موسوعة التفسير

سُورةُ يُوسُفَ
الآيات (99- 101)

ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ

غريب الكلمات:

الْعَرْشِ: أي: سريرِ الملِكِ، أو سريرِ المملَكةِ، وأصلُ (عرش): يدلُّ على ارتفاعٍ في شيءٍ مبْنِيٍّ، أو شيءٍ مُسقَّفٍ [1107] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 222)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 335)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (4/264)، ((المفردات)) للراغب (ص: 558)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 176). .
وَخَرُّوا: الخُرورُ والخَرُّ: السُّقوطُ مِنْ عُلُوٍّ إِلَى الأرضِ، وخرَّ: سقَط على وَجهِه، وأصلُ (خَرَّ): هو اضْطِرابٌ، وسُقوطٌ معَ صوتٍ [1108]  يُنظر: ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 211)،  ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/149)، ((تفسير المنار)) لمحمد رشيد رضا (9/109)، ((تفسير ابن عاشور)) (13/56). .
الْبَدْوِ: أي: الباديةِ، وهي كلُّ مكانٍ يبدو ما يَعِنُّ فيه، أي: يعرِضُ، أو خلافُ الحضَرِ، وأصلُ (بدو): هو ظُهورُ الشَّيءِ [1109] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/212)، ((المفردات)) للراغب (ص: 113)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 251). .
نَزَغَ: أي: أفسَدَ وأغْرى، وحمَلَ بعضَنا على بعضٍ، وأصلُ (نزغ): يدلُّ على إفسادٍ بين اثنينِ [1110] يُنظر: ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 464)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/416)، ((المفردات)) للراغب (ص: 798)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 917). .
فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ: أي: خالِقَهما ومُبدِعَهما ومُبتدئَهما، وأصلُ (فطر): الشَّقُّ طولًا، ويدلُّ على فتْحِ شيءٍ، وإبرازِه [1111] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 151)، ((تفسير ابن جرير)) (9/175)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (4/510)، ((المفردات)) للراغب (ص: 640).

المعنى الإجمالي :

يقول الله تعالى: فلَمَّا دخَلَ يعقوبُ وأهلُه على يوسُفَ ضمَّ إليه أبويْه، وقال لجميعِ أهلِه: ادخُلوا مصرَ آمنينَ إنْ شاءَ اللَّهُ، وأجلَسَ أباه وأمَّه على العَرشِ الَّذي يجلِسُ عليه، وخرَّ الجميعُ له سُجودًا؛ تحيةً وتعظيمًا ليوسُفَ، وقال لأبيه: يا أبتِ هذا السُّجودُ منكم لي هو تَفسيرُ رُؤْيايَ الَّتي رأيتُها في صِغَري، قد حقَّقَها ربِّي، وقد أحسَنَ بي جلَّ وعلا حين أخرَجني مِن السِّجنِ، وجاء بكم مِن الباديةِ مِن بَعدِ أنْ أفسَدَ الشَّيطانُ بَيني وبين إخوتي؛ إنَّ ربِّي لطيفٌ لِمَا يُريدُه، إنَّه هو العليمُ الحَكيمُ.
وقال يوسُفُ داعيًا ربَّه: ربِّي قد آتيتَني مِن مُلْكِ مصرَ، وعلَّمتَني مِن تَعبيرِ الرُّؤى، ومِن عُلومِ الكُتُبِ المُنزَّلةِ، وسُنَنِ الأنبياءِ، يا خالقَ السَّمواتِ والأرضِ، أنت ناصِري ومُتولِّي أُموري في الدُّنيا والآخِرَةِ، تَوفَّني وأنا على الإسلامِ، وألْحِقْني في الثَّوابِ والدَّرجاتِ بالصَّالِحين.

تفسير الآيات :

فَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُواْ مِصْرَ إِن شَاء اللّهُ آمِنِينَ (99).
فَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ.
أي: فرحَلَ يعقوبُ بأهلِه جميعًا إلى مصرَ، فلَمَّا دخَلوا على يوسُفَ ضمَّ يوسُفُ إليه أبويْه، واختصَّهما بقُربِه [1112] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (13/349)، ((تفسير ابن عطية)) (3/281)، ((تفسير ابن كثير)) (4/411)، ((تفسير السعدي)) (ص: 405). قال ابنُ الجوزيِّ: (في قولِه تعالى: آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ قولانِ: أحدُهما: أبوه وخالتُه؛ لأنَّ أمَّه كانت قد ماتتْ؛ قاله ابنُ عبَّاسٍ والجمهورُ. والثَّاني: أبوه وأمُّه؛ قاله الحسنُ وابنُ إسحاقَ). ((تفسير ابن الجوزي)) (2/473). قال ابنُ جريرٍ: (وأولى القَولينِ في ذلك بالصَّوابِ ما قاله ابنُ إسحاقَ؛ لأنَّ ذلك هو الأغلبُ في استِعمالِ النَّاسِ والمُتعارَفُ بينهم في «أبوين»، إلَّا أنْ يصِحَّ ما يُقال مِن أنَّ أمَّ يُوسفَ كانت قد ماتت قبل ذلك بحُجَّةٍ يجِبُ التَّسليمُ لها، فيُسَلَّمُ حينئذٍ لها). ((تفسير ابن جرير)) (13/352). قال ابنُ كثيرٍ بعد ذكرِه قولَ ابنِ جريرٍ: (وهذا الَّذي نصَرَه هو المنصورُ الَّذي يدلُّ عليه السِّياقُ). ((تفسير ابن كثير)) (4/411، 412). ويُنظر: ((تفسير ابن عطية)) (3/281)، ((تفسير أبي حيان)) (6/326). .
وَقَالَ ادْخُلُواْ مِصْرَ إِن شَاء اللّهُ آمِنِينَ.
أي: وقال يوسُفُ لجميعِ أهلِه: ادخُلوا مِصرَ آمنينَ- إنْ شاءَ اللَّهُ- مِن المَكارِه والمَخاوِفِ [1113] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (13/352)، ((البسيط)) للواحدي (12/248، 249)، ((تفسير السعدي)) (ص: 405). قال الشَّوكانيُّ: (ظاهِرُ النَّظمِ القُرآنيِّ: أنَّ يُوسفَ قال لهم هذه المَقالةَ- أي: ادْخُلُوا مِصْرَ- قبلَ دُخولِهم، وقد قيل في توجيهِ ذلك: إنَّه تلقَّاهم إلى خارجِ مصرَ، فوقَفَ مُنتظِرًا لهم في مكانٍ أو خيمةٍ، فدخلوا عليه فـ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ، فلمَّا دخلوا مصرَ، ودخلوا عليه دخولًا آخَرَ في المكانِ الَّذي له بمصرَ رَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ). ((تفسير الشوكاني)) (3/67)، ويُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (13/349). وقيل: المُرادُ بدُخولِ مصرَ: السَّكنُ والاستقرارُ فيها، وممَّن ذهَبَ إلى هذا المعنى: ابنُ عطيَّةَ، وابنُ كثيرٍ. يُنظر: ((تفسير ابن عطية)) (3/281)، ((تفسير ابن كثير)) (4/411). وقيل: إنَّ في هذا التركيبِ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ معنَى الدُّعاءِ، فكأنه قيل: اسْلَموا وأْمَنوا في دخولِكم إن شاء الله، والتقديرُ: ادخُلوا مصرَ آمِنينَ، إن شاء الله دخَلْتُم آمِنينَ. يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (2/505)، ((تفسير الألوسي)) (7/55). .
وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّواْ لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَـذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بَي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاء بِكُم مِّنَ الْبَدْوِ مِن بَعْدِ أَن نَّزغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِّمَا يَشَاء إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (100).
وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ.
أي: وأجلَسَ يوسُفُ أباه وأمَّه على السَّريرِ الَّذي يجلِسُ عليه [1114] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (13/352)، ((البسيط)) للواحدي (12/249)، ((تفسير الرازي)) (18/510)، ((تفسير ابن كثير)) (4/412)، ((تفسير الشوكاني)) (3/67). .
وَخَرُّواْ لَهُ سُجَّدًا.
أي: وخرَّ أبو يوسُفَ وأمُّه وإخوتُه الأَحدَ عشَرَ ساجِدينَ لِيوسُفَ؛ تَحيةً له وتعظيمًا [1115] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (13/354)، ((تفسير ابن كثير)) (4/412)، ((تفسير الشوكاني)) (3/67)، ((تفسير السعدي)) (ص: 405). قال القُرطبيُّ: (أجمَعَ المُفسِّرون أنَّ ذلك السُّجودَ على أيِّ وجهٍ كان، فإنَّما كان تحيَّةً لا عِبادةً). ((تفسير القرطبي)) (9/265). وقال ابنُ كثيرٍ: (وقد كان هذا سائغًا في شَرائعِهم؛ إذا سلَّموا على الكبيرِ يَسجُدونَ له، ولم يزَلْ هذا جائزًا مِن لدُنْ آدمَ إلى شريعةِ عيسى عليه السَّلامُ، فحُرِّمَ هذا في هذه المِلَّةِ، وجُعِلَ السُّجودُ مُختصًّا بجَنابِ الرَّبِّ سبحانه وتعالى؛ هذا مضمونُ قولِ قتادةَ وغيرِه). ((تفسير ابن كثير)) (4/412). وقال ابنُ عاشورٍ: (كان السُّجودُ تَحيةَ المُلوكِ وأضرابِهم، ولم يكُنْ يومئذٍ ممنوعًا في الشَّرائعِ، وإنَّما منَعَه الإسلامُ لغيرِ اللَّهِ؛ تحقيقًا لمعنى مُساواةِ النَّاسِ في العُبوديَّةِ والمَخلوقيَّةِ؛ ولذلك فلا يُعَدُّ قَبولُه السُّجودَ مِن أبيه عُقوقًا؛ لأنَّه لا غَضاضةَ عليهما منه؛ إذ هو عادَتُهم). ((تفسير ابن عاشور)) (13/56)، ويُنظر: ((أحكام القرآن)) لابن العربي (3/77). .
وَقَالَ يَا أَبَتِ هَـذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا.
أي: وقال يوسُفُ لأبيه يعقوبَ: يا أبتِ هذا السُّجودُ منكم هو ما آلَتْ إليه رُؤْيايَ الَّتي رأيْتُها في مَنامي مِن قبلُ- وذلك حينَ رأى أنَّ الشَّمسَ والقمَرَ وأحدَ عشَرَ كوكبًا له ساجِدينَ- قد حقَّقَ ربِّي وُقوعَها، وجعَلَها صادِقةً [1116] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (13/356)، ((تفسير ابن كثير)) (4/412)، ((تفسير السعدي)) (ص: 405). .
وَقَدْ أَحْسَنَ بَي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاء بِكُم مِّنَ الْبَدْوِ.
أي: وقد أحسَنَ ربِّي [1117] قال ابنُ عاشورٍ: (معنى أَحْسَنَ بِي أحسَنَ إليَّ؛ يقال: أحسَنَ به، وأحسَنَ إليه، مِن غيرِ تضمينِ معنى فعْلٍ آخَرَ. وقيل: هو بتَضمينِ «أحسَنَ» معنى «لطَفَ». و(باءُ) بِي للمُلابسةِ، أي: جعَلَ إحسانَه مُلابِسًا لي). ((تفسير ابن عاشور)) (13/57). إليَّ حينَ أخرَجَني مِن السِّجنِ، وجاءَ بكم مِن بادِيةِ الشَّامِ [1118] قال ابنُ جريرٍ: (مَسكنُ يعقوبَ وولدِه- فيما ذُكِرَ- كان بباديةِ فلسطينَ). ((تفسير ابن جرير)) (13/361). إلى حاضِرةِ مصرَ [1119] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (13/356)، ((تفسير ابن جزي)) (1/396)، ((تفسير ابن كثير)) (4/412)، ((تفسير السعدي)) (ص: 405)، ((تفسير ابن عاشور)) (13/57). .
مِن بَعْدِ أَن نَّزغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي.
أي: مِن بعدِ أنْ دخَلَ الشَّيطانُ بيني وبين إخوتي، فأفسَدَ ما بَيننا بالحسَدِ، وأغْرى بعضَنا ببعضٍ [1120] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (13/363)، ((الوسيط)) للواحدي (2/636)، ((تفسير البيضاوي)) (3/177). .
إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِّمَا يَشَاء.
أي: إنَّ ربِّي لطيفٌ لِما يُريدُه بعِبادِه مِن البِرِّ والرَّحمةِ؛ فيُيسِّرُ لهم الخيرَ بطُرُقٍ خفيَّةٍ دقيقةٍ، مِن حيثُ لا يَعلمونَ، ولا يَحتسِبونَ [1121] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (13/363)، ((تفسير القرطبي)) (9/267)، ((شفاء العليل)) لابن القيم (ص: 34)، ((تفسير ابن كثير)) (4/413)، ((تفسير السعدي)) (ص: 405). .
إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ.
أي: إنَّ اللَّهَ هو العَليمُ بمصالِحِ خَلْقِه وغيرِ ذلك، لا يَخْفَى عليه ظواهِرُ الأمورِ وبواطنُها، ولا مَبادئُها وعَواقبُها، الحكيمُ في أفعالِه وأقوالِه وتَدبيرِه؛ فيضَعُ كلَّ شيءٍ في موضِعِه اللَّائقِ به، ويَسوقُ الأمورَ إلى أوقاتِها المُقدَّرةِ لها [1122] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (13/364)، ((تفسير ابن كثير)) (4/413)، ((تفسير السعدي)) (ص: 405). .
رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنتَ وَلِيِّي فِي الدُّنُيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (101).
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
أنَّه لَمَّا جمَعَ اللَّهُ شمْلَ يوسُفَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ، علِمَ أنَّ نعيمَ الدُّنيا لا يَدومُ، فسأَلَ اللَّهَ حُسْنَ العاقِبةِ [1123] يُنظر: ((تفسير ابن عادل)) (11/219). .
وأيضًا أنَّه لَمَّا أتمَّ اللَّهُ لِيوسُفَ ما أتمَّ مِن التَّمكينِ في الأرضِ والمُلْكِ، وأقرَّ عينَه بأبويْه وإخوتِه، وبعدَ العِلْمِ العَظيمِ الَّذي أعطاه اللَّهُ إيَّاه؛ قال مُقرًّا بنِعمةِ اللَّهِ، شاكرًا لها، داعيًا بالثَّباتِ على الإسلامِ [1124] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 406). ، فقال:
رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ.
أي: قال يوسُفُ: يا ربِّ، قد آتيتَني مِن [1125] ممَّن ذهَبَ إلى أنَّ مِنْ في قولِه تعالى: مِنَ الْمُلْكِ، وفي قولِه سبحانه: مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ للتَّبعيضِ: الزَّمخشريُّ، والرَّازيُّ، والقُرطبيُّ، والبيضاويُّ. يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (2/507)، ((تفسير الرازي)) (18/514)، ((تفسير القرطبي)) (9/269)، ((تفسير البيضاوي) (3/177). قال الخازِنُ: (مِنْ هنا للتَّبعيضِ؛ لأنَّه لم يُؤْتَ مُلْكَ مصرَ كلَّه، بل كان فوقَه ملِكٌ آخَرُ، والمُلْكُ عِبارةٌ عنِ الاتِّساعِ في المَقدورِ لِمَن له السِّياسةُ والتَّدبيرُ). ((تفسير الخازن)) (2/558). وقال أبو حيَّان: (و«من» فِي قَوْلِهِ مِنَ الْمُلْكِ، وفي مِنْ تَأْوِيلِ للتَّبعيضِ؛ لأنَّه لم يُؤْتِه إلَّا بعضَ مُلْكِ الدُّنيا، ولا علَّمه إلَّا بعضَ التَّأويلِ. ويبعُدُ قولُ مَن جعَلَ «مِن» زائدةً، أو جعَلَها لِبَيانِ الجنسِ). ((تفسير أبي حيان)) (6/329). وقال الزَّجَّاجُ: (فيها قولانِ، أعني في دُخولِ «مِن»: جائزٌ أنْ يكون أراد: علَّمتَني بعضَ التَّأويلِ، وآتيتَني بعضَ المُلْكِ، وجائزٌ أنْ يكون دُخولُ «مِن»؛ لِتُبيِّنَ هذا الجِنسَ مِن سائرِ الأجناسِ، ويكونَ المعنى: ربِّ فد آتيتَني المُلْكَ، وعلَّمتَني تأويلَ الأحاديثِ، مثلُ قولِه عزَّ وجلَّ: تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ [آل عمران: 26]، يدلُّ على أنَّ «مِن» هاهنا إنَّما هي لِتَبْيينِ الجنسِ، ومثلُه قولُه: فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ [الحج: 30] ، ولم يُؤْمَروا باجتنابِ بعضِ الأوثانِ، ولكنِ المعنى: واجتَنِبوا الرِّجسَ الَّذي هو الأوثانُ). ((معاني القرآن وإعرابه)) (3/129). ويُنظر: ((تفسير ابن الجوزي)) (2/475). مُلْكِ مصرَ بالتَّصرُّفِ في شُؤونِ خَزائنِها [1126] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (13/364)، ((تفسير ابن كثير)) (4/414)، ((تفسير السعدي)) (ص: 405). .
وَعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ.
أي: وعلَّمتَني- يا ربِّ- مِن تَعبيرِ الرُّؤى، ومِن عُلومِ الكُتُبِ المُنزَّلةِ، وسُنَنِ الأنبياءِ [1127] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 406)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (2/202). .
فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنتَ وَلِيِّي فِي الدُّنُيَا وَالآخِرَةِ.
أي: يا خالِقَ السَّمواتِ والأرضِ، أنت ناصِري ومُتولِّي أُموري في الدُّنيا وفي الآخرةِ [1128] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (13/364، 365)، ((تفسير القرطبي)) (9/270)، ((تفسير البيضاوي)) (3/177). .
تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ.
أي: اقبِضْني إليك- يا ربِّ- إذا جاء أَجَلي وأنا ثابِتٌ على الإسلامِ، وألْحِقْني في الثَّوابِ والدَّرجاتِ بالصَّالِحين مِن آبائي؛ إبراهيمَ وإسحاقَ وغيرِهما مِن الأنبياءِ والمُرسَلينَ [1129] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (13/365)، ((البسيط)) للواحدي (12/256)، ((تفسير القرطبي)) (9/269)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (8/370)، ((تفسير السعدي)) (ص: 406)، ((تفسير ابن عاشور)) (13/60). قال القُرطبيُّ: (قيل: إنَّ يُوسفَ لم يتمَنَّ الموتَ، وإنَّما تمَنَّى الوفاةَ على الإسلامِ، أي: إذا جاء أجلي تَوفَّني مُسلمًا، وهذا قولُ الجُمهورِ). ((تفسير القرطبي)) (9/269). .

الفوائد التربوية :

1- قال يوسُفُ عليه السلامُ: وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ لم يقُلْ: (أخرَجَني مِن الجُبِّ)؛ حفْظًا للأدبِ مع إخوتِه، وتَفَتِّيًا [1130] الفتَى: السخىُّ الكريمُ، يُقال: هو فتًى بيِّنُ الفُتوَّةِ. وقد تَفَتَّى وتَفاتى، والفُتُوَّةُ: الكرمُ. يُنظر: ((الصحاح)) للجوهري (6/2452)، ((القاموس المحيط)) للفيروزابادي (ص: 1320). عليهم ألَّا يُخْجِلَهم بما جَرى في الجُبِّ، وقال: وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ ولم يقُلْ: جاءَ بكم مِن الجوعِ والنَّصبِ، أو: رفَعَ عنكم جُهْدَ الجُوعِ والحاجةِ؛ أدبًا معهم، وأضافَ ما جَرى إلى السَّببِ ولم يُضِفْه إلى المُباشِرِ الَّذي هو أقرَبُ إليه منه، فقال: نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي ولم يقُلْ: (نزَغَ الشَّيطانُ إخوتي)، بل كأنَّ الذَّنْبَ والجهْلَ صدَرَ مِن الطَّرفينِ ؛ فأعْطى الفُتُوَّةَ والكرَمَ والأدبَ حَقَّه؛ ولهذا لم يكُنْ كَمالُ هذا الخُلُقِ إلَّا للرُّسلِ والأنبياءِ صلواتُ اللَّهِ وسلامُه عليهم [1131] يُنظر: ((مدارج السالكين)) لابن القيم (2/360)، ((تفسير السعدي)) (ص: 405). .
2- قوله: وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِن لُطْفِ يوسُفَ وحُسْنِ خِطابِه عليه السَّلامُ؛ حيثُ قال: (إنَّ إتيانَكم مِن الباديةِ مِن إحسانِ اللَّهِ إليَّ)، فلم يقُلْ: (أحسَنَ بكم)، بل قال: أَحْسَنَ بِي؛ فجعَلَ الإحسانَ عائدًا إليه [1132] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 405). .
3- في قولِ يوسُفَ عليه السَّلامُ: وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ إشارةٌ إلى أنَّه ينبغي على العبدِ أن يتذكَّرَ في حالِ الرَّخاءِ والسُّرورِ حالةَ الحُزنِ والشِّدَّةِ؛ ليزدادَ شُكرُه وثناؤُه على اللهِ [1133] يُنظر: ((فوائد مستنبطة من قصة يوسف عليه السلام)) للسعدي (ص: 40). .
4- قولُ يوسفَ عليه السلامُ: إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ فيه أنَّ اللهَ تعالَى يُوصِلُ بِرَّه وإحسانَه إلى العبدِ من حيث لا يَشعُرُ، ويُوصِلُه إلى المَنازلِ الرَّفيعةِ مِن أمورٍ يكرَهُها [1134] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 405). .
5- قولُ يوسُفَ عليه السَّلامُ: رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ فيه أنَّه ينْبَغي للعبدِ أنْ يَتملَّقَ إلى اللَّهِ دائمًا في تَثبيتِ إيمانِه، ويَعمَلَ الأسبابَ الموجِبةَ لذلك، ويسأَلَ اللَّهَ حُسْنَ الخاتِمةِ، وتَمامَ النِّعمةِ [1135] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 407). .
6- قولُ اللَّهِ تعالى: رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ مَن أرادَ الدُّعاءَ يستحب له أنْ يُقدِّمَ عليه ذِكْرَ الثَّناءِ على اللَّهِ؛ فهاهنا يوسُفُ عليه السَّلامُ لَمَّا أرادَ أنْ يذكُرَ الدُّعاءَ، قدَّمَ عليه الثَّناءَ، ثمَّ ذكَرَ عُقَيْبَه الدُّعاءَ [1136] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (18/515، 516). .

الفوائد العلمية واللطائف :

1- قال اللَّهُ تعالى حِكايةً عن يوسُفَ: وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ خَصَّ مِن إحسانِ اللَّهِ إليه إحْسانَينِ؛ هما: يومَ أخرَجَه مِن السِّجنِ، ومَجيءَ عَشيرتِه مِن الباديةِ؛ فإنَّ (إذْ) ظرْفُ زمانٍ لفعْلِ أَحْسَنَ؛ فهي بإضافتِها إلى ذلك الفعْلِ اقتَضَت وُقوعَ إحسانٍ غيرِ معدودٍ؛ فإنَّ ذلك الوقتَ كان زمَنَ ثُبوتِ بَراءتِه مِن الإثمِ الَّذي رمَتْه به امرأةُ العزيزِ، وتلك مِنَّةٌ، وزمَنَ خَلاصِه مِن السِّجنِ؛ فإنَّ السِّجنَ عذابُ النَّفْسِ بالانفصالِ عنِ الأصدقاءِ والأحِبَّةِ، وبخِلْطَةِ مَن لا يُشاكِلونه، وبشُغْلِه عن خُلْوَةِ نفْسِه بتلقِّي الآدابِ الإلهيَّةِ، وكان أيضًا زمَنَ إقبالِ الملِكِ عليه. وأمَّا مجيءُ أهلِه فزوالُ ألَمٍ نفْسانيٍّ بوَحشتِه في الانفرادِ عن قَرابتِه، وشوقِه إلى لقائِهم؛ فأفصَحَ بذكْرِ خُروجِه مِن السِّجنِ ومجيءِ أهلِه مِن البدْوِ إلى حيثُ هو مَكينٌ قويٌّ [1137] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (13/57). .
2- قَولُه: وَجاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ يُستدَلُّ به على أنَّ الانتقالَ من البدوِ نِعمةٌ، وذلك لِما يلحقُ أهلَ الباديةِ مِن الجَفاءِ، والبُعدِ عن مواردِ العُلومِ، وعن رَفاهةِ المدنيَّة، ولُطفِ المُعاشرة، والكمالاتِ الإنسانيَّة [1138] يُنظر: ((تفسير القاسمي)) (6/222). .
3- قولُه: وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ لم يَذكُرْ يوسُفُ عليه السَّلامُ إخراجَه مِن البئْرِ؛ لوُجوهٍ:
الأوَّلُ: أنَّه قال لإخوتِه: لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ ولو ذَكَرَ واقِعةَ البئْرِ لكان ذلك تَثريبًا لهم؛ فكان إهمالُه جاريًا مَجْرى الكرَمِ.
الثَّاني: أنَّه لَمَّا خرَجَ مِن البئْرِ لم يَصِرْ ملِكًا بل صيَّروه عبدًا، أمَّا لَمَّا خرَجَ مِن السِّجنِ صيَّروه ملِكًا؛ فكان هذا الإخراجُ أقرَبَ مِن أنْ يكونَ إنعامًا كاملًا.
الثَّالثُ: أنَّه لَمَّا أُخْرِجَ مِن البئْرِ وقَعَ في المضارِّ الحاصِلةِ بسبَبِ تُهمةِ المرأةِ، ولَمَّا أُخْرِجَ مِن السِّجنِ وصَلَ إلى أبيه وإخوتِه، وزالَتِ التُّهمةُ؛ فكان هذا أقرَبَ إلى المَنْفعةِ [1139] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (18/512). .
الرابع: أنَّ مُصيبةَ السِّجنِ كانتْ عند يوسُفَ أعظَمَ؛ لطولِ مُدَّتِها، ولمُصاحَبَتِه الأوباشَ وأعداءَ الدِّينِ فيه، بخِلافِ مُصيبةِ الجُبِّ؛ لقِصَرِ مُدَّتِها [1140] يُنظر: ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص: 283). .
الخامس: لأنَّ السِّجْنَ كان باخْتيارِه، فكانَ الخُروجُ منه أعْظمَ بخلافِ الجُبِّ [1141] يُنظر: ((البرهان في علوم القرآن)) للزركشي (3/66). .
4- قولُه: وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ فيه دَلالةٌ على أنَّ فِعْلَ العبدِ خلْقُ اللَّهِ تعالى؛ لأنَّه أضافَ إخراجَه مِن السِّجنِ إلى اللَّهِ تعالى، ومجيئَهم مِن البدْوِ إليه [1142] يُنظر: ((تفسير الشربيني)) (2/138). .
5- قال يوسُفُ الصِّدِّيقُ: يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقّاً وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ فأخبَرَ أنَّه تعالى يلطُفُ لِما يُريدُه؛ فيأْتي به بطُرُقٍ خَفِيَّةٍ لا يعلَمُها النَّاسُ، واسمُه جلَّ وعلا (اللَّطيفُ) يتضمَّنُ عِلْمَه بالأشياءِ الدَّقيقةِ، وإيصالَه الرَّحمةَ بالطُّرقِ الخَفِيَّةِ؛ فكان ظاهِرُ ما امتحَنَ به يوسُفَ مِن مُفارقةِ أبيه وإلقائِه في السِّجنِ، وبيعِه رقيقًا، ثمَّ مُراودةِ الَّتي هو في بيتِها عن نَفْسِه، وكذِبِها عليه وسَجْنِه- مِحَنًا ومصائبَ، وباطِنُها نِعَمًا وفتْحًا، جعَلَها اللَّهُ سببًا لِسعادتِه في الدُّنيا والآخرةِ [1143] يُنظر: ((شفاء العليل)) لابن القيم (ص: 34). .
6- قولُ اللَّهِ تعالى: تَوَفَّنِي مُسْلِمًا فيه سؤالٌ: كيف قال يوسُفُ عليه السَّلامُ ذلك، مع عِلْمِه بأنَّ كلَّ نبيٍّ لا يموتُ إلَّا مُسلمًا؟
الجوابُ: قاله إظهارًا للعُبوديَّةِ والافتقارِ، وشِدَّةِ الرَّغبةِ في طلَبِ سعادةِ الخاتِمةِ، وتَعليمًا للأُمَّةِ، وطلبًا للثَّوابِ [1144] يُنظر: ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص: 283، 284). . وفيه وجهٌ آخَرُ: أنَّه إنَّما قال يوسُفُ ذلك؛ لأنَّ كَمالَ حالِ المُسلمِ أنْ يَستسلِمَ لحُكمِ اللَّهِ تعالى على وجْهٍ يستقِرُّ قلْبُه على ذلك الإسلامِ، ويَرْضَى بقضاءِ اللَّهِ وقدَرِه، ويكونَ مُطمئِنَّ النَّفْسِ، مُنشرِحَ الصَّدرِ، مُنفسِحَ القلْبِ في هذا البابِ، وهذه الحالةُ زائدةٌ على الإسلامِ الَّذي هو ضِدُّ الكُفْرِ؛ فالمطلوبُ هاهنا هو الإسلامُ بهذا المعنى [1145] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (18/518). .
7- قولُ اللَّهِ تعالى: وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ فيه سؤالٌ: أنَّ يوسُفَ عليه السَّلامُ كان مِن أكابِرِ الأنبياءِ، والصَّلاحُ أوَّلُ دَرجاتِ المُؤمنينَ؛ فالواصِلُ إلى الغايةِ كيف يَليقُ به أنْ يطلُبَ البِدايةَ؟
والجوابُ: قال ابنُ عبَّاسٍ رضِيَ اللَّه عنهما وغيرُه مِن المُفسِّرين: يعني بآبائِه إبراهيمَ، وإسماعيلَ، وإسحاقَ، ويَعقوبَ، والمعنى: ألحِقْني بهم في ثَوابِهم ومَراتِبِهم ودَرجاتِهم [1146] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (18/518). .
8- قولُ اللَّهِ تعالى: أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ جمَعَت هذه الدَّعوةُ: الإقرارَ بالتَّوحيدِ، والاستسلامَ للرَّبِّ، وإظهارَ الافتِقارِ إليه، والبَراءةَ مِن مُوالاةِ غيرِه سبحانه، وكونَ الوَفاةِ على الإسلامِ أجلَّ غاياتِ العبدِ، وأنَّ ذلك بِيَدِ اللَّهِ لا بِيَدِ العبْدِ، والاعترافَ بالمعادِ، وطلبَ مُرافقةِ السُّعداءِ [1147] يُنظر: ((الفوائد)) لابن القيم (ص: 201). .
9-  قال ابنُ الجَوْزيِّ: (قرأْتُ سُورةَ يوسُفَ عليه السَّلامُ، فتعَجَّبْتُ مِن مَدْحِه عليه السَّلامُ على صَبْرِه، وشَرْحِ قِصَّتِه للنَّاسِ، ورَفْعِ قدْرِه بتَرْكِ ما تَرَك، فتأمَّلْتُ خَبِيئَةَ الأمْرِ فإذا هي مُخالفةٌ للْهَوى المَكْروهِ، فقلْتُ: واعَجَبًا! لو وافَقَ هَواهُ مَن كان يكونُ؟! ولَمَّا خالَفَه لقدْ صارَ أمرًا عَظيمًا؛ تُضْرَبُ الأمْثالُ بصَبْرِه، ويُفْتَخَرُ على الخلْقِ باجْتهادِه، وكلُّ ذلك قد كان بِصَبْرِ ساعةٍ، فيا له عِزًّا وفَخْرًا أنْ تَمْلِكَ نفْسَك ساعةَ الصَّبرِ عنِ المحْبوبِ وهو قريبٌ!) [1148] يُنظر: ((صيد الخاطر)) لابن الجوزي (ص: 227). .

بلاغة الآيات :

1- قولُه تعالى: فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ فيه إيجازٌ، حيثُ طَوى ذِكْرَ سفَرِهم مِن بِلادِهم إلى دُخولِهم على يوسُفَ عليه السَّلامُ؛ إذ ليس فيه مِن العِبَرِ شيءٌ [1149] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (13/55). .
- وإعادةُ اسمِ يوسُفَ عليه السَّلامُ؛ لأجْلِ بُعدِ المَعادِ [1150] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (13/55). .
- وقولُه: ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ جُملةٌ دُعائيَّةٌ بقَرينةِ قولِه: إِنْ شَاءَ اللَّهُ؛ لكونِهم قد دخلوا مصرَ حينئذٍ- وذلك على أحدِ الأوجُهِ في التفسيرِ- فالأمرُ في ادْخُلُوا للدُّعاءِ، وجُملةُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ مُعترِضةٌ بين جُملةِ ادْخُلُوا والحالِ مِن ضميرِها إِنْ شَاءَ اللَّهُ، وفيها تأدُّبٌ مع اللَّهِ؛ كالاحتراسِ في الدُّعاءِ الواردِ بصِيغةِ الأمْرِ، وهو لمُجرَّدِ التَّيمُّنِ؛ فوُقوعُه في الوعْدِ والعزْمِ والدُّعاءِ بمَنزلةِ وُقوعِ التَّسميةِ في أوَّلِ الكلامِ، وليس هو مِن الاستثناءِ الواردِ النَّهْيُ عنه في الحديثِ: ((ألَّا يقولَ: اغفِرْ لي إنْ شئْتَ؛ فإنَّه لا مُكْرِهَ له)) [1151] أخرجه البخاري (6339)، ومسلم (2679) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه بنحوه. ؛ لأنَّ ذلك في الدُّعاءِ المُخَاطَبِ به اللَّهُ صَراحةً [1152] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (13/55، 56). .
2- قوله تعالى: وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ
- قولُه: وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا فيه تقديمُ الرَّفعِ لفظًا على الخُرورِ مع أنَّ الرَّفعَ مُؤَخَّرٌ عن ِالخُرورِ- وإنْ قُدِّم لفظًا- ؛ للاهتمامِ بتَعْظيمِه لهما [1153] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (3/177). .
- قولُه: وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ ذِكْرُ مِنَ الْبَدْوِ فيه إظهارٌ لتَمامِ النِّعمةِ؛ لأنَّ انتقالَ أهلِ الباديةِ إلى المدينةِ ارْتقاءٌ في الحضارةِ [1154] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (13/58). .
- قولُه: مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ فيه إسنادُ النَّزْغِ إلى الشَّيطانِ؛ لأنَّه المُوَسْوِسُ، كما قال: فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا، وذكَرَ هذا القَدْرَ مِن أمْرِ إخوتِه؛ لأنَّ النِّعمةَ إذا جاءتْ إِثْرَ شِدَّةٍ وبلاءٍ كانتْ أحسنَ مَوقِعًا [1155] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (6/328، 329). ، وهذا مِن مُبالَغتِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ في الإحسانِ؛ حيثُ أسنَدَ ذلك إلى الشَّيطانِ [1156] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (4/307). . وقد أشارَ إلى مَصائبِه السَّابقةِ مِن الإبقاءِ في الجُبِّ ومُشاهدةِ مَكْرِ إخوتِه به بقولِه: مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي؛ فكلمةُ بعد اقتَضَتْ أنَّ ذلك شيءٌ انقَضَى أثرُه، وقد ألَمَّ به إجْمالًا؛ اقتصارًا على شُكْرِ النِّعمةِ، وإعراضًا عنِ التَّذكيرِ بتِلك الحوادثِ المُكَدِّرَةِ للصِّلةِ بينه وبين إخوتِه؛ فمرَّ بها مَرَّ الكِرامِ، وباعَدَها عنهم بقدْرِ الإمكانِ؛ إذ ناطَها بنَزْغِ الشَّيطانِ [1157] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (13/57). .
- قولُه: إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ جُملةٌ مُسْتَأْنَفَةُ استِئنافًا ابتدائيًّا؛ لقصْدِ الاهتمامِ بها، وتعليمِ مَضْمونِها [1158] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (13/58). .
- وجُملةُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ مُسْتَأْنَفَةٌ أيضًا، أو تعليلٌ لجُملةِ إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ، وحرْفُ التَّوكيدِ (إنَّ)؛ للاهتمامِ، وتَوسيطُ ضَميرِ الفصْلِ (هو) للتَّقويةِ [1159] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (13/58). .
3- قوله تعالى: رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ
- قولُه: رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ جعَلَ الَّذي أُوتِيَهُ بعضًا مِن المُلْكِ ومِن التَّأويلِ؛ لأنَّ ما أُوتِيَهُ بَعضٌ مِن جِنْسِ المُلْكِ، وبعضٌ مِن التَّأويلِ؛ إشعارًا بأنَّ ذلك في جانِبِ مُلْكِ اللَّهِ وفي جانِبِ عِلْمِه شيءٌ قليلٌ [1160] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (13/59). ، وذلك بناءً على أنَّ (مِن) للتبعيضِ.
- قولُه: فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ نُصِبَ فَاطِرَ على أنَّه صِفَةٌ للمُنادى، أو مُنادًى آخرُ، وصَفَه تعالى به بعدَ وصْفِه بالرُّبوبيَّةِ؛ مُبالَغةً في تَرتيبِ مَبادِي ما يعقُبُه مِن قولِه: أَنْتَ وَلِيِّي [1161] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (4/308). .
- وجُملةُ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ مِن قَبيلِ الخبَرِ في إنْشاءِ الدُّعاءِ، وإنْ أمْكَنَ حمْلُه على الإخبارِ بالنِّسبةِ لوِلايةِ الدُّنيا، قيل: لإثباتِه ذلك الشَّيءَ لوِلايةِ الآخِرةِ؛ فالمعنى: كُنْ وَلِيِّيَ في الدُّنيا والآخرةِ [1162] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (13/59). .