشفاعتِها؛ بِحَذَرِ أصحابِ الأرزاقِ مِن التَّصرُّفِ في حُظوظِ عَبيدِهم الشُّركاءِ تصرُّفًا يأْبَونَه. فهذه الهيئةُ المُشبَّهُ بها هَيئةٌ قَبيحةٌ مُشَوَّهةٌ في العادةِ لا وُجودَ لأمْثالِها في عُرْفِهم؛ فكانتِ الهيئةُ المُشبَّهةُ مَنْفيَّةً مُنكَرةً، ولذلك أُدخِلَ عليها استفهامُ الإنكارِ والجُحودِ؛ لِيُنتِجَ أنَّ الصُّورةَ المزعومةَ للأصنامِ صُورةٌ باطلةٌ بطَريقِ التَّصويرِ والتَّشكيلِ؛ إبرازًا لذلك المعنى الاعتقاديِّ الباطلِ في الصُّورةِ المَحْسوسةِ المُشوَّهةِ الباطلةِ [340] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (21/86). .
- والغرَضُ مِن ذِكرِ التَّمثيلِ تقْبيحُ شأْنِ الشِّركِ، وإبْرازُه في ذِهْنِ السَّامعِ بصُورةٍ يَشمَئِزُّ منها؛ وذلك بأنْ يَتصوَّرَ حالةَ سيِّدٍ له رقيقٌ مُستبِدٌّ مُتصرِّفٌ في أموالِه تصرُّفَ الشُّركاءِ مِن غيرِ تَفْصلةٍ، بحيث إنْ أراد السَّيِّدُ التَّصرُّفَ هاب منه [341] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/478)، ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (12/240). .
- والاستفهامُ في قولِه: هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ مُستعمَلٌ في الإنكارِ، ومَناطُ الإنكارِ قولُه: فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ إلى آخرِه، أي: مِن شُركاءَ لهمْ هذا الشَّأنُ [342] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (21/85). .
- قولُه: فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَحْقيقٌ لِمعنَى الشَّرِكةِ، وبَيانٌ لِكَونِهم وشُركائِهم مُتساوينَ في التَّصرُّفِ فيما ذُكِرَ مِن غيرِ مَزيَّةِ لهمْ عليها، على أنَّ هناك مَحذوفًا مَعطوفًا على (أنتُم)، لا أنَّه عامٌّ للفريقينِ بطَريقِ التَّغليبِ، أي: هلْ تَرضَون لأنفُسِكم -والحالُ أنَّ عبيدَكم أمْثالُكم في البشَريَّةِ وأحْكامِها- أنْ يُشارِكوكم فِيما رَزقْناكم وهو مُعَارٌ لكم، فأنتم وهمْ فيه سَواءٌ، يَتصرَّفون فيه كتَصرُّفِكم مِن غيرِ فرْقٍ بيْنَكم وبيْنَهم [343] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (7/59). ؟!
- وفي ذِكْرِ لفْظِ (قوم) وإجراءِ الصِّفةِ عليه: إيماءٌ إلى أنَّ هذه الآياتِ لا يَنتفِعُ بها إلَّا مَن كان العقْلُ مِن مُقوِّماتِ قَوْمِيَّتِه [344] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (21/87). .
- قولُه: كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ فيه تخْصيصُ القومِ العاقِلينَ بالذِّكرِ -مع عُمومِ تَفْصيلِ الآياتِ للكلِّ-؛ لأنَّهم المُنتفِعون بها [345] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (7/59). . وقيل: نِيطَ الانتفاعُ بهذه الآياتِ بأصحابِ صِفةِ العقْلِ؛ لأنَّ العقْلَ المُستقيمَ غيرَ المَشُوبِ بعاهةِ العِنادِ والمُكابَرةِ، كافٍ في فَهْمِ ما في تلك المَذْكوراتِ مِن الدَّلائلِ والحِكَمِ [346] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (21/79، 87). .
- وأيضًا في إيثارِ وَصْفِ العَقْلِ هنا دونَ غيرِه مِن أوصافِ النَّظرِ والفِكْرِ: تَعريضٌ بالمُتصلِّبينَ في شِرْكِهم بأنَّهم لَيسوا مِن أهلِ العقولِ، ولَيسوا ممَّن يَنتفِعون [347] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (21/87). .
- ولَمَّا كان ضَرْبُ الأمثالِ لإدناءِ المُتوهَّمِ إلى المَعقولِ، وإرادةِ المُتخيَّلِ في صُورةِ المُحقَّقِ؛ أتَى في هذه الفاصِلةِ بقولِه: كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ، وكذلك في الآيةِ السَّابقةِ: وَمِنْ آَيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [الروم: 24]؛ لأنَّ ذلك تَمثيلٌ لإحياءِ النَّاسِ، وإنشارِ المَوتى [348] يُنظر: ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (12/240، 241). .
2- قَولُه تعالى: بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ
- في قولِه: بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إضرابٌ إبْطاليٌّ لِمَا تضمَّنَه التَّعريضُ الَّذي في قولِه: كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [الروم: 28] ؛ إذ اقْتَضى أنَّ الشَّأنَ أنْ يَنتفِعَ النَّاسُ بمِثْلِ هذا المثَلِ، فيُقلِعَ المشرِكونَ منهم عن إشْراكِهم ويَلِجُوا حَظيرةَ الإيمانِ، ولكنَّهم اتَّبَعوا أهْواءَهم وما تُسَوِّلُه لهم نُفوسُهم، ولم يَطلُبوا الحَقَّ ويَتفهَّموا دَلائلَه؛ فهُمْ عن العِلْمِ بمَنأًى؛ فالتَّقديرُ: فما نفَعَتْهمُ الآياتُ المُفصَّلةُ، بلِ اتَّبَعوا أهواءَهم [349] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (8/388)، ((تفسير ابن عاشور)) (21/87). .
- قولُه: بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَضْعُ المَوصولِ مَوضِعَ ضَميرِهم؛ للتَّسجيلِ عليهم بأنَّهم في ذلك الاتِّباعِ ظالِمون، واضِعون للشَّيءِ في غيرِ مَوضعِه، أو ظالِمون لأنفُسِهم بتَعريضِها للعذابِ الخالدِ [350] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (7/59). .
- وتقْييدُ اتِّباعِ الهَوى بأنَّه بغيرِ عِلْمٍ تَشنيعٌ لهذا الاتِّباعِ؛ فإنَّه اتِّباعُ شَهوةٍ مع جَهالةٍ؛ فالجاهلُ يَهِيمُ على وجْهِه بلا مُرجِّحٍ -غيرَ المَيلِ كالبَهيمةِ- لا يَرُدُّه شَيءٌ، فإنَّ العالِمَ إذا اتَّبع الهَوى كان مُتحرِّزًا مِن التَّوغُّلِ في هواهُ؛ لعِلْمِه بفَسادِه [351] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (15/82)، ((تفسير ابن عاشور)) (21/88)، ((تفسير ابن عثيمين - سورة الروم)) (ص: 166، 167). .
- والفاءُ في فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ للتَّفريعِ، أي: يَترتَّبُ على اتِّباعِهم أهواءَهم بغَيرِ عِلْمٍ انتفاءُ الهُدى عنهم أبدًا. و(مَن) اسمُ استفهامٍ إنكاريٍّ بمَعنى النَّفيِ؛ فيُفِيدُ عُمومَ نفْيِ الهادِي لهمْ؛ إذ التَّقديرُ: لا أحَدَ يَهْدي مَن أضَلَّ اللهُ؛ لا غيرُهم ولا أنفُسُهم؛ فإنَّهم مِن عُمومِ ما صَدَق [352] الماصَدَق -عند المناطقة-: الأفرادُ الَّتي يتحقَّقُ فيها معنى الكلِّيِّ، ويُقابِلُه: المفهومُ. يُنظر: ((المعجم الوسيط)) (1/511) و (2/704). ويُنظر أيضًا: ((ضوابط المعرفة)) لحبنكة (ص: 45، 46). فَمَنْ يَهْدِي [353] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (21/88). .
- وقولُه: وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ كالتَّتميمِ لِمَعنى إرادةِ الإضلالِ والمنْعِ مِن الهِدايةِ؛ وذلك أنَّه تعالى عَقِيبَ ما عدَّدَ الآياتِ البيِّناتِ والشَّواهدَ الدَّالَّةَ على الوَحدانيَّةِ ونفْيِ الشَّريكِ، وإثباتِ القولِ بالمَعادِ وضرْبِ المثَلِ، وفصَّلَ ذلك بقولِه: كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [الروم: 28] ؛ أراد أنْ يُسلِّيَ حبيبَه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، ويُوطِّنَه على اليأْسِ مِن إيمانِهم، فأضْرَبَ عن ذلك وقال: بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُمْ، وجعَلَ السَّببَ في ذلك أنَّه تعالى ما أراد هِدايتَهم، وأنَّه مَختومٌ على قُلوبِهم؛ ولذلك رتَّبَ عليهم قولَه: فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ على التَّقريعِ والإنكارِ، ثمَّ ذيَّلَ الكلَّ بقولِه: وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ، يعني: إذا أراد اللهُ منهم ذلك لا مُخلِّصَ لهم منه، ولا أحَدَ يُنقِذُهم؛ لا أنتَ ولا غيرُك، فلا تَذْهَبْ نفْسُك عليهم حسَراتٍ، فاهتَمَّ بخاصَّةِ نفْسِك ومَن تَبِعَك، وأقِمْ وجْهَك معهم للدِّينِ حَنيفًا [354] يُنظر: ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (12/242). .