موسوعة التفسير

سورةُ العَنكَبوتِ
الآيتان (10-11)

ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ

المعنى الإجماليُّ:

يحكي الله تعالى جانبًا مِن أحوالِ أصحابِ القلوبِ المريضةِ، فيقولُ: ومِنَ النَّاسِ مَن يقولُ بلِسانِه: آمَنَّا بالله، فإذا آذاه الكُفَّارُ لِيَرجِعَ عن دينِه، جعَلَ أذى النَّاسِ له كعذابِ اللهِ، فيَرتَدُّ لِيَسْلَمَ مِن أذاهم، ولَئِنْ جاء نصرٌ مِن ربِّك -يا محمَّدُ- لعِبادِه المؤمِنينَ به، لَيَقولَنَّ أولئك المرتَدُّونَ عن دينِهم: إنَّا كنَّا مُؤمِنينَ معكم؛ لِيَأخُذوا نصيبَهم مِنَ الغنائِمِ! أوَليس اللهُ بأعلَمَ بما في قُلوبِ خَلقِه؟! ولَيَعْلَمَنَّ اللهُ المؤمِنينَ الصَّادِقينَ عِلمَ مُشاهَدةٍ يَترتَّبُ عليه جزاؤُهم، وكذلك المنافِقونَ.

تَفسيرُ الآيتينِ:

وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آَمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ (10).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
إنَّ أقسامَ المُكلَّفينَ ثلاثةٌ: مُؤمِنٌ ظاهِرٌ بحُسنِ اعتِقادِه، وكافِرٌ مُجاهِرٌ بكُفرِه وعِنادِه، ومُذَبْذَبٌ بيْنَهما؛ يُظهِرُ الإيمانَ بلِسانِه، ويُضمِرُ الكُفرَ في فؤادِه، واللهُ تعالى لَمَّا بَيَّنَ القِسْمَينِ بقَولِه تعالى: فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ [العنكبوت: 3] ، وبيَّن أحوالَهما بقَولِه: أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ [العنكبوت: 4] إلى قولِه: وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ [العنكبوت: 7] - بيَّن القِسْمَ الثَّالثَ [102] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (25/33). .
وأيضًا لَمَّا ذكَرَ اللهُ تعالى أنَّه لا بُدَّ أن يُمتَحَنَ مَنِ ادَّعى الإيمانَ؛ لِيَظهَرَ الصَّادِقُ مِن الكاذِبِ؛ بيَّن تعالى أنَّ مِن النَّاسِ فَريقًا لا صبرَ لهم على المِحَنِ، ولا ثباتَ لهم على بَعضِ الزَّلازِلِ، فقال [103] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 627). :
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آَمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ.
سَبَبُ النُّزولِ:
عن ابنِ عبَّاسٍ رَضيَ اللهُ عنهما، قال: (كان قَومٌ مِن أهلِ مكَّةَ أسلَموا، وكانوا يَستَخْفُونَ بإسلامِهم، فأخرَجَهم المُشرِكونَ يومَ بَدرٍ معهم، فأُصيبَ بَعضُهم، وقُتِلَ بَعضٌ، فقال المُسلِمونَ: كان أصحابُنا هؤلاء مُسلِمينَ وأُكرِهوا؛ فاستَغفِروا لهم، فنزلت: إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا [النساء: 97] ، فكُتِبَ إلى مَن بَقِيَ بمكَّةَ مِنَ المُسلِمينَ بهذه الآيةِ: أنْ لا عُذرَ لهم؛ فخرجوا، فلَحِقَهم المُشرِكونَ، فأعطَوْهُمُ الفِتنةَ [104] أي: كفَروا بعدَ إسلامِهم. يُنظر: حاشية (2) من ((تفسير ابن جرير)) (9/103) بتحقيق أحمد شاكر، ومحمود شاكر. ، فنَزَلت فيهم هذه الآيةُ: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آَمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ، فكتب المُسلِمونَ إليهم بذلك، فخَرَجوا وأَيِسُوا مِن كلِّ خَيرٍ، ثمَّ نَزَلت فيهم: ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ [النحل: 110] ، فكَتَبوا إليهم بذلك: إنَّ اللهَ قد جعَل لكم مَخرَجًا، فخرَجوا، فأدرَكهم المُشرِكونَ، فقاتَلوهم، حتَّى نجا مَن نجا، وقُتِل مَن قُتِل) [105] أخرجه البزَّار كما في ((كشف الأستار)) للهيثمي (2204)، وابن جرير في ((التفسير)) (10260) واللفظ له، والطحاوي في ((مشكل الآثار)) (3377)، وابن أبي حاتم في ((التفسير)) (17170)، والضياء في ((الأحاديث المختارة)) (215). قال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (7/10): (رجالُه رجالُ الصَّحيحِ غيرَ محمَّدِ بنِ شَرِيكٍ، وهو ثقةٌ). وصَحَّح إسنادَه أحمد شاكر في ((عمدة التفسير)) (1/560)، وشعيب الأرنؤوط في تحقيق ((مشكل الآثار)) (8/450)، وأورده الوادعي في ((الصحيح من أسباب النزول)) (126). .
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آَمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ.
أي: ومِنَ النَّاسِ مَن يقولُ بلِسانِه: آمَنَّا باللهِ فوحَّدْناه، فإذا آذاه الكُفَّارُ لِيَرجِعَ عن إيمانِه باللهِ، جعَل أذَى النَّاسِ له كعَذابِ اللهِ، فيَرتَدُّ ويَترُكُ الحَقَّ لِيَسْلَمَ مِن أذى الخَلقِ [106] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/364)، ((تفسير القرطبي)) (13/329)، ((تفسير ابن كثير)) (6/265)، ((تفسير السعدي)) (ص: 627)، ((تفسير ابن عاشور)) (20/216)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (6/156). .
كما قال تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ [الحج: 11] .
وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ.
أي: ولَئِنْ جاء نَصرٌ مِن ربِّك -يا مُحمَّدُ- لحِزبِ اللهِ الثَّابِتي الإيمانِ، وفَتْحٌ ومَغانِمُ- لَيَقولَنَّ أولئك الجاعِلونَ فِتنةَ النَّاسِ كعَذابِ اللهِ، المُرتَدُّونَ عن إيمانِهم: إنَّا كنَّا معكم مُؤمِنينَ؛ لِيَأخُذوا نصيبَهم مِن الغنائِمِ [107] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/364)، ((تفسير القرطبي)) (13/330)، ((تفسير ابن كثير)) (6/265)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (14/398، 399)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (6/156)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة العنكبوت)) (ص: 44، 45). !
كما قال تعالى: وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا * وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا [النساء: 72، 73].
وقال سُبحانَه: الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [النساء: 141].
أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ.
أي: أوَليس اللهُ بأعلَمَ مِن كُلِّ أحدٍ بما في قُلوبِ جَميعِ خَلقِه، إخلاصًا كان أو نِفاقًا؟ فهو العالِمُ بما يُخفِي المُنافِقونَ، وإن أظهَروا للمُؤمِنينَ خِلافَ ما في قُلوبِهم؛ فكيف يُخادِعونَ مَن لا تَخفَى عليه خافيةٌ، ولا يَستَتِرُ عنه سِرٌّ ولا علانيةٌ [108] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/364)، ((البسيط)) للواحدي (17/500)، ((تفسير ابن كثير)) (6/266)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (14/399)، ((تفسير السعدي)) (ص: 627). ؟!
وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ (11).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا بيَّن اللهُ تعالى أنَّه أعلَمُ بما في قُلوبِ العالَمينَ؛ بيَّن أنَّه يَعلَمُ المؤمِنَ المحِقَّ وإن لم يتكَلَّمْ، والمنافِقَ وإن تكَلَّمَ [109] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (25/35). .
وأيضًا لَمَّا أنكَرَ اللهُ تعالى عدَمَ العِلمِ، صرَّحَ بالعِلمِ، فقال [110] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (14/399). :
وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ (11)
أي: ولَيَعْلَمَنَّ اللهُ المؤمِنينَ الصَّادِقينَ الثَّابتينَ على إيمانِهم، ولَيَعْلَمَنَّ المُنافِقينَ الكاذِبينَ في دَعْوى الإيمانِ، عِلمَ مُشاهَدةٍ يترتَّبُ عليه جزاؤُهم [111] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/367)، ((تفسير ابن كثير)) (6/266)، ((تفسير السعدي)) (ص: 627)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة العنكبوت)) (ص: 47، 48). .
كما قال تعالى: مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ [آل عمران: 179] .
وعن أبي هُريرةَ رَضيَ اللهُ عنه، أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((بادِروا بالأعمالِ فِتَنًا كقِطَعِ اللَّيلِ المُظلِمِ؛ يُصبِحُ الرَّجُلُ مُؤمِنًا ويُمسي كافِرًا، أو يُمسي مُؤمِنًا ويُصبِحُ كافِرًا، يبيعُ دينَه بعَرَضٍ مِن الدُّنيا !)) [112] رواه مسلم (118). .

الفَوائِدُ التَّربويَّةُ:

في قَولِه تعالى: أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ تحذيرٌ مِن أنْ يقولَ الإنسانُ خِلافَ ما في قَلبِه [113] يُنظر: ((القول المفيد)) لابن عثيمين (2/77). .

الفَوائِدُ العِلميَّةُ واللَّطائِفُ:

1- قال الله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آَمَنَّا بِاللَّهِ، لم يقُلْ: (آمنْتُ)، مع أنَّه وحَّد الأفعالَ الَّتي بعْدَه، كقَولِه: فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ، وقَولِه: جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ؛ وذلك لأنَّ المنافِقَ كان يُشَبِّهُ نفْسَه بالمؤمِنِ، ويقول: (إيماني كإيمانِك!)، فقال: آَمَنَّا، يعني: أنا والمؤمِنُ حقًّا آمَنَّا؛ إشعارًا بأنَّ إيمانَه كإيمانِه! وهذا كما أنَّ الجبانَ الضَّعيفَ إذا خرج مع الأبطالِ في القِتالِ، وهَزَموا خُصومَهم، يقولُ الجبانُ: خرَجْنا وقاتَلْناهم وهزَمْناهم! فيَصِحُّ مِن السَّامعِ لكلامِه أن يقولَ: وماذا كنت أنتَ فيهم حتَّى تقولَ: خرَجْنا وقاتَلْنا؟! وهذا الرَّدُّ يدُلُّ على أنَّه يُفهَمُ مِن كلامِه أنَّ خُروجَه وقِتالَه كخُروجِهم وقتالِهم؛ لأنَّه لا يَصِحُّ الإنكارُ عليه في دعوى نفْسِ الخُروجِ والقتالِ، فهُم لَمَّا أرادوا إظهارَ كَونِ إيمانِهم كإيمانِ المحِقِّينَ، كان الواحِدُ يقولُ: آَمَنَّا، أي: أنا والمِحِقُّ [114] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (25/33). .
2- قَولُ الله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آَمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ فيه سؤالٌ: هذا يقتضي مَنْعَ المؤمِنِ مِن إظهارِ كَلِمةِ الكُفرِ بالإكراهِ؛ لأنَّ مَن أظهَرَ كَلِمةَ الكُفرِ بالإكراهِ احتِرازًا عن التَّعذيبِ العاجِلِ، يكونُ قد جعَل فِتنةَ النَّاسِ كعذابِ اللهِ؟
الجوابُ: ليس الأمرُ كذلك؛ لأنَّ مَن أُكرِهَ على الكُفرِ وقَلبُه مُطمَئِنٌّ بالإيمانِ، لم يَجعَلْ فِتنةَ النَّاسِ كعَذابِ اللهِ؛ لأنَّ عذابَ اللهِ يُوجِبُ تَركَ ما يُعذَّبُ عليه ظاهِرًا وباطِنًا، وهذا المؤمِنُ المُكرَهُ لم يجعَلْ فِتنةَ النَّاسِ كعَذابِ الله، بحيثُ يَترُكُ ما يُعذَّبُ عليه ظاهِرًا وباطِنًا، بل في باطِنِه الإيمانُ [115] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (25/34). .
3- قَولُ الله تعالى: جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ لم يقُلْ: (عذابَ النَّاسِ)؛ لأنَّ فِعلَ العبدِ ابتلاءٌ وامتحانٌ مِن الله، وفِتنَتَه تسليطُ بعضِ النَّاسِ على مَن أظهَرَ كَلِمةَ الإيمانِ لِيُؤذيَه؛ فتَبِينَ مَنزِلتُه، كما جعَل التَّكاليفَ ابتلاءً وامتِحانًا، وهذا إشارةٌ إلى أنَّ الصَّبرَ على البَليَّةِ الصَّادرةِ ابتلاءً وامتحانًا مِن الإنسانِ، كالصَّبرِ على العباداتِ [116] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (25/34). .
4- قَولُ الله تعالى: وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لم يَقُلْ: (مِنَ اللهِ) مع أنَّ ما تقدَّم كان كُلُّه بذِكرِ اللهِ، كقَولِه: أُوذِيَ فِي اللَّهِ، وقَولِه: كَعَذَابِ اللَّهِ؛ وذلك لأنَّ (الرَّبَّ) اسمٌ مَدلولُه الخاصُّ به الشَّفَقةُ والرَّحمةُ، و(اللهُ) اسمٌ مَدلولُه الهَيْبةُ والعَظَمةُ؛ فعندَ النَّصرِ ذُكِرَ اللَّفظُ الدَّالُّ على الرَّحمةِ والعاطفةِ، وعندَ العذابِ ذُكِرَ اللَّفظُ الدَّالُّ على العَظَمةِ [117] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (25/34). ، أو باعتبارِ أنَّ النَّصرَ مِن أفعالِ الرُّبوبيَّةِ.
5- عبَّرَ في حالةِ الشِّدَّةِ في قَولِه: فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ بالإفرادِ؛ لِئلَّا يُتوَهَّمَ أنَّ الجمعَ قَيدٌ، وجَمَع في قَولِه: وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ دَلالةً على أنَّهم لا يَستَحْيُونَ مِنَ الكَذِبِ، ولو على رُؤوسِ الأشهادِ [118] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (14/399). .
6- قال الله تعالى: وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ بيَّن اللهُ تعالى أنَّهم أرادوا التَّلبيسَ، ولا يَصِحُّ ذلك لهم؛ لأنَّ التَّلبيسَ إنَّما يكونُ عندَما يخالِفُ القَولُ القَلبَ، فالسَّامِعُ يَبني الأمرَ على قَولِه، ولا يَدري ما في قَلبِه؛ فيَلتَبِسُ الأمرُ عليه، وأمَّا اللهُ تعالى فهو عليمٌ بذاتِ الصُّدورِ، وهو أعلَمُ بما في صَدرِ الإنسانِ مِن الإنسانِ؛ فلا يَلتَبِسُ عليه الأمرُ، وهذا إشارةٌ إلى أنَّ الاعتبارَ بما في القَلبِ؛ فالمنافِقُ الَّذي يُظهِرُ الإيمانَ ويُضمِرُ الكُفرَ: كافِرٌ، والمؤمِنُ المُكرَهُ الَّذي يُظهِرُ الكُفرَ ويُضمِرُ الإيمانَ: مُؤمِنٌ. واللهُ أعلَمُ [119] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (25/35). .
7- في قَولِه تعالى: وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ أنَّ الحِكمةَ مِنَ الامتِحانِ إظهارُ المؤمنِ مِنَ المنافقِ [120] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة العنكبوت)) (ص: 49). ، فلذلك قدَّر اللهُ مِحَنًا وابتلاءً، لِيَظهَرَ عِلمُه فيهم، فيُجازيَهم بما ظهَر منهم، لا بما يَعلمُه بمُجَرَّدِه؛ لأنَّهم قد يَحتَجُّون على الله أنَّهم لو ابتُلوا لَثَبَتوا [121] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 627). .
8- إنْ قيل: إنَّ السُّورةَ مكِّيَّةٌ، فكيف ذكَرَ اللهُ تعالى فيها النِّفاقَ في قولِه: وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ، مع أنَّ النِّفاقَ لم يَظهَرْ إلَّا بالمدينةِ؟
والجواب: أنَّ هذه الآيةَ مِنَ الإخبارِ بالغَيبِ، واللهُ تعالى يَذكُرُ المنافقينَ في السُّورِ المكِّيَّةِ تحَسُّبًا لِما يقَعُ، واستِعدادًا لهم [122] يُنظر: ((تفسير الألوسي)) (10/345)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الأنعام)) (ص: 148). .
وقيل: الآيةُ إخبارٌ عن حالِ المنافقينَ في الدَّارِ الآخرةِ [123] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (3/248). وقيل: الآيةُ بِناءً على أنَّ النِّفاقَ ظهَرَ في المدينةِ مدَنيَّةٌ. يُنظر: ((تفسير الألوسي)) (10/345). .

بلاغةُ الآيتينِ:

1- قولُه تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آَمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ كلامٌ مُستأنَفٌ مَسوقٌ لبَيانِ حالِ المنافقينَ بعدَ أنْ بيَّنَ حالَ المؤمنينَ والكافرينَ فيما تقدَّمَ [124] يُنظر: ((إعراب القرآن وبيانه)) لدرويش (7/405). .
- والخبرُ مِن قولِه: وَمِنَ النَّاسِ ... إلى قولِه: كَعَذَابِ اللَّهِ مُكنًّى به عن الذَّمِّ والاستِحماقِ [125] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (20/216). .
- وفيه مُناسَبةٌ حسَنةٌ، حيث قال هنا: فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ، وقال في سُورةِ (آلِ عِمرانَ): وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي [آل عمران: 195] ؛ ووجْهُ ذلك: أنَّ المُرادَ بتلك الآيةِ الصَّابرون على أذيَّةِ الكافرينَ، والمُرادُ هاهنا الَّذين لم يَصبِروا عليها؛ فقال هناك: وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي، وقال هاهنا: أُوذِيَ فِي اللَّهِ، ولم يقُلْ: (في سبيلِ اللهِ)؛ واللَّطيفةُ فيه: أنَّ اللهَ أراد بَيانَ شرَفِ المُؤمِنِ الصَّابرِ، وخِسَّةِ المنافقِ الكافرِ، فقال هناك: أُوذِيَ المؤمِنُ في سبيلِ اللهِ ليَترُكَ سبيلَه ولم يَترُكْه، وأُوذِيَ المنافقُ الكافرُ فترَكَ اللهَ بنفْسِه، وكان يُمكِنُه أنْ يُظهِرَ مُوافقتَهم إنْ بلَغَ الإيذاءُ إلى حدِّ الإكراهِ، ويكون قلْبُه مُطمِئنًّا بالإيمانِ، فلا يَترُكُ اللهَ، ومع هذا لم يَفعَلْه، بلْ ترَكَ اللهَ بالكُلِّيَّةِ، والمؤمِنُ أُوذِيَ ولم يَترُكْ سبيلَ اللهِ، بلْ أظهَر كَلِمَتَيِ الشَّهادةِ، وصبَرَ على الطَّاعةِ والعِبادةِ [126] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (25/33، 34). .
- قولُه: وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ ... فيه تأْكيدُ جُملةِ الشَّرطِ باللَّامِ المُوطِّئةِ للقَسَمِ؛ لتَحقيقِ حُصولِ الجوابِ عندَ حُصولِ الشَّرطِ، وهو يَقْتضي تَحقيقَ وُقوعِ الأمْرَينِ؛ ففيه وعدٌ بأنَّ اللهَ تعالى ناصِرٌ المسلمينَ، وأنَّ المنافقينَ قائلونَ ذلك حينَئذٍ [127] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (20/217). .
- قولُه: أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ تَذييلٌ، والواوُ اعتراضيَّةٌ. والاستِفهامُ إنكاريٌّ إنكارًا عليهم قولَهم: آَمَنَّا بِاللَّهِ، وقولَهم: إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ؛ لأنَّهم قالوا قولَهم ذلك ظنًّا منهم أنْ يَرُوجَ كَذِبُهم ونِفاقُهم على رسولِ اللهِ، فكان الإنكارُ عليهم مُتضَمِّنًا أنَّهم كاذِبونَ في قَولَيْهِم المَذكورَينِ، والخِطابُ مُوَجَّهٌ للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ؛ لِقَصْدِ إسماعِهم هذا الخطابَ؛ فإنَّهم يَحضُرون مجالِسَ النَّبيِّ والمؤمنينَ، ويَستمِعون ما يَنزِلُ مِن القرآنِ وما يُتْلى منه بعدَ نُزولِه، فيَشعُرون أنَّ اللهَ مُطَّلِعٌ على ضَمائرِهم. ويجوزُ أنْ يكونَ الاستفهامُ تَقريريًّا، وجَّهَ اللهُ به الخِطابَ للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ في صورةِ التَّقريرِ بما أنعَمَ اللهُ به عليه مِن إنبائِه بأحوالِ المُلْتبِسينَ بالنِّفاقِ. وهذا الأسلوبُ شائعٌ في الاستِفهامِ التَّقريريِّ [128] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (20/217). .
2- قولُه تعالى: وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ خُصَّ بالذِّكْرِ فَريقانِ هما ممَّن شَمِلَه عُمومُ قولِه: الْعَالَمِينَ [العنكبوت: 10] ؛ اهتِمامًا بهذينِ الفريقينِ وحالَيْهما: فريقِ الَّذين آمَنوا، وفريقِ المُنافقينَ؛ لأنَّ العِلْمَ بما في صُدورِ الفريقَينِ مِن إيمانٍ ونِفاقٍ يَترتَّبُ عليه الجزاءُ المُناسِبُ لحالَيْهما في العاجلِ والآجِلِ؛ فذلك ترغيبٌ وترهيبٌ. ووجْهُ تأكيدِ كِلَا الفِعلينِ بلامِ القسَمِ ونونِ التَّوكيدِ: أنَّ المقصودَ مِن هذا الخبرِ رَدُّ اعتقادِ المُنافقينَ أنَّ اللهَ لا يُطلِعُ رسولَه على ما في نُفوسِهم؛ فالمقصودُ مِن الخبرينِ هو ثانِيهما، وهو قولُه: وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ، وأمَّا قولُه: وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا فهو تَمهيدٌ لِمَا بعْدَه، وتَنصيصٌ على عدَمِ الْتِباسِ الإيمانِ المكذوبِ بالإيمانِ الحقِّ. وفي هذا أيضًا إرادةُ المعنى الكِنائيِّ مِن العِلْمِ، وهو مُجازاةُ كلِّ فريقٍ على حسَبِ ما عَلِمَ اللهُ مِن حالِه [129] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (20/218). .
- وأيضًا في قَولِه: وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ مُخالَفةٌ بيْنَ المؤمنينَ والمُنافقين في التَّعبيرِ عن الأوَّلِينَ بطريقِ المَوصولِ والصِّلةِ الماضَوِيَّةِ الَّذِينَ آَمَنُوا، وعن الآخرينَ بطريقِ اللَّامِ واسمِ الفاعلِ الْمُنَافِقِينَ؛ لِما يُؤْذِنُ به المَوصولُ مِنِ اشتِهارِهم بالإيمانِ، وما يُؤذِنُ به الفِعلُ الماضي مِن تمَكُّنِ الإيمانِ منهم وسابقِيَّتِه، وما يُؤذِنُ به التَّعريفُ باللَّامِ مِن كونِهم عُهِدوا بالنِّفاقِ وطَرَيانِه عليهم بعدَ أنْ كانوا مُؤمِنينَ؛ ففيه تعريفٌ بسُوءِ عاقِبَتِهم، مع ما في ذلك مِن التَّفنُّنِ، ورِعايةِ الفاصلةِ [130] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (20/218، 219). .
- وفيه مُناسَبةٌ حسنةٌ، حيث قال تعالى: وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا، وقال قبلُ: فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا [العنكبوت:3] ؛ ووجْهُ ذلك: أنَّه لَمَّا كان الذِّكْرُ هناك للمُؤمنِ والكافرِ، والكافرُ في قَولِه كاذِبٌ؛ فإنَّه يقولُ: اللهُ أكثَرُ مِن واحدٍ، والمؤمنُ في قَولِه صادقٌ؛ فإنَّه كان يقولُ: اللهُ واحدٌ، ولم يكُنْ هناك ذِكْرُ مَن يُضمِرُ خلافَ ما يُظهِرُ؛ فكان الحاصِلُ هناك قِسْمَينِ: صادقًا، وكاذبًا، وكان هاهنا المنافقُ صادقًا في قَولِه؛ فإنَّه كان يقولُ: اللهُ واحدٌ، فاعْتَبَرَ أمْرَ القلْبِ في المنافقِ، فقال: وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ، واعْتَبَرَ أمْرَ القلْبِ في المؤمنِ، وهو التَّصديقُ، فقال: وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا [131] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (25/35). .