موسوعة التفسير

سورةُ الأنْبياءِ
الآيات (85-88)

ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ

غريب الكلمات:

نَقْدِرَ عَلَيْهِ: أي: نُضَيِّقَ عليه، مِن قَولِهم: قَدَرْتُ على فُلانٍ: إذا ضَيَّقْتَ عليه، وقيل: نَقْدِرُ: بمعنى نُقَدِّرُ، والمعنى لن نُقَدِّرَ عليه ما قَدَّرْنا مِن كَونِه في بطنِ الحوتِ [873] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 287)، ((تفسير الطبري)) (16/378)، ((المفردات)) للراغب (ص: 659)، ((لسان العرب)) لابن منظور (5/77)، ((تاج العروس)) للزبيدي (13/373). .

المعنى الإجمالي:

يقولُ تعالى: واذكُرْ -يا محمَّدُ- إسماعيلَ وإدريسَ وذا الكِفْلِ، كُلُّ هؤلاء من الصَّابرينَ، فاستحَقُّوا الذِّكرَ بالثَّناءِ الجَميلِ، وأدخَلْناهم في رَحمَتِنا؛ إنَّهم من الصَّالحينَ الجامِعينَ لخِصالِ الخَيرِ.
واذكُرْ -يا مُحمَّدُ- صاحِبَ الحُوتِ؛ يُونُسَ عليه السَّلامُ، إذ خرَج مِن قَومِه غاضِبًا عليهم؛ لعدَمِ إيمانِهم، فظَنَّ يُونُسُ أنَّنا لن نُعاقِبَه هذه العُقوبةَ، فنُضَيِّقَ عليه بحَبسِه في بَطنِ الحُوتِ، فنادى رَبَّه في الظُلُماتِ تائبًا مُعتَرِفًا بظُلمِه، قائلًا: لا إلهَ إلَّا أنت سُبحانَك، إنِّي كنتُ مِن الظَّالِمينَ. فاستجَبْنا له دُعاءَه، وخلَّصْناه مِن الغَمِّ والشِّدَّةِ، وكما نجَّيْنا يونُسَ مِن غَمِّه حين دَعانا، كذلك نُنْجِي المؤمِنينَ مِن كُرَبِهم وهمومِهم.

تفسير الآيات:

وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ (85).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
لَمَّا ذكَرَ اللهُ تعالى صبرَ أيوبَ عليه السَّلامُ وانقطاعَه إليه؛ أتبَعَه بذِكرِ هؤلاء؛ فإنَّهم كانوا أيضًا مِن الصَّابرينَ على الشَّدائِدِ والمِحَنِ والعبادةِ [874] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (22/176). .
وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ.
أي: واذكُرْ -يا محمَّدُ- إسماعيلَ بنَ إبراهيمَ، وإدريسَ، وذا الكِفْلِ [875] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/368، 373)، ((تفسير ابن كثير)) (5/363)، ((تفسير السعدي)) (ص: 529). اختَلَف العلماءُ في ذي الكِفْلِ، هل هو نبيٌّ أم لا؟ فذهب الواحديُّ والشوكاني -ونسَبه للجمهورِ- إلى أنَّه ليس نبيًّا. يُنظر: ((الوجيز)) للواحدي (ص: 722)، ((تفسير الشوكاني)) (3/496). وممن قال بذلك مِن السلفِ: أبو موسى الأشعري، ومجاهدٌ، وقتادةُ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/371)، ((تفسير الماوردي)) (3/464)، ((تفسير ابن الجوزي)) (3/207). وذهب الرازي، وابنُ كثير، والعُليمي، والسعدي إلى أنَّه نبيٌّ. يُنظر: ((تفسير الرازي)) (22/177)، ((تفسير ابن كثير)) (5/363)، ((تفسير العليمي)) (4/383)، ((تفسير السعدي)) (ص: 529). قال ابن كثير: (وأمَّا ذو الكِفْلِ فالظَّاهرُ مِنَ السِّياقِ أنَّه ما قُرِنَ معَ الأَنبياءِ إلَّا وهو نَبِيٌّ). ((تفسير ابن كثير)) (5/363). وممن قال بذلك مِن السلفِ: الحسنُ، وعطاءٌ. يُنظر: ((تفسير ابن الجوزي)) (3/207). وتوقَّفَ ابنُ جرير في ذلك. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/368). ويُنظر في سببِ تسميتِه بذلك: ((تفسير ابن جرير)) (16/368)، ((تفسير ابن الجوزي)) (3/207). .
كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ.
أي: كلٌّ منهم مِن الصَّابرينَ على الابتلاءاتِ، وعلى فِعلِ الطَّاعاتِ، واجتنابِ السَّيِّئاتِ [876] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/373)، ((تفسير القرطبي)) (11/328)، ((تفسير السعدي)) (ص: 529). .
وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ (86).
وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا.
أي: وأدخَلْنا إسماعيلَ وإدريسَ وذا الكفلِ في رَحمتِنا [877] يُنظر: ((الوسيط)) للواحدي (3/248)، ((تفسير البغوي)) (3/313)، ((تفسير القرطبي)) (11/328). قيل: المرادُ بقولِه: رَحْمَتِنَا هنا: الجنَّةُ. وممَّن ذهب إلى ذلك: يحيى بنُ سلام، والقرطبي. يُنظر: ((تفسير يحيى بن سلام)) (1/335)، ((تفسير القرطبي)) (11/328). وممن قال بهذا القولِ مِن السلفِ: ابنُ عباس. يُنظر: ((تفسير ابن الجوزي)) (3/208). وقيل: المرادُ بها: النبوةُ. وممن اختاره: مقاتلُ بنُ سليمان، والسمرقندي، والعُليمي. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (3/90)، ((تفسير السمرقندي)) (2/438)، ((تفسير العليمي)) (4/383). وممن جمَع بينَ القولينِ السابقينِ، فقال: المرادُ بها: النبُوَّةُ والجنَّةُ: الواحدي، والبغوي، والخازنُ. يُنظر: ((الوسيط)) للواحدي (3/248)، ((تفسير البغوي)) (3/313)، ((تفسير الخازن)) (3/240). .
عن أبي هُريرةَ رَضِيَ الله عنه، قال: قال رَسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم: ((احتَجَّت النَّارُ والجَنَّةُ، فقالت هذه: يَدخُلُني الجبَّارونَ والمتكَبِّرون، وقالت هذه: يدخُلُني الضُّعَفاءُ والمساكينُ، فقال اللهُ عَزَّ وجَلَّ لهذه: أنتِ عذابي أعَذِّبُ بكِ مَن أشاءُ -وربما قال: أصيبُ بكِ مَن أشاءُ، وقال لهذه: أنتِ رحمتي أرحَمُ بكِ من أشاءُ، ولكُلِّ واحدةٍ منكما مِلؤُها )) [878] رواه البخاري (4850)، ومسلم (2846) واللفظ له. .
إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ.
أي: أدخَلْناهم في رَحمَتِنا؛ لأنَّهم مِنَ الكامِلينَ في الصَّلاحِ، الجامِعينَ لخِصالِ الخَيرِ، المُطِيعينَ لله [879] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/373)، ((تفسير البيضاوي)) (4/58)، ((تفسير الشوكاني)) (3/496). قال السمعاني: (الصلاحُ اسمٌ يجمعُ جميعَ خِصالِ الخيرِ). ((تفسير السمعاني)) (3/402). .
وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87).
وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا.
أي: واذكُرْ -يا مُحمَّدُ- يُونُسَ صاحِبَ الحُوتِ حينَ ذَهَب غاضِبًا على قَومِه مِن أجْلِ رَبِّه؛ لِكُفرِهم به، وعِصيانِهم له، بعدَما دعاهم إليه [880] يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (11/329، 330)، ((تفسير ابن كثير)) (5/366)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (4/240 - 242). قال الرازي: (لا خِلافَ في أنَّ ذا النُّونِ هو يونُسُ عليه السَّلامُ؛ لأنَّ النونَ هو السَّمَكةُ). ((تفسير الرازي)) (22/178). وقال ابن كثير: (يونُسُ بنُ مَتَّى عليه السَّلامُ بَعَثه الله إلى أهلِ قَريةِ «نِينَوى»، وهي قريةٌ مِن أرضِ المَوصِلِ، فدعاهم إلى اللهِ، فأبَوا عليه وتمادَوا على كُفرِهم؛ فخرج مِن بينِ أظهُرِهم مُغاضِبًا لهم). ((تفسير ابن كثير)) (5/366). وقال ابنُ جُزي: (أدركَه ضَجَرٌ منهم، فخرج عنهم؛ ولذلك قال الله تعالى: وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ [القلم: 48] ، ولا يَصِحُّ قَولُ مَن قال: مُغاضِبًا لرَبِّه). ((تفسير ابن جزي)) (2/28). .
فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ.
أي: فظَنَّ يُونُسُ أنَّنا لن نُعاقِبَه هذه العُقوبةَ، فنُضَيِّقَ عليه بحَبسِه في بَطنِ الحُوتِ [881] يُنظر: ((تأويل مشكل القرآن)) لابن قتيبة (ص: 230-233)، ((تفسير القرطبي)) (11/331)، ((تفسير ابن كثير)) (5/366)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (4/240).  قال الشنقيطي: (وقولُه: فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فيه وجهانِ مِن التَّفسيرِ لا يُكَذِّبُ أحدُهما الآخَرَ: الأوَّلُ: أنَّ المعنى: لن نَقدِرَ عليه، أي: لن نضَيِّقَ عليه في بطنِ الحُوتِ، ومِن إطلاقِ «قَدَرَ» بمعنى «ضَيَّقَ» في القرآنِ قَولُه تعالى: اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ [الرعد: 26] أي: ويضَيِّقُ الرِّزقَ على من يشاءُ... الوجه الثاني: أنَّ معنى لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ: لن نَقضِيَ عليه ذلك، وعليه: فهو من القَدَرِ والقَضاءِ. «وقَدَرَ» بالتخفيفِ تأتي بمعنى «قَدَّرَ» المضَعَّفة، ومنه قَولُه تعالى: فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ [القمر: 12] أي: قَدَّرَه الله). ((أضواء البيان)) (4/240). وقال ابنُ عاشور: (وعندي فيه تأويلانِ آخرانِ، وهما: أنَّه ظَنَّ وهو في جَوفِ الحُوتِ أنَّ اللهَ غَيرُ مُخَلِّصِه في بَطنِ الحُوتِ؛ لأنَّه رأى ذلك مُستحيلًا عادةً، وعلى هذا يكونُ التَّعقيبُ بحَسَبِ الواقِعةِ، أي: ظَنَّ بعد أن ابتَلَعه الحوتُ، وأمَّا نداؤُه رَبَّه فذلك توبةٌ صدَرَت منه عن تقصيرِه أو عَجَلتِه، أو خَطأِ اجتهادِه؛ ولذلك قال: إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ؛ مبالغةً في اعترافِه بظُلمِ نَفسِه،... أو أنَّه ظَنَّ بحَسَبِ الأسبابِ المعتادةِ أنَّه يُهاجِرُ مِن دارِ قَومِه، ولم يظُنَّ أنَّ الله يَعوقُه عن ذلك؛ إذ لم يسبِقْ إليه وحيٌ مِنَ اللهِ). ((تفسير ابن عاشور)) (17/131، 132). .
فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ.
أي: فنادَى يونُسُ رَبَّه وهو في الظُّلُماتِ [882] قال ابن جرير: (لا شَكَّ أنَّه قد عنى بإحدى الظُّلُماتِ: بَطنَ الحوتِ، وبالأُخرَى: ظُلمةَ البحرِ، وفي الثالثةِ اختلافٌ، وجائزٌ أن تكون تلك الثالثةُ ظُلمةَ الليل، وجائِزٌ أن تكون كونَ الحوتِ في جوفِ حُوتٍ آخر. ولا دليلَ يدُلُّ على أيِّ ذلك مِن أيٍّ، فلا قَولَ في ذلك أولى بالحَقِّ مِن التَّسليمِ لظاهِرِ التنزيلِ). ((تفسير ابن جرير)) (16/383، 384). وقال القرطبي: (يصِحُّ أن يُعبَّرَ بالظُّلُماتِ عن جوفِ الحُوتِ الأولِ فقط، كما قال: فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ [يوسف: 10] وفي كل جِهاتِه ظُلمةٌ، فجَمْعُها سائِغٌ). ((تفسير القرطبي)) (11/333). وقيل: المراد بالظُّلُمات: ظلمةُ الحوتِ والبَحرِ واللَّيلِ. نسبه الرسعني لأكثر المفسرين، وممن قال به: ابنُ عاشور، والشنقيطي. يُنظر: ((تفسير الرسعني)) (4/658)، ((تفسير ابن عاشور)) (17/133)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (4/242). وممن ذهب إلى هذا القولِ مِن السلفِ: ابنُ عباسٍ، وسعيدُ بنُ جبيرٍ، والضحاكُ، والحسنُ، وعمرُو بنُ ميمون، وابنُ جُرَيجٍ، ومحمدُ بنُ كعبٍ، وقتادةُ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/382)، ((تفسير ابن الجوزي)) (3/210)، ((تفسير ابن كثير)) (5/367). فقال: لا إلهَ إلَّا أنتَ، أُنَزِّهُك عن جَميعِ النَّقائِصِ والعُيوبِ، إنِّي كُنتُ ظالِمًا لِنَفسي بمَعصِيتِك حينَ خَرَجْتُ مِن قَومي [883] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/383)، ((تفسير القرطبي)) (11/334)، ((تفسير ابن كثير)) (5/367)، ((تفسير السعدي)) (ص: 529)، ((تفسير ابن عاشور)) (17/133)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (4/242). قال القرطبي: (إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ يريدُ فيما خالفَ فيه مِن تَرْكِ مُداومةِ قومِه والصَّبرِ عليهم. وقيل: في الخروجِ مِن غيرِ أن يُؤذَنَ له). ((تفسير القرطبي)) (11/334). .
كما قال تعالى: وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ * فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ * فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ * فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ [الصافات: 139 - 144] .
فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ (88).
فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ.
أي: فأجَبْنا دُعاءَ يُونُسَ، ونَجَّيْناه مِن الغَمِّ والشِّدَّةِ التي وقَعَ فيها، فأخرَجْناه مِن بَطنِ الحُوتِ [884] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/385)، ((تفسير السعدي)) (ص: 530)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (4/242). .
كما قال تعالى: فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ * وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ [الصافات: 145، 146].
وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ.
أي: وكما نجَّيْنا يونُسَ مِن غَمِّه حين دَعانا، كذلك نُنْجِي المؤمِنينَ مِن غُمومِهم وكُرَبِهم إذا دَعَونا بإخلاصٍ [885] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/385)، ((تفسير القرطبي)) (11/334)، ((تفسير البيضاوي)) (4/59)، ((تفسير السعدي)) (ص: 530)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (4/244). .
كما قال تعالى: كَذَلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ [يونس: 103].
وعن سَعدِ بنِ أبي وقَّاصٍ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: قال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((دَعوةُ ذي النُّونِ إذ دعا وهو في بَطنِ الحُوتِ: لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ؛ فإنَّه لم يَدْعُ بها رجُلٌ مُسلِمٌ في شَيءٍ قَطُّ إلَّا استجابَ اللهُ له )) [886] أخرجه الترمذي (3505) واللفظ له، والنسائي في ((السنن الكبرى)) (10492)، وأحمد (1462). حسَّنه ابنُ حجر في ((نتائج الأفكار)) (4/93)، وقال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (7/71): (رجالُه رجالُ الصحيح غير إبراهيمَ بنِ محمد بن سعدِ بن أبي وقاصٍ، وهو ثقةٌ)‏‏، وصحَّح إسنادَه أحمد شاكر في تحقيق ((مسند أحمد)) (3/36)، وصحَّح الحديثَ الألبانيُّ في ((صحيح سنن الترمذي)) (3505). .

الفوائد التربوية :

1- قال الله تعالى: وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ دَعوةُ ذي النُّونِ فيها مِن كَمالِ التَّوحيدِ والتَّنزيهِ للرَّبِّ تعالى، واعتِرافِ العَبدِ بظُلمِه وذَنبِه، ما هو مِن أبلَغِ أدويةِ الكَربِ والهَمِّ والغَمِّ، وأبلَغِ الوسائِلِ إلى اللهِ سُبحانَه في قَضاءِ الحوائِجِ؛ فإنَّ التَّوحيدَ والتَّنزيهَ يتضَمَّنانِ إثباتَ كُلِّ كَمالٍ لله، وسَلْبَ كُلِّ نَقصٍ وعَيبٍ وتَمثيلٍ عنه- والاعتِرافَ بالظُّلمِ يتضَمَّنُ إيمانَ العَبدِ بالشَّرعِ والثَّوابِ والعِقابِ، ويُوجِبُ انكِسارَه ورُجوعَه إلى اللهِ، واستقالتَه عَثرَتَه، والاعترافَ بعُبوديَّتِه، وافتقارَه إلى رَبِّه، فهاهنا أربعةُ أمورٍ قد وقع التوسُّلُ بها: التَّوحيدُ، والتَّنزيهُ، والعُبوديَّةُ، والاعتِرافُ [887] يُنظر: ((زاد المعاد)) لابن القيم (4/190). .
2- في قَولِه تعالى عن يونُسَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ دليلٌ على أنَّ التَّهليلَ والتَّسبيحَ يَجْليانِ الغُمومَ، ويُنجِيانِ مِن الكرْبِ والمصائِبِ، فحقيقٌ على مَن آمَنَ بكتابِ اللهِ أنْ يجعَلَها ملجأً في شَدائِدِه، ومَطيَّةً في رَخائِه؛ ثِقةً بما وَعدَ اللهُ المؤمنينَ مِن إلحاقِهم بذي النُّونِ في ذلك؛ حيث يقولُ: فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ [888] يُنظر: ((النكت الدالة على البيان)) للقَصَّاب (2/311). .
3- في قَولِه تعالى: فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ ترغيبٌ للمُؤمِنينَ في الإيمانِ؛ بالثَّباتِ عليه، والازديادِ منه؛ إذْ عَلِموا نجاةَ المُؤمِنينَ السَّابِقينَ [889] يُنظر: ((تفسير الفاتحة والبقرة)) لابن عثيمين (المقدمة/58). . وهو وَعدٌ وبِشارةٌ لكُلِّ مُؤمِنٍ وقَعَ في شِدَّةٍ وغَمٍّ أنَّ اللهَ تعالى سيُنجيه منها، ويَكشِفُ عنه ويخَفِّفُ؛ لإيمانِه، كما فعَل بيُونسَ عليه السَّلامُ [890] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 529). .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- قال الله تعالى: وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ جمَع هؤلاءِ الثَّلاثةَ في سِلكٍ واحدٍ؛ لاشتراكِهم في خَصيصةِ الصَّبرِ، كما أشار إليه قولُه تعالى: كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ، جرَى ذلك لمناسبةِ ذكرِ المثلِ الأشهرِ في الصبرِ، وهو أيوبُ عليه السلامُ [891] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (17/128). .
2- في قَولِه تعالى عن يونُسَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ اعتِرافٌ بالذَّنبِ، وهو يتضَمَّنُ طَلَبَ المَغفِرةِ؛ فإنَّ الطَّالِبَ السَّائِلَ تارةً يَسأَلُ بصيغةِ الطَّلَبِ، وتارةً يَسألُ بصيغةِ الخَبَرِ: إمَّا بوَصفِ حالِه، وإمَّا بوَصفِ حالِ المَسؤولِ، وإمَّا بوَصفِ الحالَينِ؛ كقَولِ نُوحٍ عليه السَّلامُ: رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ [هود: 47] ، فهذا ليس صيغةَ طَلَبٍ، وإنَّما هو إخبارٌ عن اللهِ أنَّه إنْ لم يغفِرْ له ويرحَمْه خَسِرَ، ولكِنَّ هذا الخبَرَ يتضَمَّنُ سُؤالَ المَغفِرةِ، وكذلك قَولُ آدَمَ عليه السَّلامُ: رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ [الأعراف: 23] هو مِن هذا البابِ، ومِن ذلك قَولُ موسى عليه السَّلامُ: رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ [القصص: 24] ؛ فإنَّ هذا وَصفٌ لحالِه بأنَّه فَقيرٌ إلى ما أنزَلَ اللهُ إليه مِنَ الخيرِ، وهو متضَمِّنٌ لِسُؤالِ اللهِ إنزالَ الخَيرِ إليه [892] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (10/244). .

بلاغة الآيات:

1- قولُه تعالى: وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ
- جُملةُ: كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ استئنافٌ وقَعَ جَوابًا عن سُؤالٍ نشَأَ مِن الأمْرِ بذِكْرِهم [893] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/82). .
2- قوله تعالى: وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ
- قَوْله: وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا أبلغ من قَوْله: (ورحمناهم)؛ لِأَن قَوْله: وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا يَقْتَضي أنَّهم غُمِروا بالرَّحْمَةِ، وقَولُه: (ورحمناهم) يَقْتَضِي أنَّه أصابَهم رحمتَه [894]  يُنظر: ((تفسير السمعاني)) (3/402). .
- جُملةُ: إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ تَعليلٌ لإدخالِهم في الرَّحمةِ، وتَذييلٌ للكلامِ يُفِيدُ أنَّ تلك سُنَّةُ اللهِ مع جَميعِ الصَّالحينَ [895] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (17/130). .
3- قوله تعالى: وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ
- قولُه: فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ ... فيه إيجازٌ بالحَذْفِ، أي: فكان ما كان مِن المُساهَمةِ والْتِقامِ الحوتِ، فنادَى... إلخ [896] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/82). .
- ولَفظةُ الظُّلُمَاتِ جاءتْ جمْعًا؛ قيل: لشِدَّةِ تَكاثُفِها، فكأنَّها ظُلمةٌ مع ظُلمةٍ [897] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (7/461)، ((تفسير ابن عاشور)) (17/133). . وذلك على أحدِ الأقوالِ في التفسيرِ.
- وجُملةُ: أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ تَفسيريَّةٌ؛ لأنَّه سبَقَ قولُه: فَنَادَى [898] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (7/461)، ((تفسير أبي السعود)) (6/82). .
- قولُه: أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ مُبالَغةٌ في اعترافِه بظُلْمِ نَفْسِه؛ حيث أسنَدَ إليه فِعْلَ الكونِ الدَّالَّ على رُسوخِ الوَصْفِ، وجعَلَ الخبَرَ أنَّه واحدٌ مِن فَريقِ الظَّالمينَ، وهو أدَلُّ على أرْسخيَّةِ الوَصْفِ. وتَقْديمُه الاعترافَ بالتَّوحيدِ مع التَّسبيحِ كَنَّى به عن انفرادِ اللهِ تعالى بالتَّدبيرِ، وقُدرتِه على كلِّ شَيءٍ [899] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (17/132). .
4- قوله تعالى: فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ
- السِّينُ والتَّاءُ في فَاسْتَجَبْنَا لَهُ للمُبالَغةِ في الإجابةِ [900] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (17/133). .
- قولُه: وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ تَذييلٌ، والإشارةُ بـ (كَذَلِكَ) إلى الإنجاءِ الَّذي أنْجَى به يُونسَ، أي: مثْلَ ذلك الإنجاءِ نُنْجِي المُؤمِنينَ. وفي هذا تَعريضٌ للمُشرِكينَ من العرَبِ بأنَّ اللهَ مُنْجِي المُؤمِنينَ من الغَمِّ والنَّكدِ الَّذي يُلاقونَه من سُوءِ مُعامَلةِ المُشرِكين إيَّاهم في بِلادِهم [901] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (17/133). .