موسوعة التفسير

سورة هود
الآيتان (6-7)

ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ

غريب الكلمات:

مُسْتَقَرَّهَا: أي: مأواها الذي تأوي إليه ليلًا أو نهارًا، وأصلُ (قرر): يدلُّ على تمكُّنٍ [73] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 202)، ((تفسير ابن جرير)) (12/325)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/7)، ((تفسير القرطبي)) (9/8). .
وَمُسْتَوْدَعَهَا: أي: الموضِعَ الذي يُودِعُها، إمَّا بِمَوتِها فيه، أو دَفنِها، وأصلُ (ودع): يدُلُّ على تَركٍ وتخليةٍ [74] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 202)، ((تفسير ابن جرير)) (12/325)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (6/96)، ((تفسير القرطبي)) (9/8). .

المعنى الإجمالي:

يُبَيِّنُ الله تعالى أنَّه ما من حيٍّ يدِبُّ على الأرضِ إلَّا على الله تعالى غِذاؤُه ومَعاشُه، فضلًا منه سبحانه، وكَرمًا، ويعلَمُ مكان استقرارِ كلِّ دابَّةٍ، والموضِعَ الذي تموتُ فيه، كلُّ ذلك مكتوبٌ في كتابٍ عندَ الله مُبِينٍ عن جميعِ ذلك، ثمَّ يخبرُ سُبحانه أنَّه هو الذي خلقَ السَّمَواتِ والأرضَ في ستَّةِ أيَّامٍ، وكان عرشُه على الماءِ قبل ذلك؛ لِيَختبرَ النَّاسَ أيُّهم أحسَنُ له طاعةً وعَملًا. وخاطَب نبيَّه قائلًا له: ولَئِن قلتَ- أيُّها الرَّسولُ- لهؤلاءِ المُشرِكينَ: إنَّكم مبعوثونَ أحياءً بعدَ مَوتِكم، لَسارعوا إلى التَّكذيبِ، وقالوا: ما هذا القرآنُ الذي تَتلوه علينا إلَّا سِحرٌ بيِّنٌ.

تفسير الآيتين:

وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ (6).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
أنَّ اللهَ تعالى لَمَّا ذكَرَ في الآيةِ الأولى أنَّه يَعلَمُ ما يُسِرُّونَ وما يُعلِنونَ، أردَفَه بما يدُلُّ على كونِه تعالى عالِمًا بجميعِ المعلوماتِ، فبيَّن أنَّ رِزقَ كُلِّ حَيوانٍ إنَّما يَصِلُ إليه مِنَ الله تعالى، فلو لم يكُنْ عالِمًا بجميعِ المعلوماتِ لَما حصَلَت هذه الـمُهِمَّات [75] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (17/318). .
وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللّهِ رِزْقُهَا.
أي: وما مِن دابةٍ تدبُّ على الأرضِ- مِن آدميٍّ، أو حيوانٍ؛ بريٍّ أو بحريٍّ، أو طائرٍ أو زاحفٍ، أو كبيرٍ أو صغيرٍ- إلَّا وقد تكفَّل اللهُ بقُوتِها وغِذائِها [76] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (12/324)، ((تفسير ابن عطية)) (3/151)، ((تفسير القرطبي)) (9/6)، ((تفسير ابن كثير)) (4/305)، ((تفسير المنار)) لمحمد رشيد رضا (12/12)، ((تفسير السعدي)) (ص: 377). قال الرازي في قوله: دَابةٍ: (المرادُ بهذا اللفظِ في هذه الآيةِ الموضوعُ الأصليُّ اللغويُّ، فيدخلُ فيه جميعُ الحيواناتِ، وهذا متفقٌ عليه بينَ المفسِّرين). ((تفسير الرازي)) (17/318). .
كما قال تعالى: وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [العنكبوت: 60] .
وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا.
أي: ويَعلَمُ اللهُ مَأوى كُلِّ دابَّةٍ في اللَّيلِ أو في النَّهارِ، ويَعلَمُ المَوضِعَ الذي تموتُ فيه أو تُدفَنُ [77] يُنظر: ((معاني القرآن)) للفراء (2/4)، ((تفسير ابن جرير)) (12/325)، ((تفسير القرطبي)) (9/8). وهذا المعنى المذكور للمستقرِّ والمستودَعِ هو اختيارُ الفرَّاءِ، وابنِ جريرٍ، والقرطبي. يُنظر: ((معاني القرآن)) للفراء (2/4)، ((تفسير ابن جرير)) (12/325)، ((تفسير القرطبي)) (9/8). وممَّن قال بهذا القولِ مِن السَّلفِ: ابنُ عبَّاسٍ، وأبو صالحٍ.  يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (12/325)، ((الدر المنثور)) للسيوطي (4/402). وقيل: مستقرُّها: منتهَى سيرِها في الأرضِ، ومستودُعها ما تأوي إليه مِن أوكارِها. وممن اختار هذا المعنى: ابنُ كثيرٍ. يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (4/305). وقيل: مستقرُّ هذه الدوابِّ هو: المكانُ الذي تُقيم فيه وتستقرُّ، وتأوي إليه، ومستودعُها: المكانُ الذي تنتقلُ إليه في ذهابِها ومجيئِها، وعوارضِ أحوالِها. وممَّن قال بذلك: السعدي. يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 377). وقيل: مستقرُّها في الرحمِ، ومستودعُها في الصلبِ. وممن رُوِي عنه القولُ بذلك: مجاهدٌ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (12/326). .
كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ.
أي: كلُّ الدوابِّ مُثبَتٌ تفاصيلُ أحوالِها- في أرزاقِها ومستَقَرِّها ومُستَودَعِها- في اللَّوحِ المَحفوظِ المُظهرِ لكلِّ ما قدَّره اللهُ لجَميعِ الخَلقِ بالتَّفصيلِ [78] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (12/328)، ((تفسير ابن كثير)) (4/306)، ((تفسير الشوكاني)) (2/547)، ((تفسير السعدي)) (ص: 377). قال ابنُ جريرٍ: (وهذا إخبارٌ منَ اللهِ جلَّ ثناؤه الذين كانوا يَثنونَ صُدورَهم لِيَستَخفوا منه: أنَّه قد عَلِمَ الأشياءَ كُلَّها، وأثبَتَها في كتابٍ عِندَه قبل أن يخلُقَها ويُوجِدَها؛ يقولُ لهم تعالى ذِكرُه: فمن كان قد عَلِمَ ذلك منهم قبل أن يُوجِدَهم، فكيف يخفى عليه ما تنطوي عليه نفوسُهم إذا ثَنَوا به صدورَهم واستغشَوا عليه ثيابهم؟!). ((تفسير ابن جرير)) (12/328). .
كما قال تعالى: وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ [الأنعام: 59] .
وقال سُبحانه: وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ [يونس: 61] .
وقال عزَّ وجلَّ: أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ [الحج: 70] .
وقال جلَّ جلالُه: وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ [النمل: 75] .
وعن عبدِ اللهِ بنِ عَمرِو بنِ العاصِ رَضِيَ اللهُ عنهما، قال: سمعتُ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقولُ: ((كتبَ اللهُ مَقاديرَ الخلائقِ قبلَ أن يخلُقَ السَّمواتِ والأرضَ بخَمسينَ ألفَ سنةٍ) ) [79] أخرجه مسلم (2653). .
وَهُوَ الَّذِي خَلَق السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاء لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَلَئِن قُلْتَ إِنَّكُم مَّبْعُوثُونَ مِن بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ هَـذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ (7).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
أنَّ الله تعالى لَمَّا أثبت بالدَّليلِ المتقَدِّمِ كَونَه عالِمًا بالمعلوماتِ؛ أثبَتَ بهذا الدَّليلِ كونَه تعالى قادرًا على كلِّ المَقدوراتِ [80] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (17/319). .
وأيضًا لَمَّا كان خلقُ ما منه الرِّزقُ أعظمَ مِن خَلقِ الرِّزقِ وتوزيعِه في شمولِ العِلمِ والقدرةِ معًا؛ تلاه بقَولِه تعالى [81] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (9/238). :
وَهُوَ الَّذِي خَلَق السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ.
أي: واللهُ هو الذي خلق السَّمواتِ السَّبعَ والأرضَ في ستَّةِ أيامٍ [82] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (12/328)، ((تفسير ابن كثير)) (4/306)، ((تفسير السعدي)) (ص: 377). قال ابن جرير: (يقول تعالى ذِكرُه: الله الذي إليه مَرجِعُكم أيُّها النَّاسُ جميعًا وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ يقول: أفيَعجِزُ مَن خلقَ ذلك من غيرِ شَيءٍ أن يُعيدَكم أحياءً بعد أن يُميتَكم؟). ((تفسير ابن جرير)) (12/328). .
وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاء.
أي: وكان عَرشُ اللهِ على الماءِ قبل أن يخلُقَ السَّمواتِ والأرضَ [83] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (12/330)، ((المفردات)) للراغب (ص: 559)، ((تفسير ابن كثير)) (4/306)، ((لطائف المعارف)) لابن رجب (ص: 22)، ((تفسير الشوكاني)) (2/547). .
عن عِمرانَ بنِ حُصَينٍ رَضِيَ الله عنهما، قال: ((دخلتُ على النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وعقَلتُ ناقَتي بالبابِ، فأتاه ناسٌ مِن بني تميمٍ، فقال: اقبَلوا البُشرى يا بني تميمٍ، قالوا: قد بشَّرْتَنا فأعْطِنا- مَرَّتينِ- ثمَّ دخل عليه ناسٌ مِن أهلِ اليَمَنِ، فقال: اقبَلوا البُشرى يا أهلَ اليَمَنِ إذ لم يَقبَلْها بنو تميمٍ، قالوا: قد قَبِلْنا يا رسولَ اللهِ، قالوا: جِئناك نسألُك عن هذا الأمرِ؟ قال: كان اللهُ ولم يكنْ شَيءٌ غَيرُه، وكان عرشُه على الماءِ، وكتب في الذِّكرِ كلَّ شَيءٍ، وخلَقَ السَّمواتِ والأرضَ )) [84] أخرجه البخاري (3191).
وعن عبدِ الله بنِ عمرِو بنِ العاصِ رضي الله عنهما، قال: سمعتُ رسولَ الله صلَّى الله عليه وسلَّم يقولُ: ((كتَب الله مقاديرَ الخلائقِ قبلَ أن يخلقَ السمواتِ والأرضَ بخمسينَ ألفَ سنةٍ، قال: وعرشُه على الماءِ )) [85] أخرجه مسلم (2653).
لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً.
أي: خلقَ اللهُ السَّمواتِ والأرضَ، وخَلقَكم- أيُّها النَّاسُ- ليَختبِرَكم، فينظُرَ أيُّكم أحسَنُ طاعةً للهِ بالإخلاصِ له، واتِّباعِ شَريعتِه [86] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (12/335)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (1/333)، ((تفسير ابن كثير)) (4/307، 308)، ((تفسير السعدي)) (ص: 377). .
كما قال الله تعالى: إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا [الكهف: 7] .
وَلَئِن قُلْتَ إِنَّكُم مَّبْعُوثُونَ مِن بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ هَـذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ.
مناسبتُها لما قبلَها:
ولما كان الابتلاءُ يتضمَّنُ حديثَ البعثِ؛ أتبَع ذلك بذكرِه [87] يُنظر: ((فتح البيان)) للقنوجي (6/145). .
القراءاتُ ذاتُ الأثرِ في التفسيرِ:
في قوله تعالى: سِحْرٌ قراءتان:
1- قراءةُ سَاحِرٌ على أنَّ مرادَهم بذلك: محمَّدٌ صلَّى الله عليه وسلَّم [88] قرأ بها: حمزةُ والكسائيُّ وخلفٌ. يُنظر: ((النشر)) لابن الجزري (2/256). ويُنظر لمعنى هذه القراءةِ: ((تفسير ابن جرير)) (12/336). .
2- قراءةُ سِحْرٌ على أنَّ مرادَهم بذلك: القرآنُ الكريمُ [89] قرأ بها: الباقون. يُنظر: ((النشر)) لابن الجزري (2/256). ويُنظر لمعنى هذه القراءةِ: ((تفسير ابن جرير)) (12/336). .
وَلَئِن قُلْتَ إِنَّكُم مَّبْعُوثُونَ مِن بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ هَـذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ.
أي: ولَئنْ قُلتَ- يا مُحمَّدُ- للمُشرِكينَ: إنَّ اللهَ سَيبعَثُكم يومَ القيامةِ أحياءً بعد مَوتِكم، فتَلَوتَ عليهم القرآنَ بذلك؛ لَيقولُنَّ تكذيبًا وعنادًا: ما هذا القرآنُ الذي تَتلوه علينا إلَّا سِحرٌ واضِحٌ، يَظهَرُ لِمَن يستمِعُه أنَّه سِحرٌ [90] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (12/335، 336)، ((أضواء القرآن)) للشنقيطي (7/214). وممَّن اختار عودَ اسمِ الإشارةِ في قَولِه تعالى: إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ على القرآنِ: ابن جرير، والشنقيطي. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (12/335، 336)، ((أضواء القرآن)) للشنقيطي (7/214). وبعضُ المفَسِّرينَ جعل اسمَ الإشارةِ عائدًا على القَولِ بالبعثِ بعد الموتِ عُمومًا دون تَخصيصِ ذلك بآياتِ القُرآنِ، ومنهم: القرطبي، وابن عاشور. يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (9/9)، ((تفسير ابن عاشور)) (12/9). وقال ابن عاشور: (وَقَرَأَ حَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَخَلَفٌ: إِلَّا سَاحِرٌ فالإشارةُ بقولِه هذا إِلى الرَّسولِ صلَّى الله عليه وسلَّم المفهومِ مِن ضميرِ قُلْتَ أي: أنَّه يقولُ كلامًا يَسْحَرُنا بذلك). ((تفسير ابن عاشور)) (12/9). قال ابنُ كثيرٍ: (وقولُهم: إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ أي: يقولونَ كفرًا وعنادًا: ما نصدِّقُك على وقوعِ البعثِ، وما يَذكرُ ذلك إلا مَن سَحرتَه، فهو يتَّبِعُك على ما تقولُ). ((تفسير ابن كثير)) (4/308). !!

الفوائد التربوية :

1- قال اللهُ تعالى: وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ ثمَّ بيَّن الحكمةَ، فقال: لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا، وقال تعالى في أولِ سورةِ الكهفِ: إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَّهَا ثمَّ بَيَّن الحكمةَ، فقال: لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا [الكهف: 7] ، وقال في أولِ سورةِ الملك: الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ، ثمَّ بيَّن الحكمةَ، فقال: لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا [الملك: 2] ولم يقُلْ: أكثرُ عملًا، فإذا عَرَف العبدُ أنَّه خُلِق لأجلِ أن يُختبَرَ في إحسانِ العملِ كان حريصًا على الحالةِ التي ينجحُ بها في هذا الاختبارِ؛ لأنَّ اختبارَ ربِّ العالمينَ يومَ القيامةِ مَنْ لم ينجَحْ فيه جُرَّ إلى النَّارِ، فعدمُ النجاحِ فيه مهلكةٌ [91]  يُنظر: ((العذب النمير)) للشنقيطي (5/200). ، ففي ذلك الحثُّ على محاسنِ الأعمالِ، والترقِّي دائمًا في مراتبِ الكمالِ [92] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (9/240). .
2- قَولُ الله تعالى: وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا فيه إشارةٌ إلى أنَّ مِن حِكمةِ خَلقِ الأرضِ صدورَ الأعمالِ الفاضلةِ مِن أشرَفِ المخلوقاتِ فيها، ثمَّ إنَّ ذلك يقتضي الجزاءَ على الأعمالِ؛ إكمالًا لمُقتضى الحِكمةِ؛ ولذلك أُعقِبَت بقَولِه تعالى: وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ [93] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (12/8). .
3- قال تعالى لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا قال الفضيلُ بنُ عياضٍ: أخلصُه وأصوبُه. والخالصُ أن يكونَ لله، والصوابُ أن يكونَ على السنةِ، وهما أصلانِ عظيمانِ: أحدُهما: أن لا نعبدَ إلا الله، والثاني: أن لا نعبدَه إلا بما شرَع، لا نعبدُه بعبادةٍ مبتدعةٍ، وهذان الأصلانِ هما تحقيقُ شهادةِ أن لا إلهَ إلا الله، وأنَّ محمدًا رسولُ الله [94] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (1/333). .
4- قال تعالى لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا والعملُ الأحسنُ هو الأخلصُ والأصوبُ، وهو الموافقُ لمرضاتِه ومحبتِه، دونَ الأكثرِ الخالي مِن ذلك، فهو سبحانَه وتعالى يحبُّ أن يتعبدَ له بالأرضَى له، وإن كان قليلًا دونَ الأكثرِ الذي لا يُرضيه، والأكثرِ الذي غيرُه أرضَى له منه، ولهذا يكونُ العملانِ في الصورةِ واحدًا، وبينَهما في الفضلِ، بل بينَ قليلِ أحدِهما وكثيرِ الآخرِ في الفضلِ أعظمُ مما بينَ السماءِ والأرضِ [95] يُنظر: ((المنار المنيف)) لابن القيم (ص: 31). .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- قَولُ الله تعالى: وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَالم يقُل (على الأرضِ)، مع أنَّه أنسَبُ بتَفسيرِ الدابَّةِ لغةً- لأنَّها ما يدِبُّ على الأرضِ- لأنَّ (في) أعمُّ مِن (على)؛ لأنَّها تتناوَلُ من الدوابِّ ما على ظَهرِ الأرضِ، وما في بَطنِها [96] يُنظر: ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص:258). .
2- الرِّزقُ مَقسومٌ لكلِّ أحَدٍ مِن بَرٍّ وفاجرٍ، ومؤمنٍ وكافرٍ؛ كما قال تعالى: وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا هذا مع ضَعفِ كَثيرٍ مِن الدوابِّ، وعَجزِها عن السَّعيِ في طلَبِ الرِّزقِ؛ قال تعالى: وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ [العنكبوت:60] فما دام العبدُ حيًّا، فرِزقُه على اللهِ، وقد يُيَسِّرُه الله له بكَسبٍ وبِغَيرِ كَسبٍ [97] يُنظر: ((جامع العلوم والحكم)) لابن رجب (2/508). .
3- قَولُ الله تعالى: وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا ظاهِرٌ في الوجوبِ، بينما رِزقُ اللهِ لكُلِّ ما دبَّ على الأرضِ هو تفَضُّلٌ، وللعُلماءِ في التَّوفيقِ بين ذلك وجوهٌ:
الوجهُ الأوَّلُ: أنَّه لَمَّا ضَمِنَ تعالى أن يتفضَّلَ به عليهم، أبرَزَه في حيِّزِ الوُجوبِ [98] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (6/124). . فكأنَّه لضمانتِه، وعدمِ تخلُّفِه كأنَّه واجبٌ عليه.
الوجه الثاني: أنَّ المرادَ بالوجوبِ هنا وجوبُ اختيارٍ، لا وجوبُ إلزامٍ، كقولِ الإنسانِ لصاحِبِه: حقُّك واجِبٌ عليَّ.
الوجه الثالث: أنَّ (على) بمعنى (مِن)، كما في قَولِه تعالى: الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ [99] يُنظر: ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص:258-259). [المطففين: 2] .
4- قولُ الله تعالى: وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا رُدَّ به على المُعتزلةِ في قولِهم: (إنَّ الحرامَ ليس برزقٍ)؛ لأنَّه يلزمُ عليه أنَّ من تغذَّى طولَ عُمُرِه بالحرامِ لم يرزُقْه اللهُ، وهو خلافُ ما في الآيةِ؛ لأنَّه تعالى لا يترُكُ ما أخبَرَ بأنَّه عليه [100] يُنظر: ((الإكليل)) للسيوطي (ص:150). وينقسمُ الرزقُ إلى قسمينِ: عامٍّ وخاصٍّ، فالعامُّ: كلُّ ما ينتفعُ به البدنُ، سواءٌ كان حلالًا أو حرامًا، وسواءٌ كان المرزوقُ مسلمًا أو كافرًا، أمَّا الرزقُ الخاصُّ، فهو ما يقومُ به الدينُ مِن العلمِ النافعِ، والعملِ الصالحِ، والرزقِ الحلالِ المعينِ على طاعةِ الله. يُنظر: ((مجموع فتاوى ورسائل العثيمين)) (8/165). .
5- قَولُ الله تعالى: وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا فيه سؤالٌ: كيف قيل: أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وأعمالُ المؤمنينَ هي التي تتفاوتُ إلى حسَنٍ وأحسَنَ، فأمَّا أعمالُ المؤمنينَ والكافرينَ فتفاوُتُها إلى حَسَنٍ وقبيحٍ؟
الجوابُ: أنَّ الذين هم أحسَنُ عملًا هم المتَّقونَ، وهم الذين استَبَقوا إلى تحصيلِ ما هو مقصودُ اللهِ مِن عبادِه، فخَصَّهم بالذِّكرِ، واطَّرَح ذِكرَ مَن وراءَهم؛ تشريفًا لهم، وتنبيهًا على مكانِهم منه، وليكون ذلك تيقُّظًا للسَّامعينَ، وتَرغيبًا في حيازةِ فَضلِهم [101] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (6/126). ، وأيضًا للتَّحريضِ على أحاسِنِ المَحاسنِ [102] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (3/128). .
6- قَولُ الله تعالى: وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ فيه أنَّ العَرشَ ذاتٌ مَخلوقةٌ فوق السَّمَواتِ، وذلك يقتضي أنَّ العَرشَ مخلوقٌ قبل السَّمَواتِ والأرضِ، وكذلك الماءُ [103] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (12/7). فالله تعالى أخْبَر أنَّ عرشَه كان على الماءِ قبلَ خلقِ السمواتِ والأرضِ، وثَبَت ذلك في ((صحيحِ البخاريِّ)) [104] ((صحيح البخاري)) (7418 ). عن عِمرانَ بنِ حُصينٍ، عن النَّبيِّ صلَّى اللَّه عليه وسلَّم قال: ((كان اللَّهُ ولا شيءَ غيرُه، وكان عرشُه على الماءِ، وكَتَب في الذِّكرِ كلَّ شيءٍ، ثُمَّ خَلَق السَّمواتِ والأرضَ )) [105]  يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (5/145). قال ابنُ حجر: (وقد وقَع... بلفظِ: «كان عرشُه على الماءِ، ثمَّ خلَق القلمَ، فقال: اكتبْ ما هو كائنٌ ثم خلَق السمواتِ والأرضَ وما فيهنَّ»، فصرَّح بترتيبِ المخلوقاتِ بعدَ الماءِ والعرشِ... ولم يقعْ بلفظِ: «ثم» إلَّا في ذكرِ خلقِ السمواتِ والأرضِ، وقد روَى مسلمٌ مِن حديثِ عبدِ الله بنِ عمرٍو مرفوعًا: «أنَّ الله قدَّر مقاديرَ الخلائقِ قبلَ أن يخلقَ السمواتِ والأرضَ بخمسينَ ألفَ سنةٍ، وكان عرشُه على الماءِ»، وهذا الحديثُ يؤيدُ روايةَ مَن روَى: «ثمَّ خلَق السمواتِ والأرضَ» باللفظِ الدالِّ على الترتيبِ). ((فتح الباري)) (6/289). .
7- في قَولِه تعالى: وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا دلالةٌ على أنَّ اللهَ تعالى خلَقَ السَّمواتِ والأرضَ لِيبتليَ عبادَه بأمْرهِ ونَهيِه، وهذا مِن الحَقِّ الذي خلَقَ به خلْقَه [106] يُنظر: ((شفاء العليل)) لابن القيم (ص: 35). .
8- في قَولِه تعالى: وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ قال أهل المعاني: وفي وقوفِ العَرشِ على الماءِ- والماءُ غيرُ قرارٍ- أعظَمُ الاعتبارِ لأهلِ الأفكارِ [107] يُنظر: ((البسيط)) للواحدي (11/355). .

بلاغة الآيتين:

1- قولُه: وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ
- قولُه: وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا فيه زيادةُ قولِه: فِي الْأَرْضِ تأكيدًا لمعنَى دَابَّةٍ؛ للتَّنصيصِ على أنَّ العُمومَ مُسْتَعملٌ في حقيقتِه [108] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (12/5). .
- وتقديمُ عَلَى اللَّهِ قَبْلَ رِزْقُهَا؛ لإفادةِ القَصْرِ؛ أي: على اللهِ لا على غيرِه، وأيضًا التَّركيبُ عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا يُفيدُ معنى أنَّ اللهَ تكفَّل برِزْقِها ولم يُهْمِلْه [109] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (12/5-6)، ويُنظر أيضًا: ((تفسير الزمخشري- مع الحاشية)) (2/379)، ((تفسير أبي حيان)) (6/124). .
2- قولُه تعالى: وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ
- قَولُ الله تعالى: لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا أي: أنَّ الحِكمةَ في خَلقِ ذلك أنَّه يَخْتَبِركم، ودلَّ على شِدَّةِ الاهتمامِ بذلك بسَوقِه مَساقَ الاستفهامِ في قَولِه: أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا [110] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (9/239). .
- قولُه: وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا.. فيه تأكيدُ الجملةِ باللَّام الموطِّئةِ للقَسَمِ في وَلَئِنْ وما يَتْبَعُه مِن نونِ التوَّكيدِ في لَيَقُولَنَّ؛ لِتَنزيلِ السَّامعِ مَنزِلةَ المتردِّدِ في صُدورِ هذا القولِ مِنهم؛ لِغَرابةِ صُدورِه مِن العاقلِ؛ فيكونُ التَّأكيدُ القويُّ والتَّنزيلُ مُستعمَلًا في التَّعجُّبِ مِن حالِ الَّذين كفَروا أن يُحِيلوا إعادةَ الخلقَ، وقد شاهَدوا آثارَ بدْءِ الخلقِ، وهو أعظَمُ وأبدَعُ [111] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (12/9). .