موسوعة التفسير

سورةُ النَّملِ
الآيات (15 - 19)

ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ

غَريبُ الكَلِماتِ:

مَنْطِقَ الطَّيْرِ: أي: نُطْقَه، وكلامَه، فجعَله كمَنطقِ الرجُلِ إذ فُهِم، والنُّطقُ هو الأصواتُ المُقَطَّعةُ التي يُظهِرُها اللِّسانُ، وتَعِيها الآذانُ، وتُعرَفُ بها المعاني، وأصلُ (نطق) هنا: كلامٌ أو ما أشْبَهَه [222] يُنظر: ((معاني القرآن)) للفراء (2/288)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/440)، ((الغريبين في القرآن والحديث)) للهروي (6/1856)، ((المفردات)) للراغب (ص: 811)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 253)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 711). .
يُوزَعُونَ: أي: يُدفَعونَ، ويُحبَسُ أوَّلُهم على آخِرِهم، وأصلُ (الوَزْع): الكفُّ والمنعُ [223] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 323)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 535)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (6/106)، ((المفردات)) للراغب (ص: 868)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 273)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 991). .
لَا يَحْطِمَنَّكُمْ: أي: لا يَقتُلَنَّكم ولا يكسِرَنَّكم، مِن الحَطمِ: وهو كَسرُ الشَّيءِ [224] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/28)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/78)، ((المفردات)) للراغب (ص: 242). .
أَوْزِعْنِي: أي: ألهِمْني، و(الإيزاع): الإغراءُ بالشَّيءِ، يُقالُ: أوزَعْتُه بكذا، أي: أغرَيْتُه به، و: فلانٌ مُوزَعٌ بكذا، ومُولَعٌ به، بمعنًى واحدٍ [225] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 323)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 72)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (6/106)، ((المفردات)) للراغب (ص: 868)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 274)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 253)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 209). .

المعنى الإجماليُّ:

يقولُ الله تعالى مبيِّنًا جانبًا ممَّا أنعَم به على نَبيَّيْنِ مِن أنبيائِه، وهما داودُ وسُلَيمانُ عليهما السَّلامُ: ولقد آتَيْنا داودَ وسُلَيمانَ ابنَه عِلمًا، وقالا: الحَمدُ لله الذي فضَّلَنا على كثيرٍ مِن عبادِه المؤمِنينَ، ووَرِثَ سُلَيمانُ أباه داودَ في النُّبوَّةِ والعِلمِ والملكِ، وقال لبني إسرائيلَ: يا أيُّها النَّاسُ، عَلَّمَنا اللهُ كلامَ الطُّيورِ، وأعطانا مِن كُلِّ النِّعَمِ، إنَّ هذا لَهُوَ الفَضلُ الظَّاهِرُ الواضِحُ.
ثمَّ يَذكُرُ اللهُ تعالى مظاهرَ ملكِ سليمانَ، فيقولُ: وجُمِعَ لسُلَيمانَ عساكِرُه مِنَ الجِنِّ والإنسِ والطُّيورِ، فهم يُنظَّمونَ في مَسيرِهم، فيُرَدُّ أوَّلُهم على آخِرِهم؛ لِيَبقَوا مُجتَمِعينَ مُرتَّبينَ، حتى إذا مرَّ سُلَيمانُ وجُنودُه بوادِي النَّملِ، قالت نملةٌ منهم لَمَّا رأتِ الجَيشَ: يا أيُّها النَّملُ ادخُلوا بيوتَكم مُسرِعينَ؛ لا يَهشِمنَّكم سُلَيمانُ وجَيشُه وهم لا يَشعُرونَ بذلك. فتبسَّم سُلَيمانُ ضاحِكًا مِن كَلامِ النَّملةِ، وقال: ربِّ ألهِمْني شُكرَ نِعمَتِك الَّتي أنعَمْتَ بها علَيَّ وعلى والدَيَّ، وأنْ أعمَلَ عَمَلًا صالِحًا مَرْضيًّا، وأدخِلْني برَحمتِك في عبادِك الصَّالحينَ في جَنَّتِك.

تَفسيرُ الآياتِ:

وَلَقَدْ آَتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا وَقَالَا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ (15).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
لَمَّا تمَّ بقصَّةِ موسى عليه السلامُ الدَّليلُ على حِكمتِه تعالى، توقَّعَ السَّامعُ الدَّلالةَ على عِلمِه سبحانه [226] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (14/138). .
وَلَقَدْ آَتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا.
أي: ولقد أعطَيْنا داودَ وابنَه سُلَيمانَ عِلمًا [227] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/24)، ((تفسير النسفي)) (2/594)، ((تفسير السعدي)) (ص: 602). قيل: المرادُ: عِلمُ كَلامِ الطَّيرِ والدَّوابِّ، وغيرِ ذلك ممَّا خصَّهما اللهُ بعِلمِه. وممَّن ذهب إلى ذلك: ابنُ جرير، والبِقاعي. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/24)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (14/139). قال ابنُ الجوزي: (قال المفسِّرون: عِلْمًا بالقَضاءِ، وبكلامِ الطَّيرِ والدوابِّ، وتسبيحِ الجبالِ). ((تفسير ابن الجوزي)) (3/355). ممَّن قال: المرادُ: العِلمُ بالقضاءِ، وبكلامِ الطَّيرِ والدَّوابِّ: مقاتلُ بنُ سُلَيمانَ، والسَّمَرْقَنْديُّ، والسَّمْعانيُّ. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (3/298)، ((تفسير السمرقندي)) (2/575)، ((تفسير السمعاني)) (4/81). ومِن المفسِّرينَ مَن زاد إلى ما سبق: تسبيحَ الجبالِ؛ منهم: البَغَويُّ، وابنُ عادل، والعُلَيْمي. يُنظر: ((تفسير البغوي)) (3/492)، ((تفسير ابن عادل)) (15/122)، ((تفسير العليمي)) (5/118). وقال ابنُ عثيمين: (العِلمُ الَّذي مَنَّ اللهُ به على داودَ وسُلَيْمانَ وأثنى عليهما به هو عِلمُ الشَّريعةِ). ((تفسير ابن عثيمين- سورة النمل)) (ص: 100). .
وَقَالَا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ.
أي: وقال داودُ وسُلَيمانُ: الحَمدُ لله الَّذي فضَّلَنا على كثيرٍ مِن عِبادِه المُؤمِنينَ، بما اختَصَّنا به [228] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/24)، ((الهداية)) لمكي (8/5381)، ((البسيط)) للواحدي (17/180)، ((تفسير السعدي)) (ص: 602). قال ابن جرير: (يقول جَلَّ ثناؤه: وقال داودُ وسُليمانُ: الحمدُ لله الذي فضَّلَنا بما خَصَّنا به مِن العِلمِ الذي آتاناه دونَ سائرِ خَلقِه مِن بني آدمَ في زمانِنا هذا، على كثيرٍ مِن عبادِه المؤمنينَ به في دَهرِنا هذا). ((تفسير ابن جرير)) (18/24). وقال الواحدي: (وَقَالَا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا أي: بالنُّبوَّةِ والكتابِ، وإلانةِ الحديدِ، وتسخيرِ الشَّياطينِ والجِنِّ والإنسِ، والمُلكِ الذي أعطاهما اللهُ وفضَّلهما به). ((البسيط)) (17/180). ويُنظر: ((تفسير الرسعني)) (5/439)، ((تفسير الشوكاني)) (4/149). .
وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ (16).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
لَمَّا كان كلٌّ منهما عليهما السَّلامُ قد أُوتيَ ما ذُكِرَ، أشار إلى فضْلِ سُلَيمانَ عليه السَّلامُ بأنَّه جَمَع إلى ما آتاه ما كان مُنِحَ به أبوه، فقال [229] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (14/139). :
وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ.
أي: ووَرِثَ سُلَيمانُ أباه داودَ في النُّبوَّةِ والعِلمِ ومُلكِ بني إسرائيلَ [230] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/24)، ((البسيط)) للواحدي (17/180، 181)، ((تفسير البيضاوي)) (4/156)، ((تفسير ابن جزي)) (2/99)، ((تفسير الشوكاني)) (4/149)، ((تفسير السعدي)) (ص: 602). مِنَ المفسِّرينَ مَن قصَرَ الوِراثةَ على العِلمِ والمُلكِ، ومنهم: مقاتلُ بن سليمان، وابن جرير، ومكِّي. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (3/299)، ((تفسير ابن جرير)) (18/24)، ((الهداية إلى بلوغ النهاية)) لمكي (8/5381). قال ابن جرير: (يقولُ تعالى ذِكرُه: وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ أباه داودَ العِلمَ الذي كان اللهُ آتاهُ في حياتِه، والمُلكَ الذي كان خَصَّه به على سائِرِ قَومِه، فجعَلَه له بعدَ أبيه داودَ دُونَ سائرِ ولَدِ أبيه). ((تفسير ابن جرير)) (18/24). ومنهم مَن زاد النُّبوَّةَ إلى العِلمِ والمُلكِ، ومنهم: الثعلبيُّ، والبَغَويُّ، وابن الجوزي، والخازن، وابن جُزَي، والبِقاعي. يُنظر: ((تفسير الثعلبي)) (7/193)، ((تفسير البغوي)) (3/492)، ((تفسير ابن الجوزي)) (3/355)، ((تفسير الخازن)) (3/339)، ((تفسير ابن جزي)) (2/99)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (14/139). ومِن المفسِّرينَ مَن قصَر الوراثةَ على النُّبوَّةِ والمُلكِ، ومنهم: الزمخشريُّ، وابن عطية، والنسفي، وابن كثير، والعليمي، والألوسي. يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/353)، ((تفسير ابن عطية)) (4/253)، ((تفسير النسفي)) (2/595)، ((تفسير ابن كثير)) (6/182)، ((البداية والنهاية)) لابن كثير (2/323)، ((تفسير العليمي)) (5/118)، ((تفسير الألوسي)) (10/166). قال ابن كثير: (وقولُه: وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ أي: في المُلْكِ والنُّبوَّةِ، وليس المرادُ وِراثةَ المالِ؛ إذ لو كان كذلك لم يُخَصَّ سُلَيمانُ وحْدَه مِن بينِ سائرِ أولادِ داودَ، فإنَّه قد كان لداودَ مئةُ امرأةٍ. ولكِنَّ المرادَ بذلك وراثةُ المُلكِ والنُّبوَّةِ؛ فإنَّ الأنبياءَ لا تُورَثُ أموالُهم، كما أخبَر بذلك رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّمَ). ((تفسير ابن كثير)) (6/182). وقال ابن القيِّم: (وأمَّا قولُه تعالى: وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ فهو ميراثُ العِلمِ والنُّبوَّةِ لا غيرُ، وهذا باتِّفاقِ أهلِ العِلمِ مِن المفسِّرينَ وغيرِهم). ((مفتاح دار السعادة)) (1/67). ويُنظر: ((تفسير الجلالين)) (ص: 496)، ((تفسير الشوكاني)) (4/149)، ((تفسير السعدي)) (ص: 602). .
وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ .
أي: وقال سُلَيمانُ لِبَني إسرائيلَ مُتحَدِّثًا بنِعمةِ الله عليه: يا أيُّها النَّاسُ، علَّمَنا اللهُ كلامَ الطُّيورِ، وفهَّمَنا معانيَ أصواتِها [231] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/25)، ((البسيط)) للواحدي (17/182)، ((تفسير السمعاني)) (4/83)، ((تفسير الألوسي)) (10/168)، ((تفسير السعدي)) (ص: 602). ذهب مقاتِلُ بنُ سُلَيمان، وابنُ العربي، وابنُ كثير، وابنُ عاشور: إلى أنَّ سُليمانَ كان يعلَمُ منطِقَ الطُّيورِ والحيواناتِ كلِّها. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سُلَيمان)) (3/299)، ((تفسير ابن أبي حاتم)) (9/2855، 2857)، ((أحكام القرآن)) لابن العربي (3/475)، ((تفسير ابن كثير)) (6/182)، ((تفسير ابن عاشور)) (19/237). قال ابن كثير: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ يعني: أنَّه عليه السَّلامُ كان يَعرِفُ ما تَتخاطَبُ به الطُّيورُ بِلُغاتِها، ويُعَبِّرُ للنَّاسِ عن مَقاصِدِها وإراداتِها... وكذلك ما عَداها مِن الحَيَواناتِ، وسائرِ صُنوفِ المخلوقاتِ). ((البداية والنهاية)) (2/324، 325). وقال الشوكاني: (قال جماعةٌ مِن المفسِّرينَ: إنَّه عُلِّمَ مَنطِقَ جميعِ الحيواناتِ، وإنَّما ذُكِرَ الَّطيرُ؛ لأنَّه كان جندًا مِن جُندِه، يسيرُ معه لتظليلِه مِن الشَّمسِ. وقال قَتادةُ والشَّعْبيُّ: إنَّما عُلِّمَ مَنطِقَ الطَّيرِ خاصَّةً، ولا يُعترَضُ ذلك بالنَّملةِ؛ فإنَّها مِن جملةِ الطَّيرِ، وكثيرًا ما تخرُجُ لها أجنحةٌ فتَطيرُ). ((تفسير الشوكاني)) (4/150). ويُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (8/217)، ((تفسير الألوسي)) (10/168). !
وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ.
أي: وأعطانا اللهُ مِن كُلِّ النِّعَمِ والخَيراتِ [232] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/25)، ((تفسير ابن كثير)) (6/182)، ((تفسير السعدي)) (ص: 602). قال البقاعي: (وَأُوتِينَا ممَّن له العَظَمةُ بأيسَرِ أمرٍ مِن أمْرِه مِنْ كُلِّ شَيْءٍ أي: يكملُ به ذلك من أسبابِ المُلكِ والنُّبوَّةِ وغَيرِهما، وعبَّرَ بأداة الاستغراقِ تعظيمًا للنِّعمةِ، كما يُقالُ لِمن يَكثُرُ ترَدُّدُ الناس إليه: فلانٌ يَقصِدُه كُلُّ أحدٍ). ((نظم الدرر)) (14/140). وقال ابن كثير: (وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ أي: مِن كلِّ ما يَحتاجُ الملِكُ إليه؛ مِنَ العُدَدِ، والآلاتِ، والجُنودِ، والجُيوشِ، والجماعاتِ مِنَ الجِنِّ، والإنسِ، والطُّيورِ، والوُحوشِ، والشَّياطينِ السَّارِحاتِ، والعُلومِ، والفُهومِ، والتَّعبيرِ عن ضمائرِ المخلوقاتِ، مِنَ النَّاطِقاتِ والصَّامِتاتِ). ((البداية والنهاية)) (2/325). وقال ابنُ جُزَي: (وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ عمومٌ معناه الخصوصُ، والمرادُ بهذا اللَّفظِ التَّكثيرُ). ((تفسير ابن جزي)) (ص: 1315). وقال ابنُ عثيمين: (اللهُ سبحانه وتعالى أعطى سليمانَ مِن كُلِّ شَيءٍ يَتِمُّ به المُلكُ... إذا قَيَّدْنا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ يتِمُّ به المُلكُ؛ فـ مِنْ لبيان الجِنسِ، وإذا قُلْنا: إنَّ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ عامٌّ لكُلِّ شَيءٍ؛ فإنَّ مِنْ تكونُ للتَّبعيضِ؛ لأنَّهما ما أُعطُوا كُلَّ شَيءٍ، بل بعضَ كُلِّ شَيءٍ). ((تفسير ابن عثيمين- سورة النمل)) (ص: 106). .
إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ.
أي: إنَّ هذا الذي أُوتِيناهُ لهو الفَضلُ الظَّاهِرُ الواضِحُ [233] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/25)، ((تفسير ابن كثير)) (6/182)، ((تفسير السعدي)) (ص: 602). قال البقاعي: (إِنَّ هَذَا أي: الذي أُوتيناه لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ أي: البَيِّنُ في نفْسِه لكُلِّ مَن ينظُرُه، الموضِّحُ لعلُوِّ قَدْرِ صاحِبِه، ووحدانيَّةِ مُفِيضِه ومُؤتِيه). ((نظم الدرر)) (14/141). .
وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (17).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
لَمَّا كان ما سبَقَ مجرَّدَ خبرٍ؛ أتبَعَه ما يُصَدِّقُه، فقال [234] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (14/141). :
وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (17).
أي: وجُمِعَ لسُلَيمانَ عَساكِرُه الكثيرةُ المتنَوِّعةُ مِن الجِنِّ والإنسِ والطُّيورِ [235] قال ابن عثيمين: (سكت عن بقيَّةِ الحيواناتِ، فهل هي داخِلةٌ في جنودِه أو لا؟ قد نقولُ: إنَّها داخِلةٌ مِن بابِ الأَولى، وقد نقولُ: ليست بداخلةٍ. ما وجْهُ قولِنا: مِن بابِ الأَولى؟ وجهُ قولِنا أن نقولَ: إذا كان الطَّيرُ -وهو لا يمكِنُ السَّيطرةُ عليه لطيرانِه- يُحشَرُ ويُجمَعُ، فغيرُه مِن بابِ أَولى، وقد تقولُ: إنَّه ليس بلازمٍ؛ لأنَّه يمكنُ أنَّ سُلَيمانَ صلَّى الله عليه وسلَّمَ لا يَستخدِمُ مِن الحيواناتِ سِوى الطَّيرِ، وإذا لم يستخدِمْ سِواها فلا حاجةَ له في أن يجمَعَ الباقيَ). ((تفسير ابن عثيمين- سورة النمل)) (ص: 111). ، فهم يُنظَّمونَ في مَسيرِهم، فيُرَدُّ أوَّلُهم على آخِرِهم؛ لِيَبقَوا مُجتَمِعين مُرتَّبينَ [236] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/25، 27)، ((الوجيز)) للواحدي (ص: 801)، ((تفسير ابن كثير)) (6/183)، ((تفسير أبي السعود)) (6/277)، ((تفسير القاسمي)) (7/489)، ((تفسير السعدي)) (ص: 602)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة النمل)) (ص: 111). قال ابن كثير: (يُخبِرُ تعالى عن عبدِه ونبيِّه وابنِ نبيِّه سُلَيمانَ بنِ داودَ عليهما الصَّلاةُ والسَّلامُ، أنَّه رَكِبَ يومًا في جيشِه جميعِه مِنَ الجنِّ والإنسِ والطَّيرِ؛ فالجنُّ والإنسُ يَسيرون معه، والطَّيرُ سائرةٌ معه تُظِلُّه بأجنحتِها مِنَ الحرِّ وغيرِه، وعلى كلٍّ مِن هذه الجُيوشِ الثَّلاثةِ وَزَعةٌ، أي: نُقَباءُ يَرُدُّون أوَّلَه على آخِرِه، فلا يَتقدَّمُ أحدٌ عن مَوضِعِه الَّذي يسيرُ فيه، ولا يَتأخَّرُ عنه). ((البداية والنهاية)) (2/325، 326). وقال أبو السعود: (فَهُمْ يُوزَعُونَ أي: يُحبَسُ أوائِلُهم على أواخِرِهم، أي: يُوقَفُ سُلَّافُ العَسكرِ حتى يلحَقَهم التَّوالي فيَكونوا مجتَمِعينَ لا يتخَلَّفُ منهم أحدٌ؛ وذلك للكثرةِ العظيمةِ، ويجوزُ أن يكونَ ذلك لترتيبِ الصُّفوفِ، كما هو المعتادُ في العساكِرِ). ((تفسير أبي السعود)) (6/277). وقال ابن عاشور: (الوَزْعُ: الكَفُّ عمَّا لا يُرادُ، فشَمِلَ الأمرَ والنَّهيَ، أي: فهم يُؤمَرونَ فيأتَمِرون، ويُنهَون فيَنتَهونَ، فقد سَخَّر اللهُ له الرعيَّةَ كُلَّها). ((تفسير ابن عاشور)) (19/240). .
حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (18).
حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ.
أي: فساروا حتى إذا مرَّ سُلَيمانُ وجنودُه بوادي النَّملِ [237] قال ابنُ عاشور: (وادي النَّملِ يجوزُ أن يكونَ مرادًا به الجنسُ؛ لأنَّ للنَّملِ شُقوقًا ومسالِكَ هي بالنِّسبةِ إليها كالأوديةِ للساكنينَ مِن النَّاسِ، ويجوزُ أن يُرادَ به مكانٌ مُشتَهِرٌ بالنَّملِ غَلَب عليه هذا المضافُ، كما سُمِّيَ وادي السِّباعِ: مَوضِعٌ معلومٌ بينَ البصرةِ ومكَّةَ). ((تفسير ابن عاشور)) (19/240). وقال ابنُ عثيمينَ: (قَولُه: عَلَى وَادِ النَّمْلِ ظاهِرُ الكلامِ أنَّ هذا الواديَ معروفٌ بهذا اللَّقَبِ، أي: أنَّه يُسمَّى واديَ النَّملِ، ويحتَمِلُ -لكن خلاف الظاهر- أن يكونَ هذا الوادي واديًا فيه نَملٌ، يعني: يكونُ التَّقديرُ: حتَّى إذا أتَوا على وادٍ فيه نملٌ). ((تفسير ابن عثيمين- سورة النمل)) (ص: 114). قالتْ نملةٌ منهم [238] قال ابن عاشور: (...كلمة نملةٍ لا تدُلُّ إلا على فردٍ واحدٍ مِن هذا النَّوعِ، دونَ دَلالةٍ على تذكيرٍ ولا تأنيثٍ). ((تفسير ابن عاشور)) (19/241). وقال الرسعني: (ظاهرُ القرآنِ يدلُّ على أنَّها كانت أُنثَى). ((تفسير الرسعني)) (5/445). يُنظر تفصيلُ الخلافِ في ذلك: ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (11/485)، ((تفسير أبي حيان)) (8/219)، ((الدر المصون)) للسمين الحلبي (8/585)، ((تفسير الشوكاني)) (4/151)، ((تفسير الألوسي)) (10/172). محذِّرةً لهم بعْدَ أن رأتِ الجَيشَ [239] قال ابنُ العربي: (لا خِلافَ عند العُلَماءِ في أنَّ الحيواناتِ كُلَّها لها أفهامٌ وعُقولٌ). ((أحكام القرآن)) (3/472). : يا أيُّها النَّملُ ادخُلوا بيوتَكم مُسرِعينَ مُحتَرِزينَ [240] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/27)، ((مفتاح دار السعادة)) لابن القيم (1/243)، ((تفسير ابن كثير)) (6/183)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (14/142)، ((الفواتح الإلهية)) لعلوان (2/59، 60)، ((تفسير السعدي)) (ص: 602). قال السعدي: (فنصحَتْ هذه النَّملةُ وأسمَعَت النَّملَ؛ إمَّا بنَفسِها، ويكونُ الله قد أعطى النَّملَ أسماعًا خارِقةً للعادةِ؛ لأنَّ التَّنبيهَ للنَّملِ الذي قد ملأ الواديَ بصَوتِ نملةٍ واحدةٍ: مِن أعجَبِ العجائبِ. وإمَّا بأنَّها أخبَرت مَن حوْلَها مِن النَّملِ ثمَّ سرى الخبَرُ مِن بَعضِهنَّ لبعضٍ، حتى بلَغ الجميعَ، وأمرَتْهنَّ بالحَذَرِ، والطَّريقِ في ذلك وهو دخولُ مَساكِنِهِنَّ). ((تفسير السعدي)) (ص: 603). .
لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ.
أي: لا يَكسِرَنَّكم ويَهشِمَنَّكم سُلَيمانُ وجَيشُه حينَ يمُرُّونَ بِواديكم، وهم لا يَشعُرونَ بذلك التَّحطيمِ ولا يَقصِدونَه [241] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/27)، ((تفسير السمرقندي)) (2/576)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (14/143)، ((تفسير السعدي)) (ص: 603). .
فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ (19).
فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا.
أي: فتبسَّم سُلَيمانُ ضاحِكًا [242] قيل: المرادُ: أنَّه شرَع في الضَّحِك آخِذًا فيه، ولكِنْ لم يبلُغْ حَدَّ القهقهةِ وكَمالِ الضَّحِكِ. وممَّن قال بذلك: الزمخشري، والرازي، والنيسابوري. يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/356)، ((تفسير الرازي)) (24/549)، ((تفسير النيسابوري)) (5/300). وقيل: كان أوَّلُه التبسُّمَ، وآخرُه الضَّحِكَ، وممَّن اختاره: الكرماني، وجلال الدين المحلي، وابن عجيبة. يُنظر: ((تفسير الكرماني)) (2/846)، ((تفسير الجلالين)) (ص: 496)، ((تفسير ابن عجيبة)) (4/186). ويُنظر أيضًا: ((تفسير السمعاني)) (4/86)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة النمل)) (ص: 124). وقيل: المرادُ: بيانُ أنَّه تبسَّمَ تبسُّمَ الضاحِكِ، وليس تبسُّمَ المُغضَب، فأكَّد هذا المعنى وحقَّقَه بقَولِه: ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا. وممَّن قال بذلك: البقاعي. يُنظر: ((نظم الدرر)) (14/144). قال ابن عثيمين: (ويحتملُ أن يكونَ معنى قولِه: فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا أنَّه ضَحِك مُتبَسِّمًا، يعني أنَّه ما ظهَر له صوتٌ ولكنَّه تبسَّم تبسُّمًا، والله أعلم. وعلى هذا التَّقديرِ تكونُ ضَاحِكًا حالًا مبيِّنةً للنَّوعِ، يعني أنَّ ضَحِكَه كان تبسُّمًا). ((تفسير ابن عثيمين- سورة النمل)) (ص: 124). وممَّن اختار هذا المعنى: الزجاجُ، والسمعاني، والبغوي، والسعدي. يُنظر: ((معاني القرآن وإعرابه)) للزجاج (4/112)، ((تفسير السمعاني)) (4/86)، ((تفسير البغوي)) (3/495)، ((تفسير السعدي)) (ص: 603). قال السعدي: (وهذا حالُ الأنبياءِ عليهم الصلاةُ والسلامُ؛ الأدبُ الكامِلُ، والتعَجُّبُ في موضِعِه، وألَّا يَبلُغَ بهم الضَّحِكُ إلَّا إلى التبسُّمِ، كما كان الرَّسولُ صلَّى الله عليه وسلَّمَ جُلُّ ضَحِكِه التبَسُّم؛ فإنَّ القهقهةَ تدُلُّ على خِفَّةِ العَقلِ وسُوءِ الأدبِ، وعَدَمَ التبسُّمِ والعَجَبِ ممَّا يُتعجَّبُ منه: يدُلُّ على شَراسةِ الخُلُقِ والجبروتِ. والرُّسلُ مُنزَّهونَ عن ذلك). ((تفسير السعدي)) (ص: 603). ويُنظر: ((زاد المعاد)) لابن القيم (1/175)، ((مدارج السالكين)) لابن القيم (2/295-297). قال ابنُ حجرٍ في بيانِ الفرقِ بينَ التبسمِ والضحكِ والقهقهةِ: (قال أهلُ اللُّغةِ: التبسُّمُ مبادئُ الضَّحِكِ، والضَّحِكُ انبساطُ الوجهِ حتَّى تظهَرَ الأسنانُ مِنَ السُّرورِ، فإنْ كان بصَوتٍ وكان بحيثُ يُسمَعُ مِن بُعدٍ فهو القَهْقَهةُ، وإلَّا فهو الضَّحِكُ، وإنْ كان بلا صَوتٍ فهو التبسُّمُ). ((فتح الباري)) (10/504). ويُنظر: ((فقه اللغة وسر العربية)) للثعالبي (ص: 89). ؛ تعجُّبًا وسُرورًا مِن كَلامِ النَّملةِ [243] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/28)، ((الوسيط)) للواحدي (3/373)، ((تفسير ابن عطية)) (4/254)، ((شفاء العليل)) لابن القيم (ص: 69)، ((تفسير السعدي)) (ص: 603). قال ابنُ عطية: (وكان تبسُّمُه سُرورًا، واختُلِفَ بِمَ كان؛ فقالت فِرقةٌ: بنِعمةِ الله في إسماعِه وإفهامِه ونحوِ ذلك، وقالت فرقةٌ: بثناءِ النَّملةِ عليه وعلى جنودِه في أن نَفَت عنهم تعمُّدَ القَبيحِ مِن الفِعلِ، فجعلَتِ الحَطْمَ وهم لا يَشعُرونَ). ((تفسير ابن عطية)) (4/254). وقال البيضاوي: (تبسَّم ضاحِكًا مِن قَولِها؛ تعجُّبًا مِن حَذَرِها وتحذيرِها، واهتدائِها إلى مصالحِها، وسرورًا بما خصَّه الله تعالى به مِن إدراكِ هَمسِها، وفَهْمِ غَرَضِها). ((تفسير البيضاوي)) (4/157). وقال السعدي: (فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا إعجابًا منه بفصاحتِها ونصحِها وحُسنِ تعبيرِها). ((تفسير السعدي)) (ص: 603). وقال ابنُ عاشور: (إنما تعجَّب مِن أنَّها عرَفت اسمَه، وأنَّها قالت: وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ، فوَسَمَتْهُ وجندَه بالصَّلاحِ والرَّأفةِ، وأنَّهم لا يَقتلون ما فيه رُوحٌ لغيرِ مصلحةٍ). ((تفسير ابن عاشور)) (19/243). .
وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ.
أي: وقال سُلَيمانُ: ربِّ ألهِمْني ووفِّقْني إلى شُكرِ نِعمتِك علَيَّ وعلى والدَيَّ، بحيثُ أكونُ مُلازِمًا لشُكرِ نِعَمِك الدينيَّةِ والدُّنيويَّةِ علينا [244] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/28)، ((تفسير ابن كثير)) (6/183)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (14/144)، ((تفسير السعدي)) (ص: 603)، ((تفسير ابن عاشور)) (19/244)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة النمل)) (ص: 128). .
وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ .
مُناسَبتُها لِما قَبلَها:
لَمَّا عُلِمَ مِن كلامِه أنَّ الشَّاكرَ هو المُستغرِقُ في الثَّناءِ على المُنعِمِ بما يجبُ عليه مِن العَمَلِ بحَسَبِ ما يَقدِرُ عليه، وكان ذلك العَمَلُ ممَّا يجوزُ أنْ يكونَ زُيِّنَ لذلك العبدِ كونُه حَسَنًا، وهو ليس كذلك- قال عليه السَّلامُ مشيرًا إلى هذا المعنى [245] يُنظر: ((تفسير الشربيني)) (3/50). :
وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ .
أي: وأن أعمَلَ في بقيَّةِ عُمري عَمَلًا خالِصًا لك، مُتَّبِعًا فيه شَرْعَك، مُوافِقًا لِمَرضاتِك [246] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/28)، ((تفسير النسفي)) (2/598)، ((تفسير ابن كثير)) (6/183)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (14/148)، ((تفسير السعدي)) (ص: 603)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة النمل)) (ص: 131-133). .
وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ.
أي: وأدخِلْني في الآخرةِ برَحمتِك -لا بعَمَلي- في جملةِ عِبادِك الصَّالحينَ في جَنَّتِك [247] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/29)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (7/57)، ((تفسير ابن كثير)) (6/183)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (14/148)، ((تفسير السعدي)) (ص: 603). قيل: المرادُ بقولِه: عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ، أي: الأنبياء. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/29)، ((الهداية إلى بلوغ النهاية)) لمكي (8/5388). .

الفَوائِدُ التَّربويَّةُ:

1- قال الله تعالى: وَلَقَدْ آَتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا وَقَالَا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ في الآيةِ دَليلٌ على شَرَفِ العِلمِ وإنافةِ محَلِّه، وتقَدُّمِ حمَلَتِه وأهلِه، وأنَّ نِعمةَ العِلمِ مِن أجَلِّ النِّعَمِ، وأجزَلِ القِسَمِ، وأنَّ مَن أُوتِيَه فقد أُوتيَ فَضلًا على كثيرٍ مِن عبادِ الله، كما قال تعالى: يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ [المجادلة: 11] [248] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/353). ، فقد ابتُدِئَ الحديثُ عن المُلْكِ العظيمِ بذِكْرِ العلمِ، وقُدِّمَتِ النِّعمةُ به على سائرِ النِّعَمِ؛ تنويهًا بشأنِ العلمِ، وتنبيهًا على أنَّه هو الأصلُ الذي تنبني عليه سعادةُ الدُّنيا والأخرى، وأنه هو الأساسُ لكلِّ أمْرٍ مِن أمورِ الدِّينِ والدُّنيا، وأنَّ الممالكَ إنَّما تنبني عليه وتُشادُ، وأنَّ المُلْكَ إنما يُنَظَّمُ به ويُساسُ، وأنَّ كلَّ ما لم يُبْنَ عليه فهو على شفَا جُرُفٍ هارٍ، وأنَّه هو سياجُ المملكةِ ودِرْعُها، وهو سلاحُها الحقيقيُّ، وبه دفاعُها؛ وأنَّ كلَّ مملكةٍ لم تُحْمَ به فهي عرضةٌ للانقراضِ والانقضاضِ [249] يُنظر: ((تفسير ابن باديس)) (ص: 254). .
2- في قولِه تعالى: وَلَقَدْ آَتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا إلى قَولِه: وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ يَذْكُرُ اللهُ تعالى لنا في شأنِ هذا النَّبيِّ الكريمِ ما أعطاه مِن علمٍ، وما مَكَّنَه منه مِن عظيمِ الأشياءِ؛ ترغيبًا لنا في طَلَبِ العلمِ، والسَّعيِ في تحصيلِ كلِّ ما بنا حاجةٌ إليه مِن أمورِ الدُّنيا، وتشويقًا لنا إلى ما في هذا الكونِ مِن عوالمِ الجمادِ، وعوالمِ الأحياءِ، وبعثًا لِهِمَمِنا على التحلِّي بأسبابِ العظَمةِ مِن العلمِ والقوَّةِ، وحثًّا لنا على تشييدِ الملْكِ العظيمِ الفخمِ على سَننِ مُلْكِ النُّبوَّةِ، فقد كان سليمانُ عليه السلام نبيًّا، وما كان ملْكُه ذلك إلَّا بإذنِ اللهِ ورِضاه، فهو -فيما ذَكَره اللهُ مِن أمْرِه- قدوةٌ، وأيُّ قدوةٍ! مثلُ سائرِ الأنبياءِ والمرسَلينَ عليهم الصلاةُ والسلامُ أجمعينَ [250] يُنظر: ((تفسير ابن باديس)) (ص: 259). .
3- قال الله تعالى: وَلَقَدْ آَتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا وَقَالَا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ في الآيةِ التَّذكيرُ بالتَّواضُعِ، وأن يعتَقِدَ العالِمُ أنَّه وإنْ فُضِّلَ على كثيرٍ فقد فُضِّلَ عليه مِثلُهم [251] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/353). ؛ فلا يتكبَّرْ، ولا يفتَخِرْ، ويَشكرُ اللهَ تعالى على ما آتاه مِن فضلِه، وينفعُ به المسلمينَ، كما نَفَعه اللهُ تعالى به [252] يُنظر: ((تفسير الشربيني)) (3/46). .
4- في قَولِه تعالى: وَقَالَا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ أنَّ مِن أدبِ مَقامِ الفَرَحِ بنعمةِ اللهِ وحمْدِه عليها: ذِكْرَ نعمتِه العامَّةِ عليه وعلى غيرِه، والإشارةَ إلى مَن فُضِّلوا عليه؛ فيَكبَحُ مِن نفْسِه بتذكيرِها بقصورِها، ويُرضي اللهَ باعترافِه لذي الفضلِ بفَضْلِه، وحِكمةِ اللهِ وعدْلِه، وبوُقوفِه كواحدٍ ممن أَنْعَمَ عليهم مِن عبادِه [253] يُنظر: ((تفسير ابن باديس)) (ص: 255). .
5- قال الله تعالى: وَقَالَا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ فيه أنَّ الإنسانَ إذا رأى أنَّه أفضَلُ مِن غيرِه بنِعمةِ اللهِ عليه، فإنَّ هذا لا يُنافي التواضعَ، ولا يعني أنَّه تَرَفَّعَ وتَكَبَّرَ! بل إنَّ الإنسانَ لا يمكِنُ أنْ يُدرِكَ نعمةَ اللهِ عليه حتى يعْرِفَ ضِدَّها في غيرِه، فإذا رأى مثلًا إنسانًا مُبْتَلًى في بدنِه -واللهُ تعالى قد عافاه-؛ عرَف فضلَ نعمةِ اللهِ، فيقولُ: الحمدُ للهِ الذي عافاني ممَّا ابتَلاهُ به، وفضَّلني عليه، ولا يُعَدُّ هذا مِن بابِ التَّرَفُّعِ والاستِهانةِ بالغيرِ، ولهذا قالا: وَقَالَا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ [254] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة النمل)) (ص: 104). .
6- قال الله تعالى: وَقَالَا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ إنْ كان قولُهما هذا جَهْرًا -وهو الظَّاهرُ- كان حُجَّةً على أنَّه يجوزُ للعالِمِ أنْ يَذكُرَ مَرتبتَهُ في العلْمِ لِفَوائدَ شرعيَّةٍ تَرجِعُ إلى أنْ يَحذَرَ النَّاسُ مِن الاغترارِ بمَن ليستْ له أهْلِيَّةٌ مِن أهْلِ الدَّعوى الكاذبةِ والجَعْجعةِ الجالِبةِ، وهذا حُكمٌ يُستنبَطُ مِن الآيةِ؛ لأنَّ شرْعَ مَن قبْلَنا شَرعٌ لنا، وإنْ قالاهُ في سِرِّهما لم يكُنْ فيه هذه الحُجَّةُ [255] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (19/235). .
7- في قَولِه تعالى: وَقَالَا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ تحريضٌ للعالِمِ أنْ يحمدَ اللهَ تعالى على ما آتاه مِن فضْلِه [256] يُنظر: ((تفسير الشربيني)) (3/46). ويُنظر أيضًا: ((تفسير الزمخشري)) (3/353). .
8- في قَولِه تعالى: وَقَالَا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ مشروعيَّةُ التحَدُّثِ بنعمةِ اللهِ، لكنْ لا على سبيلِ الافتِخارِ والعلوِّ على الغَيرِ، فالإنسانُ إذا تحدَّثَ بنعمةِ اللهِ غيرَ مفتخِرٍ بها، فإنَّه لا بأسَ بذلك، بل قد يكونُ هذا مشروعًا؛ لأنه ثناءٌ على اللهِ سُبحانه وتعالى بما أنعَمَ به عليه [257] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة النمل)) (ص: 104). .
9- لا يُسنِدُ عِبادُ الله الصالحونَ ما يَعمَلونَه إلى أنفُسِهم، ولكِنَّهم يُسنِدونَه إلى اللهِ عزَّ وجلَّ وإلى فَضْلِه؛ ولهذا لَمَّا قالت النَّملةُ حينَ أقبلَ سُلَيمانُ بجُنودِه على وادي النَّملِ، وقد قامت خطيبةً فَصيحةً: يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ- قال سليمانُ عليه السَّلامُ: رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ [258] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الكهف)) (ص: 135). .
10- في قَولِه تعالى: قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ عِظَةٌ بالغةٌ؛ فإنَّ هذه نملةٌ وَفَتْ لقَومِها، وأَدَّتْ نحوَهم واجبَها؛ فكيف بالإنسانِ العاقلِ فيما يجِبُ عليه نحوَ قومِه؟! هذه عِظَةٌ بالغةٌ لِمَن لا يَهتمُّ بأمورِ قَومِه، ولا يؤدِّي الواجبَ نحوَهم، ولِمَن يرى الخطرَ داهمًا لقومِه، فيَسكتُ ويَتعامى! ولِمَن يقودُ الخطرَ إليهم، ويَصُبُّه بيَدِه عليهم! فما أحْوَجَنا -معشرَ المسلمينَ- إلى أمثالِ هذه النَّملةِ [259] يُنظر: ((تفسير ابن باديس)) (ص: 263). !
11- في قولِه تعالى: قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ أنَّ عاطفةَ (الجنسيَّةِ) غريزةٌ طبيعيَّةٌ؛ فهذه النَّملةُ لم تَهتَمَّ بنَفسِها فتنجوَ بمفردِها، ولم يُنْسِها هولُ ما رأتْ مِن عظَمةِ ذلك الجندِ إنذارَ بني جنْسِها؛ إذْ كانت تُدرِكُ بفِطرتِها أنْ لا حياةَ لها بدُونِهم، ولا نجاةَ لها إذا لم تَنجُ معهم، فأنذرَتْهم في أشدِّ ساعاتِ الخطرِ أبلغَ الإنذارِ، ولم يُنْسِها الخوفُ على نفْسِها وعلى بني جنْسِها مِن الخطرِ الدَّاهِمِ أنْ تَذكُرَ عُذْرَ سليمانَ وجُنْدِه؛ فهذا يُعَلِّمُنا أنْ لا حياةَ للشخصِ إلَّا بحياةِ قَومِه، ولا نجاةَ له إلَّا بنجاتِهم؛ وأنْ لا خيرَ لهم فيه إلَّا إذا شَعَرَ بأنَّه جزءٌ منهم. ومَظْهَرُ هذا الشُّعورِ أن يَحرِصَ على خيرِهم كما يَحرِصُ على نفْسِه، وألَّا يكونَ اهتمامُه بها دونَ اهتمامِه بهم [260] يُنظر: ((تفسير ابن باديس)) (ص: 262). .
12- في قَولِه تعالى: فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ أنَّ نِعَمَ اللهِ على العبدِ تُدخِلُ عليه السُّرورَ بجِبِلَّةِ الفِطرةِ. والفرحُ بنعمةِ اللهِ مِنَ الاعتِرافِ بفَضْلِه، والإكبارِ لنوالِه، ومِن أدَبِ العبدِ حينَئذٍ أنْ يَسألَ اللهَ التَّوفيقَ لشُكرِ تلك النِّعمةِ بصرْفِها في الطَّاعةِ، والتَّوفيقَ بشُكرِها بما يقومُ به مِن أعمالٍ صالحةٍ في رِضا اللهِ، كما فَعَلَ سُليمانُ صلَّى الله عليه وسلَّمَ [261] يُنظر: ((تفسير ابن باديس)) (ص: 264). .
13- قَولُه تعالى: وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ هذا مِن تمامِ بِرِّ الوالِدَينِ، كأنَّ هذا الولدَ خاف أنْ يكونَ والداه قَصَّرا في شُكْرِ الربِّ عزَّ وجلَّ، فسألَ اللهَ أنْ يُلهِمَه الشُّكرَ على ما أنعمَ به عليه وعليهما؛ لِيقومَ بما وَجَبَ عليهما مِن الشُّكرِ إنْ كانا قَصَّرا [262] هذه الفائدةُ للوزيرِ ابنِ هبيرةَ، نقَلها عنه ابنُ الجوزي في ((المقتبس))، كما في: ((ذيل طبقات الحنابلة)) لابن رجب الحنبلي (2/147). والقاعدةُ: أنَّ النِّعمةَ الحاصلةَ للآباءِ واصلةٌ للأبناءِ؛ ولهذا يمتَنُّ الله عزَّ وجلَّ كثيرًا على بني إسرائيلَ بما أنعَم على آبائِهم، فالشُّكرُ على هذا شكرٌ على إنعامٍ نالَه الأبناءُ وإنْ حصَل لآبائِهم. ويُنظر: ((قواعد التفسير)) للسبت (ص: 316- 323). ، فقَولُه: وَعَلَى وَالِدَيَّ تنبيهٌ على بِرِّ الوالدَين في سُؤالِ القيامِ عنهم بما لم يَبلُغاه مِن الشُّكرِ [263] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (14/145). .
14- في قَولِه تعالى: وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ دليلٌ على الاعترافِ بنعمةِ اللهِ، وأنَّه ليس مِن الافتخارِ؛ لأنَّ سُلَيمانَ عليه السلام ذَكَر نعمةَ اللهِ عليه؛ لكنَّه لا يقصدُ بذلك الافتخارَ والعُلوَّ على غيرِه! وقد قال اللهُ تعالى للرَّسولِ صلَّى الله عليه وسلَّمَ: وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ [الضحى: 11] ؛ لكنْ لا على سبيلِ الافتخارِ والعلوِّ! لأنَّها حينَئذٍ تنقلبُ إلى نقمةٍ [264] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة النمل)) (ص: 133). .
15- في قَولِه تعالى: وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ أنَّ الغايةَ التي يسيرُ إليها الأنبياءُ ومَن تَبِعَهم هي رضا اللهِ؛ لأنَّ المقصودَ مِن عَملِ الإنسانِ الوُصولُ إلى رِضا اللهِ سبحانه وتعالى، بل إنَّ رِضا اللهِ غايةٌ فَوقَ كُلِّ شَيءٍ؛ قال الله سبحانَه وتعالى في امتِداحِ المؤمنينَ: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ * وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ [التوبة: 71، 72] يعني: أكبَرُ مِن كُلِّ شَيءٍ، وإذا حلَّ على الإنسانِ رِضا الله فهذا غايةُ ما يريدُ [265] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة النمل)) (ص: 135). ! وشُعورُ العبْدِ برِضَا اللهِ عنه هو أعظَمُ لَذَّةٍ رُوحيَّةٍ تَعجِزُ عن تَصويرِها الألْسُنُ؛ فالغايةُ الَّتي يَسْعى إليها السَّاعونَ ويَعمَلُ لها العاملونَ هي رِضَا اللهِ، فالعملُ الصَّالحُ تَرتضيهِ العُقولُ، وتَستعذِبُه الفِطَرُ، ولكنَّه لا يُفِيدُ صاحبَه إذا لم يَبْغِ به مَرضاةَ اللهِ؛ ولهذا قال سُليمانُ صلَّى الله عليه وسلَّمَ: تَرْضَاهُ [266] يُنظر: ((تفسير ابن باديس)) (ص: 265). .

الفَوائِدُ العِلميَّةُ واللَّطائِفُ:

1- قال تعالى: وَقَالَا الْحَمْدُ لِلَّهِ قولُه: وَقَالَا أفاد أنَّ قولَهما متسَبَّبٌ وناشئٌ عنِ العلمِ، لكِنَّه لو قيلَ: (فقالا) -بالفاء- لَمَا أفاد أنَّ غيرَ القولِ تَسَبَّبَ منهما عنِ العلمِ، فلَمَّا عَطَفَ بالواو دَلَّ على أنَّ هنالك أعمالًا كثيرةً عظيمةً كانت منهما في طاعةِ اللهِ وشُكرِه نشأتْ عنِ العلمِ، وعليها عُطِفَ قولُهما هذا [267] يُنظر: ((تفسير ابن باديس)) (ص: 253، 254). .
2- في قَولِه تعالى: وَقَالَا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ أنَّه يجوزُ لِمَن أنعَمَ اللهُ عليه بنعمةٍ، وفَضَّلَه بفضيلةٍ أن يَفرَحَ بتلك النعمةِ، ويُظهِرَ فَرَحه بها، في مَعرِضِ حَمْدِ اللهِ عليها، مِن حيثُ إنها كرامةٌ مِن اللهِ؛ لا مِن حيثُ إنَّها مَزيَّةٌ مِن مزاياه فاق بها سِواه! مِثلُ فِعْلِ هذين النبيَّينِ الكريمَينِ، وكما قال تعالى: قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا [268] يُنظر: ((تفسير ابن باديس)) (ص: 255). [يونس: 58] ، ويَشرُفُ الفرَحُ بشَرَفِ المفروحِ به؛ فالفرحُ بفضلِ الله ورحمتِه في أفضَلِ رُتَبِ الفرحِ [269] يُنظر: ((شجرة المعارف والأحوال)) للعز بن عبد السلام (ص: 68). .
3- في قَولِه تعالى: وَقَالَا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا أنَّ الشُّكرَ يكونُ بالقَولِ، كما هو أيضًا بالفِعلِ؛ فيكونُ بالقولِ وبالفعلِ، ويكونُ أيضًا بالعَقيدةِ، أي: بالاعتقادِ، فالشُّكرُ له ثلاثةُ محلَّاتٍ: القلبِ واللِّسانِ والجَوارحِ [270] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة النمل)) (ص: 101). .
4- تواضُعُ داودَ وسُلَيمانَ عليهما السَّلامُ، ومعرفتُهما للحَقيقةِ؛ لِقَولِه: فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ، فما ذكَرا التَّفضيلَ المطْلَقَ على جمَيعِ المؤمنينَ، بل على كثيرٍ مِن عِبادِه المؤمِنينَ [271] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة النمل)) (ص: 103). .
5- أنَّ مَن عَلِمَ لغةَ غيرِه فله ميزةٌ على غَيرِه؛ لأنَّه تَمَدَّحَ بقَولِه: عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ، إذَن: تَعَلُّمُ اللُّغةِ غيرِ العربيَّةِ هو في الحقيقةِ مِن نعمةِ اللهِ على العبدِ، لكنْ إنِ استعملَها مكانَ اللُّغةِ العربيَّةِ فإنَّه مُخطِئٌ [272] يُنظر: ((اقتضاء الصراط المستقيم)) لابن تيمية (1/520-528). ، وكان عُمَرُ رضيَ الله عنه يَضرِبُ على ذلك، وإنِ استعملَها لِمصلحةٍ دينيَّةٍ فهذا له أجرٌ في ذلك، كما لو استعملَها في الدَّعوةِ إلى اللهِ، وتفهيمِ الخلْقِ الذين لا يَفهَمونَ اللُّغةَ العربيَّةَ؛ فهي وَسيلةٌ. المهمُّ: أنَّه لا شكَّ أنَّ الإنسانَ الذي يَتعلَّمُ لغةَ غيرِه فله ميزةٌ على غيرِه في هذا، ولكنْ كونُه محمودًا أو غيرَ محمودٍ يَرجعُ إلى ما يُتوصَّلُ به بهذه اللُّغةِ [273] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة النمل)) (ص: 107). .
6- في قَولِه تعالى حكايةً عن سليمانَ عليه السَّلامُ: عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ، وكذا في قولِه: فَمَا آَتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آَتَاكُمْ [النمل: 36] : ذِكرُ الرجُلِ مناقِبَ نفْسِه -إذا كان ذلك لغرضٍ صحيحٍ-، ومِثلُه قولُ هودٍ عليه السَّلامُ: وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ [الأعراف: 68] ، وقولُ نوحٍ عليه السَّلامُ: وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ [الأعراف: 62] ، وقولُ يعقوبَ عليه السَّلامُ: أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ [يوسف: 96] ، وقولُ شعيبٍ عليه السَّلامُ: إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ [هود: 88] ، وقولُ يوسفَ عليه السَّلامُ: اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ [يوسف: 55] . وذِكرُ سليمانَ عليه السلام ما آتاه الله وسيلةٌ إلى المهابةِ الموجبةِ لطاعتِه فيما يدعو إليه مِن طاعةِ الله، وذِكرُ الرسل أمانتَهم ونصحهم ترغيبٌ في إجابتهم إلى ما دعَوا إليه [274] يُنظر: ((شجرة المعارف والأحوال)) للعز بن عبد السلام (ص: 293). .
7- في قَولِه تعالى: وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ أنَّ سُليمانَ لم يَرِثْ مِن داودَ ما وَرِثَه منه لأنَّه ابنُه، وإنَّما كان ذلك تفضُّلًا مِنَ اللهِ ونِعمةً؛ ولهذا لَمَّا دعا سليمانُ الناسَ لم يَذكُرْ لهم أبُوَّةَ داودَ، وإنَّما ذَكَرَ لهم ما كان به أهلًا لمقامِه ممَّا خَصَّه اللهُ به مِن علمٍ وقوَّةٍ، ومظاهرِ المُلكِ، ومُعجِزةِ النُّبوَّةِ [275] يُنظر: ((تفسير ابن باديس)) (ص: 257). .
8- في قَولِه تعالى: مَنْطِقَ الطَّيْرِ أنَّ الطيرَ تَنْطِقُ [276] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة النمل)) (ص: 106). ، وفيه دَلالةٌ على أنَّ البهائمَ لها لغةٌ معروفةٌ فيما بيْنَها مِن جنْسِها [277] يُنظر: ((الشرح الممتع)) لابن عثيمين (13/527). .
9- في قَولِه تعالى: مَنْطِقَ الطَّيْرِ حِكمةُ اللُّغةِ العربيَّةِ الشَّريفةِ؛ حيثُ سَمَّتْ أصواتَ الحيواناتِ نطقًا، كما سَمَّتْ -في المتعارَفِ- اللَّفظَ الذي يُعَبَّرُ به عمَّا في الضميرِ نطقًا؛ لأنَّ الأصواتَ لغيرِ الإنسانِ تقومُ مقامَ الألفاظِ للإنسانِ، فهي طريقُ تفاهمِها، وطريقُ فَهْمِ ما يمكِنُ للإنسانِ فَهْمُه عنها، فللَّهِ هذه اللُّغةُ! ما أعمَقَ غَوْرَها، وما أدقَّ تعبيرَها [278] يُنظر: ((تفسير ابن باديس)) (ص: 257). !
10- في قَولِه تعالى: وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ إشارةٌ إلى أنَّ جمْعَ الجنودِ وتدريبَها هو مِن واجباتِ المُلوكِ؛ ليكونَ الجنودُ مُتعَهِّدينَ لأحوالِهم وحاجاتِهم؛ لِيشعروا بما يَنقُصُهم، ويتذَكَّروا ما قد يَنسَونَه عند تشَوُّشِ الأذهانِ عندَ القِتالِ وعندَ النَّفيرِ [279] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (19/240). .
11- في قَولِه تعالى: وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ جوازُ استِعمالِ السَّاقَةِ في الجُندِ والجيشِ، بأنْ يكونَ لهم سائِقٌ كما أنَّ لهم قائدًا دَليلًا [280] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة النمل)) (ص: 113). .
12- نَستفيدُ مِن قولِه تعالى: وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ صورةً تامَّةً لنظامِ الجُنديَّةِ في مُلكِ سليمانَ؛ فقد كان الجنودُ يُسَرَّحُون مِن الخدمةِ ويُجمَعون عندَ الحاجةِ، وكانت أعيانُهم معروفةً مضبوطةً، وكانت لهم هيئةٌ تعْرِفُهم وتضْبِطُهم وتجْمَعُهم عندَ الحاجةِ، وكان لهم ضبَّاطٌ يتولَّون تنظيمَهم، وكان النظامُ محكَمًا لضبطِ تلك الكثرةِ، ومنْعِها مِن الاضطرابِ والاختلالِ والفوضى، تَعرِضُ علينا الآيةُ هذه الصُّورةَ التاريخيَّةَ والواقعيَّةَ؛ تعليمًا لنا، وتربيةً على الجُنديَّةِ المضبوطةِ المنظَّمةِ، ولا شكَّ أنَّ الخُلفاءَ الأوَّلينَ قد عَمِلوا على ذلك في تنظيمِ جيوشِهم، إنَّ مِثْلَ هذه الآيةِ كان له الأثرُ البليغُ السَّريعُ في نفوسِ العربِ لَمَّا أسلَموا؛ فسُرعانَ ما تحوَّلوا إلى جنودٍ مُنَظَّمةٍ ممَّا لم يكُنْ معروفًا عندَهم في الجاهليَّةِ، وبَقِيَتِ الآيةُ -على الدَّهرِ- مُذَكِّرةً لنا بأنَّ النِّظامَ أساسُ كلِّ مجتَمَعٍ واجتماعٍ، وأنَّ القوَّةَ والكثرةَ وحْدَهما لا تُغْنيانِ بدونِ نظامٍ، وأنَّ النِّظامَ لا بُدَّ له مِن رجالٍ أكْفَاءٍ يقومون به، ويَحمِلونَ الجُموعَ عليه، وأولئك هم الوازِعون [281] يُنظر: ((تفسير ابن باديس)) (ص: 260). .
13- قولُه تعالى: يُوزَعُونَ فيه إشارةٌ إلى أنَّهم مع كثْرتِهم وتَفاوُتِهم لم يَكونوا مُهْمَلينَ ومُبْعَدِينَ كما يكونُ الجيشُ الكثيرُ المُتأذِّي بمَعرَّتِهم، بلْ كانوا مَسُوسِينَ ومَقْموعينَ [282] يُنظر: ((المفردات)) للراغب (ص: 868)، ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (11/483). .
14- قال الله تعالى: حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ قال أهلُ التَّفسيرِ: عَلِمَ النَّملُ أنَّ سُلَيمانَ مَلِكٌ ليس له جَبريَّةٌ وظُلمٌ، ومعنى الآيةِ: أنَّكم لو لم تَدخُلوا المساكِنَ وَطِئُوكم، ولم يَشعُروا بكم، ولو عَرَفوا لم يَطَؤوا [283] يُنظر: ((تفسير السمعاني)) (4/86). ، ففي قولِه: وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ دَلالةٌ على عِلمِ النَّملِ بأنَّهم لو شَعروا بهم ما آذَوْهم؛ لأنَّهم أتْباعُ نبيٍّ، فهُم رُحماءُ [284] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (14/143). .
15- قال الله تعالى: حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ نظيرُ قَولِ النَّملةِ في جُندِ سُلَيمانَ: وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ قَولُ اللهِ تعالى في جُندِ محمَّدٍ صلَّى الله عليه وسلَّمَ: فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ [الفتح: 25] ؛ التفاتًا إلى أنَّهم لا يَقصِدونَ هَدرَ مُؤمِنٍ. إلَّا أنَّ المُثنِيَ على جُندِ سُلَيمانَ هي النَّملةُ بإذنِ الله تعالى، والمُثنِيَ على جُندِ محمَّدٍ صلَّى الله عليه وسلَّمَ هو اللهُ عزَّ وجَلَّ بنَفْسِه؛ لِمَا لجنودِ محمَّدٍ صلَّى الله عليه وسلَّمَ مِنَ الفَضلِ على جُندِ غَيرِه مِن الأنبياءِ، كما لمحمَّدٍ صلَّى الله عليه وسلَّمَ فَضلٌ على جميعِ النبيِّينَ صَلَّى الله عليهم وسلَّم أجمعينَ [285] يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (13/170). .
16- في قَولِه تعالى: وَادِ النَّمْلِ إضافةُ المكانِ إلى سكانِه، كما يُقالُ الآنَ في الأحياءِ في البلدِ: هذا حيُّ بني فلانٍ، كما هو معروفٌ مِن قديمِ الزمانِ أنَّ الأحياءَ تُضافُ إلى ساكنيها [286] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة النمل)) (ص: 121). ، وذلك على أحدِ القولَينِ في التَّفسيرِ.
17- في قَولِه تعالى: قَالَتْ نَمْلَةٌ أنَّ للحشراتِ نطقًا؛ وأنَّ قولَها أيضًا مسموعٌ؛ يَسمَعُه بنو جنسِها؛ لأنَّه لو لم يكونوا يَسمَعونها لم يكن في قَولِها فائدةٌ، فهم يَسمَعون قولَها، وقد يُسْمِعُه اللهُ تبارك وتعالى مَن يشاءُ [287] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة النمل)) (ص: 122). ويُنظر أيضًا: ((الحيوان)) للجاحظ (4/263، 264). .
18- قَولُه تعالى: مَسَاكِنَكُمْ هي قُرى النَّملِ التي يَسكُنُها تحتَ وجهِ الأرضِ، المُحكمةُ الوضعِ والتركيبِ والتَّقسيمِ؛ ولذلك قيلَ فيها: (مساكن)، ولم يَقُلْ: (غيران) [288] يُنظر: ((تفسير ابن باديس)) (ص: 262). .
19- قولُه تعالى: قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ فيه تعيينُ المساكِنِ وهي الملاجئُ، وهذا مِثلُ صَفَّاراتِ الإنذارِ عندَ النَّاسِ، فإذا صفرت صفَّارةُ الإنذارِ لا يذهبون إلى السُّطوحِ، ولكن يذهبونَ إلى الملاجئِ، وهي أيضًا أرشدَتْهم إلى ملاجِئِهم: ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ، ثمَّ فيه أيضًا إشارةٌ إلى أنَّ هذه المساكِنَ كما أنَّها أكنانٌ يَكتَنُّ بها الإنسانُ فهي أيضًا حصونٌ يَحترِزُ بها الإنسانُ؛ قال تعالى: أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتًا * أَحْيَاءً ‎وَأَمْوَاتًا [289] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة النمل)) (ص: 118). [المرسلات: 25، 26].
20- رُبَّما ذُكِر لِما لا يعقِلُ فِعلٌ يكونُ الأغلبُ فيه أن يكونَ لِمَا يعقِلُ، فيُجعَلُ لفظُه كلفظِ ما يعقِلُ تشبيهًا، قال تعالى: قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ، ولم يقُلْ: ادخُلْن مساكنَكنَّ لا يحطمنَّكنَّ؛ لأنَّه أخبَر عنهنَّ بالخطابِ الذي يكونُ لِما يعقِلُ، ومِن ذلك أيضًا قولُه عزَّ وجلَّ حكايةً عن يوسفَ عليه السلامُ: إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ [يوسف: 4]، فجمَع الشَّمسَ والقمرَ والكواكبَ بالياءِ والنونِ؛ وذلك لأنَّه وصَفها بالسجودِ الذي يكونُ مما يعقِلُ، ولو أجراها على معناها وحقِّها مِن اللفظِ لقال: رأيتُها لي ساجداتٍ [290] يُنظر: ((الكتاب)) لسيبويه (2/47)، ((شرح كتاب سيبويه)) للسيرافي (1/154، 155)، ((أمالي ابن الشجري)) (1/203) و (2/49). .
21- في قَولِه تعالى: قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ تَنويهٌ برَأْفتِه وعَدْلِه الشَّاملِ لكلِّ مَخلوقٍ لا فسادَ منه، أجْراهُ اللهُ على نَملةٍ؛ لِيَعلَمَ شَرفَ العدْلِ ولا يَحتقِرَ مواضِعَهُ، وأنَّ وليَّ الأمرِ إذا عَدَلَ سَرَى عدلُه في سائرِ الأشياءِ، وظهَرتْ آثارُه فيها، حتى كأنَّه معلومٌ عندَ ما لا إدراكَ له، فتسيرُ جَميعُ أمورِ الأمَّةِ على عَدلٍ [291] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (19/243). .
22- في قَولِه تعالى: فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا أنَّه لا بأسَ بالتبَسُّمِ والضَّحِكِ عندَ قيامِ أسبابِهما مِنَ التعَجُّبِ وغيرِه [292] يُنظر: ((شجرة المعارف والأحوال)) للعز بن عبد السلام (ص: 276)، ((الإكليل في استنباط التنزيل)) للسيوطي (ص: 201). . فيجوزُ ذلك عندَ وجودِ سببِه؛ فهذا مِن فعلِ نبيٍّ، وفعلُ الأنبياءِ حُجَّةٌ -حتَّى وإنْ كان غيرَ نبيِّنا صلَّى الله عليه وسلَّمَ-؛ إلَّا ما وردَ شرعُنا بنسخِه، فهذا لا يُعتبرُ، والدَّليلُ على أنَّ فِعلَ الأنبياءِ حُجَّةٌ قولُه تعالى: أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ [الأنعام: 90] ، وقولُه: لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ [293] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة النمل)) (ص: 133). قال ابن عثيمين: (يقولون: إنَّ الضَّحِكَ ثلاثةُ أنواعٍ: ابتِدائيٌّ ووسَطٌ وانتِهائيٌّ؛ الابتِدائيُّ التبسُّمُ، والوسَطُ الضَّحِكُ، والمنتهي القَهْقَهةُ، والقهقهةُ لا تليقُ بالإنسانِ العاقلِ الرَّزينِ، والتبسُّمُ هو أكثَرُ ضَحِكِ الأنبياءِ عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ، والضَّحِكُ يكونُ مِنَ الأنبياءِ أحيانًا، فهنا تبسَّمَ ضاحكًا...). ((تفسير ابن عثيمين- سورة النمل)) (ص: 124). [يوسف: 111] .
23- في قَولِه تعالى: وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ طلَب سُلَيمانُ عليه السَّلامُ ما يكونُ وسيلةً إلى ثوابِ الآخرةِ أوَّلًا، ثمَّ طلب ثوابَ الآخرةِ ثانيًا؛ أمَّا وسيلةُ الثَّوابِ فهي أمْرانِ:
أحدُهما: شُكرُ النِّعمةِ السَّالفةِ، والثاني: الاشتغالُ بسائرِ أنواع الخِدمةِ؛ أمَّا الاشتغالُ بشُكرِ النِّعمةِ السَّالفةِ، فهي قَولُه تعالى: رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ، وأمَّا الاشتغالُ بسائِرِ أنواع الخِدمةِ، فقَولُه: وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ.
وأمَّا طلَبُ ثوابِ الآخرةِ فقَولُه: وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ [294] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (24/549). .
24- في قَولِه تعالى: وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ رَدٌّ على المُعتزلةِ والقدَريَّةِ؛ إذْ كان سُلَيمانُ صلَّى الله عليه وسلَّمَ يَسألُ اللهَ أن يُلهِمَه الشُّكرَ، ويُنهضَه للعَمَلِ الصالحِ، ويُدخِلَه برحمتِه في صالحِ عبادِه. وهل يخلو مِن أنْ يكونَ دعا بما هو مُستَغنٍ به فيُنسبَ إلى أنَّ دعاءَه حَشْوٌ، ومعاذَ اللهِ! أو دعا وهو يُوقِنُ أنَّه لا يَقدِرُ على شَيءٍ البَتَّةَ إلَّا به أو بمعونتِه، فإذا عَدِمَه لم يَقدِرْ؟ فكيف يزعمونَ أنَّ العبدَ قادرٌ على عملِه مُنفَرِدًا به، ونبيُّ الله صلَّى الله عليه وسلَّمَ يَبرأُ مِنَ الحَولِ والقوَّةِ هذا التبَرُّؤَ، ويَستَلْهِمُ اللهَ جلَّ جلالُه ما لا يَتِمُّ أمرُه إلَّا به [295] يُنظر: ((النكت الدالة على البيان)) للقصاب (3/547). ؟!
25- أنَّ نِعمةَ اللهِ على الوالِدَينِ نِعمةٌ على الولَدِ؛ لِقَولِه: أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ، ولا سيَّما نعمةُ الإسلامِ؛ فإنَّها مِن أكبرِ النِّعَمِ على الولدِ؛ فلو مات طِفلٌ وأبواه كافِران، لكان هذا الطِّفلُ في الدُّنيا في حكمِ الكافرينَ، وفي الآخرةِ اللهُ أعلمُ بحالِه، ولو مات طفلٌ بيْنَ أبوينِ مُسلِمَينِ لكان هذا الطِّفلُ مُسلمًا في الدُّنيا والآخرةِ، وعلى هذا فنِعمةُ اللهِ على الوالدينِ -ولا سيَّما في الدِّينِ- نعمةٌ على الولدِ، وهذا هو وَجهُ قَولِه: أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ [296] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة النمل)) (ص: 134). . وأيضًا فإنَّ نعمةَ اللهِ على الولدِ هي نعمةٌ على والديه؛ فهو مِن أثَرِهما، ومِثْلُ حسناتِه في ميزانِهما؛ لأنَّهما أصلُ ذلك وسببُه، ويدعو له الناسُ؛ فيَدْعُون لهما كُلَّما دَعَوا له، ويقولون: رضيَ اللهُ عنك وعن والِدَيك، ويدعو هو لهما، وقد يُؤْذَنُ له فيَشْفَعُ لهما، فالنِّعمةُ على الوالدِ هي نعمةٌ مُزدَوجةٌ بيْنَهما؛ ولهذا ذَكَرَ سُليمانُ صلَّى الله عليه وسلَّمَ نعمةَ اللهِ على والديه مع نعمتِه عليه [297] يُنظر: ((تفسير ابن باديس)) (ص: 265). ويُنظر أيضًا: ((تفسير الزمخشري)) (3/357). وقال الرازي: (ولَمَّا كان الإنعامُ على الآباءِ إنعامًا على الأبناءِ؛ لأنَّ انتسابَ الابنِ إلى أبٍ شَريفٍ نعمةٌ مِن الله تعالى على الابنِ- لا جَرَمَ اشتغَلَ بشُكرِ نِعَمِ اللهِ على الآباءِ بِقَولِه: وَعَلَى وَالِدَيَّ). ((تفسير الرازي)) (24/549). .
26- في قَولِه تعالى: وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ أنَّ مِن العقلِ والعَدلِ والشَّرعِ إضافةَ الِمَّنِة إلى المانِّ بها؛ لِقَولِه: أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ وهذا اعترافٌ، وأبلغُ مِن أنْ يقولَ الإنسانُ: أوزِعْني أنْ أشكرَ النِّعمةَ فقط؛ لأنَّ قَولَه: نِعْمَتَكَ واضحٌ جدًّا في خُضوعِ هذا الإنسانِ بهذه النِّعمةِ العَظيمةِ التي أنعَمَ اللهُ بها عليه، فهذه فيها دليلٌ أنَّه مِن العَقلِ والعَدلِ والشَّرعِ إضافةُ المِنَّةِ إلى المانِّ بها، حتى ولو كان آدميًّا [298] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة النمل)) (ص: 134). .
27- قال الله تعالى: وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ، في قَولِه: وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا أنَّ الأنبياءَ عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ كغَيرِهم مُفتَقِرونَ إلى توفيقِ اللهِ، وأنَّهم بِدُونِ توفيقِ اللهِ سبحانه وتعالى ما يَسيرون سيرًا يُرضِي اللهَ [299] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة النمل)) (ص: 134). !
28- قال الله تعالى: وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ العملُ غيرُ الصَّالحِ ليس فيه فائِدةٌ، بل هو دائرٌ بينَ أمْرَينِ: إمَّا الإثمِ، وإمَّا السَّلامةِ فقط، فإنْ صدرَ عن عِلمٍ فهو إثمٌ، وإنْ صدَرَ عن جَهلٍ فالإنسانُ سالمٌ، ولكِنْ لا فائدةَ له فيه؛ كما لو صلَّى الإنسانُ مَثلًا صلاةً باطِلةً بحَدَثٍ، فإنَّه إن تعَمَّد ذلك كان آثِمًا، وإنْ كان جاهِلًا لم تُفِدْه في إبراءِ الذِّمَّةِ، ويُطالَبُ بإعادتِها، أمَّا الأجرُ فقد يؤجَرُ عليها مِن أجْلِ النِّيَّةِ والعملِ الذي حَصَل والمشَقَّةِ، ولكِنْ مِن حيثُ الفائدةُ لا يَستفيدُ منها في إبراءِ ذِمَّتِه، ولا تَسقُطُ عنه [300] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة النمل)) (ص: 135). .
29- في قَولِه تعالى: وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ الرَّدُّ على الجَبْريَّةِ؛ لأنَّه أضاف العمَلَ إليه، وقولُه: وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا معناه أنَّه يمكنُ أنْ يعملَ غيرَ صالحٍ؛ فهو مُختارٌ [301] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة النمل)) (ص: 138). .
30- في قَولِه تعالى: وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ أنَّ دخولَ الجنةِ هو برحمتِه وفضْلِه سُبحانَه، لا باستِحقاقٍ مِن جانبِ العبدِ [302] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (24/549). ، فالإنسانُ لا يَصِلُ إلى غايتِه ومقصودِه إلَّا برحمةِ اللهِ في كلِّ شيءٍ -الجنَّةِ وغيرِ الجنَّةِ- يعني: إذا لم يَرحمْك اللهُ فلن تَنالَ شيئًا أبدًا [303] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة النمل)) (ص: 135). ، فهذه الآيةُ مُنادِيةٌ بأعلَى صوتٍ، وأوضَحِ بيانٍ بأنَّ دُخولَ الجنَّةِ الَّتي هيَ دارُ المؤمِنينَ بالتَّفضُّلِ مِنَ الله، لا بالعملِ من العِبادِ، كما قال الصادقُ المصدوقُ فيما ثَبَت عنه فِي الصَّحِيحِ: ((سَدِّدُوا وقارِبوا واعْلَموا أنَّه لن يدخُلَ أحدٌ الجنَّةَ بعملِه، قالوا: ولا أنت يا رسولَ اللَّهِ؟ قالَ ولا أنا إلَّا أنْ يتغَمَّدَني اللَّهُ برحمتِه )) [304] أخرجه البخاري (5673)، ومسلم (2816) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. ، فإذا لم يَكُنْ إلَّا تفضُّلُ الله الواسعُ فتركُ طلبِه منه عجزٌ، والتَّفريطُ في التَّوسُّلِ إليه بالإيصالِ إليه تضييعٌ [305] يُنظر: ((تفسير الشوكاني)) (4/152). .
31- في قَولِه تعالى: وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ جوازُ التوسُّلِ بصِفاتِ اللهِ؛ لقولِه: بِرَحْمَتِكَ [306] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة النمل)) (ص: 136). .
32- قال الله تعالى: وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ في قَولِه: فِي عِبَادِكَ أنَّ العبادةَ مَرتَبةٌ شَريفةٌ عظيمةٌ يَسألُها حتَّى الأنبياءُ؛ ولهذا يَذكُرُ اللهُ تعالى نبيَّه محمَّدًا صلَّى الله عليه وسلَّمَ بوصفِ العبوديَّةِ في أعلَى مقاماتِه؛ عندَ إنزالِ القرآنِ، وعندَ الدفاعِ عنه، وما أشبَهَ ذلك [307] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين - سورة النمل)) (ص: 136). ويُنظر أيضًا: ((الجواب الكافي)) لابن القيم (ص: 187)، ((مدارج السالكين)) لابن القيم (3/31)، ((تفسير ابن كثير)) (1/136) و(6/92). .
33- في قَولِه تعالى: وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ سؤالٌ: وهو أنَّه قال اللهُ تعالى: ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [النحل: 32] فأفاد أنَّ الأعمالَ سببٌ في دخولِ الجنَّةِ، وفي هذه الآيةِ: وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ أفاد أنَّ الدخولَ بالرَّحمةِ!
الجوابُ: لا مُنافاةَ بيْنَهما؛ فالأعمالُ سببٌ شرعيٌّ لدُخولِ الجنَّةِ، والهدايةُ إليه والتَّوفيقُ فيه وقَبولُه: هو رحمةٌ مِن اللهِ جزاءً؛ لأنَّه لا يَنتفعُ به؛ إِذْ هو الغَنيُّ عن خلْقِه، وإنما تفضَّلَ فجعلَه سببًا في نَيلِ ثوابِه، ثم تفضَّلَ فجَعَلَ الجزاءَ مُضاعَفًا، ووفَّى الصَّابرينَ أجرَهم بغيرِ حسابٍ [308] يُنظر: ((تفسير ابن باديس)) (ص: 265). ويُنظر أيضًا: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (8/70، 71)، ((حادي الأرواح)) لابن القيم (ص: 87، 88). !
34- في قَولِه تعالى: وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ أنَّ الصَّالحينَ -بما امتازوا به مِن كَمالٍ- صاروا كأنَّهم في حِمًى خاصٍّ بهم، لا يَدخُلُ عليهم فيه إلَّا مَن كان مِثْلَهم، فلهُم مقامُهم في الرَّفيقِ الأعلى، ولهم مَنازِلُهم في الجنَّةِ، ولهم ذِكرُهم الطَّيِّبُ عندَ اللهِ وعندَ العِبادِ، وهذه المنازلُ والمقاماتُ لا يَدخُلُها العبدُ إلَّا برحمةٍ مِن اللهِ بتيسيرٍ لأسبابِها، وتفضُّلٍ عظيمٍ [309] يُنظر: ((تفسير ابن باديس)) (ص: 264). .
35- في قَولِه تعالى: وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ أنَّ الأرواحَ النُّورانيَّةَ الطَّاهرةَ السَّاميةَ لا لَذَّةَ لها حقيقيَّةً في هذا العالَمِ الفاني المادِّي المنحَطِّ، وإنَّما لَذَّتُها الحقيقيَّةُ في عالَمِها العالي الأقدَسِ، وفي الرَّفيقِ الأعلى الأطْهَرِ، وفي معاشرةِ أمثالِها مِنَ النُّفوسِ الطَّيِّبةِ الزَّكيَّةِ في ذلك القُدسِ الأَسْنى؛ فهي دائمةُ الشَّوقِ إليه، والانجذابِ نحوَه؛ ولذا كان مِن دعواتِ الأنبياءِ -عليهم الصلاةُ والسلامُ- الدُّخولُ في الصَّالحينَ، واللُّحوقُ بهم، مِثلُ قولِ سُليمانَ هنا، وقولِ إبراهيمَ: رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ [الشعراء: 83] ، وقولِ يوسفَ: تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ [310] يُنظر: ((تفسير ابن باديس)) (ص: 265). [يوسف: 101] .

بلاغةُ الآياتِ:

1- قولُه تعالَى: وَلَقَدْ آَتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا وَقَالَا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ كَلامٌ مُستأنَفٌ مَسوقٌ لِتَقريرِ ما سبَقَ مِن أنَّه صلَّى الله عليه وسلَّمَ يُلقَّى القرآنَ مِن لَدُنْ حكيمٍ عليمٍ؛ فإنَّ قِصَّتَهما عليهما الصَّلاةُ والسَّلامُ مِن جُملةِ القرآنِ الكريمِ، لُقِّيَه صلَّى الله عليه وسلَّمَ مِن لَدُنْهُ تعالى كقِصَّةِ مُوسى عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ [311] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/276). .
- قولُه: وَلَقَدْ آَتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا تَصديرُه بالقسَمِ؛ لإظهارِ كَمالِ الاعتناءِ بتَحقيقِ مضمونِه [312] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/276). . وقيل: افتِتاحُ الجُملةِ بلامِ القَسمِ وحَرفِ التَّحقيقِ (قد)؛ لتَنزيلِ المُخاطَبينَ به مَنزلةَ مَن يَتردَّدُ في ذلك؛ لأنَّهم جَحَدوا نُبوَّةَ مِثلِ داودَ وسُليمانَ؛ إذ قالوا: لَنْ نُؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآَنِ وَلَا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ [313] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (19/234). [سبأ: 31] .
- وفي قولِه: وَلَقَدْ آَتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا تَقديمُ ذِكْرِ داودَ لِيُبْنَى عليه ذِكْرُ سُليمانَ؛ إذ كان مُلْكُه وَرِثَه مِن أبيهِ داودَ، ولأنَّ في ذِكْرِ داودَ مَثَلًا لإفاضةِ الحِكمةِ على مَن لم يكُنْ مُتصدِّيًا لها، وما كان مِن أهلِ العلْمِ بالكتابِ أيَّامَ كان فيهم أحبارٌ وعلماءُ. فما كان عجَبٌ في نُبوَّةِ محمَّدٍ الأُمِّيِّ بيْن الأُمِّيِّينَ؛ لِيَعلَمَ المُشركونَ أنَّ اللهَ أعْطى الحِكمةَ والنُّبوَّةَ محمَّدًا صلَّى الله عليه وسلَّمَ، ولم يكُنْ يَعلَمُ ذلك مِن قبْلُ، ولكنْ في قَومِه مَن يَعلمُ ذلك، كما قال تعالى: مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا [هود: 49] ؛ فهذه القصَّةُ تَتَّصِلُ بقولِه تعالى: وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآَنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ [النمل: 6] ؛ فيصِحُّ أنْ تكونَ جُملةُ وَلَقَدْ آَتَيْنَا دَاوُودَ مَعطوفًا على إِذْ قَالَ مُوسَى لِأَهْلِهِ [النمل: 7] إذا جعَلْنا (إذ) مفعولًا لفِعلِ (اذْكُرْ) مَحذوفٍ. ويصِحُّ أنْ تكونَ الواوُ للاستئنافِ، فالجُملةُ مُستأنَفةٌ. ومُناسَبةُ الذِّكْرِ ظاهرةٌ. وبعْدُ ففي كلِّ قصَّةٍ مِن قَصصِ القرآنِ عِلْمٌ وعِبْرةٌ وأُسوةٌ [314] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (19/233، 234). .
- وفي فِعلِ آَتَيْنَا ما يُؤْذِنُ بأنَّه عِلْمٌ مُفاضٌ مِن عندِ اللهِ؛ لأنَّ الإيتاءَ أخَصُّ مِن (علَّمْناهُ)؛ فلذلك استُغْنِيَ هنا عن كلمةِ (مِن لَدُنَّا) [315] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (19/234). .
- وتَنكيرُ عِلْمًا لإفادةِ التَّعظيمِ والتَّكثيرِ؛ فظاهرُ قولِه: وَلَقَدْ آَتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا في سِياقِ الامتنانِ تَعظيمُ العِلْمِ الَّذي أُوتَياهُ، كأنَّه قال: (علْمًا أيَّ علْمٍ)، وهو كذلك؛ فإنَّ عِلْمَهما كان ممَّا يُستغرَبُ ويُستعظَمُ، ومِن ذلك عِلْمُ مَنطقِ الطَّيرِ وسائرِ الحيواناتِ، على أنَّ كلَّ عِلْمٍ بالإضافةِ إلى عِلْمِ اللهِ قليلٌ ضَئيلٌ. وقِيل: قال: عِلْمًا؛ لأنَّه طائفةٌ مِن العلْمِ، فالتَّنوينُ على هذا للتَّقليلِ، وهو أوْفَقُ بكونِ القائلِ هو الله عزَّ وجلَّ؛ فإنَّ كلَّ عِلمٍ عندَه سبحانه قليلٌ. وعلى الوجهِ الأولِ التَّنوينُ للتَّعظيمِ والتَّكثيرِ، وهو أوفقُ بامتِنانِه جلَّ جلالُه؛ فإنَّه سبحانه الملكُ العظيمُ، فاللَّائقُ بشأنِه الامتِنانُ بالعظيمِ الكثيرِ؛ فلِكُلٍّ وِجْهةٌ، وكِلاهما مُناسِبٌ للمقامِ [316] يُنظر: ((تفسير الزمخشري- حاشية ابن المنير)) (3/352)، ((تفسير البيضاوي)) (4/156)، ((تفسير أبي حيان)) (8/216، 217)، ((حاشية الشهاب على البيضاوي)) (7/37)، ((تفسير الألوسي)) (10/165)، ((تفسير ابن عاشور)) (19/234)، ((الجدول في إعراب القرآن)) لمحمود صافي (19/155)، ((إعراب القرآن وبيانه)) لدرويش (7/181). .
- قولُه: وَقَالَا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ الظَّاهرُ أنَّ حِكايةَ قَولَيْهما وقَعَتْ بالمعنى، بأنْ قال كلُّ واحدٍ منهما: (الحمْدُ للهِ الَّذي فضَّلَني)؛ فلمَّا حُكِيَ القَولانِ جُمِعَ ضَميرُ المُتكلِّمِ فَضَّلَنَا. ويجوزُ أنْ يكونَ كلُّ واحدٍ شكَرَ اللهَ على مَنْحِه ومنْحِ قَريبِه، على أنَّه يَكثُرُ استعمالُ ضَميرِ المُتكلِّمِ المُشارِكِ لا لِقَصْدِ التَّعظيمِ، بلْ لإخفاءِ المُتكلِّمِ نفْسِه بقَدْرِ الإمكانِ تَواضعًا، كما قال سُليمانُ عقِبَ هذا: عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ [النمل: 16] . وقولُه: وَقَالَا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ كِنايةٌ عن تَفضيلِهما بفضائلَ غيرِ العلْمِ؛ فإنَّه قال: عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ ومنهم أهلُ العِلْمِ وغيرُهم، وتَنويهٌ بأنَّهما شاكرانِ نِعمتَه؛ ولأجْلِ ذلك عُطِفَ قولُهما هذا بالواوِ دونَ الفاءِ؛ لأنَّه ليس حمْدًا لِمُجرَّدِ الشُّكرِ على إيتاءِ العِلْمِ [317] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (19/234، 235). .
- وأيضًا على أنَّ عِبارةَ كلٍّ منهما (فضَّلني)، إلَّا أنَّه عبَّر عنهما عندَ الحِكايةِ بصِيغةِ المُتكلِّمِ مع الغيرِ إيجازًا؛ فإنَّ حِكايةَ الأقوالِ المُتعدِّدةِ سواءٌ كانتْ صادرةً عن المُتكلِّمِ أو عن غيرِه بعِبارةٍ جامعةٍ للكُلِّ ممَّا ليس بعَزيزٍ، وبهذا ظهَرَ حُسْنُ مَوقعِ العطْفِ بالواوِ؛ إذ المُتبادَرُ مِن العطْفِ بالفاءِ ترتُّبُ حَمْدِ كلٍّ منهما على إيتاءِ ما أُوتِيَ كلٌّ منهما، لا على إيتاءِ ما أُوتِيَ نفْسُه فقط [318] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/276). .
- وقِيل: عطْفُ قولِه: وَقَالَا الْحَمْدُ لِلَّهِ بالواوِ إشعارٌ بأنَّ ما قالاهُ بعضُ ما أحدَثَ فيهما إيتاءُ العلْمِ وشَيءٌ مِن مَواجِبِه؛ فأُضمِرَ ذلك، ثمَّ عُطِفَ عليه التَّحميدُ، كأنَّه قال: ولقدْ آتَيْناهما عِلْمًا، فعَمِلَا به، وعلَّماهُ وعرَفَا حقَّ النِّعمةِ فيه والفضيلةَ [319] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/352)، ((تفسير البيضاوي)) (4/156)، ((تفسير أبي حيان)) (8/217)، ((تفسير أبي السعود)) (6/276)، ((تفسير ابن باديس)) (ص: 253، 254)، ((إعراب القرآن وبيانه)) لدرويش (6/95). .
- وفي قولِهما: الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ جعَلَا تَفضيلَهما على كثيرٍ مِن المُؤمنينَ دونَ جَميعِ المُؤمنينَ؛ إمَّا لأنَّهما أرادَا بالعِبادِ المُؤمنينَ كلَّ مَن ثبَتَ له هذا الوصفُ مِن الماضينَ، وفيهم مُوسى وهارونُ، وكثيرٌ مِن الأفضلِ والمُساوي، وإمَّا لأنَّهما اقْتصَدَا في العبارةِ؛ إذ لم يُحِيطَا بمَن نالهُ التَّفضيلُ، وإمَّا لأنَّهما أرادَا بالعِبادِ أهْلَ عصْرِهما؛ فعبَّرَا بـ كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ تواضُعًا للهِ [320] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (19/235). .
2- قولُه تعالَى: وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ
- قولُه: وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ ... طُوِيَ خبَرُ مُلْكِ داودَ وبَعضِ أحوالِه إلى وَفاتِه؛ لأنَّ المقصودَ هو قصَّةُ سُليمانَ [321] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (19/235). .
- قولُه: عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ على القولِ بأنَّ سليمانَ عُلِّم منطقَ جميعِ الطيورِ والحيواناتِ فإنَّما نصَّ على الطَّيرِ؛ لأنَّه كان جُندًا مِن جُنودِه، يَحتاجُ إليه في التَّظليلِ مِن الشَّمسِ، وفي البعثِ في الأمورِ [322] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (8/217). لكن قال الألوسي: (لا يخفَى أنَّ الآيةَ لا تدلُّ على ذلك، فيحتاجُ القولُ به إلى نقلٍ صحيحٍ). ((تفسير الألوسي)) (10/168). ، وأيضًا الاقتصارُ على مَنطِقِ الطَّيرِ إيجازٌ؛ لأنَّه إذا عُلِّمَ مَنطِقَ الطَّيرِ -وهي أبعدُ الحيوانِ عن الرُّكونِ إلى الإنسانِ، وأسْرَعُها نُفورًا منه- عُلِمَ أنَّ مَنطِقَ ما هو أكثرُ اختلاطًا بالإنسانِ حاصلٌ له بالأحرى، كما يَدُلُّ عليه قولُه تعالى فيما يأْتي قريبًا: فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا [النمل: 19] ؛ فتدُلُّ هذه الآيةُ على أنَّه عُلِّمَ مَنطِقَ كلِّ صِنْفٍ مِن أصنافِ الحيوانِ [323] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (19/237). . وقيلَ: ذكَرَ سُليمانُ عليه السَّلامُ مَنطِقَ الطَّيرِ -وهو قد عُلِّمَ مَنطِقَ غيرِ الطَّيرِ أيضًا؛ فقد فَهِمَ نُطْقَ النَّملةِ-؛ لأنَّ الحيواناتِ -غَيرُ الإنسانِ- مَراتبُ: الزَّاحفةُ، والماشيةُ، والطَّائرةُ، وأشْرفُها الطَّائرةُ؛ فاقتَصَرَ على الطَّيرِ تَنبيهًا بالأعلى على الأَدْنى [324] يُنظر: ((تفسير ابن باديس)) (ص: 258). .
- قولُه: وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ ظاهرُه العمومُ، والمُرادُ الخصوصُ، أي: مِن كلِّ شَيءٍ يَصلُحُ لنا ونَتمنَّاهُ، وأُرِيدَ به كثرةُ ما أُوتِيَ؛ فكأنَّه مُستغرِقٌ لجميعِ الأشياءِ [325] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (8/217، 218). ؛ فالمُرادُ بـ كُلِّ شَيْءٍ كلُّ شَيءٍ مِن الأشياءِ المُهمَّةِ؛ ففي كُلِّ شَيْءٍ عُمومانِ: عمومُ (كلّ)، وعمومُ النَّكرةِ، وكِلاهُما هنا عُمومٌ عُرفيٌّ؛ فـ (كلّ) مُستعمَلةٌ في الكثرةِ، و(شَيءٌ) مُستعمَلٌ في الأشياءِ المُهمَّةِ ممَّا له عَلاقةٌ بمَقامِ سُليمانَ [326] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (19/238). ويُنظر أيضًا: ((الموافقات)) للشاطبي (4/21). .
- وبُنِيَ الفِعلانِ عُلِّمْنَا و(أُوتِينَا) للمفعولِ، وحُذِفَ الفاعلُ؛ للعِلْمِ به، وهو اللهُ تعالى؛ فإنَّ هذا التَّعليمَ ليس مِن مُعتادِ البشرِ، ولا مِن طُرقِهم [327] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (8/218)، ((تفسير ابن باديس)) (ص: 255). .
- وضَميرُ عُلِّمْنَا و(أُوتِينَا) جاء به على صِيغَةِ المُتكلِّمِ المُشاركِ؛ إمَّا لأنَّه أرادَ نفْسَه وأباهُ، وإمَّا لِقَصْدِ التَّواضُعِ؛ كأنَّ جماعةً عُلِّمُوا وأُوتُوا وليس هو وحْدَه، وإمَّا لأنَّه لمَّا كان مَلِكًا مُطاعًا خاطَبَ أهْلَ طاعتِه ومَمْلكتِه بحالِه الَّتي هو عليها، لا على سبيلِ التَّعاظُمِ والتَّكبُّرِ [328] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/354)، ((تفسير البيضاوي)) (4/157)، ((تفسير أبي حيان)) (8/218)، ((تفسير أبي السعود)) (6/277)، ((تفسير ابن عاشور)) (19/238)، ((تفسير ابن باديس)) (ص: 256). . وقِيل: عبَّرَ سُليمانُ عليه السَّلامُ عن نفْسِه بنُونِ العظمةِ، ونوَّهَ بذلك الفضلِ المُبينِ، وما كان عليه السَّلامُ لِيَتعظَّمَ بسُلطانٍ، ولا لِيَتطاوَلَ بفضْلٍ؛ فالأنبياءُ -عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ- أشدُّ الخَلْقِ تواضُعًا للهِ، وأرحَمُهم بعِبادِهِ، وإنَّما أرادَ تَعظيمَ نِعمةِ اللهِ في عُيونِ النَّاسِ، وتَفخيمَ مُلْكِ النُّبوَّةِ في قُلوبِ الرَّعيَّةِ؛ لِيَمْلأَ نُفوسَهم بالجَلالِ والهَيبةِ، فيَدْعُوهم ذلك إلى الإيمانِ والطَّاعةِ؛ فيَنتظِمَ المُلْكُ، ويَهنَأَ العيشُ، وتَمتدَّ بهم أسبابُ السَّعادةِ إلى خيرِ الدُّنيا والآخرةِ، وهذا هو الَّذي توخَّاهُ سُليمانُ عليه السَّلامُ مِن المصلحةِ بإظهارِ العَظَمةِ. ولذا لم يقُلْ: (عَلِمْتُ)، ولا: (لي) و(عندي كلُّ شَيءٍ)، ولم يقُلْ: (فَضْلِي)؛ فهو فضْلُ مَن علَّمَهُ وآتاهُ، فضَّلَه به عمَّنَ سِواهُ [329] يُنظر: ((تفسير ابن باديس)) (ص: 258). .
- والتَّأكيدُ في قولِه: إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ بحَرفِ التَّوكيدِ (إنَّ) وَلَامِه الَّذي هو في الأصْلِ لامُ قَسمٍ، وبضَميرِ الفصْلِ (هو): مَقصودٌ به تَعظيمُ النِّعمةِ؛ أداءً للشُّكرِ عليها بالمُستطاعِ مِن العبارةِ [330] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (19/238). .
3- قولُه تعالَى: وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ
- قولُه: وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فيه تَرتيبُ الجُنودِ في الذِّكرِ؛ مُراعاةً للأقْوى؛ فأعْلَاهم في ذلك الجنُّ، ثمَّ الإنسُ، ثمَّ الطَّيرُ [331] يُنظر: ((تفسير ابن باديس)) (ص: 259). ؛ فتَقديمُ الجنِّ على الإنسِ في البَيانِ؛ للمُسارَعةِ إلى الإيذانِ بكَمالِ قُوَّةِ مُلكِه وعِزَّةِ سُلطانِه مِن أوَّلِ الأمْرِ؛ لِمَا أنَّ الجنَّ طائفةٌ عاتيةٌ، وقَبيلةٌ طاغيةٌ ماردةٌ، بعيدةٌ مِن الحشْرِ والتَّسخيرِ [332] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/277). .
- واقتُصِرَ على الجنِّ والطَّيرِ؛ لغَرابةِ كَونِهما مِن الجُنودِ؛ فلذلك لم يُذْكَرِ الخيلُ، وهي مِن الجيشِ [333] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (19/240). .
- وفي قوله: وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ تجِدُ المعنى لا يستقيمُ إلَّا على ما جاء عليه مِن بناءِ الفعلِ على الاسمِ؛ فإنَّه لا يخفَى على مَن له ذوقٌ أنَّه لو جِيء في ذلك بالفعلِ غير مبنيٍّ على الاسمِ فقيل: (وحُشِر لسليمانَ جنودُه مِن الجنِّ والإنسِ والطيرِ فيُوزَعون)؛ لوجَد اللفظَ قد نبا عن المعنى، والمعنى قد زالَ عن صورتِه والحالِ التي ينبغي أن يكونَ عليها [334] يُنظر: ((دلائل الإعجاز)) لعبد القاهر (ص: 137). .
4- قولُه تعالَى: حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ
- قولُه: حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ (حتَّى) هنا هي الَّتي يُبْتدَأُ بها الكلامُ، ومع ذلك هي غايةٌ لِما قبْلَها كالَّتي في قولِه تعالَى: حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آَمَنَ [هود: 40] ، وهي هاهنا غايةٌ لِمَا يُنْبِئُ عنه قولُه تعالى: فَهُمْ يُوزَعُونَ مِن السَّيرِ، كأنَّه قِيلَ: فسارُوا حتَّى إذا أتَوا... إلخ [335] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/278). ، ففيه إيجازٌ بالحذفِ؛ لأنَّ (حتَّى) للغايةِ؛ فلا بُدَّ أنْ يكونَ هناك شيءٌ محذوفٌ قبْلَها [336] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة النمل)) (ص: 120). .
- والإتيانُ بـ (إذا) وجَوابِها في قولِه: حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ؛ لإفادةِ أنَّ قولَها كان بسَببِ إتيانِهم عندَ أوَّلِ ما أتَوْا [337] يُنظر: ((تفسير ابن باديس)) (ص: 262). .
- وفي قولِه: حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ عُدِّيَ أَتَوْا بحَرفِ الاستعلاءِ عَلَى؛ لأنَّ الإتيانَ كان مِن فوق. أو يُرَادُ قطْعُ الوادي وبُلوغُ آخرِه، كأنَّهم أرادوا أنْ يَنزِلوا أُخرياتِ الوادي، مِن قولِهم: أتى على الشَّيءِ؛ إذا أنفَذَهُ وبلَغَ آخِرَه [338] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/355)، ((تفسير البيضاوي)) (4/157)، ((تفسير أبي حيان)) (8/218)، ((تفسير أبي السعود)) (6/278)، ((الجدول في إعراب القرآن)) لمحمود صافي (19/155)، ((إعراب القرآن وبيانه)) لدرويش (7/182). .
- قولُه: لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ إنْ جُعِلَت (لا) فيه ناهيةً، كانت الجُملةُ مُستأنَفةً؛ تَكريرًا للتَّحذيرِ، ودَلالةً على الفزَعِ؛ لأنَّ المُحذِّرَ مِن شَيءٍ مُفزِعٍ يأْتي بجُمَلٍ مُتعدِّدةٍ للتَّحذيرِ؛ مِن فَرْطِ المخافةِ، والنَّهيُ عن حَطْمِ سُليمانَ إيَّاهنَّ كِنايةٌ عن نَهْيِهنَّ عن التَّسبُّبِ فيه، وإهمالِ الحَذرِ منه، فالمعنى: لا تَكونوا حيثُ أنتم فيَحطِمَكم، كما يُقالُ: لا أعْرِفنَّك تَفعلُ كذا، أي: لا تَفعَلْه فأعْرِفَك بفِعْلِه، والنُّونُ توكيدٌ للنَّهيِ. وكان الأصلُ: (لا يَحْطِمَنَّكُم جُنودُ سُليمانَ)؛ فجاء بقولِه: سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ [النمل: 18] ، لِيَكونَ أبلَغَ؛ للإجمالِ والتَّفصيلِ والتَّكريرِ مع التَّبيينِ. وإنْ جُعِلَت (لا) نافيةً، كانت الجُملةُ واقعةً في جوابِ الأمرِ؛ فكان لها حُكْمُ جوابِ شَرطٍ مُقدَّرٍ؛ فالتَّقديرُ: إنْ تَدخُلوا مَساكِنَكم لا يَحطِمَنَّكم سُليمانُ، أي: يَنتَفِ حَطْمُ سُليمانَ إيَّاكنَّ، وإلَّا حَطَمَكم [339] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/356)، ((تفسير البيضاوي)) (4/157)، ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (11/489)، ((تفسير أبي حيان)) (8/220)، ((تفسير أبي السعود)) (6/278)، ((تفسير ابن باديس)) (ص: 262)، ((تفسير ابن عاشور)) (19/242). .
- قولُه: وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ الْتفاتٌ حَسنٌ، أي: مِن عَدْلِ سُليمانَ وأتْباعِه ورَحمتِه ورِفْقِه: ألَّا يَحطِمَ نَملةً فما فوقَها، إلَّا بألَّا يكونَ لهم شُعورٌ بذلك [340] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (8/221). ، وهذه الجُملةُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ حالٌ مِن فاعلِ يَحْطِمَنَّكُمْ، مُفِيدةٌ لِتَقييدِ الحَطْمِ بحالِ عَدمِ شُعورِهم بمَكانِهم، حتَّى لو شَعَروا بذلك لم يَحْطِمُوا، وأرادتْ بذلكَ الإيذانَ بأنَّها عارفةٌ بشُؤونِ سُليمانَ وسائرِ الأنبياءِ عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ مِن عِصْمتِهم عن الظُّلمِ والإيذاءِ. وقِيل: الجُملةُ استئنافٌ، أي: فَهِمَ سُليمانُ ما قالَتْه، والقومُ لا يَشْعُرون بذلك [341] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (4/157)، ((تفسير أبي السعود)) (6/278). .
- وما أحسَنَ ما أتَتْ به هذه النَّملةُ في قولِها، وأغْرَبَه وأفصَحَه، وأجْمَعَه للمعاني! أدرَكَتْ فَخامةَ مُلْكِ سُليمانَ؛ فنادَتْ وأمَرَتْ وأنذَرَتْ [342] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (8/221). ، وقد اشتمَلَ قولُها في هذه الآيةِ على أحَدَ عشَرَ نوعًا مِن البلاغةِ يَتولَّدُ بعضُها مِن بعضٍ؛ أوَّلُها: النِّداءُ بـ (يا). وثانيها: كنَّتْ بـ (أيُّ). وثالثُها: نبَّهَت بـ (ها) التَّنبيهِ. ورابعُها: سمَّت بقولِها: النَّمْلُ. وخامسُها: أمَرَتْ بقولِها: ادْخُلُوا. وسادسُها: نصَّتْ بقولِها: مَسَاكِنَكُمْ. وسابعُها: حذَّرت بقولِها: لَا يَحْطِمَنَّكُمْ. وثامنُها: خَصَّصَت بقولِها: سُلَيْمَانُ. وتاسعُها: عمَّمَت بقولِها: وَجُنُودُهُ. وعاشِرُها: أشارَتْ بقولِها: وَهُمْ. وحادي عَشَرَها: عذَرَتْ بقولِها: لَا يَشْعُرُونَ!
وأدَّتْ خمْسَ حقوقٍ: حقَّ الله، وحقَّ رسولِه، وحقَّها، وحقَّ رعيَّتِها، وحقَّ جُنودِ سُلَيمانَ [343] يُنظر: ((البرهان في علوم القرآن)) للزركشي (3/227)، ((الإتقان في علوم القرآن)) للسيوطي (3/184)، ((إعراب القرآن وبيانه)) لدرويش (7/185). .
5- قولُه تعالَى: فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ
- قوله: فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا لَمَّا كان التَّبسُّمُ يكونُ للاستهزاءِ وللغضَبِ، كما يقولونَ: تَبسَّمَ تبسُّمَ الغَضبانِ، وتبسَّمَ تَبسُّمَ المُستهزئِ، وكان الضَّحِكُ إنَّما يكونُ للسُّرورِ والفَرحِ؛ أتى بقولِه: ضَاحِكًا [344] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (8/222)، ((تفسير ابن باديس)) (ص: 263). ويُنظر أيضًا: ((زاد المعاد)) لابن القيم (1/175) و(3/504). .
- ولأجْلِ أنَّ قولَه: فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا كان مَبْنيًّا على أمْرينِ: على شُهرةِ حالِه وحالِ جُنودِه في بابِ التَّقوى، وعلى إدراكِه بسَمعِه ما همسَ به بعضُ الحُكْلِ [345] الحُكْلُ: ما لا يُسمَعُ له صَوتٌ؛ كالذَّرِّ والنَّملِ. يُنظر: ((الحيوان)) للجاحظ (4/271، 272)، ((الصحاح)) للجوهري (4/1672)، ((المحكم والمحيط الأعظم)) لابن سِيدَهْ (3/40). ومِن إحاطتِه بمعناهُ؛ أرَدَفه بقولِه: رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ؛ لأنَّهما نِعمتانِ جَليلتانِ مُوجِبتانِ شُكْرَ مُنعِمِهما [346] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/357)، ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (11/491). .
- ولَمَّا سأَلَ ربَّه شيئًا خاصًّا، وهو شُكرُ النِّعمةِ، سأَلَ شيئًا عامًّا، وهو أنْ يَعمَلَ عملًا يَرْضاهُ اللهُ تعالى، فانْدرَجَ فيه شُكرُ النِّعمةِ؛ فكأنَّه سأَلَ إيزاعَ الشُّكرِ مرَّتينِ [347] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (8/222). .
- قولُه: تَرْضَاهُ وَصْفٌ مُؤكِّدٌ، وقد يكونُ للتَّقييدِ؛ لأنَّ العملَ الصَّالحَ يَرْضَى عنه اللهُ، وإنَّما ذَكَرَ الوَصفَ؛ لِيُفِيدَ أنَّ رِضَا اللهِ مَقصودٌ بالعملِ الصَّالحِ [348] يُنظر: ((تفسير ابن باديس)) (ص: 264). ، وأنَّ العملَ الصالحَ قد لا يرضاه المنعِمُ لنقصٍ في العاملِ [349] يُنظر: ((تفسير الشربيني)) (3/50). .
- قولُه: وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ أي: اجْعَلني مِن أهْلِ الجنَّةِ، فهو كِنايةٌ [350] يُنظر: ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (11/493). . والإدخالُ في العِبادِ الصَّالحينَ بمَعنى جَعلِه واحدًا منهم؛ فشبَّه إلْحاقَه بهم في الصَّلاحِ بإدخالِه عليهم في زُمْرتِهم، وسُؤالُه ذلك مُرادٌ به الاستِمرارُ والزِّيادةُ مِن رَفْعِ الدَّرجاتِ؛ لأنَّ لعبادِ اللهِ الصَّالحينَ مَراتبَ كثيرةً [351] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (19/244). .