موسوعة التفسير

سورةُ الصَّافَّاتِ
الآيات (139-148)

ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ

غَريبُ الكَلِماتِ:

أَبَقَ: أي: هَرَب وفَرَّ، وأصلُ (أبق): يدُلُّ على التَّباعُدِ [926] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/624)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 75)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/38)، ((تفسير القرطبي)) (15/122)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 355). .
الْفُلْكِ: أي: السُّفنِ، وواحدُه وجمْعُه بلفظٍ واحدٍ، وأصلُ الفلكِ: الاستدارةُ في الشَّيءِ، ولعلَّ السُّفنَ سُمِّيتْ فُلْكًا؛ لأنَّها تُدارُ في الماءِ [927] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 67)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (4/453)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 162)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 99). .
الْمَشْحُونِ: أي: المملوءِ، وأصلُ (شحن): يدُلُّ على الملءِ [928] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 374)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (4/452)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 315)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 320). .
فَسَاهَمَ: أي: قارَعَ، والسَّهمُ: ما يُرمَى به وما يُضرَبُ به مِن القِداحِ، وأصلُه: يدُلُّ على الحَظِّ والنَّصيبِ [929] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 374)، ((تفسير ابن جرير)) (19/625)، ((المفردات)) للراغب (ص: 431)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 323)، ((تفسير ابن كثير)) (7/38)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 355). .
الْمُدْحَضِينَ: أي: المَغلُوبينَ في القُرعةِ، وأصلُ (دحض): يدُلُّ على زَوالٍ وزَلَقٍ [930] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 374)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 267)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/332)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 355)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 877). .
فَالْتَقَمَهُ: أي: فابتَلَعَه، وهو افتِعالٌ مِن اللَّقْمِ، وأصلُ (لقم): يدُلُّ على تَناوُلٍ [931] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/626)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/260). .
الْحُوتُ: الحوتُ: العظيمُ مِن السَّمكِ، أو: السَّمكُ كلُّه، وأصلُ (حوت): مِن الاضْطِرابِ والرَّوَغانِ، والحوتُ مُضطرِبٌ أبدًا غيرُ مستقرٍّ [932] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/114)، ((المخصص)) لابن سيده (3/16)، ((المفردات)) للراغب (ص: 261). قال الزَّيْنُ الرَّازيُّ: (الْحُوتُ: السَّمَكةُ... ويُؤَيِّدُ كَوْنَه مُطْلَقَ السَّمكةِ قولُه تعالَى: نَسِيَا حُوتَهُمَا [الكهف: 61] والمنقولُ في الحديثِ الصَّحيحِ أنَّها كانَتْ سمكةً في مِكْتَلٍ. وما ظَنُّكَ بزَوَّادَةِ اثنينِ خُصوصًا موسَى وصاحِبَه؟! وأدَلُّ مِنْ هذا قولُه تعالَى: إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ [الأعراف: 163] . وأمَّا قولُه تعالَى: فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ فإنَّه يدُلُّ على صِحَّةِ إطلاقِ الحوتِ على السَّمكةِ الكبيرةِ، لا على حَصْرِ مُسَمَّى الحوتِ فيها كما يَظُنُّه العامَّةُ. وقال ابنُ فارِسٍ: الحوتُ: العَظيمُ مِنَ السَّمكِ). ((مختار الصحاح)) (ص: 83). ويُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/114). .
مُلِيمٌ: أي: مُسيءٌ مُذنِبٌ آتٍ بما يُلامُ عليه، وأصلُ (لوم): يدُلُّ على عَتْبٍ [933] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 374)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 448)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/222)، ((تفسير القرطبي)) (15/123)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 355)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 879). .
فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ: أي: فألقَيْناه وقذَفْناه بمَكانٍ خالٍ لا يَتوارى فيه بشَجَرٍ ولا غَيرِه، وأصلُ (نبذ): يدُلُّ على الطَّرحِ والإلقاءِ، وأصلُ (عري) هنا: يدُلُّ على خُلُوٍّ ومُفارَقةٍ [934] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 374)، ((تفسير ابن جرير)) (19/631)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/380)، ((التفسير البسيط)) للواحدي (19/110). .
يَقْطِينٍ: اليَقطينُ: الدُّبَّاءُ (القرعُ). وقيل: هو كُلُّ شَجَرٍ لا يَقومُ على ساقٍ؛ مِثلُ: القَرعِ، والبِطِّيخِ، ونَحوِهما [935] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/634)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 520)، ((تفسير ابن عطية)) (4/487)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 355)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 992). .
حِينٍ: أي: مُنتهى آجالِهم، وأصلُ (حين): يدُلُّ على زَمانٍ [936] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 366)، ((تفسير ابن جرير)) (10/118)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/125)، ((المفردات)) للراغب (ص: 267)، ((تفسير القرطبي)) (15/35). .

المعنى الإجماليُّ:

 يقولُ تعالى: وإنَّ يُونُسَ لَمِن جُملةِ المُرسَلينَ إذ هَرَب إلى السَّفينةِ المملوءةِ بالرُّكَّابِ والأمتِعةِ، فقارَعَ يُونُسُ مع رُكَّابِ السَّفينةِ؛ لِيَختاروا مَن يُلقُونَه في البَحرِ؛ لِيَخِفَّ حِملُ السَّفينةِ حينَ خافوا الغَرَقَ، فكان يونُسُ مِن جُملةِ المغلوبينَ الَّذين أُلقُوا في البَحرِ، فابتَلَعه الحوتُ والحالُ أنَّه قد فَعَل ما يُلامُ عليه!
فلولا أنَّه كان مِن المُسَبِّحينَ اللهَ تعالى لَبَقِيَ في بَطنِ الحُوتِ إلى يَومِ البَعثِ، فألقَيْنا يونُسَ في مَكانٍ مُقفِرٍ خالٍ مِن كُلِّ شَيءٍ، وهو مَريضٌ، وأنبَتْنا عليه شَجَرةً مِن يَقطينٍ؛ لِيَأكُلَ منها، وأرسَلْناه إلى مِئةِ ألْفِ إنسانٍ أو يَزيدونَ على ذلك، فآمَنوا بما جاءَهم به يُونُسَ، فمَتَّعَهم اللهُ في الدُّنيا إلى حينِ بُلوغِ آجالِهم.

تَفسيرُ الآياتِ:

وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (139).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّه لَمَّا أكمَلَ اللهُ سُبحانَه ما أرادَ مِن أُمورِ مَن كان على أيديهم هَلاكٌ في الدُّنيا أو في الآخِرةِ، خَتَم بمَن آلَ أمرُ قَومِه إلى سَلامةٍ وإيمانٍ، ونِعمةٍ وإحسانٍ؛ تغليبًا للتَّرجِيةِ على التَّأسيةِ والتَّعْزيةِ [937] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبِقاعي (16/290). .
وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (139).
أي: وإنَّ يُونُسَ لَرَسولٌ مِن جُملةِ رُسُلِ اللهِ تعالى [938] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/624)، ((تفسير ابن عطية)) (4/485)، ((تفسير السعدي)) (ص: 707). .
عن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ الله عنه، عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّه قال: يعني: اللهَ تبارك وتعالى: ((لا ينبغي لعبدٍ لي أن يَقولَ: أنا خَيرٌ مِن يُونُسَ بنِ مَتَّى عليه السَّلامُ )) [939] رواه البخاري (3416)، ومسلم (2376) واللَّفظُ له. .
وعن عبدِ اللهِ بنِ مَسعودٍ رَضِيَ اللهُ عنه، عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((ما يَنبغي لأحَدٍ أن يقولَ: أنا خيرٌ مِن يُونُسَ بنِ مَتَّى [940] يحتمِلُ أن يكونَ المرادُ أنَّ العبدَ القائلَ هو الَّذي لا يَنبغي له أن يقولَ ذلك، أي: ليس لأحدٍ أن يُفضِّلَ نفسَه على يونسَ عليه السلامُ. ويحتملُ أن يكونَ المرادُ بقولِه: ((أنا)) رسولَ الله صلَّى الله عليه وسلَّم، وقاله تواضعًا، أي: ليس لأحدٍ أنْ يُفضِّلَني عليه، ودلَّ حديثُ أبي هريرة السابقُ على أنَّ الاحتمالَ الأوَّلَ أوْلَى. يُنظر: ((فتح الباري)) لابن حجر (8/267)، ((عمدة القاري)) للعيني (15/293). ) [941] رواه البخاري (4603). .
إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (140).
أي: حينَ هَرَب إلى السَّفينةِ المَملوءةِ [942] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/624)، ((تفسير ابن كثير)) (7/38)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (16/292)، ((تفسير السعدي)) (ص: 707)، ((تفسير ابن عاشور)) (23/173)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الصافات)) (ص: 296، 297). قيل: إِذْ ظَرفٌ مُتعَلِّقٌ بـ الْمُرْسَلِينَ. وممَّن ذهب إلى ذلك: ابنُ عاشور، وذكره ابنُ عثيمينَ احتِمالًا. يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/172)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الصافات)) (ص: 296). وذهب ابنُ عثيمين إلى أنَّ المعنى على القَولِ بأنَّ إِذْ ظَرفٌ مُتعَلِّقٌ بالمُرسَلينَ: هو أنَّ إباقَه لم يَسلُبْه الرِّسالةَ. يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الصافات)) (ص: 296). وقيل: إِذْ ظَرفٌ مُتعَلِّقٌ بفِعلٍ مَحذوفٍ تَقديرُه: اذكُرْ. واستحسَنه ابنُ عثيمين. يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الصافات)) (ص: 296). قال البغوي: (واختلَفوا في أنَّ رِسالةَ يونُسَ بنِ متَّى: متى كانت؟ فروى سعيدُ بنُ جُبَيرٍ عن ابنِ عبَّاسٍ: أنَّها كانت بعدَ أن أخرَجَه اللهُ مِن بطنِ الحوتِ؛ بدليلِ أنَّ اللهَ عزَّ وجَلَّ ذكَرَ في سورةِ الصَّافَّاِت فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ، ثمَّ ذكَر بَعْدَه: وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ [الصافات: 147] . وقال الآخَرون: إنَّها كانت مِن قَبْلُ؛ بدليلِ قَولِه تعالى: وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ [الصافات: 139، 140]). ((تفسير البغوي)) (3/315). قال ابنُ جُزَي: (وسببُ هروبِه غضَبُه على قَومِه حينَ لم يؤمِنوا. وقيل: إنَّه أخبَرَهم أنَّ العذابَ يأتيهم في يومٍ مُعَيَّنٍ حسبَما أعلمه اللهُ، فلمَّا رأى قَومُه مَخايلَ العذابِ آمَنوا، فرفَع الله عنهم العذابَ، فخاف أن يَنسبوه إلى الكذبِ فهرَب). ((تفسير ابن جزي)) (2/197). وقال السعدي: (ولم يَذكُرِ اللهُ ما غاضَبَ عليه، ولا ذَنْبَه الَّذي ارتكَبَه؛ لعَدمِ فائِدتِنا بذِكرِه، وإنَّما فائِدتُنا بما ذُكِّرْنا عنه أنَّه أذنَبَ، وعاقَبَه اللهُ مع كَونِه مِن الرُّسُلِ الكرامِ، وأنَّه نجَّاه بعدَ ذلك، وأزال عنه المَلامَ، وقيَّض له ما هو سَبَبُ صلاحِه. فلمَّا أبَقَ لجأَ إلى الفُلكِ المشحونِ بالرُّكَّابِ والأمتِعةِ، فلَمَّا رَكِبَ مع غيرِه، والفُلكُ شاحِنٌ، ثَقُلَتِ السَّفينةُ، فاحتاجوا إلى إلقاءِ بَعضِ الرُّكْبانِ، وكأنَّهم لم يَجِدوا لأحَدٍ مَزِيَّةً في ذلك، فاقتَرَعوا على أنَّ مَن قُرِعَ وغُلِبَ أُلقِيَ في البَحرِ؛ عَدلًا مِن أهلِ السَّفينةِ، وإذا أراد اللهُ أمرًا هيَّأ أسبابَه). ((تفسير السعدي)) (ص: 707). .
فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ (141).
أي: فقارَعَ يُونُسُ مع ركَّابِ السَّفينةِ؛ لِيَختاروا مَن يُلقونَه في البَحرِ؛ لِتَخِفَّ بهم السَّفينةُ حينَ خافوا الغَرَقَ، فكان يُونُسُ مِن جُملةِ المغلوبينَ الَّذين أُلقُوا في البَحرِ [943] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/625)، ((الطرق الحكمية)) لابن القيم (ص: 245)، ((تفسير ابن كثير)) (7/38)، ((تفسير السعدي)) (ص: 707)، ((تفسير ابن عاشور)) (23/173، 176)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الصافات)) (ص: 297، 298). قال ابنُ عاشور: (كان غرَقُه في البَحرِ المسَمَّى بحرَ الرُّومِ، وهو الَّذي نُسَمِّيه البحرَ الأبيضَ المتوسِّطَ، ولم يكُنْ بنَهرِ دِجلةَ كما غَلِطَ فيه بعضُ المفَسِّرينَ). ((تفسير ابن عاشور)) (23/176). .
فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ (142).
أي: فابتَلَعَه الحوتُ، والحالُ أنَّه قد فعَلَ ما يُلامُ عليه [944] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/626)، ((تفسير القرطبي)) (15/123)، ((تفسير السعدي)) (ص: 707)، ((تفسير ابن عاشور)) (23/176). .
فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (143).
أي: فلولا أنَّ يُونُسَ كان مِنَ المُسَبِّحينَ اللهَ تعالى [945] يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (15/127)، ((تفسير ابن كثير)) (7/39)، ((تفسير ابن عاشور)) (23/177). قال ابن الجوزي: (قَولُه تعالى: فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ فيه ثلاثةُ أقوالٍ؛ أحَدُها: مِنَ المُصَلِّينَ. قاله ابنُ عبَّاسٍ، وسعيدُ بنُ جُبَيرٍ. والثَّاني: مِنَ العابِدينَ. قاله مجاهِدٌ، ووَهْبُ بنُ مُنَبِّهٍ. والثَّالثُ: قولُ «لا إلهَ إلَّا أنت سُبحانَك إنِّي كنتُ مِن الظَّالِمين». قاله الحَسَنُ). ((تفسير ابن الجوزي)) (3/552). ممَّن اختار القَولَ الأوَّلَ: مقاتلُ بنُ سُلَيمانَ، وابنُ جرير، ونَسَبه إلى قَولِ كثيرٍ مِن المفسِّرينَ، والواحديُّ. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (3/620)، ((تفسير ابن جرير)) (14/411) و (19/627)، ((الوجيز)) للواحدي (ص: 914). قال ابنُ جرير: (يقولُ تعالى ذِكرُه: فَلَوْلَا أَنَّهُ يعني: يونُسَ كَانَ مِنَ المُصَلِّينَ لله قبْلَ البَلاءِ الَّذي ابتُليَ به مِن العُقوبةِ بالحَبسِ في بطنِ الحُوتِ). ((تفسير ابن جرير)) (19/627). وممَّن اختار القَولَ الثَّالثَ: ابنُ جُزَي، وجلال الدين المحلي. يُنظر: ((تفسير ابن جزي)) (2/197)، ((تفسير الجلالين)) (ص: 595). قال ابن الجوزي: (فعلى هذا القَولِ يكونُ تسبيحُه في بطنِ الحوتِ). ((تفسير ابن الجوزي)) (3/552). وقيل: مِن الذَّاكِرينَ اللهَ كثيرًا بالتَّسبيحِ والتَّقديسِ. وممَّن اختاره: الزمخشري، والبيضاوي، وأبو السعود. يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/61)، ((تفسير البيضاوي)) (5/18)، ((تفسير أبي السعود)) (7/205). وممَّن اختار أنَّ معنى مِنَ الْمُسَبِّحِينَ أي: مِنَ المُصَلِّينَ لله تعالى والذَّاكرينَ إيَّاه: السمعانيُّ. يُنظر: ((تفسير السمعاني)) (4/415). قال ابنُ الجوزي: (وجمهورُ العُلَماءِ على أنَّه أراد: لولا ما تقدَّم له قبْلَ الْتِقامِ الحَوتِ إيَّاه؛ مِن التَّسبيحِ). ((تفسير ابن الجوزي)) (3/553). وممَّن جمَع بيْن المعاني السَّابقةِ: السعديُّ، فقال: (فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ أي: في وقتِه السَّابقِ، بكَثرةِ عبادتِه لرَبِّه، وتسبيحِه، وتحميدِه، وفي بَطنِ الحوتِ؛ حيث قال: لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ). ((تفسير السعدي)) (ص: 707). .
كما قال اللهُ سُبحانَه وتعالى: وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ [الأنبياء: 87].
لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (144).
أي: لَبقِيَ في بَطنِ الحُوتِ إلى اليَومِ الَّذي يُبعَثُ فيه العِبادُ [946] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/627)، ((تفسير الزمخشري)) (4/62)، ((تفسير أبي حيان)) (9/124)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (16/293)، ((تفسير الألوسي)) (12/138). قال الشوكاني: (لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ أي: لَصار بطنُ الحوتِ له قبرًا إلى يومِ البعثِ. وقيلَ: لَلَبِثَ في بَطْنِه حَيًّا). ((تفسير الشوكاني)) (4/471). وقال الرازي: (واختَلَفوا في أنَّه كم لَبِثَ في بطنِ الحوتِ، ولفظُ القرآنِ لا يدُلُّ عليه). ((تفسير الرازي)) (26/357). .
فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ (145).
أي: فألقَيْنا يُونُسَ في مَكانٍ مُقفِرٍ خالٍ مِنَ الشَّجَرِ والبناءِ، وهو مَريضٌ [947] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/631، 632)، ((تفسير القرطبي)) (15/129)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (16/294)، ((تفسير السعدي)) (ص: 707)، ((تفسير ابن عاشور)) (23/177). .
وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ (146).
أي: وأنبَتْنا عليه شَجَرةَ يَقطينٍ [948] قيل: المرادُ باليَقطينِ: كُلُّ شَجَرةٍ لا تقومُ على ساقٍ؛ كالدُّبَّاءِ -أي: القَرعِ-، والبِطِّيخِ، والحَنظلِ، وغيرِ ذلك. وممَّن قال بهذا القول: ابنُ جرير، والزَّجَّاجُ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/633)، ((معاني القرآن وإعرابه)) للزجاج (4/314). وممَّن قال مِن السَّلفِ بنحوِ هذا القولِ: ابنُ عبَّاسٍ في روايةٍ عنه، وسعيدُ بنُ جُبَيرٍ في روايةٍ عنه، والضَّحَّاكُ في روايةٍ عنه. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/633). وممَّن اختار أنَّها الدُّبَّاءُ (القرع): ابنُ القيِّم، والبِقاعي، وابنُ عاشور، وذكر ابنُ عطيَّةَ أنَّ القَولَ بأنَّ اليقطينَ هو القَرعُ هو المشهورُ في اللُّغةِ، ونسَبَه الواحديُّ والسَّمعانيُّ إلى جميعِ المفَسِّرينَ، ونسَبَه أبو السُّعودِ إلى الأكثَرينَ. يُنظر: ((زاد المعاد)) لابن القيم (4/371)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (16/295)، ((تفسير ابن عاشور)) (23/177)، ((تفسير ابن عطية)) (4/487)، ((الوسيط)) للواحدي (3/533)، ((تفسير السمعاني)) (4/416)، ((تفسير أبي السعود)) (7/206). وممَّن قال مِن السَّلفِ بهذا القولِ: عبدُ الله بنُ مسعود، وابنُ عبَّاسٍ في روايةٍ عنه، وأبو هُرَيرةَ، وعَمرُو بنُ مَيمونٍ الأَوْديُّ، وعِكْرِمةُ، وقَتادةُ، ومُغِيرةُ، والضَّحَّاكُ، ووَهْبُ بنُ مُنَبِّهٍ، وهلالُ بنُ يَسافٍ، وعبدُ الله بنُ طاوسٍ، وعَطاءٌ الخُراسانيُّ، والسُّدِّيُّ، وسعيدُ بنُ جُبَيرٍ في روايةٍ عنه، ومُجاهِدٌ في روايةٍ عنه. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/634)، ((تفسير ابن كثير)) (7/40). قال ابنُ جُزَي: (وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ أي: أنبَتْناها فوقَه؛ لِتُظِلَّه وتَقيَه حَرَّ الشَّمسِ، واليَقطينُ: القَرعُ، وإنَّما خَصَّه اللهُ به؛ لأنَّه يجمَعُ بَردَ الظِّلِّ، ولِينَ اللَّمسِ، وكِبَرَ الوَرقِ، وأنَّ الذُّبابَ لا يَقرَبُه؛ فإنَّ لحمَ يُونُسَ لَمَّا خرَج مِن البَحرِ كان لا يحتَمِلُ الذُّبابَ). ((تفسير ابن جزي)) (2/198). ويُنظر: ((تفسير ابن عطية)) (4/487)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (16/294). قال ابنُ عاشور: (وهي كثيرةُ الوَرَقِ، تتسَلَّقُ أغصانُها في الشَّيءِ المُرتَفِعِ، فالظَّاهِرُ أنَّ أغصانَ اليَقطينةِ تسَلَّقَتْ على جسَدِ يُونُسَ فكسَتْه وأظلَّتْه). ((تفسير ابن عاشور)) (23/177). وقال القرطبي: (قولُه :وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ يعني عَلَيْهِ أي: عندَه، كقولِه تعالى: وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ [الشعراء: 14] أي: عندي. وقيل: عَلَيْهِ بمعنى: له). ((تفسير القرطبي)) (15/129). ؛ لِيَقتاتَ منها، ويَنتفِعَ بها [949] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/633)، ((زاد المعاد)) لابن القيم (4/371)، ((تفسير السعدي)) (ص: 707)، ((تفسير ابن عاشور)) (23/177). .
وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ (147).
أي: وأرسَلْنا يُونُسَ إلى مِئةِ ألْفِ شَخصٍ أو [950] قيل: أَوْ هنا بمعنى: بَلْ؛ فهي تُثبِتُ وُجودَ زيادةٍ في العدَدِ على مئةِ ألْفٍ. وممَّن قال بهذا: مقاتلُ بنُ سُلَيمانَ، والفرَّاءُ، وأبو عُبَيْدةَ، والسَّمَرْقَنْديُّ. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (3/621)، ((معاني القرآن)) للفراء (2/393)، ((مجاز القرآن)) لأبي عبيدة (2/175)، ((تفسير السمرقندي)) (3/153). وقيل: هي بمعنى الواوِ. وممَّن قال بهذا: ابنُ قُتَيْبةَ، والخازنُ، ونسَبَه البَغَويُّ للأكثَرينَ. يُنظر: ((تأويل مشكل القرآن)) لابن قتيبة (ص: 290، 291)، ((تفسير الخازن)) (4/28)، ((تفسير البغوي)) (4/48). وممَّن قال مِن السَّلفِ: إنَّ المعنى أنَّهم يَزيدون على مِئةِ ألْفٍ -وإنِ اختَلفوا في مِقدارِ الزِّيادةِ-: ابنُ عبَّاسٍ، وسعيدُ بنُ جُبَيرٍ، والحسَنُ، والربيعُ، ومقاتلُ بنُ حَيَّانَ، ومكحولٌ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/637)، ((تفسير الثعلبي)) (8/171)، ((تفسير ابن كثير)) (7/41). وقيل: هي على أصلِها، والمعنى: أو يَزيدونَ في تَقديرِكم إذا رآهم الرَّائي منكم. وممَّن قال بهذا القولِ في الجملةِ: الأخفَشُ، والزمخشريُّ، والنَّسَفي، وأبو السعود. يُنظر: ((معانى القرآن)) للأخفش (2/491)، ((تفسير الزمخشري)) (4/62)، ((تفسير النسفي)) (3/137)، ((تفسير أبي السعود)) (7/206). ويُنظر أيضًا: ((معاني القرآن وإعرابه)) للزَّجَّاج (4/314). ومِن قواعدِ التَّفسيرِ: أنَّه قد يَرِدُ الخِطابُ بالشَّيءِ في القرآنِ على اعتقادِ المُخاطَبِ دُونَ ما في نفْسِ الأمرِ. يُنظر: ((قواعد التفسير)) للسبت (1/284، 285). وقيل: المرادُ بها التَّحقيقُ والتَّأكيدُ، أي: إنَّ عدَدَهم مِئةُ ألْفٍ لا يَنقُصونَ. وممَّن قال بهذا المعنى: ابنُ القيِّم. يُنظر: ((التبيان في أقسام القرآن)) لابن القيم (ص: 250)، ((مدارج السالكين)) لابن القيم (1/326) و (3/302). قال البِقاعي: (لَمَّا كان العددُ الكثيرُ لا يُمكِنُ ناظِرَه الوُقوعُ فيه على حقيقةِ عدَدِه، بل يَصيرُ -وإن كان أثبَتَ النَّاسِ نظرًا- يقولُ: هم كذا، يَزيدونَ قليلًا أو يَنقُصونَه، وتارةً يَجزِمُ بأنَّهم لا يَنقُصونَ عن كذا وأمَّا الزِّيادةُ فمُمكِنةٌ، وتارةً يَغلِبُ على ظنِّه الزِّيادةُ، وهو المرادُ هنا؛ قال: أَوْ يَزِيدُونَ؛ لأنَّ التَّرجيةَ في كثرةِ الأتْباعِ أقَرُّ لِلْعَينِ، وأسَرُّ للقَلبِ). ((نظم الدرر)) (16/296). ومِن معاني (أو): الشَّكُّ بالنسبةِ إلى المخاطبين، أي: إن الرائي يَشُكُّ عندَ رؤيتِهم. ومِن معانيها: الإِبهامُ بالنسبةِ إلى أنَّ الله تعالى أبْهَم أمْرَهم. ومِن معانيها: الإِباحةُ أي: أنَّ الناظرَ إليهم يُباحُ له أن يَحْزِرَهم بهذا القَدْرِ، أو بهذا القَدْرِ. ومن معانيها: التخييرُ أي: هو مُخَيَّرٌ بين أَنْ يَحْزِرَهم كذا أو كذا. يُنظر: ((الدر المصون)) للسمين الحلبي (1/167) و (9/332)، ((تفسير الألوسي)) (12/141). يَزيدونَ عليهم [951] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/637، 638)، ((تفسير الزمخشري)) (4/62)، ((مدارج السالكين)) لابن القيم (1/326) و(3/302)، ((تفسير الشوكاني)) (4/472)، ((تفسير السعدي)) (ص: 708). قال الزمخشري: (وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِئَةِ أَلْفٍ المرادُ به ما سَبَق مِن إرسالِه إلى قَومِه، وهم أهلُ نِينَوَى. وقيل: هو إرسالٌ ثانٍ بعدَ ما جرى عليه إلى الأوَّلِينَ، أو إلى غيرِهم. وقيل: أسلَموا فسألوه أن يَرجِعَ إليهم فأبى؛ لأنَّ النَّبيَّ إذا هاجَرَ عن قَومِه لم يرجِعْ إليهم مُقيمًا فيهم، وقال لهم: إنَّ اللهَ باعِثٌ إليكم نَبيًّا). ((تفسير الزمخشري)) (4/62). وقال البِقاعي: (لَمَّا لم يَتعلَّقِ الغَرَضُ بتَعيينِ المُرسَلِ إليهم، وهل هم الَّذين أبَقَ عنهم أوْ لا؟ قال: إِلَى مِئَةِ أَلْفٍ، والجُمهورُ على أنَّهم الَّذين أُرسِلَ إليهم أوَّلًا). ((نظم الدرر)) (16/295، 296). ويُنظر: ((تفسير ابن عطية)) (4/487). .
فَآَمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ (148).
أي: فآمَنوا كُلُّهم بما جاءَهم به يُونُسُ، ووحَّدوا اللهَ، فلم يُعَذِّبْهم، ومتَّعَهم في الدُّنيا إلى حينِ بُلوغِ آجالِهم [952] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/639)، ((تفسير السمرقندي)) (3/153)، ((تفسير ابن كثير)) (7/41)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (16/296)، ((تفسير الشوكاني)) (4/472)، ((تفسير السعدي)) (ص: 707). .
كما قال تعالى: فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آَمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آَمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ [يونس: 98] .

الفَوائِدُ التَّربَويَّةُ:

قَولُه تعالى: فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ فيه بَيانُ فَضلِ التَّسبيحِ، والعَمَلِ في الرَّخاءِ [953] يُنظر: ((الإكليل)) للسيوطي (ص: 219). . وفيه إشارةٌ إلى حديثِ: ((تَعَرَّفْ إلى اللهِ في الرَّخاءِ، يَعرِفْك في الشِّدَّةِ )) [954] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (16/293، 294). والحديث أخرجه مِن طُرُقٍ: أحمدُ (2803)، والطَّبَرانيُّ (11/123) (11243)، والحاكمُ (6303) -واللفظُ له- مطوَّلًا مِن حديثِ عبدِ الله بنِ عبَّاسٍ رضيَ الله عنهما. صحَّح الحديثَ عبدُ الحقِّ الإشبيليُّ في ((الأحكام الشرعية الكبرى)) (3/333)، والقرطبيُّ في ((التفسير)) (8/335)، والألبانيُّ في ((صحيح الجامع)) (2961)، وشعيبٌ الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (2803). وحسَّنه ابنُ رجب في ((جامع العلوم والحِكَم)) (1/459)، وابنُ حَجَرٍ في ((موافقة الخُبْرِ الخَبَر)) (1/327)، والسَّخاويُّ في ((المقاصد الحسنة)) (188)، وحسَّنَ إسنادَه الصَّنعانيُّ في ((سبل السلام)) (4/267)، وصحَّح إسنادَه أحمد شاكر في تخريج ((مسند أحمد)) (4/287). . قال الضَّحَّاكُ: (اذكُروا اللهَ في الرَّخاءِ، يَذكُرْكم في الشِّدَّةِ؛ إنَّ يُونُسَ عليه السَّلامُ كان عَبدًا صالِحًا، وكان يَذكُرُ اللهَ، فلمَّا وَقَع في بَطنِ الحُوتِ سأل اللهَ، فقال اللهُ: فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ، وإنَّ فِرعَونَ كان عَبدًا طاغيًا ناسيًا لذِكرِ اللهِ تعالى، فلمَّا أدركَه الغَرَقُ قال: آمَنْتُ، فقال الله: آَلْآَنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ [يونس: 91] ؟!) [955] يُنظر: ((زاد المسير)) لابن الجوزي (2/348). ، ففيه تَرغيبٌ مِن اللهِ عزَّ وجلَّ في إكثارِ المؤمِنِ مِن ذِكرِه بما هو أهْلُه، وإقبالِه على عِبادتِه، وجمْعِ هَمِّه لِتَقْييدِ نِعمتِه بالشُّكرِ في وَقتِ المُهلةِ والفُسحةِ؛ لِيَنْفَعَه ذلك عِنده تعالى في المَضايقِ والشَّدائدِ [956] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/61، 62)، ((تفسير البيضاوي)) (5/18)، ((تفسير أبي السعود)) (7/205). ، وذلك على قولٍ في التَّفسيرِ.

الفَوائِدُ العِلميَّةُ واللَّطائِفُ:

1- قال الله تعالى: وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ ... الغَرَضُ مِن ذِكرِ يُونُسَ عليه السَّلامُ هنا تَسليةُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فيما يَلْقاه مِن ثِقلِ الرِّسالةِ، بأنَّ ذلك قد أثقَلَ الرُّسُلَ مِن قَبْلِه، فظَهَرت مَرتبةُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في صَبرِه على ذلك، وعَدَمِ تذَمُّرِه، ولإعلامِ جميعِ النَّاسِ بأنَّه مأمورٌ مِن اللهِ تعالى بمُداوَمةِ الدَّعوةِ للدِّينِ؛ لأنَّ المُشرِكينَ كانوا يَلومونَه على إلحاحِه عليهم، ودَعوتِه إيَّاهم في مُختلِفِ الأزمانِ والأحوالِ، ويَقولونَ: (لا تَغْشَنا في مجالِسِنا، فمَن جاءك مِنَّا فأسمِعْه)، كما قال عبدُ اللهِ بنُ أُبَيٍّ [957] يُنظر ما أخرجه البخاري (4566)، ومسلم (1798). . قال تعالى: يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ [المائدة: 67] ؛ فلِذِكرِ قِصَّةِ يُونُسَ أثَرٌ مِن مَوعِظةِ التَّحذيرِ مِن الوُقوعِ فيما وقَعَ فيه يُونُسُ مِن غَضَبِ رَبِّه؛ ألَا ترى إلى قَولِه تعالى: فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ * لَوْلَا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ [القلم: 48، 49]، ولِيَعلَمَ النَّاسُ أنَّ اللهَ إذا اصطفى أحدًا للرِّسالةِ لا يُرَخِّصُ له في الفُتورِ عنها، ولا يَنسَخُ أمْرَه بذلك؛ لأنَّ اللهَ أعلَمُ حيثُ يجعَلُ رِسالاتِه [958] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/178). .
2- أنَّ مَقامَ النُّبُوَّةِ لا يَمنَعُ مِن فِعْلِ بَعضِ ما لا يكونُ مَحبوبًا إلى اللهِ، أي: أنَّ الرَّسولَ قد يقومُ بشَيءٍ لم يُؤمَرْ به. دَليلُ ذلك قَولُه تعالى: إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ، فعَبَّرَ عن خُروجِه بالإباقِ؛ لأنَّه خُروجٌ لم يُؤمَرْ به [959] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الصافات)) (ص: 307). .
3- قولُه تعالى: فَسَاهَمَ استُدِلَّ به على جوازِ المُساهَمةِ -يعني: القُرْعةَ-، وذلك على أنَّ شَرْعَ مَن قَبْلَنا شرعٌ لنا ما لم يَرِدْ شرعُنا بخلافِه؛ وقد وَرَدَ شرعُنا بوفاقِه؛ فإنَّ النَّبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم كان إذا أراد سفرًا أَقْرَعَ بيْنَ نسائِه؛ فأيَّتُهنَّ خَرَج سَهْمُها خَرَج بها [960] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الصافات)) (ص: 309). والحديث رواه البخاري (2688)، ومسلم (2770) من حديثِ عائشةَ رضيَ الله عنها. لكن قال ابنُ عاشور: (ليس في الآيةِ دَليلٌ على مشروعيَّةِ القُرعةِ في الفَصلِ بيْن المُتساوِيَينِ؛ لأنَّها لم تَحْكِ شَرعًا صحيحًا كان قبْلَ الإسلامِ؛ إذْ لا يُعرَفُ دينُ أهلِ السَّفينةِ الَّذين أجرَوُا الاستِهامَ على يُونُسَ). ((تفسير ابن عاشور)) (23/174). وقال أيضًا: (ما أُجرِيَ الاستِهامُ عليه قد أجمَع المُسلِمونَ على أنَّه لا يَجري في مِثْلِه استِهامٌ). ((المصدر السابق)). .
4- حُبُّ الإعذارِ مِن اللهِ عزَّ وجلَّ، وأنَّه يُحِبُّ الإعذارَ مِن خَلقِه -أي: إقامةَ العُذرِ لِمَا فَعَلَه عزَّ وجلَّ- حتَّى لا يُنسَبَ فِعلُه للظُّلمِ وللسَّفَهِ، وتُؤخَذُ مِن قَولِه تعالى: فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ، يعني: ليس في حالٍ لا يُلامُ عليها حتَّى يُقالَ: إنَّ في هذا ظُلمًا له أو سفهًا في حقِّه! بلِ التَقَمَه الحوتُ في حالٍ هو مُستَحِقٌّ فيها لذلك؛ ولهذا قال: وَهُوَ مُلِيمٌ [961] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الصافات)) (ص: 312). .
5- في قَولِه تعالى: فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ دَليلٌ على أنَّ المرءَ يُحفَظُ بصالحِ عَمَلِه، ويَنجُو به مِن المُهلِكاتِ [962] يُنظر: ((النكت الدالة على البيان)) للقصاب (3/739). ، فالطَّاعاتُ السَّابقةُ تكونُ سَبَبًا للنَّجاةِ مِن المُهْلِكاتِ اللَّاحقةِ، فيكونُ في هذا شاهِدٌ لِقَولِ النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم: ((تَعَرَّفْ إلى اللهِ في الرَّخاءِ، يَعرِفْكَ في الشِّدَّةِ )) [963] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الصافات)) (ص: 312). أخرجه من طرق أحمد (2803) باختلاف يسير، والطبراني (11/223) (11560)، والحاكم (6303) واللفظ لهما من حديث عبدالله بن عباس رضي الله عنهما صححه عبدالحق الإشبيلي في ((الأحكام الشرعية الكبرى)) (3/333)، والقرطبي في ((التفسير)) (8/335)، والألباني في ((صحيح الجامع)) (2961)، وشعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (2803). .
6- في قَولِه تعالى: لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ أنَّه لو بَقِيَ في بَطنِ الحوتِ لَكان فيه آيةٌ مِن آياتِ اللهِ؛ أنْ يَبقَى هذا الحوتُ مِن ذلك الوَقتِ إلى يومِ القيامةِ؛ لأنَّ هذا ظاهِرُ اللَّفظِ؛ أنَّه يَبقَى في بَطنِه إلى البَعثِ [964] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الصافات)) (ص: 313). .
7- قَولُ الله تعالى: فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ فيه سؤالٌ: في هذه الآيةِ التَّصريحُ بنَبذِ يُونُسَ بالعَراءِ -عليه وعلى نَبيِّنا الصَّلاةُ والسَّلامُ- وقد جاءتْ آيةٌ أُخرَى يُتوَهَّمُ منها خِلافُ ذلك، وهي قَولُه تعالى: لَوْلَا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ [القلم: 49] ؟
الجوابُ: أنَّ الامتِناعَ المدلولَ عليه بحَرفِ الامتِناعِ الَّذي هو: (لولا) مُنصَبٌّ على الجُملةِ الحاليَّةِ، لا على جوابِ (لولا). وتقريرُ المعنى: لولا أنْ تداركَه نِعمةٌ مِن رَبِّه لَنُبِذَ بالعَراءِ في حالِ كونِه مَذمومًا، لكِنَّه تداركَتْه نِعمةُ رَبِّه، فنُبِذَ بالعراءِ غيرَ مذمومٍ؛ فهذه الحالُ عُمدةٌ لا فَضلةٌ، لأنَّ المرادَ بالفَضلةِ ما ليس رُكنًا في الإسنادِ وإن توقَّفَت صِحَّةُ المعنى عليه. ونظيرُها قَولُه تعالى: وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ [الدخان: 38] ، وقَولُه تعالى: وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا [ص: 27] ؛ لأنَّ النَّفيَ فيهما مُنصَبٌّ على الحالِ لا على ما قَبْلَهما [965] يُنظر: ((دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب)) للشنقيطي (ص: 198). .
8- قَولُه تعالى: وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ فيه إثباتُ تأثيرِ الأسبابِ؛ لأنَّ هذه الشَّجَرةَ تُظِلُّه -على قولٍ- وتُبَرِّدُ عليه، وهي لَيِّنةُ المَلمَسِ، ويُقالُ: إنَّ الذُّبابَ لا يَقَعُ عليها، واللهُ قادرٌ على أنْ يُظِلَّه بغَمامةٍ، وقادِرٌ على أنْ يُبقيَه في الشَّمسِ في العراءِ ولا يَتأثَّرُ، لكِنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ يُبَيِّنُ لعِبادِه أنَّ الأشياءَ تكونُ بأسبابِها، فالأسبابُ مُؤَثِّرةٌ، لكِنْ لا بنَفْسِها، ولكِنْ بما أودَعَه اللهُ بها مِن أسبابِ التَّأثيرِ [966] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الصافات)) (ص: 313). .
9- قَولُ الله تعالى: وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ فيه سؤالٌ: وهو: أنَّ الشَّجَرةَ في كلامِ العَرَبِ إنَّما تُقالُ لِما كان على ساقٍ مِن عُودٍ، واليقطينُ لا ساقَ له؟
والجوابُ مِن أوجُهٍ:
منها: أنَّ قولَه تعالى: شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ جاء تجوُّزًا.
ومنها: أنَّ الله أنبَتَها عليه ذاتَ ساقٍ؛ خَرقًا للعادةِ ليُونُس عليه السَّلامُ، فأخرجها عن عادةِ أمثالِها حتَّى تصيرَ عليه كالعريشِ؛ لِيَحصُلَ له ظِلٌّ؛ لأنَّه لو كان مُنبَسِطًا على الأرضِ لم يُمكِنْ أن يَستَظِلَّ به [967] يُنظر: ((البسيط)) للواحدي (19/113)، ((تفسير ابن عطية)) (4/487)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (16/295). .
ومنها: أنَّ الشَّجَرَ إذا أُطلِق كان ما له ساقٌ يقومُ عليه، لكنْ إذا قُيِّد بشَيءٍ تقيَّدَ به؛ فمُسَمَّى الشَّجَرةِ على إطلاقِه هو: ما له ساقٌ يقومُ عليه، ولكِنْ لَمَّا تقَيَّدَت هنا باليَقطينِ، فتكونُ بلا ساقٍ [968] يُنظر: يُنظر: ((زاد المعاد)) لابن القيم (4/370، 371). .
10- في قَوْلِهِ: إِلَى مِئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ إِنْ قُلْتَ: يَزِيدُونَ فِعْلٌ ولا يَصِحُّ عطفُه على المجرورِ بـ إِلَى؛ فإنَّ حرفَ الجرِّ لا يَصِحُّ تقديرُه على الفعلِ، ولذلكَ لا يجوزُ: مَرَرْتُ بقائِمٍ ويَقْعُدُ، على تأويلِ: قائِمٍ وقاعِدٍ.
فالجوابُ: أنَّ يَزِيدُونَ خبرُ مُبتدأٍ محذوفٍ في محلِّ رفعٍ والتقديرُ: أو هم يَزيدونَ، وجازَ عطفُ الاسميَّةِ على الفعليَّةِ بـ أَوْ لاشتراكِهما في مُطْلَقِ الجملةِ [969] يُنظر: ((البرهان في علوم القرآن)) للزركشي(4/209). ويُنظر أيضًا: ((المحتسب)) لابن جني (2/226). .
11- استدلَّ بعضُ المتأخِّرينَ بقَولِه تعالى: وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ على إثباتِ الإحصاءِ السُّكَّانيِّ؛ لأنَّه قال: إِلَى مِئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ، فأحصاهم عَدَدًا، مع أنَّه لو قال: «فأرسَلْناه إلى قومِه» كفَى، لكنْ عَدَّهم عَدًّا، ولا نَعلَمُ لهذا فائِدةً إلَّا الإحصاءَ، ولا شكَّ أنَّ الإحصاءَ إذا كان فيه فائِدةٌ فإنَّه يكونُ مَطلوبًا [970] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الصافات)) (ص: 314). .
12- قَولُ الله تعالى: وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ ظاهِرُ تَرتيبِ ذِكرِ الإرسالِ بعدَ الإنجاءِ مِن الحُوتِ: أنَّه إعادةٌ لإرسالِه [971] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/179). .

بلاغةُ الآياتِ:

1- قولُه تعالَى: إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ
- قَولُه: إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ أي: هرَبَ إليه، وأصْلُه الهرَبُ مِن السَّيِّدِ، ويُونسُ هو عبْدٌ للهِ، وخرَجَ فارًّا مِن غَيرِ إذْنٍ مِن اللهِ؛ فحسُنَ إطلاقُ وَصفِ الإباقِ عليه [972] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (9/123)، ((تفسير أبي السعود)) (7/205)، ((تفسير ابن عاشور)) (23/173). .
- وفي قِصَّةَ يُونسَ عليه السَّلامُ جُمَلٌ مَحذوفةٌ مُقدَّرةٌ قبْلَ ذِكرِ فِرارِه إلى الفُلْكِ، كما في قِصَّتِه في سُورةِ (الأنبياءِ) في قَولِه: إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا [الأنبياء: 87] ، وقولِه: فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ جُمَلٌ مَحذوفةٌ أيضًا، وبمَجموعِ القَصصِ يَتبيَّنُ ما حُذِفَ في كلِّ قِصَّةٍ منها [973] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (9/124). .
2- قولُه تعالَى: فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ * فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ
- تَفريعُ فَسَاهَمَ يُؤْذِنُ بجُمَلٍ مَحذوفةٍ، تَقْديرُها: فهاجَ البَحرُ، وخاف الرَّاكبونَ الغرَقَ؛ فساهَمَ [974] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/173). .
- قَولُه: فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ لَمَّا آلَ وُقوعُ القُرعةِ عليه إلى رَمْيِه مِن السَّفينةِ مِن محلِّ علوٍ إلى أسفَلَ، عبَّر عن ذلك بما يدُلُّ على الزَّلقِ الَّذي يكونُ مِن علوٍ إلى سفلٍ، فقال: فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ [975] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (16/292). .
3- قَولُه تعالى: لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ عبَّرَ بالجَمعِ؛ لإفادةِ عُمومِ البَعثِ. ولو أفرَدَ لم يُفِدْ بَعثَ الحيواناتِ العُجْمِ، ولو ثَنَّى لَظُنَّ أنَّ ذلك له وللحُوتِ خاصَّةً لِمعنًى يَخُصُّها، فلا يفيدُ بَعثَ غَيرِهما [976] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (16/293). .
4- قولُه تعالَى: فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ * وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ
- الفاءُ في قَولِه: فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ فَصيحةٌ؛ لأنَّها تُفصِحُ عن كَلامٍ مُقدَّرٍ دلَّ عليه قولُه: فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ [الصافات: 143، 144]، فالتَّقديرُ: يُسبِّحُ ربَّه في بطْنِ الحوتِ: أنْ لا إلهَ إلَّا أنتَ سُبحانَكَ، إنِّي كنتُ مِن الظَّالِمينَ، فاستجابَ اللهُ له ونجَّاهُ، كما في سُورةِ (الأنبياءِ)، والمعنى: فلَفَظَه الحوتُ وقَاءَه، وحمَلَه المَوجُ إلى الشَّاطئِ [977] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/177). .
- والنَّبذُ: الإلْقاءُ، وأُسنِدَ نَبْذُه إلى اللهِ؛ لأنَّ اللهَ هو الَّذي سخَّرَ الحوتَ لِقَذْفِه مِن بَطنِه إلى شاطئٍ لا شجَرَ فيه [978] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/177). .
- وتَعديةُ فِعلِ (أَنْبَتْنَا) بحَرْفِ (على)، أفاد أنَّها مُسْتعليةٌ عليه فوقَه مُظِلَّةٌ له، كما يُطَنَّبُ البيتُ على الإنسانِ [979] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/62)، ((تفسير البيضاوي)) (5/18)، ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (13/204)، ((تفسير أبي السعود)) (7/206). .
5- قولُه تعالَى: وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ
- قيل: رِسالتُه هذه هي الأُولى الَّتي أبَقَ بعْدَها، ذكَرَها آخِرَ القَصصِ؛ تَنبيهًا على رِسالتِه، ويَدُلُّ عليه قولُه: فَآَمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ، وتَمتيعُ تلك الأُمَّةِ هو الَّذي أغضَبَ يُونسَ عليه السَّلامُ حتَّى أبَقَ. وقيل: المرادُ إرسالُه السَّابقُ؛ أخبَر أوَّلًا بأنَّه مِن المرسَلينَ على الإطلاقِ، ثمَّ أخبَرَ بأنَّه قدْ أُرسِلَ إلى أُمَّةٍ جَمَّةٍ، وكأنَّ تَوسيطَ تَذكيرِ وَقْتِ هَرَبِه إلى الفُلكِ وما بعْدَه بيْنَهما؛ لِتَذكيرِ سَببهِ، وهو ما جَرَى بيْنَه -عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ- وبيْن قَومِه؛ مِن إنذارِه إيَّاهم عَذابَ اللهِ تعالى، وتَعيينِه لِوَقْتِ حُلولِه، وتَعلُّلِهم وتَعليقِهم لِإيمانِهم بِظُهورِ أماراتِه؛ لِيُعلَمَ أنَّ إيمانَهم الَّذي سيُحْكى بعْدُ لم يكُنْ عَقِيبَ الإرسالِ -كما هو المُتبادَرُ مِن تَرتيبِ الإيمانِ عليه بالفاءِ-، بلْ بعْدَ اللَّتَيَّا والَّتِي [980] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/62)، ((تفسير البيضاوي)) (5/19)، ((تفسير أبي حيان)) (9/125)، ((تفسير أبي السعود)) (7/206)، ((تفسير ابن عاشور)) (23/179). وبعْدَ اللَّتَيَّا والَّتي: أي: بعدَ جَهدٍ وشِدَّةٍ. يُنظر: ((لسان العرب)) لابن منظور (15/455). .
- وإذا كان المرادُ بإرسالِه أنَّه على رِسالتِه الأُولى، فيكونُ قولُه: وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِئَةِ أَلْفٍ عَطْفًا على قولِه: وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ على سَبيلِ البَيانِ؛ لأنَّه دلَّ على ابتداءِ الحالِ وعلى انْتِهائِها، وعلى ما هو المقصودُ بالإرسالِ مِن الإيمانِ، واعتَرَض ما بيْنَهما قِصَّةٌ مِن قَصَصِه اعتِناءً بشَأْنِها؛ لِاحتِوائِها على أمْرٍ عَجيبٍ [981] يُنظر: ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (13/204). .
- قولُه: وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ حَرْفُ (أو) ليس للشَّكِّ؛ فهو على اللهِ مُحالٌ، وهي بمعنى (بلْ)، أو بمعنى الواوِ، أو المعنى: أوْ يَزِيدون في نَظَرِهم؛ فالشَّكُّ إنَّما دخَلَ في قَولِ المخلوقينَ. وقيل: هي للإبهامِ على المخاطَبِ. وقيل: هي إضرابٌ لِمَا في الواقعِ ونفْسِ الأمْرِ، فالمعنى: أرسَلْناهُ إلى جَماعةٍ يَحزُرُهم النَّاسُ مِئةَ ألْفٍ، وهمْ أزيَدُ مِن ذلك، وفيه نُكتةٌ جَليلةٌ، وهي الانتقالُ مِن الأدْنى إلى الأعْلى؛ لِمَا له مِنَ الوقْعِ في النَّفْسِ، ولَفْتِ النَّظرِ إليه، بخِلافِ ما إذا أخبَرَ بالأعْلى مِن أوَّلِ الأمْرِ [982] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/62)، ((تفسير البيضاوي)) (5/19)، ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (13/191)، ((تفسير أبي حيان)) (9/125)، ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص: 484)، ((تفسير أبي السعود)) (7/206)، ((إعراب القرآن وبيانه)) لدرويش (8/314، 315). .
6- قولُه تعالَى: فَآَمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ
- الفاءُ في قَولِه: فَآَمَنُوا للتَّعقيبِ العُرْفيِّ؛ لأنَّ يُونسَ عليه السَّلامُ لَمَّا أُرسِلَ إليهم ودَعاهم، امتَنَعوا في أوَّلِ الأمْرِ، فأخْبَرَهم بوَعيدٍ بهَلاكِهم، ثمَّ خافوا فآمَنوا [983] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/180). .
- ولعلَّه إنَّما لم يَختِمْ قِصَّةَ يُونسَ وقِصَّةَ لُوطٍ بما ختَمَ به سائرَ القِصصِ بالسَّلامِ عليهم؛ أو اكتِفاءً بالتَّسليمِ الشَّاملِ لكلِّ الرُّسلِ المذكورينَ في آخِرِ السُّورةِ، وقيل غيرُ ذلك [984] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (5/19)، ((تفسير أبي السعود)) (7/206). .