موسوعة التفسير

سورة الشُّورى
الآيات (25-28)

ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ

غريب الكلمات:

لَبَغَوْا: أي: لَطَغَوْا وأفسَدوا، وأصلُ (بغي) هنا: يدُلُّ على جِنسٍ مِن الفَسادِ [499] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/271)، ((المفردات)) للراغب (ص: 136)، ((تفسير القرطبي)) (16/27)، ((تفسير ابن كثير)) (7/206). .
الْغَيْثَ: أي: المطرَ النَّازِلَ مِن السَّماءِ، وسُمِّي غَيْثًا؛ لأنَّه يُغيثُ الخلْقَ [500] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (10/256)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (4/403)، ((المفردات)) للراغب (ص: 617)، ((تفسير القرطبي)) (16/28). قال القرطبيُّ: (والغيثُ ما كان نافعًا في وقْتِه، والمطرُ قدْ يكونُ نافعًا وضارًّا، في وقتِه وغيرِ وقْتِه). ((تفسير القرطبي)) (16/29). .
قَنَطُوا: أي: يَئِسوا، والقُنوطُ: اليَأسُ مِنَ الخَيرِ، وقيل: هو أشدُّ اليأسِ، وأصلُ (قنط): يدُلُّ على اليأسِ مِن الشَّيءِ [501] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/511)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/32)، ((المفردات)) للراغب (ص: 685)، ((النهاية في غريب الحديث والأثر)) لابن الأثير (4/113)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 976). .
الْوَلِيُّ: فَعيلٌ بمعنَى فاعِلٍ، أي: المُتَوَلِّي لأُمورِ العالَمِ والخَلائِقِ، القائِمُ بها، والوليُّ: الناصرُ، فهو يَنْصُرُ عِبادَه المؤمنينَ، ويَتولَّى أُمورَهم، وكلُّ مَن وَلِي أمْرَ آخَرَ فهو ولِيُّه، والوَلايَةُ: تَوَلِّي الأمرِ، وأصلُ (ولي): يدُلُّ على قُربٍ [502] يُنظر: ((شأن الدعاء)) للخطابي (ص: 78)، ((مقاييس اللغة)) لابن فاس (6/141)، ((المفردات في غريب القرآن)) للراعب (ص: 885)، ((تفسير الرازي)) (7/17)، ((النهاية في غريب الحديث والأثر)) لابن الأثير (5/227)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الشورى)) (ص: 239). .
الْحَمِيدُ: أي: المحمودُ على كلِّ حالٍ، وفي جميعِ أفعالِه وأقوالِه، وشَرْعِه وقَدَرِه، والمحمودُ على ما له مِن الكَمالِ، وعلى نِعَمِه التي أنْعَمها على خلْقِه، المستحِقُّ لكلِّ حمْدٍ، والحمدُ إخبارٌ عن مَحاسنِ المحمودِ معَ حُبِّه وإجلالِه وتَعظيمِه، وأصلُ (حمد): يَدُلُّ على خِلافِ الذَّمِّ [503] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/571)، ((الغريبين في القرآن والحديث)) للهروي (2/490)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/100)، ((شأن الدعاء)) للخطابي (1/78)، ((المفردات في غريب القرآن)) للراغب (ص: 256)، ((بدائع الفوائد)) لابن القيم (2/93)، ((تفسير ابن كثير)) (1/699)، ((تفسير السعدي)) (ص: 208، 758). قال ابنُ القيِّم: (الحَميدُ فَعيلٌ مِن الحَمْدِ، وهو بمعنى مَحمودٍ، وأكثرُ ما يَأتي فَعيلًا في أسمائِه تعالَى، بمعنى فاعِل، كـ: سَميع، وبَصير، وعَليم، وقَدير، وعَليٍّ، وحَكيم، وحَليم، وهو كثيرٌ ... وأمَّا الحميدُ فلمْ يأتِ إلَّا بمعنى المحمودِ، وهو أبلغُ مِن المحمودِ؛ فإنَّ فَعيلًا إذا عُدِلَ به عن مَفعولٍ، دلَّ على أنَّ تِلك الصِّفةَ قد صارتْ مِثلَ السَّجيَّةِ والغَريزةِ والخُلُقِ اللَّازمِ). ((جلاء الأفهام)) (ص: 315). لكنْ قال ابنُ عُثَيمين: (كَلِمةُ «حميد» يَصِحُّ أن تكونَ اسمَ فاعلٍ، ويصِحُّ أنْ تكونَ بمعنى اسمِ المفعول؛ اسمُ الفاعِلِ: لأنَّه سُبحانَه وتعالَى حامِدٌ يَحمَدُ كُلَّ مَن يَستحِقُّ الحَمدَ منه؛ ولهذا يُثني على رسُلِه وأنبيائِه وعِبادِه الصَّالحين، والثناءُ عليهم هو الحَمدُ. وهو أيضًا المحمودُ على أمْرينِ: على ما له مِن كَمالِ الصِّفاتِ، وعلى ما له من كَمالِ الإنعامِ). ((تفسير ابن عثيمين- سورة فاطر)) (ص: 133). ويُنظر: ((المفردات في غريب القرآن)) للراغب (ص: 256)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/414). .

مشكل الإعراب:

قَولُه تعالى: وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ
قَولُه: وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آَمَنُوا: الاسمُ الموصولُ الَّذِينَ في محَلِّ نَصبٍ مَفعولٌ به، والفاعِلُ مُضمَرٌ يَعودُ على اللهِ تعالَى، بمعنى: ويُجيبُ اللهُ الذين آمَنوا. وقيل: الَّذِينَ اسمٌ مَوصولٌ مَبنيٌّ على الفَتحِ في مَحلِّ رَفعٍ فاعِلٌ، أي: يُجيبون ربَّهم إذا دعاهُمْ، واستجابَ كـ (أَجابَ) مَعنًى، ويجوزُ أنْ تكونَ السِّينُ في (يَسْتَجِيبُ) للطَّلبِ على بابِها، بمعْنى: ويَستَدعي الذين آمَنوا الإجابةَ مَن رَبِّهم بالأعمالِ الصَّالحةِ. وقيل: ثَمَّ لامٌ مُقَدَّرةٌ، أي: ويَستجيبُ اللهُ للَّذين آمَنوا [504] يُنظر: ((معاني القرآن)) للفراء (3/24)، ((تفسير ابن جرير)) (21/534)، ((تفسير أبي حيان)) (9/337)، ((الدر المصون)) للسمين الحلبي (9/552). .

المعنى الإجمالي :

يقولُ تعالَى مُمتنًّا على عِبادِه، ومُبيِّنًا كَمالَ كَرمِه، وسَعةَ جُودِه، وتَمامَ لُطفِه: اللهُ وَحْدَه هو الذي يَقبَلُ تَوبةَ عِبادِه إذا تابوا، ويَعفو عن سَيِّئاتِهم، ويَعلَمُ اللهُ ما تَفعَلونَ مِن خيرٍ أو شَرٍّ، ويُجيبُ اللهُ الذين آمَنوا وعَمِلوا الأعمالَ الصَّالحةَ إذا دَعَوْه، ويُعْطيهم إذا سأَلوه، ويَزيدُهم مِن فَضلِه، والكافِرونَ لهم عَذابٌ شَديدٌ.
ثمَّ يُبيِّنُ سُبحانَه جانبًا ممَّا اقتضَتْه حِكمتُه في تَدبيرِ أُمورِ عِبادِه، فيَقولُ: ولو وسَّع اللهُ الرِّزقَ لعِبادِه لَأفسَدوا في الأرضِ، واعتدَى بعضُهم على بعضٍ، ولكِنْ يُنَزِّلُ اللهُ ما يَشاءُ بمِقدارٍ مُعَيَّنٍ حَسَبَ حِكمتِه سُبحانَه، إنَّ اللهَ خَبيرٌ بأحوالِ عبادِه، بَصيرٌ بهم.
ثمَّ يَذكُرُ اللهُ تعالَى جانبًا مِن نِعَمِه على عبادِه، فيقولُ: واللهُ هو الذي يُنزِّلُ الماءَ مِن السَّماءِ فيُغيثُ به عِبادَه مِن بعْدِ انقِطاعِ رَجائِهم مِن نُزولِه، ويَنشُرُ رَحمتَه، وهو الوَليُّ الذي يَتولَّى عِبادَه، المحمودُ على ما أوصَلَه إلى خَلْقِه مِن أصنافِ النِّعَمِ.

تفسير الآيات:

وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (25).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّ اللهَ تعالى لَمَّا قال: أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا [الشورى: 24] ، ثمَّ برَّأ رَسولَه مِمَّا أضافوه إليه مِن هذا، وكان مِن المعلومِ أنَّهم قدِ استحَقُّوا بهذه الفِريةِ عِقابًا عَظيمًا؛ لا جَرَمَ ندَبَهم اللهُ إلى التَّوبةِ، وعَرَّفهم أنَّه يَقبَلُها مِن كُلِّ مُسيءٍ، وإنْ عَظُمَت إساءتُه [505] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (27/597). .
وأيضًا لَمَّا جَرَى وَعيدُ الذين يُحاجُّونَ في اللهِ لِتَأييدِ باطلِهم مِن قولِه تعالى: وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ [الشورى: 16] ، ثمَّ أُتْبِعَ بوَصْفِ سُوءِ حالِهم يومَ الجزاءِ بقولِه: تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا [الشورى: 22] ، وقُوبِلَ بوَصْفِ نَعيمِ الذين آمَنوا بقولِه: وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ [الشورى: 22] ، وكان ذلك مَظِنَّةَ أنْ يَكسِرَ نُفوسَ أهلِ العِنادِ والضَّلالةِ؛ أُعقِبَ بإعلامِهم أنَّ اللهَ مِن شَأنِه قَبولُ تَوبةِ مَن يَتوبُ مِن عِبادِه، وعفْوُه بذلك عمَّا سلَفَ مِن سيِّئاتِهم [506] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/88-89). .
وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ.
أي: واللهُ وَحْدَه هو الذي يَقبَلُ تَوبةَ عِبادِه إذا تابوا ورَجَعوا إليه [507] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/505)، ((تفسير ابن كثير)) (7/204)، ((تفسير السعدي)) (ص: 758)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/72)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الشورى)) (ص: 223). قيل: تضمَّن يَقْبَلُ معْنى (يعفو)، أي: يَقبَلُ التَّوبةَ فيَعفو عن عِبادِه. ومِمَّن ذهَب إلى ذلك: ابنُ عُثَيمين. يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الشورى)) (ص: 223).   قال الألوسي: (قيل: القَبولُ مُضمَّن هنا معنى التَّجاوُزِ، والكلامُ على تَقدير ِمُضافٍ: أي يَقبَلُ التَّوبةَ مُتجاوزًا عن ذُنوبِ عبادِه، وهو تَكلُّف). ((تفسير الألوسي)) (13/36). وقيل: قبِلْتُه عنه، أي: عزَلْتُه عنه وأبنْتُه عنه. فمعنى يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ: أي يُزيلُ الرُّجوعَ عن المعاصي. ومِمَّن ذهَب إلى هذا المعنى في الجُملةِ: الزمخشريُّ، وأبو حيَّان. يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/222)، ((تفسير أبي حيان)) (9/337). ومِمَّن ذهَب إلى أنَّ عَنْ هنا بمعنى: «مِن»: ابنُ قُتَيبة، وابن جزي، وجلالُ الدِّين المحلِّي. يُنظر: ((تأويل مشكل القرآن)) لابن قتيبة (ص: 302)، ((تفسير ابن جزي)) (2/248)، ((تفسير الجلالين)) (ص: 642). وقال ابنُ عَطيةَ: (قوله تعالى: عَنْ عِبَادِهِ بمعنى: من عبادِه، وكأنَّه قال: التَّوبةُ الصادرِة عن عبادِه). ((تفسير ابن عطية)) (5/35). .
عن أنَسِ بنِ مالِكٍ رَضِيَ اللهُ عنه، عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنَّه قال: ((لَلَّهُ أشَدُّ فَرَحًا بتَوبةِ عَبدِه حينَ يَتوبُ إليه مِن أحَدِكم كان على راحِلتِه بأرضٍ فَلاةٍ [508] بأرضٍ فَلاةٍ: أي: صَحْراءَ خاليةٍ مِن النَّباتِ. يُنظر: ((مرقاة المفاتيح)) للقاري (4/1617). ، فانفلَتَتْ [509] فانفلَتَت: أي: نَفَرَت وفَرَّت. يُنظر: ((مرقاة المفاتيح)) للقاري (4/1617). منه وعليها طَعامُه وشَرابُه، فأَيِسَ منها، فأتَى شَجَرةً فاضْطَجَعَ في ظِلِّها قدْ أيِسَ مِن راحلتِه، فبَيْنا هو كذلك إذا هو بها قائِمةً عنده، فأخَذَ بخِطامِها، ثمَّ قال مِن شِدَّةِ الفَرَحِ: اللَّهُمَّ أنت عَبْدي وأنا رَبُّك! أخطأَ مِن شِدَّةِ الفَرَحِ!)) [510] رواه مسلمٌ (2747) بهذا اللَّفظِ، ورواه البخاريُّ (6309) مختَصرًا. .
وعن أبي مُوسى رَضِيَ اللهُ عنه، عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قال: ((إنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ يَبسُطُ يَدَه باللَّيلِ لِيَتوبَ مُسيءُ النَّهارِ، ويَبسُطُ يَدَه بالنَّهارِ لِيَتوبَ مُسيءُ اللَّيلِ، حتى تَطلُعَ الشَّمسُ مِن مَغرِبِها )) [511] رواه مسلمٌ (2759). .
وعن ابنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهما، عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قال: ((إنَّ اللهَ يَقبَلُ تَوبةَ العَبدِ ما لم يُغَرغِرْ [512] ما لم يُغَرْغِرْ: أي: ما لم تَبلُغْ رُوحُه حُلقومَه، فيكونُ بمنزلةِ الشَّيءِ الذي يَتغَرغَرُ به المريضُ. يُنظر: ((النهاية في غريب الحديث والأثر)) لابن الأثير (3/360). ) [513] رواه الترمذيُّ (3537)، وابن ماجه (4253)، وأحمد (6160). قال الترمذيُّ: (حسنٌ غريبٌ). وقال ابنُ القَطَّان في ((بيان الوهم والإيهام)) (5/412): (محتمِلٌ أن يُقالَ فيه: صحيحٌ). وصحَّح إسنادَه أحمد شاكر في تحقيق ((مسند أحمد)) (9/18)، وحسَّنه الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)) (3537). .
وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ.
أي: ويَعفو اللهُ عن سَيِّئاتِ أعمالِ عِبادِه، فيَتجاوَزُ عن مُؤاخَذتِهم بها [514] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/505)، ((تفسير السعدي)) (ص: 758)، ((تفسير ابن عاشور)) (25/90)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الشورى)) (ص: 223). قال ابنُ جُزي: (العَفوُ دونَ التَّوبةِ على أربعةِ أقسامٍ: الأوَّلُ: العَفوُ عن الكُفرِ، وهو لا يكونُ أصلًا. والثَّاني: العَفوُ عن مَظالمِ العِبادِ، وهو كذلك. والثالثُ: العَفوُ عن الذُّنوبِ الصَّغائِرِ إذا اجتُنِبَت الكبائِرُ، وهو حاصِلٌ باتِّفاقٍ. والرَّابعُ: العَفوُ عن الكبائِرِ، فمَذهَبُ أهلِ السُّنَّةِ أنَّها في المَشيئةِ). ((تفسير ابن جزي)) (2/248). وقال ابنُ عاشور: (العَفوُ عن السَّيِّئاتِ يكونُ بسَبَبِ التَّوبةِ؛ بأنْ يَعفوَ عن السَّيِّئاتِ التي اقتَرَفها العاصي قبْلَ توبتِه، ويكونُ بدون ذلك؛ مِثلُ العَفوِ عن السَّيِّئاتِ عَقِبَ الحَجِّ المبرورِ، ومِثلُ العَفوِ عن السَّيِّئاتِ لأجْلِ الشَّهادةِ في سبيلِ اللهِ، ومِثلُ العَفوِ عن السَّيِّئاتِ لكَثرةِ الحَسَناتِ، بأنْ يُمحَى عن العاصي مِن سَيِّئاتِه ما يُقابِلُ مِقدارًا مِن حَسَناتِه على وَجهٍ يَعلَمُه اللهُ تعالَى، ومِثلُ العَفوِ عن الصَّغائِرِ باجتِنابِ الكبائِرِ). ((تفسير ابن عاشور)) (25/90). .
كما قال اللهُ تعالَى: وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ [الشورى: 30] .
وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ.
مُناسَبتُها لِما قَبْلَها:
لَمَّا كانت التَّوبةُ مِن الأعمالِ العَظيمةِ التي قدْ تكونُ كامِلةً بسَبَبِ تَمامِ الإخلاصِ والصِّدقِ فيها، وقدْ تَكونُ ناقِصةً عندَ نَقصِهما، وقدْ تكونُ فاسِدةً إذا كان القَصدُ منها بُلوغَ غَرَضٍ مِن الأغراضِ الدُّنيويَّةِ، وكان محَلُّ ذلك القَلبَ الذي لا يَعلَمُه إلَّا اللهُ تعالى؛ خَتَم هذه الآيةَ بقَولِه تعالى [515] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 758). :
وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ.
أي: ويَعلَمُ اللهُ ما تَفعَلونَ مِن خَيرٍ أو شَرٍّ، لا يَخفَى عليه سُبحانَه شَيءٌ مِن ذلك [516] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/506)، ((تفسير القرطبي)) (16/26)، ((تفسير ابن عاشور)) (25/90). .
وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ (26).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا رغَّب اللهُ تعالَى بالعفْوِ؛ زاد الإكرامَ فقال [517] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (17/306). :
وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ.
أي: ويُجيبُ اللهُ الذين آمَنوا بما وَجَب عليهم الإيمانُ به، وعَمِلوا الأعمالَ الصَّالِحةَ بإخلاصٍ للهِ تعالَى ومُوافَقةٍ لِشَرعِه؛ إذا دَعَوْه، ويُعْطيهم ما طلَبوه منه [518] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/506)، ((الوسيط)) للواحدي (4/54)، ((تفسير ابن جزي)) (2/248، 249)، ((تفسير ابن كثير)) (7/205، 206)، ((تفسير الشوكاني)) (4/613)، ((تفسير ابن عاشور)) (25/91)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الشورى)) (ص: 227- 232). قال ابن جُزَيٍّ: (وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آَمَنُوا فيه ثَلاثةُ أقوالٍ: أحدُها: أنَّ معنى «يَستجيبُ»: يُجيبُ. والَّذِينَ آَمَنُوا: مفعولٌ، والفاعِلُ ضَميرٌ يعودُ على اللهِ تعالى، أي: يُجيبُهم فيما يَطلُبونَ منه. وقال الزَّمخشريُّ: أي: أصلُه: يَستجيبُ لِلَّذين آمنوا، فحَذَف اللَّامَ. والثَّاني: أنَّ معناه: يُجيبُ. والَّذِينَ آَمَنُوا فاعِلٌ، أي: يَستجيبُ المؤمِنونَ لِرَبِّهم باتِّباعِ دِينِه. والثَّالثُ: أنَّ معناه: يَطلُبُ المؤمِنونَ الإجابةَ مِن رَبِّهم، واستَفعَلَ هذا على بابِه مِنَ الطَّلَبِ، والأوَّلُ أرجَحُ؛ لِدَلالةِ قَولِه: وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ، ولأنَّه قَولُ ابنِ عبَّاسٍ ومُعاذِ بنِ جَبَلٍ). ((تفسير ابن جزي)) (2/248). ويُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/223). ممَّن اختار القولَ الأوَّلَ في الجُملةِ: ابنُ جَريرٍ، والثَّعلبيُّ، والسَّمعاني، والبَغوي، والرَّسْعني، والقُرْطبي، وابن جُزَي، وابن تيْميةَ، وابن كثير، والعُلَيمي، والشَّوكاني، وابن عاشور، وابن عُثَيمين، وغيرهم. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/506)، ((تفسير الثعلبي)) (8/317)، ((تفسير السمعاني)) (5/76)، ((تفسير البغوي)) (4/147)، ((تفسير الرسعني)) (7/74)، ((تفسير القرطبي)) (16/26)، ((تفسير ابن جزي)) (2/248)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (10/ 239)، ((تفسير ابن كثير)) (7/206)، ((تفسير العليمي)) (6/188)، ((تفسير الشوكاني)) (4/ 613)، ((تفسير ابن عاشور)) (25/90)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الشورى)) (ص: 227). قال ابنُ تيْميةَ: (قال تعالى: وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ: أي يَستجيبُ لهمْ، وهو مَعروفٌ في اللُّغةِ؛ يُقال: استَجابَه واستجابَ له). ((مجموع الفتاوى)) (10/239). وذكَر ابنُ عُثَيمينَ أنَّ ممَّا يدُلُّ على هذا التَّفسيرِ قولُه تعالى: فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ [آل عمران: 195] ، وقولُه تعالى بعْد ذلك: وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ، والأصلُ أنْ تكونَ الضَّمائرُ واحدةً، وحرْفُ العطْفِ يَقْتضي تَساويَ المعطوفِ والمعطوفِ عليه، وأيضًا لو أراد أنَّ الذين آمَنوا همُ الذين استَجابوا، لَقال: فيَزيدُهم: أي بسَببِ استجابَتِهم يَزيدُهم مِن فضْلِه. يُنظَر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الشورى)) (ص: 227- 228). قال الزَّمخشريُّ: (أي: يُثيبُهم على طاعتِهم ويَزيدُهم على الثَّوابِ تفضُّلًا، أو إذا دعَوه استجابَ دُعاءَهم وأعطاهُم ما طلَبوا وزادَهم على مَطلوبِهم). ((تفسير الزمخشري)) (4/223). وقال ابنُ جَرير: (ويُجيبُ الَّذين آمَنوا باللهِ ورَسولِه، وعَمِلوا بما أمَرهم اللهُ به، وانتهَوْا عمَّا نَهاهم عنه لبَعضِهم دُعاءَ بعضٍ). ((تفسير ابن جرير)) (20/506). وقال القُرطبيُّ: (أي: يَقبَلُ عِبادةَ مَن أخلَص له بقلْبِه وأطاع ببَدنِه). ((تفسير القرطبي)) (16/ 26). وقيل: المعنى: ويَستجيبُ المؤمِنونَ لِرَبِّهم، فيُؤمِنونَ به ويُطيعونَه. ومِمَّن ذهَب إلى هذا القَولِ: ابنُ أبي زَمنين، ومكِّيُّ بن أبي طالب، والسعديُّ. يُنظر: ((تفسير ابن أبي زمنين)) (4/168)، ((تفسير مكي)) (10/6589)، ((تفسير السعدي)) (ص: 758). .
كما قال اللهُ تعالَى: فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى ... [آل عمران: 195] .
وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ.
أي: ويَزيدُ اللهُ المُؤمِنينَ مِن فَضْلِه في الدُّنيا، فيُعطيهم ما لم يَسألُوه، أو يَزيدُهم ثَوابًا على ما عَمِلوه [519] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/507)، ((تفسير ابن أبي زمنين)) (4/168)، ((الوسيط)) للواحدي (4/54)، ((تفسير ابن جزي)) (2/249)، ((تفسير الشوكاني)) (4/613). قال الشَّوكانيُّ: (وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ أي: يَزيدُهم على ما طَلَبوه منه، أو على ما يَستَحِقُّونَه مِن الثَّوابِ تفضُّلًا منه). ((تفسير الشوكاني)) (4/613). ومِمَّن ذهَب إلى المعنى الأوَّلِ -وهو إعطاؤُهم ما لم يَسْألوه-: ابنُ جرير، والرازي، وابن جُزَي، والبقاعي. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/507)، ((تفسير الرازي)) (27/598)، ((تفسير ابن جزي)) (2/249)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (17/307). ومِمَّن ذهَب إلى المعنى الثَّاني -وهو زيادةُ ثَوابِ أعمالِهم-: الواحديُّ، وابنُ عثيمين. يُنظر: ((الوسيط)) للواحدي (4/54)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الشورى)) (ص: 232). وممَّن جمَع بين القولينِ: ابنُ عاشور. يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/91). وقال السعديُّ: (فإذا استَجابوا له شَكَرَ اللهُ لهم، وهو الغَفورُ الشَّكورُ، وزادهم مِن فَضلِه تَوفيقًا ونَشاطًا على العَمَلِ، وزادَهم مُضاعَفةً في الأجرِ زِيادةً عمَّا تَستَحِقُّه أعمالُهم مِنَ الثَّوابِ والفَوزِ العَظيمِ). ((تفسير السعدي)) (ص: 758). وقال السَّمعانيُّ: (وقولُه: وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ أي: الثَّناءَ الحسَنَ فِي الدُّنيا، وقيل: الشَّفاعَةَ فِي الآخرةِ). ((تفسير السمعاني)) (5/76). .
كما قال اللهُ تعالَى: فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ [النساء: 173] .
وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ.
أي: وأمَّا الكافِرونَ باللهِ فلهم عَذابٌ قَوِيٌّ؛ جَزاءَ كُفرِهم باللهِ [520] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/508)، ((تفسير ابن كثير)) (7/206)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الشورى)) (ص: 232). ممَّن اختار أنَّ العذابَ المذكورَ هنا واقِعٌ يومَ القيامةِ: ابن جَرير، والنَّسفي، وابن كثير. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/508)، ((تفسير النسفي)) (3/255)، ((تفسير ابن كثير)) (7/206). وقيل: العَذابُ واقِعٌ في الدُّنيا والآخِرةِ. ومِمَّن قال بهذا: السعديُّ. يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 758). .
وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ (27).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّ اللهَ تعالَى لَمَّا قال في الآيةِ الأُولى: إنَّه يُجيبُ دُعاءَ المُؤمِنينَ، ورَدَ عليه سُؤالٌ؛ وهو: أنَّ المؤمِنَ قدْ يكونُ في شِدَّةٍ وبَلِيَّةٍ وفَقرٍ، ثمَّ يَدْعو فلا يُشاهِدُ أثَرَ الإجابةِ؛ فكيْف الحالُ فيه مع ما تقَدَّمَ مِن قَولِه: وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آَمَنُوا؟ فأجاب تعالَى عنه بقَولِه: وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ [521] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (27/598). .
وأيضًا لَمَّا كان المُتبادِرُ مِن الاستجابةِ إيجادَ كُلِّ ما سَألوه في هذه الدُّنيا على ما أرادوه، وكان الموجودُ غيرَ ذلك، بلْ كان أكثَرُ أهلِ اللهِ مُضَيَّقًا عليهم، وكانت الإجابةُ إلى كُلِّ ما يُسألُ بأنْ يكونَ في هذه الدَّارِ يُؤدِّي في الغالِبِ إلى البَطَرِ المؤَدِّي إلى الشَّقاءِ، فيُؤَدِّي ذلك إلى عَكسِ المرادِ -قال تعالَى [522] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (17/307-308). :
وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ.
أي: ولو وسَّع اللهُ الرِّزقَ لعِبادِه، وكثَّرَه لهم فَوقَ حاجتِهم، لَأفضَى ذلك إلى أنْ يُفسِدوا في الأرضِ، ويُقدِموا على المعاصي ويَبْطَروا النِّعمةَ، ويَعتديَ بعْضُهم على بَعضٍ؛ ظُلمًا واستِكبارًا واستِعلاءً بغَيرِ حَقٍّ [523] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/509)، ((الوسيط)) للواحدي (4/54)، ((تفسير الرازي)) (27/598)، ((تفسير البيضاوي)) (5/81)، ((تفسير ابن جزي)) (2/249)، ((تفسير ابن كثير)) (7/206)، ((تفسير السعدي)) (ص: 758)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الشورى)) (ص: 234-235). .
كما قال تعالَى: كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآَهُ اسْتَغْنَى [العلق: 6، 7].
وعن عَمرِو بنِ عَوفٍ رَضِيَ اللهُ عنه، أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قال: ((واللهِ ما الفَقرَ أخْشى عليكم، ولكِنِّي أخشَى عليكم أنْ تُبسَطَ الدُّنيا عليكم كما بُسِطَت على مَن كان قَبلَكم، فتَنافَسُوها كما تَنافَسوها، وتُهلِكَكم كما أهلَكَتْهم )) [524] رواه البخاري (4015)، ومسلم (2961)، واللفظ له. قال البقاعي: (لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ أي: لصاروا يُريدونَ كُلَّ ما يَشتَهونَه، فإنْ لم يُفعَلْ سَعَوا في إنفاذِه -كالمُلوكِ بما لهم مِن المُكْنةِ- بكُلِّ طَريقٍ يُوصِلُهم إليه؛ فيَكثُرُ القَتلُ والسَّلبُ، والنَّهبُ والضَّربُ، ونحوُ ذلك مِن أنواعِ الفَسادِ). ((نظم الدرر)) (17/308). وقال السعديُّ: (أي: لغَفَلوا عن طاعةِ اللهِ، وأقبَلوا على التمَتُّعِ بشَهَواتِ الدُّنيا؛ فأوجَبَت لهم الإكبابَ على ما تَشتَهيه نفوسُهم، ولو كان مَعصيةً وظُلمًا). ((تفسير السعدي)) (ص: 758). .
وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ.
أي: ولكِنَّ اللهَ تعالَى يُنَزِّلُ ما يَشاءُ تَنزيلَه مِن أرزاقِ العِبادِ بمِقدارٍ مُعَيَّنٍ، بحَسَبِ ما تَقتَضيهِ حِكمتُه سُبحانَه [525] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/509)، ((تفسير القرطبي)) (16/27)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (17/308-309)، ((تفسير السعدي)) (ص: 759)، ((تفسير ابن عاشور)) (25/94)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/73). .
كما قال تعالَى: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ [الحجر: 21].
وقال سُبحانَه: وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ [الرعد: 8] .
إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ.
أي: إنَّ اللهَ تعالَى خَبيرٌ بأحوالِ عِبادِه الظَّاهِرةِ والباطِنةِ، وطِباعِهم وعَواقبِ أُمورِهم، وهو بَصيرٌ بهم؛ يَراهم ويَعلَمُ ما يُصلِحُهم مِن تَوسيعِ الرِّزقِ أو تَضييقِه بحَسَبِ حِكمتِه البالِغةِ [526] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/510)، ((تفسير ابن عطية)) (5/36)، ((تفسير الرازي)) (27/599)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (17/309)، ((تفسير الشوكاني)) (4/614)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الشورى)) (ص: 236). .
وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ (28).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّه لَمَّا بَيَّن تعالَى أنَّه لا يُعطي عِبادَه ما زاد على قَدْرِ حاجتِهم؛ لأجْلِ أنَّه عَلِمَ أنَّ تلك الزِّيادةَ تضُرُّهم في دِينِهم؛ بيَّنَ أنَّهم إذا احتاجوا إلى الرِّزقِ فإنَّه لا يَمنَعُهم منه، فقال [527] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (27/599). :
وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ.
أي: واللهُ هو الَّذي يُنَزِّلُ الماءَ الذي تَحصُلُ به إعانةُ النَّاسِ، وإزالةُ الشِّدَّةِ عنهم، فيُغيثُهم به مِن بعدِ انقِطاعِ رَجائِهم مِن نُزولِه، ويَنشُرُ اللهُ تعالى رَحمتَه ويَبسُطُها؛ فتَحيا البِلادُ، ويَنتَفِعُ العِبادُ [528] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/511)، ((الوجيز)) للواحدي (ص: 965)، ((تفسير ابن كثير)) (7/206)، ((تفسير السعدي)) (ص: 759)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الشورى)) (ص: 236، 242). قِيلَ: المُرادُ بالرَّحمةِ هنا: الغَيثُ. ومِمَّن ذهَب إلى هذا: ابنُ جرير، والسَّمرقندي، والثَّعلبي، والواحدي. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/511)، ((تفسير السمرقندي)) (3/244)، ((تفسير الثعلبي)) (8/318)، ((الوجيز)) للواحدي (ص: 965). وقِيلَ: المُرادُ بالرَّحمةِ: آثارُ الغَيثِ وبَرَكاتُه، كإخراجِ الأقواتِ للنَّاسِ ولِبَهائِمِهم. ومِمَّن قال بهذا المعنى: الزَّمخشريُّ، والسعدي، وابنُ عثيمين. يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/224)، ((تفسير السعدي)) (ص: 759)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الشورى)) (ص: 239). وقال ابنُ عطيةَ: (وقالت فِرقةٌ: الرَّحمةُ في هذا الموضعِ الشَّمسُ، فذلك تَعديدُ نِعمةٍ غيرِ الأُولَى؛ وذلك أنَّ المطرَ إذا ألمَّ بعْدَ القَنَطِ حسُنَ مَوقعُه، فإذا دام سُئِم، فتَجيءُ الشمسُ بعْدَه عَظيمةَ الموقعِ). ((تفسير ابن عطية)) (5/36). .
كما قال تعالَى: اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ * وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ * فَانْظُرْ إِلَى آَثَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا [الروم: 48 - 50] .
وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ.
أي: واللهُ وَحْدَه هو الوَليُّ الذي يَتولَّى عِبادَه بإحسانِه وفَضلِه، ويَتصَرَّفُ لهم بما يَنفَعُهم؛ الحَميدُ على هذه الوَلايةِ، والمُستَحِقُّ للثَّناءِ والشُّكرِ مِن جَميعِ خَلقِه على ما له مِنَ الكَمالِ، وعلى تَدبيرِه وما أوصَلَه إلى خَلقِه مِن أصنافِ النِّعَمِ، المحمودُ العاقِبةِ في جَميعِ ما يُقَدِّرُه ويَفعَلُه [529] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/511)، ((تفسير القرطبي)) (16/29)، ((تفسير ابن كثير)) (7/207)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (17/311)، ((تفسير السعدي)) (ص: 759)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الشورى)) (ص: 239-240). .

الفوائد التربوية:

1- قال اللهُ تعالَى: وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ هذا ليْس مُجرَّدَ خبَرٍ أنَّ اللهَ تعالَى يَقبَلُ التَّوبةَ، بلْ هو حَثٌّ مِن اللهِ عزَّ وجلَّ أنْ نَتوبَ إليه [530] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الشورى)) (ص: 225). .
2- قَولُه تعالَى: وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ فيه إثباتُ عُمومِ عِلْمِ اللهِ سُبحانَه وتعالَى لكُلِّ ما نَفعَلُ؛ ويَتفرَّعُ على هذه الفائدةِ التَّحذيرُ مِن المُخالَفةِ؛ فقولُه: وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ يعني: فاحذَروا أنْ تَفعَلوا شيْئًا يُغضِبُه؛ فإنَّه عالِمٌ بكم [531] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الشورى)) (ص: 226). ، وفي هذا لُطفٌ، وحَثٌّ على لُزومِ الحذَرِ منه تعالَى، والإخلاصِ له سُبحانه في إمْحاضِ التَّوبةِ [532] يُنظر: ((تفسير الألوسي)) (13/37). .
3- مَن استجابَ لربِّه بامتثالِ أمْرِه ونَهيِه؛ حصَلَ مَقصودُه مِن الدُّعاءِ، وأُجِيبَ دُعاؤه، كما قال تعالَى: وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ؛ فقدْ جعَل اللهُ تعالَى الإيمانَ والعمَلَ الصَّالحَ سَببًا لإجابةِ الدُّعاءِ [533] يُنظر: ((اقتضاء الصراط المستقيم)) لابن تيمية (2/314)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (1/209). .
4- في قَولِه تعالى: وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ أنَّ كُلَّ ما يَنالُ الإنسانَ مِن خيرٍ فبِفَضلِ اللهِ، وعلى هذا يَجِبُ على الإنسانِ أنْ يَقطَعَ عن نَفسِه الإعجابَ، ويجِبُ عليه أَلَّا يقولَ: هذا مِن عِندي، أو أنا جديرٌ به، أو ما أشبَهَ ذلك مِن الكَلِماتِ التي يَفخَرُ بها على اللهِ عزَّ وجَلَّ [534] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الشورى)) (ص: 233). !
5- قَولُ اللهِ تعالَى: وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ فيه أنَّ الرِّزقَ لو جاء على اقتراحِ البَشَرِ، لكان سَبَبَ بَغْيِهم وإفسادِهم، ولكِنَّه تعالَى أعلَمُ بالمَصلحةِ؛ فرُبَّ إنسانٍ لا يَصلُحُ ولا يُكَفُّ شَرُّه إلَّا بالفَقرِ، وآخَرَ بالغِنى [535] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (9/338). .
6- في قَولِه تعالَى: مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا أنَّ طَبيعةَ الإنسانِ أنَّه لا يَصْبِرُ؛ فيَسْتولي عليه اليأْسُ والقُنوطُ مِن رَحمةِ اللهِ! والذي يَجِبُ على المرْءِ ألَّا يَقْنَطَ مِن رَحمةِ اللهِ، كما قال عزَّ وجلَّ: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ [الزمر: 53] ، وقال تعالَى حِكايةً عن إبراهيمَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ [الحجر: 56] ، إنَّما الواجبُ على المرءِ إذا مَسَّه السُّوءُ أنْ يَصْبِرَ ويَحتسِبَ، ودوامُ الحالِ مِن المُحالِ [536] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الشورى)) (ص: 241). .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- في قَولِه تعالَى: وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ أنَّ اللهَ تعالَى يُعطي المؤمِنينَ العامِلينَ الصَّالحاتِ أكثرَ مِمَّا عَمِلوا، وهذه الزِّيادةُ بَيَّنَها اللهُ تعالَى في مَواضِعَ أُخرى مِن كتابِه؛ فقال: مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا [الأنعام: 160] ، وقال: مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِئَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ [البقرة: 261] ، وربَّما يُقالُ أيضًا بزِيادةٍ أُخرى غيرِ العدَدِ، وهي: أنَّه يَزيدُهم مِن الإيمانِ والعَمَلِ الصَّالحِ؛ لأنَّه كُلَّما عَمِلَ الإنسانُ عَمَلًا صالِحًا ازدادَ يَقينُه؛ ولهذا كان مِن قَولِ أهلِ السُّنَّةِ والجَماعةِ أنَّ الأعمالَ داخِلةٌ في الإيمانِ [537] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الشورى)) (ص: 233). .
2- في قَولِه تعالَى: وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ أنَّ اللهَ تعالَى يُنذِرُ النَّاسَ عن المعاصي والكُفرِ بذِكرِ العِقابِ، أخَذَ العُلَماءُ مِن هذا أنَّه إذا ذَكَرَ اللهُ تعالَى عِقابًا في عَمَلٍ مِن الأعمالِ دلَّ ذلك على تحريمِه، وإذا ذَكَرَ ثَوابًا في عَمَلٍ مِن الأعمالِ دلَّ ذلك على مَشروعيَّتِه [538] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الشورى)) (ص: 233). .
3- في قَولِه تعالى: وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ دَليلٌ على أنَّ كَثرةَ المالِ سَببٌ لفَسادِ الدِّينِ إلَّا مَن عَصَمَه اللهُ عزَّ وجلَّ، فلمْ يَجعَلْه فِتنةً عليه [539] يُنظر: ((النكت الدالة على البيان)) للقصاب (4/112). ؛ فالغِنَى مَظِنَّةُ البَطَرِ والأَشَرِ إذا صادَفَ نفْسًا خَبيثةً، فأمَّا الفقرُ فقلَّما كان سَببًا للبغْيِ إلَّا بَغيًا مَشُوبًا بمَخافةٍ؛ كبَغْيِ الجائعِ بالافتكاكِ بالعُنفِ، فذلك لِنُدرتِه لا يُلتفَتُ إليه، على أنَّ السِّياقَ لِبَيانِ حِكمةِ كَونِ الرِّزقِ بقَدَرٍ، لا لِبَيانِ حِكمةٍ في الفقرِ؛ فالتَّلازُمُ بيْنَ الشَّرطِ وجَوابِه في قولِه: وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا حاصلٌ بهذه السَّببيَّةِ، بقطْعِ النَّظَرِ عن كَونِ هذا السَّببِ قد يَخلُفُه ضِدُّه أيضًا، على أنَّ بيْنَ بَسْطِ الرِّزقِ وبيْنَ الفقرِ مَراتبَ أُخرى مِن الكَفافِ، وضِيقِ الرِّزقِ، والخَصاصةِ، والفقرِ، وهي مُتفاوتةٌ؛ فلا إشكالَ في التَّعليلِ [540] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/93). .
4- في قَولِه تعالَى: وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ دَليلٌ على أنْ لا سَبيلَ إلى الازديادِ في الرِّزقِ بالحِيَلِ والمكاسِبِ؛ لأنَّ اللهَ وَعَدَ الأرزاقَ وضَمِنَها بقَولِه: وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا [هود: 6] ؛ فرِزقُ كلِّ عبْدٍ مَجموعٌ عندَه، يُنَزَّلُ عليه بمَقدارِ ما يَصلُحُ له [541] يُنظر: ((النكت الدالة على البيان)) للقصاب (4/112). .
5- في قَولِه تعالَى: مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا بَيانٌ للواقِعِ وليْس تَقريرًا للقُنوطِ؛ لأنَّ القُنوطَ حُكمُه الشَّرعيُّ أنَّه لا يَجوزُ، بلْ هو مِن كَبائرِ الذُّنوبِ؛ فالإخبارُ بالواقِعِ أو عن الواقِعِ لا يَعني إقرارَه [542] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الشورى)) (ص: 238). .
6- في قَولِه تعالَى: وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ أنَّ الرَّحمةَ صِفةٌ مِن صِفاتِ اللهِ عزَّ وجلَّ، وتُطلَقُ على نِعَمِه؛ لأنَّها مِن آثارِ رَحمتِه [543] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (1/53). .
7- في قَولِه تعالَى: الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ أنَّ وَلايةَ اللهِ تعالَى مَحمودةٌ على كلِّ حالٍ، ولو قارنْتَ بيْن هذا وبيْن قَولِه: هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ [لقمان: 26] تَجِدُ التَّناسُبَ التَّامَّ؛ فالغَنيُّ الحَميدُ: الذي يُحمَدُ على غِناه التامِّ بحيثُ يُغني به ما شاء، والوَليُّ الحَميدُ: الذي يُحمَدُ على وَلايتِه بحيثُ يَختَصُّ بالوَلايةِ الخاصَّةِ مَن شاء ويَمنَعُها عمَّن شاء، وعلى كلِّ حالٍ فوَلايتُه حَميدةٌ، وغِناه حَميدٌ عزَّ وجلَّ [544] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الشورى)) (ص: 243). .

بلاغة الآيات:

1- قولُه تعالَى: وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ
- هذا الإخبارُ تَعريضٌ بالتَّحريضِ على مُبادَرةِ التَّوبةِ؛ ولذلك جِيءَ فيه بالفِعلِ المضارعِ الصَّالحِ للاستِقبالِ، وهو أيضًا بِشارةٌ للمُؤمنينَ بأنَّه قَبِلَ تَوبتَهم ممَّا كانوا فيه مِن الشِّركِ والجاهليَّةِ؛ فإنَّ الذي مِن شَأنِه أنْ يَقبَلَ التَّوبةَ في المستقبلِ يكونُ قدْ قَبِل تَوبةَ التَّائبينَ مِن قبْلُ، بدَلالةِ لَحْنِ الخِطابِ أو فَحْواه [545] ينقسِمُ المفهومُ مِن الكلامِ إلى مَفهومِ موافَقةٍ، ومفهومِ مُخالَفةٍ؛ فمَفهومُ الموافَقةِ هو ما يُوافِقُ حُكْمُه المنطوقَ؛ فإنْ كان أَوْلى سُمِّيَ فَحْوى الخِطابِ، كدَلالةِ: فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ [الإسراء: 23] على تَحريمِ الضَّربِ؛ لأنَّه أشَدُّ، وإنْ كان مُساوِيًا سُمِّيَ لَحْنَ الخِطابِ، أي: معناه، كدَلالةِ إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا [النساء: 10] على تَحريمِ الإحراقِ؛ لأنَّه مُساوٍ للأكْلِ في الإتلافِ. وعُرِّف لَحْنُ الخِطابِ أيضًا بأنَّه دَلالةٌ للاقتِضاءِ، وهو دَلالةُ اللفظِ الْتزامًا على ما لا يَستقِلُّ الحكمُ إلَّا به، وإنْ كان اللفظُ لا يَقتضيه وضْعًا. يُنظر: ((شرح تنقيح الفصول)) للقرافي (ص: 53)، ((الذخيرة)) للقرافي (1/62)، ((البحر المحيط في أصول الفقه)) للزركشي (5/ 124)، ((الدرر اللوامع في شرح جمع الجوامع)) للكوراني (1/438 - 440)، ((الإتقان في علوم القرآن)) للسيوطي (3/106). ، وأنَّ مِن شَأنِه الاستجابةَ للذين آمَنوا وعَمِلوا الصَّالحاتِ مِن عِبادِه، وكلُّ ذلك جَرْيٌ على عادةِ القُرآنِ في تَعقيبِ التَّرهيبِ بالتَّرغيبِ وعكْسِه، وهذا كلُّه يَتضمَّنُ وَعْدًا للمُؤمنينَ بقَبولِ إيمانِهم، وللعُصاةِ بقَبولِ تَوبتِهم [546] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/89). .
- وجُملةُ وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ مَعطوفةٌ على جُملةِ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [الشورى: 21] وما اتَّصَلَ بها ممَّا تَقدَّمَ ذِكرُه، وخاصَّةً جُملةَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ [الشورى: 24] . وابتناءُ الإخبارِ بهذه الجُملةِ على أُسلوبِ الجُملةِ الاسميَّةِ؛ لإفادتِها ثَباتَ حُكمِها، ودَوامَه [547] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/89). .
- ومَجيءُ المسنَدِ اسمَ مَوصولٍ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ ...؛ لإفادةِ اتِّصافِ اللهِ تعالَى بمَضمونِ صِلتِه، وأنَّها شأنٌ مِن شُؤونِ اللهِ تعالَى عُرِف به، ثابتٌ له لا يَتخلَّفُ؛ لأنَّه المُناسِبُ لِحِكمتِه، وعظَمةِ شَأنِه، وغِناهُ عن خلْقِه. وإيثارُ جُملةِ الصِّلةِ بصِيغةِ المضارعِ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو؛ لإفادةِ تَجدُّدِ مَضمونِه وتَكرُّرِه؛ ليَعلَموا أنَّ ذلك وعْدٌ لا يَتخلَّفُ ولا يَختلِفُ [548] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/89). .
- وفِعلُ (قَبِلَ) يَتعدَّى بحَرْفِ (مِن) الابتدائيَّةِ تارةً -كما في قولِه: وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ [التوبة: 54] ، وقولِه: فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا [آل عمران: 91] - فيُفيدُ مَعْنى الأخْذِ للشَّيءِ المقبولِ صادرًا مِن المأخوذِ منه. ويُعدَّى بحَرْفِ (عَنْ)، فيُفيدُ معْنى مُجاوَزةِ الشَّيءِ المقبولِ أو انفِصالِه عن مُعطيهِ وباذِلِه، وهو أشدُّ مُبالغةً في معْنى الفعلِ مِن تَعْديتِه بحَرْفِ (مِن)؛ لأنَّ فيه كِنايةً عن احتِباسِ الشَّيءِ المبذولِ عِندَ المبذولِ إليه بحيثُ لا يُرَدُّ على باذِلِه، فحصَلَتْ في هذه الجُملةِ أربعُ مُبالَغاتٍ: بِناءُ الجُملةِ على الاسميَّةِ، وعلى الموصوليَّةِ، وعلى المُضارعيَّةِ، وعلى تَعديةِ فِعلِ الصِّلةِ بحَرْفِ (عَنْ) دونَ (مِنْ) [549] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/89، 90). .
- وفي ذِكرِ اسمِ (العِبادِ) دونَ نحْوِ (النَّاسِ)، أو (التَّائبينَ)، أو غيرِ ذلك: إيماءٌ إلى أنَّ اللهَ رَفيقٌ بعِبادِه لمَقامِ العُبوديَّةِ؛ فإنَّ الخالقَ والصَّانعَ يُحِبُّ صَلاحَ مَصنوعِه [550] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/90). .
- والتَّعريفُ في (السَّيِّئاتِ) تَعريفُ الجِنسِ المرادُ به الاستِغراقُ، وهو عامٌّ مَخصوصٌ بغيرِ الشِّركِ؛ قال تعالَى: إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ [النساء: 48، 116]، ويجوزُ أنْ يكونَ عِوَضًا عن المُضافِ إليه، أي: عن سَيِّئاتِ عِبادِه؛ فيَعُمَّ جَميعَ العِبادِ عُمومًا مَخصوصًا بالأدلَّةِ لهذا الحُكمِ [551] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/90). .
- وجُملةُ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ مُعترِضةٌ بيْن المُتعاطِفاتِ، أو في مَوضعِ الحالِ، والمقصودُ: أنَّه لا يَخفى عليه شَيءٌ مِن أعمالِ عِبادِه خيْرِها وشَرِّها [552] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/90). .
- وعُبِّرَ بقولِه: تَفْعَلُونَ بتاءِ الخِطابِ على طَريقةِ الالْتفاتِ [553] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/90). ، والالتفاتُ مِن الغَيبةِ إلى المخاطَبِ فيه نوعٌ مِن تَنشيطِ ذِهنِ السَّامِعِ، وفيه إشارةٌ إلى أنَّ الخِطابَ لكمْ أنتُمْ [554] يُنظر: ((لمسات بيانية لسور القرآن الكريم)) لفاضل السامرائي (1/19). .
2- قولُه تعالى: وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ
- قولُه: وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ الاستجابةُ: مُبالَغةٌ في الإجابةِ، وخُصَّتِ الاستجابةُ في الاستِعمالِ بامْتثالِ الدَّعوةِ أو الأمرِ [555] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/90). .
- ولَمَّا كانتِ الاستجابةُ والزِّيادةُ كَرامةً للمؤمنينَ، أُظهِرَ اسمُ الَّذِينَ آَمَنُوا، وجِيءَ به مَوصولًا؛ للدَّلالةِ على أنَّ الإيمانَ هو وَجْهُ الاستجابةِ لهم، والزِّيادةِ لهم [556] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/91). .
- وجُملةُ وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ اعتِراضٌ عائدٌ إلى ما سبَقَ مِن قولِه: تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ [الشورى: 22]؛ تَوكيدًا للوعيدِ، وتَحذيرًا مِن الدَّوامِ على الكُفْرِ بعْدَ فتْحِ بابِ التَّوبةِ لهم [557] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/91). .
- وفي هذه الآيةِ احتِباكٌ [558] الاحتِباكُ: هو الحذفُ مِن الأوائلِ لدَلالةِ الأواخِرِ، والحذفُ مِن الأواخرِ لدَلالةِ الأوائلِ، إذا اجتمَع الحَذفانِ معًا، وله في القرآنِ نظائرُ، وهو مِن إبداعاتِ القرآنِ وعناصرِ إعجازِه، وهو مِن ألطفِ الأنواعِ. يُنظر: ((الإتقان)) للسيوطي (3/204)، ((البلاغة العربية)) لعبد الرحمن حَبَنَّكَة الميداني (1/347). ؛ فقدْ ذَكَر الاستجابةَ أوَّلًا؛ دَليلًا على ضِدِّها ثانيًا، والعذابَ ثانيًا؛ دَليلًا على ضِدِّه أوَّلًا، وسِرُّه أنَّه ذَكَر الحامِلَ على الطَّاعةِ والصَّادَّ عن المعصيةِ [559] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (17/307). .
3- قولُه تعالى: وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ
- قولُه: وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ كَلامٌ مُستأنَفٌ مَسوقٌ لِبَيانِ أنَّ بَسْطَ الرِّزقِ مَفسَدةٌ للخَلْقِ [560] يُنظر: ((إعراب القرآن)) لدرويش (9/34). . أو عطْفٌ على جُملةِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ [الشورى: 26] ، أو على المجموعِ مِن جُملةِ وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آَمَنُوا [الشورى: 26] ومِن جُملةِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ، ومَوقعُ معناها مَوقعُ الاستِدراكِ والاحتراسِ؛ فإنَّها تُشيرُ إلى جَوابٍ عن سُؤالٍ مُقدَّرٍ في نفْسِ السَّامعِ إذا سَمِعَ أنَّ اللهَ يَستجيبُ للذين آمَنوا، وأنَّه يَزيدُهم مِن فضْلِه؛ أنْ يَتساءَلَ في نفْسِه: إنَّ ممَّا يَسألُ المؤمنونَ سَعةَ الرِّزقِ والبَسطةَ فيه؛ فقدْ كان المؤمنونَ أيَّامَ صَدْرِ الإسلامِ في حاجةٍ وضِيقِ رِزقٍ؛ إذ منَعَهم المشرِكونَ أرزاقَهم، وقاطَعوا مُعاملتَهم، فيُجابُ بأنَّ اللهَ لو بسَطَ الرِّزقَ للنَّاسِ كلِّهم، لكان بسْطُه مُفسِدًا لهم؛ لأنَّ الَّذي يَستغني يَتطرَّقُه نِسيانُ الالْتجاءِ إلى اللهِ، ويَحمِلُه على الاعتداءِ على النَّاسِ، فكان مِن خَيرِ المؤمنينَ الآجِلِ لهم ألَّا يُبسَطَ لهم في الرِّزقِ، وكان ذلك مَنوطًا بحِكمةٍ أرادَها اللهُ مِن تَدبيرِ هذا العالَمِ تَطَّرِدُ في النَّاسِ مُؤمنِهم وكافرِهم، وقدْ كان في ذلك للمُؤمنِ فائدةٌ أُخرى؛ وهي ألَّا يَشغَلَه غِناهُ عن العَملِ الذي به يَفوزُ في الآخِرةِ، فلا تَشغَلَه أمْوالُه عنه.
وقد ورَدتْ هذه الآيةُ مَوردًا كُلِّيًّا؛ لأنَّ قولَه: لِعِبَادِهِ يَعُمُّ جميعَ العبادِ، ومِن هذه الكُلِّيَّةِ تَحصُلُ فائدةُ المسؤولِ عليه الجُزئيِّ الخاصِّ بالمؤمنينَ، مع إفادةِ الحِكمةِ العامَّةِ مِن هذا النِّظامِ التَّكوينيِّ؛ فكانتْ هذه الجُملةُ بهذا الاعتبارِ بمَنزلةِ التَّذييلِ؛ لِما فيها مِن العُمومِ، أي: إنَّ اللهَ أسَّسَ نِظامَ هذا العالَمِ على قَوانينَ عامَّةٍ، وليْس مِن حِكمتِه أنْ يخُصَّ أولياءَه وحِزبَه بنِظامٍ تَكوينيٍّ دُنيويٍّ، ولكنَّه خَصَّهم بمَعاني القُربِ والرِّضا والفوْزِ في الحياةِ الأبديَّةِ، وربَّما خَصَّهم بما أرادَ تَخصيصَهم به ممَّا يَرجِعُ إلى إقامةِ الحقِّ [561] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/92، 93). .
- وجُملةُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ واقعةٌ مَوقعَ التَّعليلِ للتي قبْلَها. وافتُتِحتْ بحَرْفِ (إنَّ) التي لم يُرَدْ منها تأْكيدُ الخبرِ، ولكنَّها لِمُجرَّدِ الاهتمامِ بالخبرِ، والإيذانِ بالتَّعليلِ؛ لأنَّ (إنَّ) في مِثلِ هذا المَقامِ تَقومُ مَقامَ فاءِ التَّفريعِ، وتُفيدُ التَّعليلَ والرَّبطَ؛ فالجُملةُ في تَقديرِ المعطوفةِ بالفاءِ [562] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/94). .
- قولُه: إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ أي: مُحيطٌ بخَفيَّاتِ أُمورِهم وجَلاياها، فيُقدِّرُ لكلِّ واحدٍ منْهم في كلِّ وقْتٍ مِن أوقاتِهم ما يَليقُ بشأْنِه؛ فيُفقِرُ ويُغْني، ويَمنَعُ ويُعْطي، ويَقبِضُ ويَبسُطُ حسْبما تَقتضيهِ الحِكمةُ الرَّبَّانيَّةُ [563] يُنظر: ((تفسير الألوسي)) (13/38). . وقيل: جمَع بيْن وَصفَيْ خَبِيرٌ وبَصِيرٌ؛ لأنَّ وَصْفَ (خَبير) دالٌّ على العِلمِ بمَصالحِ العبادِ وأحوالِهم قبْلَ تَقديرِها، وتَقديرِ أسبابِها، أي: العِلمِ بما سيَكونُ، ووَصْفَ (بَصير) دالٌّ على العِلمِ المتعلِّقِ بأحوالِهم التي حصَلتْ، وفرْقٌ بيْن التَّعلُّقينِ للعِلمِ الإلهيِّ [564] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/94). .
- وفي قولِه: إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ مُناسَبةٌ حسَنةٌ، حيثُ قال هنا: إِنَّهُ بالضَّميرِ وخَبِيرٌ، وقال في سُورةِ (فاطر): إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ [فاطر: 31] بلَفظِ الجَلالةِ الصَّريحِ اللَّهَ، وبزِيادةِ اللَّامِ في لَخَبِيرٌ؛ لِأنَّ الآيةَ المُتقدِّمةَ في هذه السُّورةِ لم يَكُنْ فيها ذِكرُ اللهِ، فصَرَّحَ باسمِه سُبحانَه. وبزِيادةِ اللَّامِ؛ مُوافَقةً لِقولِه بعْدُ: إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ [فاطر: 34] ، وقالَه هنا بالضَّميرِ؛ لِتقَدُّمِ لَفظِ (الله)، وبحَذفِ اللَّامِ؛ لِعَدَمِ ما يَقتَضي ذِكرَها؛ فهو مُتَّصِلٌ بقَولِه: وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ، فخُصَّ بالكِنايةِ -أي: الضَّميرِ [565] يُنظر: ((أسرار التكرار في القرآن)) للكرماني (ص: 210)، ((بصائر ذوي التمييز)) للفيروزابادي (1/388)، ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص: 469). .
4- قولُه تعالى: وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ
- قولُه: وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا عطْفٌ على جُملةِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ [الشورى: 27] ؛ فإنَّ الغيثَ سَببُ رِزقٍ عَظيمٍ، وهو ما يُنزِّلُه اللهُ بقَدَرٍ هو أعلَمُ به، وفيه تَذكيرٌ بهذه النِّعمةِ العَظيمةِ على النَّاسِ، الَّتي منها مُعظَمُ رِزقِهم الحقيقيِّ لهم ولأنْعامِهم. وخَصَّها بالذِّكرِ دونَ غيرِها مِن النِّعمِ الدُّنيويَّةِ؛ لأنَّها نِعمةٌ لا يَختلِفُ النَّاسُ فيها؛ لأنَّها أصلُ دَوامِ الحياةِ بإيجادِ الغذاءِ الصَّالحِ للنَّاسِ والدَّوابِّ؛ وبهذا يَظهَرُ وَقْعُ قَولِه: وَمِنْ آَيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ [الشورى: 29] عقِبَ قولِه هنا: وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ [566] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/95). .
- واختيارُ التَّعبيرِ بصِيغةِ المضارعِ في قولِه: يُنَزِّلُ؛ لإفادةِ تَكرُّرِ التَّنزيلِ وتَجديدِه [567] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/95). .
- والتَّعبيرُ بالماضي في قولِه: مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا؛ للإشارةِ إلى حُصولِ القُنوطِ وتَقرُّرِه بمُضيِّ زمانٍ عليه [568] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/95). .
- وتَقييدُ تَنزيلِ الغيثِ بقولِه: مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا مع تَحقُّقِه بدونِه أيضًا؛ لِتَذكُّرِ كَمالِ النِّعمةِ [569] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (8/32). .
- وصِيغةُ القَصْرِ في قولِه: وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا -المستفادِ من تَعريفِ جُزأي الجُملةِ وَهُوَ الَّذِي- تُفيدُ قَصْرَ القلْبِ؛ لأنَّ في السَّامعينَ مُشرِكينَ يَظُنُّونَ نُزولَ الغَيثِ مِن تَصرُّفِ الكواكبِ، وفيهم المسلمونَ الغافِلونَ، نُزِّلوا مَنزلةَ مَن يَظُنُّ نُزولَ الغيثِ مَنوطًا بالأسبابِ المعتادةِ لِنُزولِ الغَيثِ؛ لأنَّهم كانوا في الجاهليَّةِ يَعتقِدونَ أنَّ المطرَ مِن تَصرُّفِ أَنْواءِ [570] الأنواءُ: مَنازِلُ القَمَرِ، وكانت العَرَبُ تَزعُمُ أنَّ عندَ كُلِّ نَوءٍ مَطَرًا، ويَنسُبونَه إليه، فيقولون: مُطِرْنا بنَوءِ كذا. يُنظر: ((مرقاة المفاتيح)) للقاري (7/2895). الكواكبِ؛ فهذا القَصْرُ بالنِّسبةِ للمُشرِكينَ قصْرُ قلْبٍ أصلِيٌّ [571] قصرُ القلْب الأصليُّ: المقصودُ به قصرُ القلْب الحقيقيُّ، وهو تخصيصُ أمرٍ بأمْرٍ مكانَ آخَر، ويُخاطَب به مَن يَعتقدُ العكسَ، كقولك: جاءني زيدٌ لا عمرٌو، مخاطبًا مَن يَعتقِد أنَّ عمرًا هو الذي جاءَك دون زيدٍ؛ فأنت تَعكِس وتَقلِب ما يَعتقِدُه؛ ولذا سُمي قصْرَ قلْبٍ، ومنه قولُ اللهِ تعالى: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آَمِنُوا كَمَا آَمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آَمَنَ السُّفَهَاءُ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ [البقرة: 13]؛ لأنَّ المنافقين يَعتقدون أنَّ المؤمنين هم السفهاءُ دونهم؛ فقَلَب اللهُ عزَّ وجلَّ اعتقادَهم وبيَّن أنَّ المنافقين هم السفهاءُ ولكنْ لا يَعلَمون. يُنظر: ((الإيضاح في علوم البلاغة)) للقزويني (3/15)، ((بغية الإيضاح لتلخيص المفتاح)) لعبد المتعال الصعيدي (2/ 224)، ((تفسير ابن عاشور)) (25/95). ، وهو بالنِّسبةِ للمُسلِمينَ قصْرُ قلْبٍ تَنزيليٌّ [572] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/95، 96). .
- وفي قولِه: وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا ... الآيةَ: ما يُعرَفُ في البَلاغةِ بصِحَّةِ التَّفسيرِ؛ وهو أنْ يأتيَ المتكلِّمُ في أوَّلِ كلامِه بمعنًى لا يَستقِلُّ الفَهمُ بمَعرفةِ فَحْواهُ؛ إمَّا أنْ يكونَ مُجمَلًا يَحتاجُ إلى تَفصيلٍ، أو مُوجَّهًا يَفتقِرُ إلى تَوجيهٍ، أو مُحتمِلًا يَحتاجُ المرادُ منه إلى تَرجيحٍ لا يَحصُلُ إلَّا بتَفسيرِه وتَبْيينِه، ووُقوعُ التَّفسيرِ يَأتي في الكلامِ على أنحاءٍ؛ منها أنْ يأتيَ بعْدَ الجارِّ والمجرورِ، كما في هذه الآيةِ، وقد جاءتْ صِحَّةُ التَّفسيرِ فيها مُؤْذِنةً بمَجيءِ الرَّجاءِ بعْدَ اليأسِ، والفرَجِ بعْدَ الشِّدَّةِ، والمَسرَّةِ بعدَ الحُزنِ؛ لِيَكونَ ذلك أَحْلى مَوقعًا في القلوبِ [573] يُنظر: ((إعراب القرآن)) لدرويش (9/36). .
- قولُه: وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ ذكَرَ صِفتَيِ الوليِّ الحَميدِ دونَ غيرِهما؛ لمُناسَبتِهما للإغاثةِ؛ لأنَّ الوليَّ يُحسِنُ إلى مَوالِيهِ، والحَميدَ يُعطِي ما يُحمَدُ عليه، ووَصْفُ حَميدٍ: فَعيلٌ بمعْنى مَفعولٍ، أي: هو مَحمودٌ [574] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/96). .