موسوعة التفسير

سورة هود
الآيات (8-11)

ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ

غريب الكلمات:

أُمَّةٍ: الأُمَّةُ: الحينُ والزمانُ [112] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 202)، ((غريب القرآن)) للسجستاني  (ص: 90)، ((المفردات)) للراغب (ص: 86)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص:  188). .
يَحْبِسُهُ: أي: يَمنَعُه أو يؤخِّرُه، وأصلُ (حبس): يدلُّ على المَنعِ [113] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (12/338)، ((المفردات)) للراغب (ص: 216). .
وَحَاقَ بِهِمْ: أي: نزل بهم وأصابَهم، وأصلُ (حيق): يدلُّ على نزولِ الشَّيءِ بالشَّيءِ [114] يُنظر: ((تفسير الطبري)) (12/339)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/125)، ((المفردات)) للراغب (ص: 266). .

المعنى الإجمالي:

يُقسِمُ الله تعالى قائلًا: ولئن أخَّرْنا عن هؤلاء المُشرِكينَ العذابَ إلى أجَلٍ معلومٍ فاستبطَؤوه، ليقولُنَّ استهزاءً وتكذيبًا: أيُّ شيءٍ يمنَعُ هذا العذابَ مِن الوقوعِ إن كان حقًّا؟ ألا يومَ يأتيهم ذلك العذابُ لا يستطيعُ أن يَصرِفَه عنهم صارِفٌ، ولا يَدفَعَه دافِعٌ، وأحاط بهم مِن كُلِّ جانبٍ العذابُ الذي كانوا يَستَهزئونَ به قبلَ وقوعِه بهم، ولَئِن أعطَينا الإنسانَ مِنَّا نِعمةً مِن صِحَّةٍ وأمنٍ وغَيرِهما، ثمَّ سَلَبْناها منه؛ إنَّه لَشديدُ اليأسِ مِن رَحمةِ الله، جَحودٌ بالنِّعَمِ التي أنعَمَ اللهُ بها عليه، ولَئِن بسَطْنا للإنسانِ في دُنياه، ووسَّعْنا عليه في رِزقِه بعد ضِيقٍ مِن العَيشِ، ليقولَنَّ عند ذلك: ذهب الضِّيقُ عني، وزالت الشَّدائِدُ، إنَّه لشديدُ الفَرحِ بالنِّعَمِ، مُبالِغٌ في الفَخرِ والتَّعالي على النَّاسِ بها، لكنِ الذين صبَروا وعَمِلوا الصَّالحاتِ شُكرًا لله على نِعَمِه، هؤلاء لهم مغفرةٌ لذُنوبِهم، وأجرٌ كبيرٌ في الآخرةِ.

تفسير الآيات:

وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَّعْدُودَةٍ لَّيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ أَلاَ يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفًا عَنْهُمْ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِؤُونَ (8).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
أنَّه لَمَّا كان ما تقدَّم عن المُشركينَ مِن الأفعالِ، ومضَى مِن الأقوالِ مَظِنَّةً لِمُعاجلتِهم بالأخذِ، وكان الواقِعُ أنَّه تعالى يعامِلُهم بالإمهالِ فَضلًا منه وكَرَمًا- حكَى مقالتَهم في مُقابَلةِ رَحمتِه تعالى لهم [115] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (9/241). .
وأيضًا فمُناسبةُ هذه الآيةِ لِما قَبْلَها: أنَّ في كِلتَيهما وَصْفَ فَنٍّ مِن أفانينِ عِنادِ المُشرِكينَ وتهَكُّمِهم بالدَّعوةِ الإسلاميَّةِ؛ فإذا خبَّرهم الرَّسولُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بالبَعثِ، وأنَّ شِركَهم سبَبٌ لتَعذيبِهم، جعلوا كلامَه سِحرًا، وإذا أنذَرَهم بعقوبةِ العَذابِ على الإشراكِ، استَعَجلوه، فإذا تأخَّر عنهم إلى أجَلٍ اقتَضَتْه الحِكمةُ الرَّبانيَّةُ، استَفهَموا عن سبَبِ حَبسِه عنهم استِفهامَ تهكُّمٍ؛ ظنًّا أنَّ تأخُّرَه عَجزٌ [116] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (12/10). .
وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَّعْدُودَةٍ لَّيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ.
أي: ولَئِنْ أخَّرْنا عن هؤلاءِ المُشرِكينَ- يا مُحمَّدُ- العذابَ إلى مُدَّةٍ معلومةٍ، فلم نُعجِّلْه لهم؛ لَيقولُنَّ تكذيبًا واستهزاءً: أيُّ شيءٍ يحبِسُ عنَّا نزولَ العذابِ [117] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (12/336، 338)، ((تفسير القرطبي)) (9/9، 10)، ((تفسير ابن كثير)) (4/308)، ((تفسير الشوكاني)) (2/548)، ((تفسير السعدي)) (ص: 377). ؟!
أَلاَ يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفًا عَنْهُمْ.
أي: ألَا يومَ يأتيهم ذلك العذابُ- الذي كذَّبوا به- لا يَرُدُّه شَيءٌ، فلا يَصرِفُه عنهم صارِفٌ، ولا يدفَعُه عنهم دافِعٌ [118] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (12/339)، ((تفسير ابن عطية)) (3/153)، ((تفسير الشوكاني)) (2/548). .
وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِؤُونَ.
أي: ونزل بالمُشرِكينَ وأحاط بهم العذابُ الذي كانوا يستهزِئونَ به، ويَستعجِلونَه [119] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (12/339)، ((تفسير ابن عطية)) (3/153)، ((تفسير الشوكاني)) (2/548)، ((تفسير السعدي)) (ص: 377). .
وَلَئِنْ أَذَقْنَا الإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ (9).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
أنَّ هذا وما بَعدَه بيانٌ لحالِ الإنسانِ في اختبارِ اللهِ له في قَولِه تعالى: لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا [120] يُنظر: ((تفسير المنار)) لمحمد رشيد رضا (12/24). [هود: 7] .
وأيضًا فإنَّ هذه الآيةَ عَطفٌ على جملةِ وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ؛ فإنَّه لَمَّا ذكرَ تعالى عن المُشرِكينَ أنَّ ما هم فيه متاعٌ إلى أجَلٍ مَعلومٍ عنده، وأنَّهم بَطِروا نعمةَ التَّمتيعِ، فسَخِروا بتأخيرِ العذابِ، فبَيَّنَت هذه الآيةُ أنَّ أهلَ الضَّلالةِ راسِخونَ في ذلك؛ لأنَّهم لا يفَكِّرونَ في غيرِ اللَّذَّاتِ الدُّنيويَّةِ، فتجري انفعالاتُهم على حسَبِ ذلك دونَ رجاءٍ لتغيُّرِ الحالِ، ولا يتفكَّرونَ في أسبابِ النَّعيمِ والبُؤسِ، وتصَرُّفاتِ خالقِ النَّاسِ، ومُقَدِّرِ أحوالِهم، ولا يتَّعِظونَ بتقَلُّباتِ أحوالِ الأمَمِ، فشأنُ أهلِ الضَّلالةِ أنَّهم إن حلَّت بهم الضَّراءُ بعد النِّعمةِ ملَكَهم اليأسُ مِن الخيرِ، ونَسُوا النِّعمةَ فجَحَدوها وكَفَروا مُنعِمَها، فإنَّ تأخيرَ العذابِ رَحمةٌ، وإتيانَ العذابِ نَزعٌ لتلك الرَّحمةِ [121] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (12/12). .
وَلَئِنْ أَذَقْنَا الإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ (9).
أي: ولَئِن أعطَينا الإنسانَ [122] المرادُ بالإنسانِ هنا جنسُ الإنسانِ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (12/341)، ((تفسير ابن عطية)) (3/153)، ((تفسير أبي حيان)) (6/127)، ((تفسير الشوكاني)) (2/551). منَّا نِعمةً- كالعافيةِ وسَعةِ الرِّزقِ وطِيبِ العَيشِ- فوجدَ لذَّتَها، ثمَّ سَلَبْناها منه؛ يظلُّ شديدَ اليأسِ مِن حصولِ الخَيرِ له في المُستقبَلِ، جَحُودًا نِعَمَ اللهِ عليه، قَلِيلَ الشُّكرِ لرَبِّه [123] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (12/339)، ((تفسير القرطبي)) (9/11)، ((جامع الرسائل)) لابن تيمية (2/358)، ((الجواب الصحيح)) لابن تيمية (2/120-123)، ((تفسير أبي السعود)) (4/189)، ((تفسير السعدي)) (ص: 378).  .
كما قال تعالى: وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ [الروم: 36].
وقال سُبحانه: وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ كَفُورٌ [الشورى: 48] .
وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاء بَعْدَ ضَرَّاء مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ (10).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
أنَّ هذه الجُملةَ تَتميمٌ للتي قَبلَها؛ لأنَّها حكَت حالةً ضِدَّ الحالةِ في التي قَبلَها [124] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (12/13). .
وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاء بَعْدَ ضَرَّاء مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي.
أي: ولَئِن أذَقْنا الإنسانَ نِعمةً بعدَ ضيقٍ كان فيه، ليقولَنَّ غِرَّةً باللهِ عزَّ وجلَّ، وجرأةً عليه، وجهلًا بإنعامِه: ذهبَ الضِّيقُ والشِّدَّةُ والمكروهُ عنِّي، ولن يُصيبَني بعد ذلك سوءٌ [125] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (12/340)، ((تفسير ابن عطية)) (3/153)، ((تفسير القرطبي)) (9/11)، ((تفسير الخازن)) (2/474)، ((تفسير ابن كثير)) (4/309)، ((تفسير السعدي)) (ص: 378)، ((تفسير ابن عاشور)) (12/14).  !!
كما قال الله سبحانَه: لَا يَسْأَمُ الْإِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ * وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ * وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ [فصلت: 49-51] .
إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ.
أي: إنَّه لشديدُ الفرحِ بنِعَم اللهِ عليه، فخورٌ على غيرِه بها، ولا يشكُرُ اللهَ عليها، وينسى تقلُّباتِ أحوالِ الدُّنيا ونكَدَها، وينسى طلَبَ النَّعيمِ الباقي، والسُّرورِ الدَّائِمِ في الآخرةِ [126] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (12/341)، ((تفسير القرطبي)) (9/11)، ((جامع الرسائل)) لابن تيمية (2/358)، ((تفسير ابن كثير)) (4/309)، ((تفسير السعدي)) (ص: 378).  .
كما قال تعالى: وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا [الروم: 36].
وقال سُبحانه: وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا [الشورى: 48] .
إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أُوْلَـئِكَ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (11).
أي: إلَّا [127] الاستثناءُ في قولِه تعالى: إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا استثناءٌ متصلٌ، وقيل: منقطعٌ. وهذا بناءً على كونِ المرادِ بالإنسانِ في قولِه: وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ الإنسانَ الكافرَ، أو إنسانًا معينًا. يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (6/127)، ((تفسير القرطبي)) (9/11). الذين صَبَروا عند الضَّرَّاءِ، ونزولِ الشدائدِ والمكارِه، وعَمِلوا الصَّالحاتِ فِي السرَّاءِ، وحلولِ الرَّخاءِ والعافيةِ؛ شكرًا لله على نعمائِه، أولئك لهم مَغفِرةٌ من اللهِ لِذُنوبِهم، ولهم جزاءٌ عظيمٌ [128] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (17/323)، ((تفسير أبي حيان)) (6/128)، ((تفسير ابن كثير)) (4/309).  .
كما قال سُبحانه: وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ [العصر: 1-3] .
وعن أبي سعيدٍ الخُدريِّ، وأبي هريرةَ رَضِيَ الله عنهما، عن النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم قال: ((ما يُصيبُ المُسلِمَ مِن نَصَبٍ ولا وَصَبٍ [129]  الوصَبُ: الألمُ اللازِمُ، والسَّقَمُ الدَّائِمُ. يُنظر: ((مرقاة المفاتيح)) للملا الهروي (3/1128). ، ولا هَمٍّ ولا حَزَنٍ، ولا أذًى ولا غَمٍّ، حتى الشَّوكةُ يُشاكُها، إلَّا كفَّرَ اللهُ بها مِن خَطايا ه)) [130] أخرجه البخاري (5641) واللفظ له، ومسلم (2573). .
وعن صُهَيبٍ رَضِيَ الله عنه، قال: قال رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم: ((عجبًا لأمرِ المُؤمِنِ، إنَّ أمْرَه كُلَّه خَيرٌ، وليس ذاك لأحدٍ إلَّا للمؤمِنِ؛ إن أصابَته سرَّاءُ شكَرَ فكان خيرًا له، وإن أصابَته ضرَّاءُ صبَرَ فكان خيرًا له) ) [131] أخرجه مسلم (2999). .

الفوائد التربوية:

1- قال تعالى: وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ * وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ لفظُ الإذاقةِ والذَّوقِ يفيدُ أقَلَّ ما يوجَدُ به الطَّعمُ، فكان المرادُ أنَّ الإنسانَ بوِجدانِ أقَلِّ القليلِ مِن الخيراتِ العاجلةِ يقَعُ في التمَرُّدِ والطُّغيانِ، وبإدراكِ أقَلِّ القليلِ مِن المِحنةِ والبَليَّةِ يقَعُ في اليأسِ والقُنوطِ والكُفرانِ، فالدُّنيا في نَفسِها قليلةٌ، والحاصِلُ منها للإنسانِ الواحدِ قَليلٌ، والإذاقةُ من ذلك المقدارِ خَيرٌ قليلٌ، ثمَّ إنَّه في سرعةِ الزَّوالِ يُشبِهُ أحلامَ النَّائمينَ، وخَيالاتِ المُوَسوِسينَ، فهذه الإذاقةُ مِن قليلٍ، ومع ذلك فإنَّ الإنسانَ لا طاقةَ له بتحَمُّلِها، ولا صَبرَ له على الإتيانِ بالطَّريقِ الحَسَنِ معها [132] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (17/322). .
2- قال الله تعالى: وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ * وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ بيَّن سُبحانه وتعالى في هذه الآيةِ أنَّ أحوالَ الدُّنيا غيرُ باقيةٍ، بل هي أبدًا في التغَيُّرِ والزَّوالِ والتحوُّلِ والانتقالِ؛ فإنَّ الإنسانَ إمَّا أن يتحوَّلَ مِن النِّعمةِ إلى المِحنة، ومن اللَّذَّاتِ إلى الآفاتِ كالقِسمِ الأوَّلِ، وإمَّا أن يكونَ بالعَكسِ مِن ذلك، وهو أن ينتَقِلَ مِن المكروهِ إلى المَحبوبِ كالقِسمِ الثَّاني [133] يُنظر: ((تفسير الشربيني)) (2/47). .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- اليومُ قد يعبَّرُ به عن الوقتِ قَلَّ أو كثُرَ، كما قال تعالى: أَلَا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفًا عَنْهُمْ والمرادُ: وقتُ مَجيءِ العذابِ، وقد يكونُ ليلًا ويكون نهارًا، وقد يستمِرُّ وقد لا يستَمِرُّ [134] يُنظر: ((جامع العلوم والحكم)) لابن رجب (2/83)، ((فتح الباري)) لابن رجب (1/520). .
2- قولُ الله تعالى: وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي لم يُسنِدِ (المسَّ) إليه سبحانَه، كما فعل في (النَّعماءِ)؛ تعليمًا للأدبِ [135] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (9/243). . وفيه وجهٌ آخَرُ: أنَّ في اختلافِ الفِعلينِ- وهما أذقناه ومَسَّتْه- من حيث الإسنادُ إليه تعالى في الأوَّلِ، وإلى الضَّرَّاء في الثَّاني؛ نكتةً: وهي أنَّ النِّعمةَ صادرةٌ مِن اللهِ تعالى تفضُّلًا منه، وأمَّا الضَّررُ فالسَّببُ فيه هو العبدُ باجتلابِه إيَّاه بالمعاصي غالبًا، ولا ينافي ذلك قَولَه تعالى: قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ [النساء: 78] ؛ فإنَّ الكُلَّ منه إيجادًا، غيرَ أنَّ الحَسَنةَ إحسانٌ وامتحانٌ، والسَّيِّئةَ مُجازاةٌ وانتقامٌ [136] يُنظر: ((تفسير الشربيني)) (2/47). .

بلاغة الآيات:

1- قولُه تعالى: وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ أَلَا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفًا عَنْهُمْ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ
- قولُه: مَا يَحْبِسُهُ استفهامٌ، غرَضُهم منه إنكارُ المجيءِ والحبْسِ رأسًا، لا الاعترافُ به والاستفسارُ عن حابِسِه؛ كأنَّهم يَقولونَه بطريقِ الاستعجالِ؛ استِهْزاءً [137] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (4/189). .
- قولُه: أَلَا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفًا عَنْهُمْ استئنافٌ بيانيٌّ واقعٌ موقِعَ الجوابِ عن كلامِهم؛ إذ يَقولون: ما يَحبِسُ عنَّا العذابَ؟ فلذلك فُصِلَتْ- لم تُعطَف- كما تُفصَلُ المحاوَرةُ، وفيه تهديدٌ وتخويفٌ بأنَّه لا يُصرَفُ عنهم، ولكنَّه مؤخَّرٌ [138] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (12/11). .
- وافتُتِح الكلامُ بحرفِ التَّنبيهِ أَلَا؛ للاهتمامِ بالخبَرِ؛ لتحقيقِه، وإدخالِ الرَّوعِ في ضَمائرِهم [139] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (12/11). .
- وتقديمُ الظَّرفِ يَوْمَ؛ للإيماءِ بأنَّ إتيانَ العذابِ لا شكَّ فيه حتَّى إنَّه يوقَّتُ بوقتٍ [140] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (12/11). .
- قولُه: وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ فيه التَّعبيرُ بالماضي وَحَاقَ، والمعنى: (ويَحيقُ بهم)، إلَّا أنَّه جاء على عادةِ اللهِ في أخبارِه؛ لأنَّها في تَحقُّقِها وتَيَقُّنِها بمنزلةِ الكائنةِ الموجودةِ، وفي ذلك مِن الفَخامةِ والدَّلالةِ على عُلوِّ شأنِ المخبِرِ، وتقريرِ وقوعِ المخبَرِ به ما لا يَخْفى [141] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (2/381)، ((تفسير أبي السعود)) (4/189). .
- وفي قولِه: بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ قدَّمَ الظَّرفَ (به)؛ إشارةً إلى شدَّةِ إقبالِهم على الهُزءِ به، حتى كأنَّهم لا يَهزؤونَ بغَيرِه [142] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (9/241). .
- وفيه الإتيانُ بالموصولِ مَا كَانُوا به يَسْتَهْزِئُونَ في مَوضِعِ الضَّميرِ؛ للإيماءِ إلى أنَّ استِهْزاءَهم كان مِن أسبابِ غضَبِ اللهِ عليهم، وتَقْديرِه إحاطةَ العذابِ بهم؛ بحيثُ لا يَجِدون منه مَخلَصًا [143] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (12/11). ، والمرادُ بقولِه: مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ العذابُ الَّذي كانوا به يَستعجِلون، وإنَّما وضَعَ يَسْتَهْزِئُونَ موضِعَ (يَستعجِلون)؛ لأنَّ استِعْجالَهم كان على جِهَةِ الاستهزاءِ [144] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (2/381). .
2- قولُه تعالى: وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ
- فيه تأكيدُ الجملةِ باللَّامِ الموطِّئةِ للقَسَمِ في وَلَئِنْ وبـ (إنَّ) واللَّامِ في جُملةِ جوابِ القَسَمِ إِنَّهُ لَيَؤُوسٌ؛ لقصْدِ تحقيقِ مَضمونِها، وأنَّه حقيقةٌ ثابتةٌ، لا مُبالَغةَ فيها ولا تَغليبَ [145] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (12/13). .
- واخْتِيرَتْ مادَّةُ الإذاقةِ في أَذَقْنَا؛ لِمَا تُشعِرُ به من إدراكِ أمرٍ محبوبٍ؛ لأنَّ المرْءَ لا يَذوقُ إلَّا ما يَشتَهيه [146] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (12/12). ، ومادَّةُ النَّزْعِ في نَزَعْنَاهَا؛ للإشعارِ بشِدَّةِ تَعلُّقِ الإنسانِ بها وحِرْصِه عليها [147] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (4/190). .
- ولَمَّا كانت النِّعمُ عَواريَّ مِن اللهِ يمنَحُها مَن شاء مِن عِبادِه، قدَّمَ الصِّلةَ دليلًا على العاريَّةِ، فقال: مِنَّا رَحْمَةً [148] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (9/242). .
- وفي قولِه: إِنَّهُ لَيَؤُوسٌ كَفُورٌ إشارةٌ إلى أنَّ النَّزْعَ إنَّما كان بسَببِ كُفْرانِهم بما كانوا يتَقلَّبون فيه مِن نِعَمِ اللهِ عزَّ وجلَّ [149] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (4/190). .
3- قولُه: وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ
- قولُه: وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ فيه مناسَبةٌ حسَنةٌ، حيثُ عبَّر عن مُلابَسةِ الرَّحمةِ والنَّعماءِ بالذَّوقِ أَذَقْنَاهُ المؤذِنِ بلَذَّتِهما، وكَونِهما مِمَّا يُرغَبُ فيه، وعن مُلابَسةِ الضَّرَّاءِ بالمَسِّ مَسَّتْهُ المشعِرِ بكونِها في أدنى ما يُطلَقُ عليه اسْمُ الملاقاةِ مِن مَراتِبِها [150] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (4/190). ؛ فاختيارُ فعلِ المسِّ في مَسَّتْهُ فيه إيماءٌ إلى أنَّ إصابةَ الضَّرَّاءِ أخَفُّ مِن إصابةِ النَّعْماءِ، وأنَّ لُطْفَ اللهِ شاملٌ لعبادِه في كلِّ حالٍ [151] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (12/14). .
- وجعَل جوابَ القسَمِ (القَوْلَ) في لَيَقُولَنَّ؛ للإشارةِ إلى أنَّه تبَجُّحٌ وتَفاخُرٌ؛ فالخبَرُ في قولِه: ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي مُستعمَلٌ في الازْدِهاءِ والإعجابِ؛ وذلك هو مُقتَضى زيادةِ عَنِّي مُتعلِّقًا بـ ذَهَبَ؛ للإشارةِ إلى اعْتِقادِ كلِّ واحدٍ أنَّه حَقيقٌ بأن تَذهَبَ عنه السَّيِّئاتُ غُرورًا منه بنَفسِه، كما في قولِه: وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى [152] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (12/14). [فصلت: 50] .
- وجملةُ إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ استئنافٌ ابتدائيٌّ؛ للتَّعجُّبِ مِن حالِه، وفَرِحٌ وفَخُورٌ مِن أوزانِ المبالَغةِ، أي: لَشَديدُ الفرَحِ، شَديدُ الفَخرِ [153] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (12/14). .
- وفيه مناسَبةٌ حسنةٌ، حيث قال اللهُ تعالى هنا في سورةِ هودٍ: وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ [هود: 10] ، وقال في سورةِ فُصِّلَت: وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً [فصلت: 50] ؛ ففيه زيادةُ (مِنَّا) وزيادةُ (مِن) في سورةِ فُصِّلَت عمَّا في سورةِ هودٍ؛ ووجهُ ذلك أنَّه لم يَرِد في هودٍ ما يَستَدعي تلك الزِّيادةَ، وأمَّا سورةُ فُصِّلَت فتقدَّم فيها قولُه: وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكَائِي [فصلت: 47] ؛ قَطعًا بهم، وتَنبيهًا على سوءِ مُرتَكَبِهم، وقد عايَنوا الحقَّ، وضلَّ عنهم ما كانوا يَدَّعون مِن قَبلُ مِن شُركاءِ اللهِ سبحانه، وأيقَنوا وعَلِموا أنَّه لا مَحيصَ لهم ولا مَفرَّ؛ فلمَّا تَقدَّم ذِكْرُ الشُّرَكاءِ قال تعالى: وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا [فصلت: 50] ، فنَبَّه تعالى بقولِه: مِنَّا على أنْ لا شَريكَ له، ولا مُعطِيَ غيرُه، وأنَّه لا يأتي العبدَ شيءٌ مِن أحَدٍ سِواه سُبحانه. ولَمَّا لم يتَقدَّمْ في سورةِ هودٍ ذِكرٌ لذلك لم يَرِد فيها التَّنبيهُ بقولِه: مِنَّا. وأمَّا زيادةُ: (مِن) في قولِه: مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ [فصلت: 50] ؛ فمُناسِبٌ لإطنابِ هذا الغرَضِ في هذه السُّورةِ؛ فناسَب ذلك الزِّيادةَ، ولإيجازِ هذا القصدِ في سورةِ هودٍ ناسَبَه سُقوطُ (مِن)؛ فجاء كلٌّ على ما يُناسِبُ [154] يُنظر: ((ملاك التأويل)) لأبي جعفر الغرناطي (2/253). .
وفيه وجهٌ آخَرُ: أنَّه في سورةِ فُصِّلَت بيَّن تعالى جِهةَ الرَّحمةِ، بقولِه: لَا يَسْأَمُ الْإِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ [فصلت: 49] ؛ فناسَب ذِكْرُ مِنَّا، وحَذَفَه هنا اكتفاءً بقولِه قبلُ: وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً [هود: 9] ، وزاد (مِن) في سورةِ فُصِّلَت؛ لأنَّه لَمَّا حدَّ الرَّحمةَ وجِهَتَها حدَّ الظَّرْفَ بعْدَها؛ لِيَتَشاكَلا في التَّحديدِ، وهنا لَمَّا لم يَذكُرِ الأوَّلَ، لم يَذكُرِ الثَّانيَ لِيَتَشاكَلا [155] يُنظر: ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص: 259-260)  . .