موسوعة التفسير

سورةُ النَّملِ
الآيات (29-37)

ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ

غَريبُ الكَلِماتِ:

الْمَلَأُ: أي: وُجوهُ النَّاسِ وأشرافُهم، والمَلَأُ: جماعةٌ يجتَمِعون على رأيٍ، ويملؤون العيونَ مَنظرًا، والنُّفوسَ بهاءً وجَلالًا، وأصلُه يدُلُّ على: المساواةِ والكَمالِ في الشَّيءِ [495] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 92)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 411)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/346)، ((المفردات)) للراغب (ص: 776)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 280)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 112). .
أَفْتُونِي: أي: أجيبوني، وأشيروا عليَّ، ونبئوني ما أفعلُ، والفُتْيَا والفَتْوَى: الجوابُ عمَّا يُشكلُ مِن الأحكامِ، وأصلُ (فتى) هنا: يدلُّ على تَبْيينِ حكمٍ [496] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/49)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (4/473)، ((المفردات)) للراغب (ص: 625)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 274)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 155). .
وَأُولُو بَأْسٍ: أي: أصحابُ شِدَّةٍ فِي الحَربِ، وأصلُ (بأس): يدُلُّ على الشِّدَّةِ وما ضارَعَها [497] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 101)، ((تفسير ابن جرير)) (18/50)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 92)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/328)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 165). .
لَا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا: أي: لا طاقةَ لهم على استقبالِها ودفاعِها، وأصلُ (قبل): يدُلُّ على مواجهةِ الشَّيءِ للشَّيءِ [498] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 324)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/51)، ((المفردات)) للراغب (ص: 654)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 254)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 741). .
صَاغِرُونَ: أي: عاجِزونَ أذِلَّاءُ، وأصلُ الصِّغرِ: يَدُلُّ على قِلَّةٍ وحقارةٍ [499] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/290)، ((المفردات)) للراغب (ص: 485)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 566). .

مُشكِلُ الإعرابِ:

قَولُه تعالى: قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ * إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ
قولُه: أَلَّا تَعْلُوا: فيه أوجُهٌ؛ أحدُها: أنَّ (أنْ) مفَسِّرةٌ، وجملةُ النَّهيِ بعدَه (لا تَعلُوا) تفسيريَّةٌ لا محلَّ لها من الإعرابِ.
والثاني: أنَّ (أنْ) مصدريَّةٌ و(لا) نافيةٌ، والمصدرُ المؤوَّلُ في محلِّ رفعٍ بدلٌ من كِتَابٌ.
والثالث: أنَّ المصدرَ المؤوَّلَ في موضعِ رفعٍ خبرُ مبتدأٍ محذوفٍ، أي: هو ألَّا تعلوا.
والرابع: أنَّه منصوبٌ على نزعِ الخافضِ، أي: بألَّا تعلُوا [500] يُنظر: ((معاني القرآن وإعرابه)) للزجاج (4/118)، ((معاني القرآن)) للنحاس (5/130)  ((مشكل إعراب القرآن)) لمكِّي (2/534)، ((التبيان)) للعكبري (2/1008)، ((الدر المصون)) للسمين الحلبي (8/609). .

المعنى الإجماليُّ:

يقولُ الله تعالى مبَيِّنًا ما كان مِن ملكةِ سبأٍ بعدَ أنْ وصَلها كتابُ سليمانَ عليه السلامُ: قالت ملِكةُ سَبأٍ لأشرافِ قَومِها بعد أن قرأَتْ كِتابَ سُلَيمانَ: يا أيُّها الأشرافُ، لقد أُلقِيَ إليَّ كتابٌ جَليلُ القَدرِ من سُلَيمانَ، وإنَّه: بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ، لا تتكبَّرُوا عليَّ بل انقادُوا لِما آمُرُكم به، وأقبِلوا إليَّ مُنقادينَ لله بالطَّاعةِ والوحدانيَّةِ، ثمَّ قالت لأشرافِ قَومِها: يا أيُّها الأشرافُ أشيروا عليَّ؛ فما كنتُ أقطَعُ أمرًا دونَكم، فقالوا: نحن أصحابُ قوَّةٍ وشدَّةٍ في الحَربِ، والرأيُ إليك في قِتالِ سُلَيمانَ أو مُسالَمتِه، فانظُري فيما تأمُرينَنا به، فقالت: إنَّ الملوكَ إذا دخَلوا مدينةً خرَّبوها، وذلُّوا أهلَها، وتلك عادتُهم، وإني باعِثةٌ إلى سُلَيمانَ وقَومِه بهديةٍ عَظيمةٍ؛ لأنظَرَ بمَ ترجِعُ رسُلي مِن خبرِ سُلَيمانَ؟
فلما جاءت رسُلُها إلى سُلَيمانَ بالهدايا أنكر عليهم، وقال لهم: أتعطونَني مالًا لأتركَكُم على شِركِكم، فما أعطاني اللهُ أفضَلُ ممَّا أعطاكم، بل أنتم الذين تَفرحَون بالهدايا التي تُهدَى إليكم، ارجِعْ إلى قَومِك فإنْ لم يأتوا إليَّ مُسلِمين فسأرسِلُ إليهم جُنودًا لا طاقةَ لهم بقتالِهم، ولنُخرجَنَّهم من أرضِهم أذلَّةً مُهانينَ!

تَفسيرُ الآياتِ:

قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ (29).
أي: قالت مَلِكةُ سَبأٍ لأشرافِ قَومِها بعد أن قرأتْ كِتابَ سُلَيمانَ: يا أيُّها الأشرافُ والسَّادةُ، لقد رُميَ إليَّ [501] قال ابن عثيمين: (ما قالتْ: ألقى الهُدهدُ؛ لأنَّ الظَّاهرَ أنَّه مرَّ ثمَّ حذَفه عليها، وليس معناه أنَّه جاء ووقَف بيْنَ يدَيْها وأعطاها الكِتابَ). ((تفسير ابن عثيمين- سورة النمل)) (ص: 173). وقال ابن عاشور: (ظاهِرُ قولِها: أُلْقِيَ إِلَيّ أنَّ الكتابَ سُلِّمَ إليها دُونَ حضورِ أهلِ مجلِسِها). ((تفسير ابن عاشور)) (19/258). كتابٌ حَسَنٌ منظرُه، جليلٌ قدْرُه، شريفٌ كاتِبُه [502] يُنظر: ((تأويل مشكل القرآن)) لابن قتيبة (ص: 269)، ((تفسير ابن جرير)) (18/46، 48)، ((تفسير السعدي)) (ص: 604)، ((تفسير ابن عاشور)) (19/257، 258). قال ابن عاشور: (وصْفُ الكتابِ بالكريمِ ينصَرِفُ إلى نفاستِه في جنسِه... بأن كان نفيسَ الصحيفةِ، نفيسَ التخطيطِ، بهيجَ الشَّكلِ، مستوفيًا كلَّ ما جرت عادةُ أمثالِهم بالتأنُّق فيه. ومن ذلك أن يكونَ مختومًا). ((تفسير ابن عاشور)) (19/258). وقال ابنُ عثيمين: (الكريمُ معناه: المتضَمِّنُ للمعاني العظيمةِ المؤثِّرةِ). ((تفسير ابن عثيمين- سورة النمل)) (ص: 173). .
إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (30).
أي: قَرَأت ملِكةُ سَبأٍ الكِتابَ على قَومِها فقالت: إنَّ الكِتابَ مِن سُلَيمانَ، وإنَّه بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ [503] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/48)، ((تفسير البيضاوي)) (4/159)، ((تفسير ابن كثير)) (6/188). قال ابن عاشور: (يحتمِلُ أن يكونَ قد تُرجِمَ لها قبل أن تخرُجَ إلى مجلِسِ مَشورتِها، ويحتَمِلُ أن تكونَ عارفةً بالعبرانية، ويحتَمِلُ أن يكونَ الكتابُ مكتوبًا بالعربيَّةِ القَحطانيَّةِ؛ فإنَّ عظمةَ مُلكِ سُلَيمانَ لا تخلو من كتَّابٍ عارفينَ بلغاتِ الأُمَمِ المجاوِرةِ لمَملكتِه، وكونُه بلغتِه أظهَرُ وأنسَبُ بشِعارِ الملوكِ، وقد كتب النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّمَ للملوكِ باللُّغةِ العربيَّةِ. أمَّا الكلامُ المذكورُ في هذه الآية فهو ترجمةُ الكِتابِ إلى اللغةِ العربيةِ الفُصحى بتضمينِ دقائِقِه وخصوصيَّاتِ اللُّغةِ التي أنشِئَ بها). ((تفسير ابن عاشور)) (19/258، 259). .
أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (31).
أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ.
أي: ألَّا تتكبَّرُوا وتمتَنِعوا عليَّ، بل اخضَعوا لي، وانقادُوا لِما آمُرُكم به [504] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/48)، ((تفسير ابن كثير)) (6/189)، ((تفسير السعدي)) (ص: 604). .
وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ .
أي: وأقْبِلوا إليَّ مُنقادين مُذعِنين لله بالوحدانيَّةِ والطاعةِ [505] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/49)، ((تفسير ابن كثير)) (6/189)، ((تفسير السعدي)) (ص: 604). قال السمعاني: (وقوله: وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ فيه قَولانِ؛ أحدُهما: هو مِنَ الإسلامِ، والآخَرُ: مِنَ الاستِسلامِ). ((تفسير السمعاني)) (4/94). ممَّن اختار القولَ الأوَّلَ: ابنُ جرير، والثعلبيُّ، والخازن، والعليمي، وأبو السعود، والشوكاني، والألوسي، وابن عاشور. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/49)، ((تفسير الثعلبي)) (7/206)، ((تفسير الخازن)) (3/345)، ((تفسير العليمي)) (5/132)، ((تفسير أبي السعود)) (6/283)، ((تفسير الشوكاني)) (4/158)، ((تفسير الألوسي)) (10/191)، ((تفسير ابن عاشور)) (19/260). وممَّن قال بهذا القولِ مِنَ السَّلفِ: ابنُ عبَّاسٍ، وقَتادةُ. يُنظر: ((تفسير يحيى بن سلام)) (2/542)، ((تفسير ابن أبي حاتم)) (9/2874)، ((تفسير الماوردي)) (4/207)، ((تفسير ابن كثير)) (6/189). قال الألوسي: (والدَّعوةُ على الأوَّلِ [أي أنَّ المرادَ: وأْتوني مؤمنينَ] دعوةُ النُّبوَّةِ، وعلى الثَّاني [أي أنَّ المرادَ: وأْتوني مُنقادينَ مُستَسلِمينَ] دعوةُ الملْكِ. واللَّائقُ بشأنِه عليه السَّلامُ هو الأوَّلُ). ((تفسير الألوسي)) (10/191). وقال أبو السعود: (على أنَّ الإيمانَ مستتبعٌ للانقياد حتمًا). ((تفسير أبي السعود)) (6/283). وقال ابن عاشور: (إطلاقُ اسمِ الإسلامِ على الدينِ يدُلُّ على أنَّ سليمانَ إنما دعا ملِكةَ سبأٍ وقومَها إلى نبذِ الشِّركِ، والاعترافِ للهِ بالإلهية والوحدانية، ولم يدعُهم إلى اتِّباعِ شريعة التوراة؛ لأنَّهم غيرُ مخاطبين بها، وأمَّا دعوتُهم إلى إفراد الله بالعبادةِ والاعترافِ له بالوحدانيةِ في الإلهية؛ فذلك ممَّا خاطب الله به البشَرَ كُلَّهم، وشاع ذلك فيهم من عهدِ آدم ونوح وإبراهيم). ((تفسير ابن عاشور)) (19/260). وممَّن اختار القولَ الثَّانيَ أي أنَّ المرادَ: وأْتوني مستسلِمينَ: السمرقنديُّ، والبِقاعي، والقاسمي. يُنظر: ((تفسير السمرقندي)) (2/580)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (14/158)، ((تفسير القاسمي)) (7/491). وممَّن قال بهذا القولِ مِنَ السَّلفِ: الكلبي. يُنظر: ((تفسير يحيى بن سلام)) (2/542)، ((تفسير الماوردي)) (4/207)، ((تفسير ابن كثير)) (6/189). وقال ابن عثيمين: (هل يلزَمُ مِن إتيانِهم مُستسلِمينَ له أن يكونوا مُسلِمين لله؟ لا يلزَمُ، لكِنْ يلزَمُ مِن كونِهم مُسلِمين لله أن يَستسلِموا له، وأن يأتوا مُطيعين غيرَ مُخالِفين). ((تفسير ابن عثيمين- سورة النمل)) (ص: 176). وممَّن جمَع بيْنَ القَولَينِ: السعديُّ، فقال: (أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ أي: لا تَكونوا فَوقي، بلِ اخضَعوا تحتَ سُلطاني، وانقادُوا لأوامري، وأَقْبِلوا إلَيَّ مسلمينَ. وهذا في غايةِ الوجازةِ، مع البيانِ التَّامِّ؛ فإنَّه تضَمَّنَ نَهْيَهم عن العُلوِّ عليه والبقاءِ على حالِهم التي هم عليها، والانقيادَ لأمرِه، والدُّخولَ تحتَ طاعتِه، ومجيئَهم إليه، ودعوتَهم إلى الإسلامِ). ((تفسير السعدي)) (ص: 604). .
قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ (32).
قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي.
أي: قالت مَلِكةُ سَبَأٍ لأشرافِ قَومِها: يا أيُّها الأشرافُ، أشيروا عليَّ، وبيِّنُوا لي: ماذا أفعَلُ في هذا الأمرِ [506] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/49)، ((الوسيط)) للواحدي (3/377)، ((تفسير السعدي)) (ص: 604)، ((تفسير ابن عاشور)) (19/262). ؟
مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ.
أي: ما كنتُ لأستبدَّ برأيي في أمرٍ عامٍّ ومُهمٍّ، حتى تحضُروا عندي وتُشيروا عليَّ فيه [507] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/50)، ((تفسير ابن كثير)) (6/189)، ((فتح البيان)) للقنوجي (10/40)، ((تفسير السعدي)) (ص: 604)، ((تفسير ابن عاشور)) (19/263، 264). .
قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ (33).
قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ.
أي: قال الأشرافُ الذين استشارَتْهم مَلِكةُ سَبأٍ: نحن أصحابُ قوَّةٍ بالمالِ والرِّجالِ والعَتادِ، وأصحابُ شدَّةٍ وعزمٍ في الحَربِ، فإن شئتِ أن نحارِبَ سُلَيمانَ فلا مانعَ لدينا [508] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/50)، ((تفسير البيضاوي)) (4/159)، ((تفسير أبي حيان)) (8/236)، ((تفسير ابن كثير)) (6/189)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (14/159)، ((تفسير السعدي)) (ص: 604)، ((تفسير ابن عاشور)) (19/264، 265)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة النمل)) (ص: 182). .
وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ.
أي: وقد فوَّضْنا الرأيَ إليكِ في قتالِ سُلَيمانَ أو مُسالَمتِه، ففكِّري فيما تأمُرينَنا به، ونحن على استعدادٍ لطاعتِك، وتنفيذِ أوامِرِك [509] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/50)، ((تفسير أبي حيان)) (8/236)، ((تفسير ابن كثير)) (6/189)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (14/159)، ((تفسير السعدي)) (ص: 604)، ((تفسير ابن عاشور)) (19/265)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة النمل)) (ص: 182، 183). قال أبو حيان: (قالوا: وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ، وذلك مِن حُسنِ مُحاورتِهم؛ إذ وكَّلوا الأمرَ إليها، وهو دَليلٌ على الطاعةِ المُفرِطةِ، أي: نحن ذكَرْنا ما نحن عليه، ومع ذلك فالأمرُ مَوكولٌ إليكِ، كأنَّهم أشاروا أوَّلًا عليها بالحَربِ، أو أرادوا: نحن أبناءُ الحَربِ لا أبناءُ الاستشارةِ، وأنتِ ذاتُ الرأيِ والتَّدبيرِ الحَسَنِ؛ فانظُري ماذا تأمُرين به، نرجِعْ إليك، ونتَّبِعْ رأيَكِ). ((تفسير أبي حيان)) (8/236). .
قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ (34).
قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا.
أي: قالت مَلِكةُ سَبأٍ: إنَّ الملوكَ إذا دخَلوا مدينةً بالقَهرِ والغَلَبةِ، نَهَبوها وخرَّبوها [510] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/51)، ((معاني القرآن)) للنحاس (5/130)، ((تفسير السعدي)) (ص: 604)، ((تفسير ابن عاشور)) (19/265). قال البقاعي: (قَالَتْ جوابًا لما أحسَّت في جوابِهم مِن مَيلِهم إلى الحَربِ: إنَّ الصوابَ مِن غيرِ ارتيابٍ أن نحتالَ في عدمِ قَصدِ هذا المَلِك المطاعِ، ثمَّ عَلَّلت هذا الذي أفهَمَه سياقُ كلامِها بقَولِها: إِنَّ الْمُلُوكَ أي: مُطلقًا، فكيف بهذا النافِذِ الأمرِ، العظيمِ القَدرِ؟!). ((نظم الدرر)) (14/159، 160). وقال ابن عثيمين: (والملوكُ إذا دخَلوا قريةً أفسَدوها؛ لأنَّ عندهم من العلُوِّ والغَلَبةِ والاستكبارِ ما يُوجِبُ أن يَفتِكوا بأهلِ البلَدِ الذي يدخلونَه، وليس المرادُ هنا بالإفسادِ الإفسادَ المعنويَّ، يعني: بإفسادِ الأخلاق مثلًا، المرادُ... الإفسادُ بالتخريبِ). ((تفسير ابن عثيمين- سورة النمل)) (ص: 184). .
وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً.
أي: وأهانوا كُبَراءَها وأشرافَها، باستِعبادِهم، أو إذلالِهم بالقَتلِ والأسرِ والنَّفيِ، وغيرِ ذلك من فنونِ الإهانةِ [511] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/51)، ((الوسيط)) للواحدي (3/377)، ((تفسير ابن كثير)) (6/171)، ((تفسير أبي السعود)) (6/284)، ((تفسير السعدي)) (ص: 604)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة النمل)) (ص: 184). قال ابن عاشور: (أبدتْ لهم رأيَها مفضِّلةً جانبَ السِّلمِ على جانبِ الحربِ، وحاذِرةً مِن الدُّخولِ تحت سلطةِ سليمانَ اختيارًا؛ لأنَّ نهايةِ الحربِ فيها احتمالُ أن ينتصرَ سليمانُ، فتصيرَ مملكةُ سبأٍ إليه، وفي الدُّخولِ تحتَ سلطةِ سليمانَ إلقاءٌ للمملكةِ في تصرُّفِه، وفي كِلا الحالين يحصلُ تصرُّفُ ملكٍ جديدٍ في مدينتِها، فعَلِمَتْ بقياسِ شواهدِ التاريخِ وبخبرةِ طبائعِ الملوكِ إذا تصرَّفوا في مملكةِ غيرِهم أن يقلبوا نظامَها إلى ما يُسايرُ مصالحَهم واطمئنانَ نفوسِهم مِن انقلابِ الأمَّةِ المغلوبةِ عليهم في فُرَصِ الضَّعفِ، أو لوائحِ الاشتغالِ بحوادثَ مهمَّةٍ). ((تفسير ابن عاشور)) (19/265). وقال ابنُ عثيمين: (وقَولُها: أَعِزَّةَ أَهْلِهَا سواءٌ كانت هذه العزَّةُ تعودُ إلى المُلْكِ، أو تعودُ إلى الجاهِ والشَّرَفِ، أو إلى العِلمِ أحيانًا، فإنَّهم يُسلَّطون على الأعِزَّةِ؛ لأنَّ لهم الكَلِمةَ فيما سبق، فهم الذين دبَّروا هذه الحروبَ ثم هُزِموا، فتكونُ رحى الحربِ عليهم). ((تفسير ابن عثيمين- سورة النمل)) (ص: 185). .
وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ.
أي: وتلك عادةُ الملوكِ إذا دخَلوا مدينةً بالقَهرِ والغَلَبةِ: أن يُفسِدوها، ويُذِلُّوا أعزَّةَ أهلِها [512] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/51)، ((الوسيط)) للواحدي (3/377)، ((تفسير الزمخشري)) (3/365)، ((تفسير ابن كثير)) (6/190)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (14/160)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة النمل)) (ص: 185). قيل: إنَّ هذه الجُملةَ وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ مِن كلامِ الله تعالى؛ تصديقًا وتأكيدًا لِقَولِها. وممَّن قال بذلك: مقاتلُ بنُ سليمان، وابنُ جرير، والزجاج، والواحدي، وابنُ كثير، ونسَبه السمعاني إلى أكثرِ المفسِّرينَ. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (3/304)، ((تفسير ابن جرير)) (18/51)، ((معاني القرآن)) للزجاج (4/119)، ((الوسيط)) للواحدي (3/377)، ((تفسير ابن كثير)) (6/190)، ((تفسير السمعاني)) (4/95). وعلى ذلك فهذه الجملةُ مِن (الموصولِ لفظًا، المفصولِ معنى)، أو ما يُسمَّى عندَ بعضِ العلماءِ: (المدرج). يُنظر: ((تفسير ابن الجوزي)) (2/447)، ((البرهان في علوم القرآن)) للزركشي (3/294)، ((الإتقان في علوم القرآن)) للسيوطي (1/309). وقيل: إنَّ هذه الجملةَ من بقيَّةِ كلامِ ملِكةِ سبأٍ، وليست معتَرِضةً من كلامِ الله سبحانَه. وممَّن اختار ذلك: الزمخشري، والبيضاوي، واستظهره أبو حيان، والسمين الحلبي، والبقاعي. يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/365)، ((تفسير البيضاوي)) (4/160)، ((تفسير أبي حيان)) (8/236)، ((الدر المصون)) للسمين الحلبي (8/611)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (14/160). .
وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ (35).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
لَمَّا بَيَّنَت ما في المصادمةِ مِن الخطرِ؛ أتبَعَتْه بما عَزَمَتْ عليه مِن المسالَمةِ بقَولِها [513] يُنظر: ((تفسير الشربيني)) (3/57). :
وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ (35).
أي: قالت مَلِكةُ سَبأٍ: وإنِّي باعثةٌ رسُلًا إلى سُلَيمانَ وقَومِه بهديَّةٍ عظيمةٍ [514] قال أبو حيان: (قد طوَّلوا في قَصَصِها بما لم يثبُتْ في القرآنِ ولا الحديثِ الصَّحيحِ). ((تفسير أبي حيان)) (8/227). ويُنظر: ((تفسير الرازي)) (24/555). ، فناظِرةٌ [515] قولها: فَنَاظِرَةٌ يحتملُ أن يكونَ مِنَ النَّظرِ، يعني: أنظُرُ بعْدَ إرسالِ الهديَّةِ: بِمَ يرجِعُ المُرسَلون؟ ويحتملُ أن يكونَ من الانتظار، فَنَاظِرَةٌ أي: فمُنتظِرةٌ. يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة النمل)) (ص: 188). ممَّن ذهب إلى المعنى الأوَّلِ: ابنُ جرير، والسمرقندي، ومكِّي، وابن كثير، وابنُ عثيمين. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/56)، ((تفسير السمرقندي)) (2/581)، ((الهداية إلى بلوغ النهاية)) لمكي (8/5423)، ((تفسير ابن كثير)) (6/190)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة النمل)) (ص: 188). وممَّن ذهب إلى المعنى الثاني: القرطبيُّ، والنسفي، والقاسمي، وابنُ عاشور. يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (13/200)، ((تفسير النسفي)) (2/604)، ((تفسير القاسمي)) (7/491)، ((تفسير ابن عاشور)) (19/267). ما سترجِعُ به رسُلي من خبرِ وحالِ سُلَيمانَ وقَومِه، وهل يقبَلُ هديَّتَنا ومهادنَتَنا، أو يُصِرُّ على أمرِه بالإتيانِ إليه مُسلِمينَ [516] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/52، 56)، ((تفسير القرطبي)) (13/196، 198)، ((تفسير البيضاوي)) (4/160)، ((تفسير ابن كثير)) (6/190)، ((تفسير السعدي)) (ص: 604)، ((تفسير ابن عاشور)) (19/266، 267)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة النمل)) (ص: 188-190). واختُلِف فيما قصَدت بهديتِها؛ فقيل: قصَدت الملاطفةَ والاستنزالَ، ذكَره قَتادةُ. وقيل: قصَدت اختبارَ نُبوَّتِه مِن مُلكِه، وأنَّها اختبرتْه بالقَبولِ والرَّدِّ، فقالت: إنْ قَبِل الهديَّةَ فهو مَلِكٌ، فقاتِلوه على ملكِكم، وإن لم يقبَلِ الهديَّةَ فهو نبيٌّ، لا طاقةَ لكم بقتالِه، قاله ابنُ عبَّاسٍ وزهيرٌ. وقيل غيرُ ذلك. يُنظر: ((تفسير الماوردي)) (4/209). .
فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آَتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آَتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ (36).
فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ.
أي: فلمَّا وصَلَ وَفدُ مَلِكةِ سَبأٍ إلى سُلَيمانَ بالهَدايا، أنكرَ عليهم عدَمَ مجيئِهم إليه مُسلِمين كما أمَرَهم، وقال لهم مُتغيِّظًا: أتُعطونني مالًا لأتركَكم على شِركِكم [517] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (6/191)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (14/161)، ((تفسير السعدي)) (ص: 605)، ((تفسير ابن عاشور)) (19/267، 268). ؟!
فَمَا آَتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آَتَاكُمْ.
أي: فما أعطاني اللهُ من النبُوَّةِ والمُلكِ والأموالِ ونعيمِ الدُّنيا: أفضَلُ مِمَّا أعطاكم [518] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/58)، ((تفسير القرطبي)) (13/201)، ((تفسير ابن كثير)) (6/191)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (14/162)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة النمل)) (ص: 194). .
بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ.
أي: أنا لا أفرَحُ بهديَّتِكم هذه، ولا أقبَلُ منكم إلَّا الإسلامَ، ولكِنْ أنتم الذين تفْرَحونَ بما يُهْدَى إليكم [519] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/58)، ((الوسيط)) للواحدي (3/377)، ((تفسير ابن كثير)) (6/191)، ((تفسير السعدي)) (ص: 605)، ((تفسير ابن عاشور)) (19/269)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة النمل)) (ص: 194). قال الرازي: (أمَّا قولُه: بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ ففيه ثلاثةُ أوجهٍ؛ أحدُها: أَنَّ ... المعنَى أنَّ اللهَ تعالَى آتاني الدِّينَ الَّذي هو السَّعادةُ القُصْوى، وآتاني مِنَ الدُّنيا ما لا مَزيدَ عليه، فكيف يُستمالُ مِثْلي بمِثلِ هذه الهديَّةِ؟! بل أنتم تفرحونَ بما يُهْدَى إليكم، لكنَّ حالي خلافُ حالِكم. وثانيها: بل أنتم بهديَّتِكم هذه الَّتي أهدَيْتُموها تفرحونَ مِن حيثُ إِنَّكم قدَرْتُم على إهداءِ مِثْلِها. وثالثُها: كأنَّه قال: بل أنتم مِن حَقِّكم أنْ تأخُذوا هديَّتَكم وتَفْرَحوا بها). ((تفسير الرازي)) (24/555). ممَّن اختار أنَّ المعنى: بل أنتم تفرحون بالهَديَّةِ الَّتي تُهدى إليكم: مقاتلُ بن سليمان، وابن جرير، والسمرقندي، والواحدي، والسمعاني، والبغوي، وابن الجوزي، والخازن، والألوسي، وابن عثيمين. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (3/306)، ((تفسير ابن جرير)) (18/58)، ((تفسير السمرقندي)) (2/582)، ((الوسيط)) للواحدي (3/377)، ((تفسير السمعاني)) (4/97)، ((تفسير البغوي)) (3/504)، ((تفسير ابن الجوزي)) (3/362)، ((تفسير الخازن)) (3/346)، ((تفسير الألوسي)) (10/195)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة النمل)) (ص: 194). وممَّن اختار أن هذا توبيخٌ لهم بفرحهم بهذه الهَديَّةِ فرَحَ فخرٍ وخُيلاءٍ وامتِنانٍ واعتدادٍ بها: أبو السعود، والشوكانيُّ. يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/285)، ((تفسير الشوكاني)) (4/159). .
ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ (37).
ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا.
أي: قال سُلَيمانُ لأميرِ الوفدِ: ارجِعْ إلى مَن أرسَلَك بهذه الهَديَّةِ، فإنْ لم يأتُوا إليَّ مُسلِمينَ فسأُرسِلُ إليهم جُنودًا لا طاقةَ لهم بقِتالِهم [520] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/58، 59)، ((تفسير السمرقندي)) (2/582)، ((بيان تلبيس الجهمية)) لابن تيمية (7/81)، ((تفسير ابن كثير)) (6/191)، ((تفسير الشوكاني)) (4/159). .
وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ.
أي: ولَنُخرِجنَّهم من أرضِهم أذلَّاءَ مُهانينَ إنْ لم يأتوني مُسلِمينَ [521] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/59)، ((تفسير القرطبي)) (13/201، 202)، ((تفسير البيضاوي)) (4/160)، ((تفسير ابن كثير)) (6/191)، ((تفسير ابن عاشور)) (19/269). قال ابنُ عُثيمين: (قولُه: وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً فنحتَلُّ بلادَهم ونخرِجُهم منها أذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ الفَرقُ بين الذِّلَّةِ والصَّغارِ: الذِّلَّةُ: الذُّلُّ في النفْسِ، والصَّغارُ: في البدنِ، يعني: يكون مُستَسْلِمًا باطنًا بالذُّلِّ؛ قال الله تعالى: وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ [الشورى: 45]، فالخشوعُ بمعنى الصَّغارِ، والذُّلُّ: هو ذُلُّ النفْسِ. والعياذُ بالله). ((تفسير ابن عثيمين- سورة النمل)) (ص: 198). وقال العسكري: (الصَّغارُ هو الاعترافُ بالذُّلِّ، والإقرارُ به، وإظهارُ صِغَرِ الإنسانِ). ((الفروق اللغوية))  (ص: 249). ويُنظر: ((المفردات في غريب القرآن)) للراغب (ص: 485). .

الفَوائِدُ التَّربويَّةُ:

1- في قَولِه تعالى: قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ المشاورةُ والاستعانةُ بالآراءِ في الأمورِ المهمَّةِ [522] يُنظر: ((الإكليل في استنباط التنزيل)) للسيوطي (ص: 202). ، فهي مع أنَّها مَلِكةٌ، ولها تمامُ السُّلطةِ؛ فمع ذلك لم تستغْنِ عن المُشاورةِ [523] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة النمل)) (ص: 181). قال ابنُ عاشور: (شأن القرآنِ فيما يَذكرُه مِن القَصَصِ أنْ يذكرَ المهِمَّ منها للمَوعِظةِ أو للأُسوةِ... فلذلك يُستروَحُ مِن سياقِ هذه الآيةِ حسنُ الشُّورَى). ((تفسير ابن عاشور)) (19/264). .
2- في قَولِه تعالى: وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ أنَّه إذا قَدَّمَ المستشارُ مشورتَه لإنسانٍ أكبرَ منه قدرًا أو فهمًا أو عِلمًا؛ أنَّ له أن يقولَ مثلَ هذا تأدُّبًا، وصاحِبُه بالخيارِ: إنْ شاء أخَذَ بمشورتِه، وإنْ شاء لم يأخُذْ [524] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة النمل)) (ص: 183). .
3- في قَولِه تعالى: فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آَتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آَتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ دَليلٌ على جوازِ الغِلظةِ في القَولِ إذا كانتِ المصلحةُ فيه؛ لأنَّ هذا الأسلوبَ مِن سُلَيمانَ صلَّى الله عليه وسلَّمَ أُسلوبٌ قويٌّ؛ إِذْ إنَّ الاستفهامَ في قَولِه: أَتُمِدُّونَنِ للتَّوبيخِ والتعجيبِ، يعني أنَّه يُوَبِّخُهم على فِعلِهم، ويَتَعَجَّبُ مِن فِعلِهم: كيف يُمِدُّونه بمالٍ وهو مَلِكٌ ومعروفٌ ومشهورٌ [525] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة النمل)) (ص: 195). ؟!
والعاقلُ يعرِفُ مظانَّ الغضبِ لله تعالى فيغضبُ فيها، ويعرِفُ مظانَّ التلطفِ فيتلطَّفُ فيها، ألَا ترَى أنَّ سليمانَ عليه السلامُ قال: أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ [النمل: 31] ، فلمَّا لم تُجِبْهُ بِلقيسُ وغالَطَتْه بالهدية قال: ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ [النمل: 37] .
وجميعُ الرُّسلِ إذا استُقرِئ أمرُهم في بَدءِ الإرسالِ وجدْتَ فيه الرِّفقَ واللينَ والشفقةَ على قومِهم، فإذا أصرُّوا وعانَدوا أغلَظوا لهم حينَئذٍ؛ لِما ركَّب الله تعالى في رسلِه مِن العقولِ الوافرةِ، والأحلامِ الكاملةِ: اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ [الأنعام: 124] ، حيثُ يجعلُ رسالتَه بخلافِ الغبيِّ الذي يلينُ في مواطنِ الإغلاظِ، ويُغلظُ في مظانِّ اللين، معتقدًا أنَّه مقتدٍ بالرسلِ في غلظتِهم ولينِهم! فنعوذُ بالله مِن الجهلِ بمظانِّ خطابِه، ومِن تحريفِ كلامِه، وتنزيلِه على غيرِ مرادِه [526] يُنظر: ((شجرة المعارف والأحوال)) للعز بن عبد السلام (ص: 194، 195). .

الفَوائِدُ العِلميَّةُ واللَّطائِفُ:

1- في قَولِه تعالى: كِتَابٌ كَرِيمٌ أنَّ كَرَمَ كلِّ شيءٍ بحسبِه، فالكرمُ بالمالِ معناه: بذْلُه بسخاءٍ، والكريمُ مِن المالِ يُطلَقُ على الجيدِ منه، كما قال النَّبِيُّ صلَّى الله عليه وسلَّمَ: ((وإياك وكرائمَ أموالِهم )) [527] أخرجه البخاري (1496)، ومسلم (19) مطولًا من حديث ابن عباس رضي الله عنهما. ، وكذلك أيضًا يُوْصَفُ بالكَرَمِ ما يتضمَّنُ الشيءَ المهمَّ؛ كما في هذا الوصفِ في كتابِ سُلَيمانَ عليه الصلاةُ والسلامُ [528] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة النمل)) (ص: 174). .
2- في قَولِه تعالى: إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ استحبابُ ابتداءِ الكتبِ بالبَسملةِ كامِلةً [529] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 604). .
3- في قَولِه تعالى: إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ سؤالٌ؛ لِمَ قَدَّمَ سُلَيمانُ اسمَه على البسملةِ؟
الجوابُ: أنه لم يقعْ منه ذلك! بلِ ابتدأَ الكتابَ بالبسملةِ، وإنما كَتَب اسمَه عنوانًا بعدَ ختْمِه لأنَّ بلقيسَ إنما عرَفتْ كونَه مِن سُلَيمانَ بقراءةِ عنوانِه كما هو المعهودُ، ولذلك قالتْ: (إِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) أي: إنَّ الكتابَ، فالتقديمُ واقعٌ في حكايةِ الحالِ [530] يُنظر: ((تفسير الشربيني)) (3/56). قال ابن عاشور: (وقَولُه: إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ هو مِن كلامِ المَلِكةِ ابتدأتْ به مخاطَبةَ أهلِ مَشورتِها؛ لإيقاظِ أفهامِهم إلى التدبُّرِ في مغزاه؛ لأنَّ اللائِقَ بسُليمانَ ألَّا يقَدِّمَ في كتابِه شَيئًا قبل اسمِ الله تعالى، وأنَّ معرفةَ اسم سُليمانَ تُؤخَذُ مِن خَتْمِه، وهو خارِجُ الكتابِ؛ فلذلك ابتدأتْ به أيضًا). ((تفسير ابن عاشور)) (19/259). ويُنظر: ((صبح الأعشى)) للقَلْقَشَنْدي (6/214). .
4- في قَولِه تعالى: أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ دَليلٌ على قُوَّةِ سُلَيمانَ عليه الصَّلاةُ والسلامُ؛ لأنه لم يَقُلْ: (وأسلِموا)، بل قال: وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ فطَلَبَ منهم أنْ يأتوا إليه وهم على الإسلامِ [531] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة النمل)) (ص: 178). .
5- استعمالُ الإيجازِ إذا لم يكنْ فيه تقصيرٌ؛ لأنَّ هذا الكتابَ الذي كتَبه سُلَيمانُ هو في غايةِ ما يكونُ مِن الإيجازِ؛ جملتان فقط: أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ، ولكنْ بشرطِ أَلَّا يكونَ الإيجازُ مُخِلًّا بالمقصودِ، فإنْ كان مُخِلًّا بالمقصودِ صار تقصيرًا [532] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة النمل)) (ص: 177). .
6- قولُه: أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ فيه عرضُ الإسلامِ على الكفَّارِ، وفي هذا إحسانٌ إليهم بالتوسُّلِ إلى نقلِهم مِن الكفرِ إلى الإيمان، ومِن أسبابِ السَّخطِ إلى أسبابِ الرِّضوانِ [533] يُنظر: ((شجرة المعارف والأحوال)) للعز بن عبد السلام (ص: 294). .
7- قولُه: أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ، جمَعَ فيه سُليمانُ بيْنَ دَعوتِها إلى مُسالَمَتِه وطاعتِه، وذلك تَصرُّفٌ بصِفَةِ المُلْكِ، وبيْن دَعوةِ قَومِها إلى اتِّباعِ دِينِ التَّوحيدِ، وذلك تصرُّفٌ بالنُّبوَّةِ؛ لأنَّ النَّبيَّ يُلْقِي الإرشادَ إلى الهُدى حيثما تَمكَّنَ منه، كما قال شُعيبٌ: إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ [هود: 88] ، وهذا نَظيرُ قولِ يُوسفَ لصاحِبَيِ السِّجْنِ: أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ [يوسف: 39] الآيةَ. وإنْ كان لم يُرسَلْ إليهم؛ فالأنبياءُ مأْمُورون أمْرًا عامًّا بالإرشادِ إلى الحقِّ، وكذلك دُعاءُ سُليمانَ هنا [534] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (19/260، 261). .
8- في قَولِه تعالى: وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ جوازُ الاختبارِ والامتحانِ، وأنَّ ذلك لا يُعَدُّ خديعةً إذا أراد الإنسانُ أنْ يَمتحِنَ غيرَه بشيءٍ مِن الأشياءِ؛ لأنَّه يريدُ أنْ يستظهِرَ به حالَه، وهذا لا مانِعَ منه [535] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة النمل)) (ص: 191). وهذا ليس على إطلاقِه، إنَّما هو مقيَّدٌ بالمصلحةِ والفائدةِ المترتِّبةِ على هذا الاختبارِ. يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة النمل)) (ص: 228). .
9- في قَولِه تعالى: وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ العَمَلُ بالقرائنِ، لأنَّها أرادتْ أنْ تُوصِلَ هذه الهديةَ؛ لِتختبرَ مرادَ سُلَيمان: هل يريدُ المالَ فقط فتكفيه هذه الهديةُ، أو يريدُهم أن يُسلِموا فلا تنفَعُ فيه هذه الهديةُ، ولا يَكُفُّ عن طلبِه الأولِ، وهو قَولُه: أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ [536] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة النمل)) (ص: 191). .
10- وقولُه تعالى إخبارًا عن بِلْقيسَ: وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ يَدلُّ على تَعدُّدِ رُسُلِها إلى سُليمانَ، وقولُه: فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ بإفرادِ فاعلِ جَاءَ، وقولُه تعالى -إخبارًا عن سُليمانَ أنَّه قال-: ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ الآيةَ؛ يَدلُّ على أنَّ الرَّسولَ واحدٌ؟
والظَّاهرُ في الجوابِ هو ما ذَكَرَه غيرُ واحدٍ: مِن أنَّ الرُّسُلَ جَماعةٌ وعليهم رئيسٌ منهم، فالجمْعُ نظَرًا إلى الكلِّ؛ والإفرادُ نَظرًا إلى الرَّئيسِ؛ لأنَّ مَن معه تَبَعٌ له، والعِلْمُ عندَ اللهِ تعالى [537] يُنظر: ((دفع إيهام الاضطراب)) للشنقيطي (ص: 175)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة النمل)) (ص: 193). .
أو يُقالُ: إنَّ قَولَه تعالى فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ معناه: فلما جاء الرَّسولُ، دلَّ عليه قولُه: وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ [النمل: 35] ، فالإرسالُ يقتضي رسولًا، والرَّسولُ لفظُه مُفرَدٌ ويَصدُقُ بالواحِدِ والجماعةِ.
 وأيضًا: فإنَّ هدايا الملوكِ يَحمِلُها رَكبٌ، فيجوزُ أن يكونَ فاعِلُ جَاءَ الرَّكبَ المعهودَ في إرسالِ هدايا أمثالِ الملوكِ [538] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (19/267). .
11- قال تعالى: فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آَتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آَتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ، قال: جَاءَ وهو مفردٌ مع أنَّهم كانوا جماعةً؛ لأنَّ الذي خاطَب سليمانَ وقدَّم الهديةَ هو رئيسُهم، وفيه أنَّ مِن المستحسَنِ أنْ يَتقدَّمَ الرئيسُ -رئيسُ الوفدِ أو القومِ- بالكلامِ أو الفعلِ إذا كان مكلَّفًا بالفِعلِ، المهمُّ أنْ يكونَ المتقدِّمُ الرَّئيسَ؛ لأنَّ تقَدُّمَ الجَميعِ دَفعةً واحِدةً غيرُ لائقٍ؛ لضياعِ المسؤوليةِ، فلا بدَّ أن يتقَدَّمَ واحِدٌ، وكلَّما حُصِرَ الأمرُ كان أقرَبَ إلى الفَهمِ وإلى حصولِ المقصودِ؛ لِقَولِه: قَالَ [539] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة النمل)) (ص: 194). .
12- في قَولِه تعالى: فَمَا آَتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آَتَاكُمْ دَليلٌ على أنَّه يجوزُ للإنسانِ أنْ يَتحدَّثَ بنعمةِ اللهِ على سبيلِ الافتخارِ معَ العدوِّ، ولذلك تجوزُ الخُيَلاءُ في الحربِ، مع أنَّ الخُيَلاءَ مُحرَّمَةٌ ومِن الكبائرِ، لكنْ في الحربِ لإغاظةِ العدوِّ فلا بأسَ بها [540] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة النمل)) (ص: 195). .
13- قوله تعالى: ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا فيه إظهارُ القوَّةِ للأعداءِ، وتخويفُ أهلِ الحربِ وإرهابُهم، فهذا التَّهديدُ والوعيدُ لا شكَّ أنَّه مَظهَرُ قوَّةٍ، فيكونُ داخلًا في قَولِه تعالى: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ [الأنفال: 60] ؛ فإنَّ قولَه: مِنْ قُوَّةٍ نكرةٌ تشملُ كلَّ ما يمكِنُ مِن القوى -سواءً كانتِ القوةُ قوليةً أو ماديةً أو معنويةً- المهمُّ أنَّ جميعَ القوى في معاملةِ الأعداءِ ينبغي للمرءِ أنْ يَستعمِلَها [541] يُنظر: ((شجرة المعارف والأحوال)) للعز بن عبد السلام (ص: 294)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة النمل)) (ص: 199). .
14- قَولُه: فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ فيه الرَّدُّ على الجبريةِ، وأنَّ الإنسانَ يَفعَلُ باختيارِه [542] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة النمل)) (ص: 202). .
15- قَولُه: فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا فيه كثرةُ جنودِ سُلَيمانَ؛ لأنَّ هذه الملِكةَ لها العرشُ العظيمُ، وعندها القومُ المطيعون الذَّليلون لأوامرِها، ومع ذلك فيقولُ: فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا، وجنودُه ثلاثةُ أصنافٍ: الجِنُّ والإنسُ والطيرُ، هذه كلُّها يَمكن أنْ يُسلِّطَها عليهم، ولا قِبَلَ لهم بها، فالحاصِلُ: أنَّ الجنودَ التي لسُلَيمان لا يمكِنُ لهؤلاء أن يقابِلوها لا كميَّةً ولا كيفيَّةً [543] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة النمل)) (ص: 201). .
16- قال الله تعالى: ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً لَمَّا كان الذُّلُّ قد يكونُ لمجرَّدِ الانقيادِ لا على سَبيلِ الهوانِ، حقَّقَ المرادَ بقَولِه: وَهُمْ صَاغِرُونَ أي: لا يَملِكون شيئًا مِن المنَعةِ إنْ لم يُقِرُّوا بالإسلامِ [544] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (14/163). .

بلاغةُ الآياتِ:

1- قولُه تعالى: قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ جُملةٌ مُستأنفةٌ استئنافًا بَيانيًّا؛ لأنَّ غرابةَ قصَّةِ إلْقاءِ الكتابِ إليها يُثِيرُ سُؤالًا عن شأْنِها حين بلَغَها الكِتابُ [545] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (19/258). .
- وقد طُوِيَت أخبارٌ كَثيرةٌ دَلَّ عليها ما بيْن الخَبرينِ المذكورينِ مِن اقْتضاءِ عِدَّةِ أحداثٍ؛ إذ التَّقديرُ: فأخَذ الهُدهُدُ الكِتابَ وذهَبَ به إلى سبَأٍ، فلمَّا ألْقاهُ إلى المرأةِ وهي في مَجلسِ مُلْكِها وقرَأَتْه؛ قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ ... إلخ، وإنَّما طُوِيَ ذِكْرُه؛ إيذانًا بكَمالِ مُسارَعتِه إلى إقامةِ ما أُمِرَ بهِ مِن الخدمةِ، وإشعارًا باستغنائِه عن التَّصريحِ به؛ لغَايةِ ظُهورِه [546] يُنظر: ((المثل السائر)) للضياء ابن الأثير (2/83)، ((تفسير أبي حيان)) (8/233)، ((تفسير أبي السعود)) (6/283)، ((تفسير ابن عاشور)) (19/258). .
2- قولُه تعالى: إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ استِئنافٌ وتَبْيينٌ لِمَا أُلْقِيَ إليها؛ كأنَّه قِيل لها: ممَّن هو؟ وما هو؟ فقالت:...؛ فأَبْهَمَتْ أوَّلًا ثمَّ فسَّرَت [547] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/363)، ((تفسير البيضاوي)) (4/159)، ((تفسير أبي حيان)) (8/234)، ((تفسير أبي السعود)) (6/283). .
- قولُه: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ استِفتاحٌ شريفٌ بارِعُ المعنى، مَبدوءٌ به في الكُتبِ في كلِّ لُغةٍ، وكلِّ شَرعٍ [548] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (8/234). .
- قولُه: إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ التَّأكيدُ بـ (إنَّ) في الموضعينِ يُتَرجِمُ عمَّا في كلامِهما باللُّغةِ السَّبائيَّةِ مِن عباراتٍ دالَّةٍ على اهتمامِها بمُرسِلِ الكتابِ وبما تَضمَّنَه الكتابُ، اهتمامًا يُؤَدَّى مِثْلُه في العربيَّةِ الفُصْحى بحَرفِ التَّأكيدِ الَّذي يَدلُّ على الاهتمامِ في مَقامٍ لا شكَّ فيه [549] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (19/259). .
3- قوله تعالى: أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ
- قولُه: أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ نَهْيٌ مُستعمَلٌ في التَّهديدِ؛ ولذلك أتْبَعَتْه مَلِكةُ سبَأٍ بقولِها: يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي [550] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (19/262). [النمل: 32] .
- وقولُه: وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ كَلامٌ في غايةِ الوَجازةِ، مع كَمالِ الدَّلالةِ على المقصودِ؛ لاشتِمالِه على البَسملةِ الدَّالَّةِ على ذاتِ الخالِقِ تعالى وصِفاتِه صَريحًا أو الْتِزامًا، والنَّهيِ عن التَّرفُّعِ الَّذي هو أُمُّ الرَّذائلِ، والأمْرِ بالإسلامِ الجامعِ لِأمَّهاتِ الفَضائلِ، وليس الأمْرُ فيه بالانقيادِ قبْلَ إقامةِ الحُجَّةِ على رِسالتِه حتَّى يكونَ استدعاءً للتَّقليدِ؛ فإنَّ إلْقاءَ الكتابِ إلَيها على تلك الحالةِ مِن أعظمِ الدَّلالةِ [551] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (4/159). .
- وكان كتابُ سُليمانَ وَجيزًا؛ لأنَّ ذلك أنسَبُ بمُخاطَبةِ مَن لا يُحسِنُ لُغةَ المُخاطِبِ، فيَقتصِرُ له على المقصودِ؛ لإمكانِ تَرجمَتِه وحُصولِ فَهْمِه، فأحاطَ كِتابُه بالمقصودِ، وهو تَحذيرُ مَلَكةِ سبَأٍ مِن أنْ تُحاوِلَ التَّرفُّعَ على الخُضوعِ إلى سُليمانَ والطَّاعةِ له [552] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (19/260). .
4- قوله تعالى: قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ
- قولُه: قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي جُملةٌ مُستأنفةٌ استِئنافًا بَيانيًّا [553] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (19/262). ، وكُرِّرت حِكايةُ قولِها: قَالَتْ؛ للإيذانِ بغايةِ اعتِنائِها بما في حَيِّزِه مِن قولِها [554] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/284). .
- قولُها: أَفْتُونِي عبَّرَتْ عن الجَوابِ بالفَتوى الَّتي هي الجَوابُ في الحَوادثِ المُشكلةِ غالبًا؛ تَهْويلًا للأمْرِ، ورَفْعًا لِمَحلِّهم بالإشعارِ بأنَّهم قادِرونَ على حَلِّ المُشكِلاتِ المُلمَّةِ [555] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/284). .
- وصِيغةُ مَا كُنْتُ قَاطِعَةً تُؤْذِنُ بأنَّ ذلك دأْبُها وعادتُها معهم؛ فكانتْ عاقلةً حَكيمةً مُسْتَشيرةً، لا تُخاطِرُ بالاستِبدادِ بمَصالحِ قَومِها، ولا تُعرِّضُ مُلْكَها لِمَهاوي أخطاءِ المُستبِدِّين [556] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (19/263). .
- وفي قولِها: حَتَّى تَشْهَدُونِ كِنايةٌ عن معنى: تُوافِقُوني فيما أقْطَعُه، أي: يَصدُرُ منها في مَقاطعِ الحُقوقِ والسِّياسةِ: إمَّا بالقَولِ، كما جَرَى في هذه الحادثةِ، وإمَّا بالسُّكوتِ وعَدمِ الإنكارِ؛ لأنَّ حُضورَ المعدودِ للشُّورَى في مكانِ الاستشارةِ مُغْنٍ عن استشارتِه؛ إذ سُكوتُه مُوافقةٌ [557] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (19/264). ، وأيضًا فِعلُ تَشْهَدُونِ هنا مُستعمَلٌ كِنايةً عن المُشاورةِ؛ لأنَّها يَلزَمُها الحُضورُ غالِبًا؛ إذ لا تَقَعُ مُشاورَةٌ مع غائِبٍ [558] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (19/263). .
5- قوله تعالى: قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ
- قولُه: قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ استِئنافٌ مَبْنيٌّ على سُؤالٍ نشَأَ مِن حِكايةِ قولِها؛ كأنَّه قِيلَ: فماذا قالوا في جوابِها؟ فقيل: قالوا: ... [559] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/284). .
- وهو جوابٌ بأُسلوبِ المُحاورةِ؛ فلذلك فُصِلَ عمَّا قبْلَه ولم يُعطَفْ عليه، كما هي طريقةُ المُحاوَراتِ [560] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (19/264). .
- وفي قولِهم: نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ إيجازٌ عجيبٌ؛ فهو -أوَّلًا- يَدلُّ على تَعظيمِ المَشورةِ، وتَعظيمِ بِلْقيسَ أمْرَ المُستشارِ. ويَدلُّ -ثانيًا- على تَعظيمِهم أمْرَها وطاعتَها. وفي قولِهم: وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ وقولِهم: فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ إيجازٌ يُسكِرُ الألبابَ؛ فإنَّ الكلامَ قد يُفسِدُه الاختصارُ، ويُعْمِيه التَّخفيفُ منه والإيجازُ، وهذا ممَّا يَزِيدُه الاختصارُ بَسْطًا؛ لِتَمكُّنِه ووُقوعِه مَوقِعَه، ويَتضمَّنُ الإيجازُ منه تَصرُّفًا يَتجاوَزُ مَحلَّه ومَوضِعَه [561] يُنظر: ((إعجاز القرآن)) للباقلاني (ص 192)، ((الجدول في إعراب القرآن)) لمحمود صافي (19/162)، ((إعراب القرآن وبيانه)) لدرويش (7/204، 205). .
- وحُذِفَ مَفعولُ تَأْمُرِينَ ومُتعلَّقُه؛ لظُهورِهما مِن المَقامِ، والتَّقديرُ: ما تأْمُرينَنا به، أي: إنْ كان رأيُكِ غيرَ الحربِ، فمُرِي به نُطِعْكِ [562] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (19/265) .
6- قوله تعالى: قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ
- قولُها: إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا فيه افتِتاحُ الجُملةِ بحَرفِ التَّأكيدِ (إنَّ)؛ للاهتِمامِ بالخبرِ وتَحقيقِه [563] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (19/266). .
- قولُها: إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا ... استِدلالٌ بشواهدِ التَّاريخِ الماضي، وجُملةُ وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ استِدلالٌ على المُستقبَلِ بحُكمِ الماضي على طَريقةِ الاستِصحابِ، وهو كالنَّتيجةِ للدَّليلِ الَّذي في قولِه: إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا، وهذا الكلامُ مُقدِّمةٌ لِمَا ستُلْقِيه إليهم مِن عَزْمِها، ويَتضمَّنُ تَعليلًا لِمَا عَزَمَتْ عليه [564] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (19/266). .
- قولُه:   وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ تأكيدٌ لِمَا وصَفَتْ مِن حالِهم، وتَقريرٌ بأنَّ ذلك مِن عاداتِهم الثَّابتةِ المُستمرَّةِ. ويجوزُ أنْ يكونَ هذا الكلامُ خبرًا عن اللهِ تعالى؛ فيَعترِضُ بيْن جُمَلِ ما يُحْكَى تَصديقًا لها. ويَجوزُ أنْ يكونَ مِن الحِكايةِ على معنى: إنَّ الملوكَ تأثِيرُهم في القُرَى الَّتي يَدخُلونها تَخريبُها، وكذلك يَفعَلُ هؤلاء، يعني: سُليمانُ عليه السَّلامُ وخَيلُه؛ فعَلَى الوجهينِ الأوَّلينِ تكونُ الجُملةُ تَذييلًا [565] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/364)، ((تفسير البيضاوي)) (4/160)، ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (11/521، 522)، ((تفسير أبي السعود)) (6/284). .
7- قوله تعالى: وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ
- قولُه: وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ تَقْريرٌ لرَأْيِها بعْدَما زَيَّفَتْ آراءَهم، وأتتْ بالجُملةِ الاسميَّةِ الدَّالَّةِ على الثَّباتِ، المُصدَّرةِ بحَرفِ التَّحقيقِ؛ للإيذانِ بأنَّها مُزْمِعةٌ على رأْيِها، لا يَلْوِيها عنه صارفٌ، ولا يَثْنيها عاطفٌ [566] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/284). .
- ومفعولُ مُرْسِلَةٌ مَحذوفٌ تقديرُه: مُرسِلةٌ إليهم كتابًا ووَفْدًا مَصحوبًا بهَديَّةٍ؛ إذ لا بُدَّ أنْ يكونَ الوفدُ مَصحوبًا بكتابٍ تُجِيبُ به كِتابَ سُليمانَ؛ فإنَّ الجوابَ عن الكتابِ عادةٌ قديمةٌ [567] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (19/266). .
- قولُه: فَنَاظِرَةٌ اسمُ فاعلٍ مِن (نَظَرَ) بمعنَى: انْتظَرَ، أي: مُترقِّبةٌ -على أحدِ القولينِ في معناها-؛ فتكونُ جُملةُ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ مُبيِّنةً لجُملةِ فَنَاظِرَةٌ، أو مُستأنفةً. وأصْلُ النَّظمِ: فناظِرةٌ ما يَرجِعُ المُرسَلون به، فغُيِّرَ النَّظمُ؛ لمَّا أُرِيدَ أنَّها مُتردِّدةٌ فيما يَرجِعُ به المُرسَلون [568] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (19/267). .
8- قوله تعالى: فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آَتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آَتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ
- قولُه: فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ في الكَلامِ حَذْفٌ تَقديرُه: فأرْسَلَتِ الهديَّةَ، فلمَّا جاء... [569] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (8/237).
- الاستِفهامُ في قولِه: أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ إنكاريٌّ؛ لأنَّ حالَ إرسالِ الهديَّةِ، والسُّكوتِ عن الجوابِ يَقْتَضي مَحاولةَ صَرفِ سُليمانَ عن طَلبِ ما طلَبَه بما بُذِلَ له مِن المالِ؛ فيَقْتَضي أنَّهم يَحسَبونه مُحتاجًا إلى مِثْلِ ذلك المالِ، فيَقتنِعُ بما وُجِّهَ إليه. وفيه تَوبيخٌ لهم بذلك [570] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (8/237)، ((تفسير أبي السعود)) (6/285)، ((تفسير ابن عاشور)) (19/268). .
- وتَنكيرُ مالٍ في قولِه: أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ للتَّحقيرِ [571] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/285). .
- قولُه: فَمَا آَتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آَتَاكُمْ الفاءُ لِتَفريعِ الكلامِ الَّذي بعْدَها على الإنكارِ السَّابقِ، أي: أنكَرْتُ عليكم ظَنَّكم فَرَحي بما وَجَّهْتُم إليَّ؛ لأنَّ ما أعْطاني اللهُ خيرٌ ممَّا أعْطاكم، أي: هو أفضلُ منه في صِفاتِ الأموالِ مِن نَفاسةٍ ووَفْرةٍ. وسَوقُ التَّعليلِ يُشعِرُ بأنَّه عَلِمَ أنَّ المَلِكةَ لا تَعلَمُ أنَّ لَدى سُليمانَ مِن الأموالِ ما هو خيرٌ ممَّا لَدَيْها؛ لأنَّه لو كان يَظنُّ أنَّها تَعلمُ ذلك لَمَا احتاجَ إلى التَّفريعِ. وهذا مِن أسرارِ الفرْقِ في الكلامِ البليغِ بيْن الواوِ والفاءِ في هذه الجُملةِ؛ فلو قال: (وما آتاني اللهُ خيرٌ ممَّا آتاكم)، لكانَ مُشعِرًا بأنَّها تَعلَمُ ذلك؛ لأنَّ الواوَ تكونُ واوَ الحالِ [572] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/366)، ((تفسير أبي حيان)) (8/237)، ((تفسير ابن عاشور)) (19/268). .
- وقيل: الفاءُ هاهنا في قولِه: فَمَا آَتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آَتَاكُمْ مُستعمَلٌ للتَّرتيبِ والتَّعقيبِ، كأنَّه قال: لا أقبَلُ إمدادَك بمالٍ، فقال المُخاطَبُ: لِمَ لا تَقبَلُ؟ فأُجِيبَ: لأنِّي أغْنَى منك؛ فلمَّا كان هذا الجوابُ مُرتَّبًا على السُّؤالِ، ومُعَقبًا له، تُرِكَ السُّؤالُ وجِيءَ بالفاءِ. وقيل: الفاءُ للتَّسبيبِ؛ فالمُنكَرُ الجُملةُ الأُولى، والثَّانيةُ عِلَّةُ الإنكارِ، ولا يجِبُ أنْ تكونَ العلَّةُ مَعلومةً عندَ المُخاطَبِ، فيَجِبُ الإعلامُ والتَّوبيخُ على الجَهلِ به، كأنَّه قال: لا أحتاجُ إلى ما آتَيْتُمونِيهِ؛ لأنِّي غنِيٌّ، كما يُقال: أُنكِرُ عليك ما فعلْتَ؛ فإنِّي غَنِيٌّ عنه [573] يُنظر: ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (11/526، 527). .
- قولُه: بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ لَمَّا أنكَرَ عليهم نَبِيُّ اللهِ إمدادَهم بالمالِ، وعلَّلَ الإنكارَ بكَونِه غنيًّا عنه، أضرَبَ عن ذلك إلى بَيانِ السَّببِ الَّذي حَمَلَهم عليه، وهو أنَّهم غيرُ عالمينَ بحالِه، وأنَّه غنِيٌّ عن ذلك، ثمَّ ترقَّى إلى الأخْذِ فيما هو الأهمُّ مِن ذلك الإنكارِ، وهو الإعلامُ بأنَّ ما جَعَلوه سببًا للإمدادِ أقبَحُ مِن ذُلِّ الجهْلِ؛ وذلك أنَّ قُصارى أمْرِهم الفرحُ بما يُهْدى إليهم، فقاسُوا حالَ نَبِيِّ اللهِ بحالِهم في أنْ ليس له الرِّضا والفرحُ إلَّا بالحُظوظِ العاجلةِ. هذا إذا قُدِّرت الإضافةُ إلى المُهدى إليه، أمَّا إذا جُعِلَت الإضافةُ إلى المُهدي -أي: الفاعلِ- بأنْ يُقالَ: وأنتم بهَديَّتِكم هذه تَفْرحون فرَحَ افتخارٍ، فيكونُ المعنى: الَّذي مَنَحنى اللهُ مِن الدِّينِ والمُلْكِ الواسعِ خيرٌ ممَّا آتاكُم، فلا أفرَحُ بمِثلِ هذه المُحقَّراتِ الَّتي تَفتخِرون بها؛ فأَولى الضَّميرَ حرفَ الإضرابِ لِيُفِيدَ: أنتم خُصوصًا تَفْرحون. ويجوزُ على هذا أنْ يُعتبَرَ معنى تَقوِّي الحُكمِ مِن التَّركيبِ، فيُفِيدُ مُطلَقَ الرَّدِّ، أي: أنتم لا بُدَّ لكم أنْ تَفرَحوا بمِثلِ هذه المُحقَّراتِ، أي: تُمِدُّونَني بمالٍ وتَزْعُمون أنَّ مِن عادتي أنْ أفرَحَ بأخْذِ الهديَّةِ! بلْ أنتم مِن حَقِّكم أنْ تَفرَحوا به، فخُذوها وافْرَحوا. وهو على هذا الوجهِ كِنايةٌ [574] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/366)، ((تفسير البيضاوي)) (4/160)، ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (11/527)، ((تفسير أبي حيان)) (8/237)، ((تفسير أبي السعود)) (6/285)، ((تفسير ابن عاشور)) (19/268). .
9- قوله تعالى: ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ
- وعَدمُ وُقوعِ جَوابِ القسَمِ في قولِه: فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ ...؛ لأنَّه كانَ مُعلَّقًا بشَرطٍ قد حُذِفَ عندَ الحِكايةِ؛ ثِقةً بدَلالةِ الحالِ عليهِ، كأنَّه قِيلَ: ارْجِعْ إليهم، فلْيَأتُوا مُسلمينَ، وإلَّا فلَنأتِيَنَّهم [575] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (8/238)، ((تفسير أبي السعود)) (6/286). .
- وعبَّرَ بجمْعِ القلَّةِ أَذِلَّةً؛ تأكيدًا لِذِلَّتِهم [576] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/286). .