موسوعة التفسير

سُورةُ العَصْرِ
الآيات (1-3)

ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ

المعنى الإجمالي:

افتَتَح اللهُ تعالى هذه السُّورةَ الكريمةَ مُقسِمًا بالعَصرِ على أنَّ كُلَّ إنسانٍ في خَسارةٍ وهَلاكٍ، إلَّا الَّذين آمَنوا وعَمِلوا الأعمالَ الصَّالحةَ، وأوصى بعضُهم بَعضًا باتِّباعِ دِينِ الإسلامِ، وبالصَّبرِ على طاعةِ اللهِ، وعن معصيةِ اللهِ، وعلى أقدارِ اللهِ المؤلِمةِ.

تفسير الآيات:

وَالْعَصْرِ (1).
أي: أُقسِمُ بالعَصرِ [4] يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/829)، ((تفسير ابن جرير)) (24/612)، ((تفسير ابن كثير)) (8/480)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (22/236)، ((تفسير السعدي)) (ص: 934)، ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 307). قال ابنُ الجوزي: (وَالْعَصْرِ فيه ثلاثةُ أقوالٍ: أحَدُها: أنَّه الدَّهرُ. قاله ابنُ عبَّاسٍ، وزَيدُ بنُ أسلَمَ، والفرَّاءُ، وابنُ قُتَيبةَ. وإنَّما أقسَمَ بالدَّهرِ؛ لأنَّ فيه عِبرةً للنَّاظِرِ مِن مُرورِ اللَّيلِ والنَّهارِ على تقديرٍ لا يَنخَرِمُ. والثَّاني: أنَّه العَشِيُّ، وهو ما بيْن زَوالِ الشَّمسِ وغُروبِها. قاله الحسَنُ، وقَتادةُ. والثَّالِثُ: صلاةُ العَصرِ. قاله مقاتلٌ). ((تفسير ابن الجوزي)) (4/487). وممَّن قال في الجملةِ بأنَّ المرادَ بالعَصرِ: الدَّهرُ وعُمومُ الزَّمَنِ: الفرَّاءُ، وابنُ قُتَيْبةَ، وابنُ جرير، وابنُ كثير، والسعديُّ، وابنُ عثيمين. يُنظر: ((معاني القرآن)) للفراء (3/289)، ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 538)، ((تفسير ابن جرير)) (24/612)، ((تفسير ابن كثير)) (8/480)، ((تفسير السعدي)) (ص: 934)، ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 307). قال السعدي: (أقسَمَ تعالى بالعَصرِ الَّذي هو اللَّيلُ والنَّهارُ؛ محَلُّ أفعالِ العِبادِ وأعمالِهم). ((تفسير السعدي)) (ص: 934). وممَّن قال بأنَّ المرادَ: صلاةُ العَصرِ: السمرقنديُّ. يُنظر: ((تفسير السمرقندي)) (3/615). وقال مقاتلُ بنُ سُلَيمانَ: (أقسَمَ اللهُ عزَّ وجَلَّ بعَصرِ النَّهارِ، وهو آخِرُ ساعةٍ مِنَ النَّهارِ، وأيضًا «العَصرُ» سُمِّيَت العَصرَ حينَ تصَوَّبَت الشَّمسُ للغُروبِ، وهو عَصرُ النَّهارِ؛ فأقسَمَ اللهُ عزَّ وجَلَّ بصلاةِ العَصرِ). ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/829). .
إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2).
أي: إنَّ كُلَّ إنسانٍ لَفي خَسارةٍ وهَلاكٍ [5] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/612)، ((الوسيط)) للواحدي (4/551)، ((تفسير ابن كثير)) (8/480)، ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 307، 308). قال الواحدي: (قال أهلُ المعاني: الخُسْرُ: هلاكُ رأسِ المالِ، والإنسانُ في هلاكِ نَفْسِه وعُمُرِه -وهما أكثَرُ رأسِ مالِه- إلَّا المؤمِنَ العامِلَ بطاعةِ اللهِ). ((الوسيط)) (4/551). وقال السعدي: (الخاسِرُ ضِدُّ الرَّابِحِ، والخَسارُ مَراتِبُ متعَدِّدةٌ مُتفاوِتةٌ؛ قد يكونُ خَسارًا مُطلَقًا، كحالِ مَن خَسِرَ الدُّنيا والآخِرةَ، وفاته النَّعيمُ، واستحَقَّ الجحيمَ، وقد يكونُ خَسارًا مِن بَعضِ الوُجوهِ دونَ بَعضٍ). ((تفسير السعدي)) (ص: 934). ويُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (22/237). .
إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3).
إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا.
أي: إلَّا الَّذين آمَنوا بكُلِّ ما وجَبَ عليهم الإيمانُ به [6] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/613)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (22/238)، ((تفسير السعدي)) (ص: 934)، ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 308). .
كما قال تعالى: وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ [البقرة: 177] .
وفي حَديثِ عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عنه في قِصَّةِ سُؤالِ جِبريلَ عليه السَّلامُ، قال للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: أخبِرْني عن الإيمانِ، فقال: ((أن تؤمِنَ باللهِ وملائِكَتِه وكُتُبِه ورُسُلِه واليَومِ الآخِرِ، وتُؤمِنَ بالقَدَرِ؛ خَيرِه وشَرِّه)) [7] رواه مسلم (8). .
وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ.
أي: وعَمِلوا الأعمالَ الصَّالحةَ الظَّاهِرةَ والباطِنةَ بإخلاصٍ للهِ، ومُتابَعةٍ لِرَسولِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ [8] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/613)، ((الجواب الكافي)) لابن القيم (ص: 132)، ((تفسير السعدي)) (ص: 934)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/532)، ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 310). .
وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ.
أي: وأوصى بعضُهم بَعضًا بلُزومِ القُرآنِ، واتِّباعِ دِينِ الإسلامِ [9] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/614)، ((الوسيط)) للواحدي (4/551)، ((تفسير ابن كثير)) (8/480)، ((تفسير السعدي)) (ص: 934)، ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 311). .
وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ.
أي: وأوصى بَعضُهم بَعضًا بالصَّبرِ على طاعةِ اللهِ، وعن معصيةِ اللهِ، وعلى أقدارِ اللهِ المؤلِمةِ [10] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/614)، ((الوسيط)) للواحدي (4/551)، ((التبيان في أقسام القرآن)) لابن القيم (ص: 87)، ((تفسير ابن كثير)) (8/480)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (22/240)، ((تفسير السعدي)) (ص: 934)، ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 311). قال السعدي: (التَّواصي بالصَّبرِ على طاعةِ اللهِ، وعن معصيةِ اللهِ، وعلى أقدارِ اللهِ المؤلِمةِ). ((تفسير السعدي)) (ص: 934). .

الفوائد التربوية:

1- عن بعضِ السَّلفِ قال: (تعلَّمْتُ معنَى سورةِ العَصرِ مِن بائعِ الثَّلجِ، كان يَصيحُ ويقولُ: «ارحَموا مَن يَذوبُ رأسُ مالِه، ارحَموا مَن يَذوبُ رأسُ مالِه»، فقلتُ: هذا معنى إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ، يمُرُّ به العصرُ فيَمضي عُمُرُه ولا يَكتسِبُ، فإذا هو خاسِرٌ) [11] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (32/278). ويُنظر أيضًا: ((المدهش)) لابن الجوزي (ص: 354). .
2- قَولُ اللهِ تعالى: إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ في هذا الاستثناءِ تنبيهٌ على أنَّ كُلَّ ما دعاك إلى طاعةِ اللهِ فهو الصَّلاحُ، وكُلَّ ما شغَلَك عن اللهِ بغَيرِه فهو الفَسادُ [12] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (32/281). .
3- قَولُ اللهِ تعالى: إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ فيه وعيدٌ شديدٌ؛ وذلك لأنَّه تعالى حكَمَ بالخَسارِ على جميعِ النَّاسِ، إلَّا مَن كان آتيًا بهذه الأشياءِ الأربعةِ؛ وهي: الإيمانُ، والعمَلُ الصَّالحُ، والتَّواصي بالحَقِّ، والتَّواصي بالصَّبرِ؛ فدَلَّ ذلك على أنَّ النَّجاةَ مُعَلَّقةٌ بمَجموعِ هذه الأمورِ، وأنَّه كما يَلزَمُ المكَلَّفَ تحصيلُ ما يخُصُّ نفْسَه، فكذلك يَلزَمُه في غيرِه أُمورٌ؛ منها: الدُّعاءُ إلى الدِّينِ، والنَّصيحةُ، والأمرُ بالمعروفِ، والنَّهيُ عن المنكَرِ، وأن يُحِبَّ له ما يحِبُّ لنَفْسِه [13] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (32/282). .
4- قال تعالى: وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ دلَّ استِثناءُ الَّذين آمَنوا وعَمِلوا الصَّالحاتِ مِن أنْ يَكونوا في خُسرٍ على أنَّ سَببَ كَونِ بَقيَّةِ الإنسانِ في خُسرٍ هو عدَمُ الإيمانِ والعمَلِ الصَّالحِ؛ بدَلالةِ مَفهومِ الصِّفةِ [14] مَفهومُ الصِّفةِ: هو تَعليقُ الحُكمِ على الذَّاتِ بأحدِ الأوصافِ، نحو: في الغنمِ السَّائمةِ زكاةٌ، فتخصيصُ الغنمِ بالسَّومِ لو لم يكُنْ للفرقِ بينَ السَّائمةِ وغيرِها في الحكمِ لكان تطويلًا بلا فائدةٍ. يُنظر: ((نهاية السول شرح منهاج الوصول)) للإسنوي (ص: 150)، ((البحر المحيط في أصول الفقه)) للزركشي (5/155)، ((مذكرة في أصول الفقه)) للشنقيطي (ص: 285). ، وعُلِمَ مِن المَوصولِ أنَّ الإيمانَ والعمَلَ الصَّالحَ هما سَببُ انتفاءِ إحاطةِ الخُسرِ بالإنسانِ [15] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/532). .
ولم يَكْتَفِ منهم بمعرفةِ الحقِّ والصَّبرِ عليه، حتَّى يُوصِيَ بعضُهم بعضًا به، ويُرْشِدَه إليه، ويَحُضَّه عليه [16] يُنظر: ((الجواب الكافي)) لابن القيم (ص: 93). .
5- قَولُ اللهِ تبارك وتعالى: وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ يدُلُّ على أنَّ الحَقَّ ثقيلٌ، وأنَّ المِحَنَ تُلازِمُه؛ فلذلك قُرِنَ به التَّواصي [17] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (32/282). .
6- قَولُ اللهِ تعالى: وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ يدُلُّ على إقامةِ المصالحِ الدِّينيَّةِ كُلِّها؛ فالعقائِدُ الإسلاميَّةُ والأخلاقُ الدِّينيَّةُ مُندَرِجةٌ في الحَقِّ، والأعمالُ الصَّالحةُ وتجنُّبُ السَّيِّئاتِ مُندَرِجةٌ في الصَّبرِ، والتَّخلُّقُ بالصَّبرِ مِلاكُ فَضائلِ الأخلاقِ كلِّها؛ فإنَّ الارتياضَ بالأخلاقِ الحَميدةِ لا يَخْلو مِن حمْلِ المرْءِ نفْسَه على مُخالَفةِ شَهواتٍ كَثيرةٍ، ففي مُخالَفتِها تَعَبٌ يَقْتضي الصَّبرَ عليه حتَّى تَصيرَ مَكارمُ الأخلاقِ مَلَكةً لِمَن راضَ نفْسَه عليها، كما قال عَمْرُو بنُ العاصِ:
إذا المَرْءُ لم يَترُكْ طَعامًا يُحِبُّهُ
ولم يَنْهَ قلْبًا غاويًا حيثُ يَمَّمَا
فيُوشِكُ أنْ تَلْفَى له الدَّهرَ سُبَّةً
إذا ذُكِرَتْ أمْثالُها تَملَأُ الفَمَا
وكذلك الأعمالُ الصَّالحةُ كلُّها لا تَخْلو مِن إكراهِ النَّفْسِ على تَرْكِ ما تَميلُ إليه، وفي الحديثِ: ((حُفَّتِ الجنَّةُ بالمَكارِهِ، وحُفَّت النَّارُ بالشَّهَواتِ )) [18] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/533). والحديث أخرجه مسلم (2822) من حديث أنسِ بنِ مالكٍ رضيَ الله عنه. .
7- في قَولِه تعالى: وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ جمَعَ سُبحانَه بيْن «تواصَوا بالحَقِّ» الَّذي يَدفَعُ الشُّبُهاتِ، وبيْن الصَّبرِ الَّذي يَكُفُّ عن الشَّهَواتِ، وقد جَعَل سُبحانَه إمامةَ الدِّينِ مَنوطةً بهذَين الأمْرَينِ، فقال: وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآَيَاتِنَا يُوقِنُونَ [19] يُنظر: ((إغاثة اللهفان)) لابن القيم (2/167). [السجدة: 24] .
8- قال اللهُ تعالى: وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ لا بُدَّ مِن التَّواصي بالحَقِّ والصَّبرِ؛ إذ إنَّ أهلَ الفَسادِ والباطِلِ لا يقومُ باطِلُهم إلَّا بصبرٍ عليه أيضًا، لكِنِ المؤمنونَ يَتواصَونَ بالحَقِّ والصَّبرِ، وأولئك يتواصَونَ بالصَّبرِ على باطِلِهم، كما قال قائِلُهم: أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آَلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ [ص: 6] ، فالتَّواصي بالحَقِّ بدونِ الصَّبرِ -كما يفعَلُه الَّذين يقولونَ: آمَنَّا باللهِ، فإذا أُوذِيَ أحَدُهم في اللهِ جَعَل فِتنةَ النَّاسِ كعذابِ اللهِ، والَّذين يَعبُدونَ اللهَ على حَرْفٍ، فإنْ أصاب أحَدَهم خيرٌ اطمأَنَّ به، وإنْ أصابَتْه فتنةٌ انقَلَب على وجْهِه خَسِرَ الدُّنيا والآخرةَ- والتَّواصي بالصَّبرِ بدونِ الحَقِّ: كِلاهما مُوجِبٌ للخُسرانِ، وإنَّما نجا مِن الخُسرانِ الَّذين آمَنوا وعَمِلوا الصَّالِحاتِ، وتواصَوا بالحَقِّ وتواصَوا بالصَّبرِ، وهذا موجودٌ في كلِّ مَن خرَج عن هؤلاء مِن أهلِ الشَّهَواتِ الفاسِدةِ، وأهلِ الشُّبُهاتِ الفاسِدةِ؛ أهلِ الفُجورِ، وأهلِ البِدَعِ [20] يُنظر: ((جامع الرسائل)) لابن تيمية (2/394). .
9- قَولُ اللهِ تعالى: وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ فيه فضيلةُ الصَّبرِ على تزكيةِ النَّفْسِ، ودَعوةِ الحَقِّ [21] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/528). .
10- قال اللهُ تعالى: وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ أفادتْ صِيغةُ التَّواصي بالحقِّ وبالصَّبرِ أنْ يكونَ شَأنُ حَياةِ المؤمنينَ قائمًا على شُيوعِ التَّواصي بهما دَيدنًا لهم، وذلك يَقْتضي اتِّصافَ المؤمنينَ بإقامةِ الحقِّ، وصَبْرِهم على المَكارهِ في مَصالحِ الإسلامِ وأُمَّتِه؛ لِما يَقتضيهِ عُرفُ النَّاسِ مِن أنَّ أحدًا لا يُوصي غيرَه بمُلازَمةِ أمرٍ إلَّا وهو يَرى ذلك الأمرَ خَليقًا بالمُلازَمةِ؛ إذ قَلَّ أنْ يُقدِمَ أحدٌ على أمرٍ بحَقٍّ هو لا يَفعَلُه، أو أمرٍ بصَبرٍ وهو ذو جَزَعٍ، وقد قال اللهُ تعالَى تَوبيخًا لبني إسرائيلَ: أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ [22] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/534). [البقرة: 44] .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- قال اللهُ تعالى: وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ أَقْسَمَ سُبحانَه وتعالى بالدَّهرِ -الَّذي هو زمنُ الأعمالِ الرَّابحةِ والخاسرةِ- على أنَّ كلَّ واحدٍ في خُسْرٍ إلَّا مَن كَمَّلَ قوَّتَه العِلميَّةَ، وقوَّتَه العَمَليَّةَ [23] يُنظر: ((إغاثة اللهفان)) لابن القيم (1/25). ، والمراتِبُ أربعةٌ، وباستِكمالِها يحصُلُ للشَّخصِ غايةُ كمالِه: إحداها: مَعرِفةُ الحَقِّ. الثَّانيةُ: عَمَلُه به. الثَّالثةُ: تعليمُه مَن لا يحسِنُه. الرَّابعةُ: صَبرُه على تعَلُّمِه والعَمَلِ به وتعليمِه؛ فذكَرَ تعالى المراتِبَ الأربعةَ في هذه السُّورةِ، وأقسَمَ سُبحانَه في هذه السُّورةِ بالعَصْرِ إنَّ كُلَّ أحدٍ في خُسْرٍ إلَّا الَّذين آمَنوا وعَمِلوا الصَّالحاتِ، وهم الَّذين عَرَفوا الحَقَّ وصَدَّقوا به. فهذه مرتبةٌ. وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ، وهم الَّذين عَمِلوا بما عَلِموه مِن الحَقِّ، فهذه مرتبةٌ أُخرى. وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وصَّى به بعضُهم بعضًا؛ تعليمًا وإرشادًا، فهذه مرتبةٌ ثالثةٌ. وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ صَبَروا على الحَقِّ، ووصَّى بعضُهم بعضًا بالصَّبرِ عليه والثَّباتِ، فهذه مرتبةٌ رابعةٌ. وهذا نهايةُ الكمالِ؛ فإنَّ الكمالَ أن يكونَ الشَّخصُ كامِلًا في نَفْسِه، مُكَمِّلًا لغيرِه، وكَمالُه بإصلاحِ قوَّتَيه العِلميَّةِ والعَمَليَّةِ؛ فصلاحُ القُوَّةِ العِلميَّةِ بالإيمانِ، وصلاحُ القُوَّةِ العَمليَّةِ بعمَلِ الصَّالحاتِ، وتكميلِه غَيرَه بتعليمِه إيَّاه، وصَبرِه عليه، وتوصيتِه بالصَّبرِ على العِلمِ والعَملِ؛ فهذه السُّورةُ على اختِصارِها هي مِن أجمَعِ سُوَرِ القُرآنِ الكريمِ للخَيرِ بحذافيرِه، والحَمدُ للهِ الَّذي جَعَل كِتابَه كافيًا عن كُلِّ ما سِواه، شافيًا مِن كُلِّ داءٍ، هاديًا إلى كُلِّ خَيرٍ؛ لذا قال الشَّافعيُّ رَضِيَ اللهُ عنه: (لو فكَّر النَّاسُ كُلُّهم في هذه السُّورةِ لَكَفَتْهم) [24] يُنظر: ((مفتاح دار السعادة)) لابن القيم (1/56، 57). ، فهذه السُّورةُ ميزانٌ للأعمالِ يَزِنُ المؤمنُ بها نفْسَه، فيَبينُ له بها رِبحُه مِن خُسرانِه [25] يُنظر: ((لطائف المعارف)) لابن رجب (ص: 300). . لذا كان حقيقًا بالإنسانِ أن يُنفِقَ ساعاتِ عُمرِه -بل أنفاسَه- فيما يَنالُ به المطالبَ العاليةَ، ويخلصُ به مِن الخُسرانِ المُبينِ، وليس ذلك إلَّا بالإقبالِ على القرآنِ وتفَهُّمِه وتدَبُّرِه، واستِخراجِ كُنوزِه، وإثارةِ دفائنِه، وصَرفِ العنايةِ إليه، والعُكوفِ بالهمَّةِ عليه؛ فإنَّه الكفيلُ بمصالحِ العبادِ في المَعاشِ والمَعادِ، والموصلِ لهم إلى سبيلِ الرَّشادِ [26] يُنظر: ((مدارج السالكين)) لابن القيم (1/30). .
2- في قَولِه تعالى: وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ أنَّ الَّذين اتَّصفوا بهذه الصِّفاتِ الأربَعِ هم الرَّابِحونَ، ومَن سِواهم فهو خاسِرٌ عصْرَه، وهذه الحِكمةُ مِن أنَّ اللهَ أَقْسَمَ بالعَصرِ دونَ غيرِه؛ لأنَّ العصرَ هو خزائنُ الأعمالِ، فإذا لم يَقُمِ الإنسانُ بهذه الصِّفاتِ الأربَعِ خَسِرَ عصْرَه، وكان عُمُرُه خَسارةً [27] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (2/281). .
3- قَولُ اللهِ تعالى: إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ فيه سُؤالٌ: الآيةُ يدُلُّ ظاهِرُها على أنَّ هذا المخبَرَ عنه أنَّه في خُسرٍ إنسانٌ واحِدٌ، بدليلِ إفرادِ لَفظةِ الإنسانِ، واستثناؤُه مِن ذلك الإنسانِ الواحِدِ لَفظًا قَولَه: إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَقتضي أنَّه ليس إنسانًا واحِدًا؟
الجوابُ: أنَّ لَفظَ (الإنسانِ) وإنْ كان واحِدًا فالألِفُ واللَّامُ للاستِغراقِ، يَصيرُ المفرَدُ بسَبَبِهما صيغةَ عُمومٍ، وعليه فمعنى إِنَّ الْإِنْسَانَ أي: إنَّ كُلَّ إنسانٍ؛ لدَلالةِ (أل) الاستغراقيَّةِ على ذلك [28] يُنظر: ((دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب)) للشنقيطي (ص: 287). .
4- قَولُ اللهِ تعالى: إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ، فيه سُؤالٌ: قال تعالى في سُورةِ التِّينِ: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ * ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ [التين: 4-5] ، فهناك يدُلُّ على أنَّ الابتِداءَ مِن الكَمالِ، والانتِهاءَ إلى النُّقصانِ، وهاهنا يدُلُّ على أنَّ الابتِداءَ مِن النُّقصانِ، والانتِهاءَ إلى الكَمالِ، فكيفَ وَجهُ الجَمْعِ؟
الجوابُ: أنَّ المَذكُورَ في سُورةِ التِّينِ أَحوالُ البَدَنِ -وذلك على قَولٍ في التَّفسيرِ-، وهاهنا أَحوالُ النَّفْسِ، فلا تَناقُضَ بيْن القَولَينِ [29] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (32/280). .
5- قَولُ اللهِ تعالى: إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ لم يبيِّنْ نوعَ الخُسرانِ في أيِّ شَيءٍ، بل أطلَقَ؛ ليَعُمَّ [30] يُنظر: ((تتمة أضواء البيان)) لعطية سالم (9/89). .
6- تأمَّلْ حِكمةَ القرآنِ؛ لَمَّا قال: إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ فإنَّه ضَيَّقَ الاستثناءَ وخَصَّصَه، فقال: إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ، ولَمَّا قال: ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ [التين: 5] وَسَّعَ الاستثناءَ وعَمَّمَه، فقال: إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ [التين: 6] ولم يَقُلْ: «وتَواصَوا»؛ فإنَّ التَّواصيَ هو أمْرُ الغَيرِ بالإيمانِ والعمَلِ الصَّالحِ -وهو قَدْرٌ زائدٌ على مجرَّدِ فِعْلِه- فمَن لم يكُنْ كذلك فقد خَسِرَ هذا الرِّبحَ، فصار في خُسْرٍ، ولا يَلْزَمُ أنْ يكونَ في أسفَلِ سافِلينَ؛ فإنَّ الإنسانَ قد يقومُ بما يجبُ عليه ولا يأمُرُ غيرَه؛ فإنَّ الأمرَ بالمعروفِ والنَّهيَ عن المنكَرِ مرتبةٌ زائدةٌ، وقد تكونُ فرضًا على الأعيانِ، وقد تكون فرضًا على الكفايةِ، وقد تكون مُستحَبَّةً.
والتَّواصِي بالحَقِّ يَدخُلُ فيه الحَقُّ الَّذي يجِبُ، والحَقُّ الَّذي يُستحَبُّ، والصَّبرُ يَدخُلُ فيه الصَّبرُ الَّذي يجِبُ، والصَّبرُ الَّذي يُستحَبُّ، فهؤلاء إذا تَواصَوا بالحَقِّ وتَواصَوا بالصَّبرِ حصلَ لهم مِن الرِّبحِ ما خَسِرَه أولئك الَّذين قامُوا بما يجِبُ عليهم في أَنفُسِهم ولم يَأمُروا غيرَهم به، وإنْ كان أولئك لم يَكونوا مِن الَّذين خَسِروا أنفُسَهم وأَهْلِيهم؛ فمُطلَقُ الخَسارِ شَيءٌ، والخَسارُ المُطلقُ شَيءٌ، وهو سُبحانَه إنَّما قال: إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ، ومَن رَبِحَ في سِلعةٍ وخَسِرَ في غيرِها قد يُطلقُ عليه أنَّه في خُسرٍ وأنَّه ذو خُسرٍ؛ كما قال عبدُ الله بنُ عُمرَ رَضِيَ الله عنهما: (لقد فَرَّطْنا في قَراريطَ كثَيرةٍ) [31] أخرجه البخاري (1324)، ومسلم (945). ، فهذا نَوعُ تَفريطٍ، وهو نَوعُ خُسرٍ بالنِّسبةِ إلى مَن حَصَّلَ رِبْحَ ذلك.
ولَمَّا قال في سُورةِ (والتِّينِ): ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ، قال: إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ، فقَسَّمَ النَّاسَ إلى هَذينِ القِسمَينِ فقط، ولَمَّا كان الإنسانُ له قُوَّتانِ: قُوَّةُ العِلمِ وقُوَّةُ العَمَلِ، وله حالَتانِ: حالةُ يَأتَمِرُ فيها بأَمْرِ غيرِه، وحالةٌ يأمُرُ فيها غيرَه؛ استَثنَى سُبحانَه مَن كمَّلَ قُوَّتَه العِلميَّةَ بالإيمانِ، وقُوَّتَه العَمَليَّةَ بالعمَلِ الصَّالِحِ، وانقادَ لأمْرِ غيرِه له بذلك، وأمَرَ غيرَه به- مِن الإنسانِ الَّذي هو في خُسرٍ، فإنَّ العبدَ له حالتانِ: حالةُ كَمالٍ في نَفْسِه، وحالةُ تَكمِيلٍ لغيرِه؛ وكَمالُه وتَكمِيلُه مَوقوفٌ على أمْرَينِ: عِلمٌ بالحَقِّ وصَبرٌ عليه، فتَضمَّنَت الآيةُ جَميعَ مَراتِبِ الكَمالِ الإنسانيِّ؛ مِن العِلمِ النَّافعِ، والعَملِ الصَّالحِ، والإحسانِ إلى نَفْسِه بذلك وإلى أَخيهِ به، وانقِيادِه وقَبولِه لِمَن يَأمُرُه بذلك [32] يُنظر: ((التبيان في أقسام القرآن)) لابن القيم (ص: 85). .
7- قولُه تبارك وتعالى: إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ، وقولُه: إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ [العاديات: 6] ، وقولُه: إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا [المعارج: 19] ، وقولُه: كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآَهُ اسْتَغْنَى [العلق: 6-7] ، وقولُه: إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ [إبراهيم: 34] ، وقولُه: وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا [الأحزاب: 72] هذا شَأْنُ الإنسانِ مِن حيثُ ذاتُه ونفْسُه، وأمَّا خروجُه عن هذه الصِّفاتِ فهو بفَضلِ ربِّه وتوفيقِه له ومِنَّتِه عليه، لا مِن ذاتِه؛ فليس له مِن ذاتِه إلَّا هذه الصِّفاتُ، وما به مِن نِعمةٍ فمِن اللهِ وَحْدَه [33] يُنظر: ((الروح)) لابن القيم (ص: 126). .
8- قال اللهُ تعالى: وَتَوَاصَوْا، ولم يقلْ: (ويَتواصَونَ)؛ لأنَّ الغَرضَ مَدحُهم بما صدَر عنهم في الماضي، وذلك يُفيدُ رَغبتَهم في الثَّباتِ عليه في المُستقبَلِ [34] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (32/282). .
9- قال اللهُ تعالى: وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ اختِيرَ التَّعبيرُ بالوصيَّةِ؛ إشارةً إلى الرِّفقِ في الأمرِ بالمعروفِ والنَّهيِ عن المنكَرِ، واستعمالِ اللِّينِ بغايةِ الجُهدِ [35] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (22/240). .
10- قَولُ اللهِ تعالى: إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ فيه إثباتُ نجاةِ وفَوزِ الَّذين آمَنوا وعَمِلوا الصَّالحاتِ، والدَّاعينَ منهم إلى الحَقِّ [36] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/528). .

بلاغة الآيات:

وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ
- أقسَمَ اللهُ تعالَى بالعَصْرِ قَسَمًا يُرادُ به تَأكيدُ الخبَرِ، كما هو شَأنُ أقسامِ القرآنِ الكريمِ، والمُقسَمُ به مِن مَظاهرِ بَديعِ التَّكوينِ الرَّبَّانيِّ الدَّالِّ على عَظيمِ قُدرتِه وسَعةِ عِلمِه، وأيًّا ما كان المرادُ منه هنا؛ فإنَّ القسَمَ به باعتبارِ أنَّه زمَنٌ يُذكِّرُ بعَظيمِ قُدرةِ اللهِ تعالَى في خلْقِ العالَمِ وأحوالِه، وبأُمورٍ عَظيمةٍ مُبارَكةِ، مِثل الصَّلاةِ المَخصوصةِ، أو عصْرٍ مُعيَّنٍ مُبارَكٍ؛ فقيل: أقسَمَ بصَلاةِ العصْرِ؛ لفَضْلِها، ولأنَّ التَّكليفَ في أدائِها أشقُّ؛ لتَهافُتِ النَّاسِ في تِجاراتِهم ومَكاسِبِهم آخِرَ النَّهارِ، واشتِغالِهم بمَعايِشِهم. أو أقسَمَ بالعَشيِّ كما أقسَمَ بالضُّحى؛ لِما فيهما جَميعًا مِن دَلائلِ القُدرةِ. أو أقسَمَ بالزَّمانِ؛ لِيُذَكِّرَ بما فيه مِن النِّعَمِ وأضْدادِها لتَنبيهِ الإنسانِ على أنَّه مُستعِدٌّ للخُسرانِ والسَّعادةِ، والتَّعريضِ بنَفْيِ ما يُضافُ إلى الزَّمانِ مِن الخُسرانِ؛ لأنَّ النَّاسَ تُضيفُ كلَّ شَيءٍ له، ووجهُ نفيِه عنه أنَّ اللهَ لَمَّا أقسَمَ به وعظَّمَه، عُلِم أنَّه لا خُسرانَ له، ولا دخْلَ له فيه، وإضافتُه للإنسانِ تُشعِرُ بأنَّه صِفةٌ له لا للزَّمانِ [37] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/793، 794)، ((تفسير البيضاوي)) (5/336)، ((تفسير أبي حيان)) (10/538، 539)، ((تفسير أبي السعود)) (9/197)، ((حاشية الشهاب على البيضاوي)) (8/394، 395)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/528، 529). .
- التَّعريفُ في الْإِنْسَانَ للجِنسِ؛ ولذلك استثنى منه الَّذين آمَنوا، فهو استثناءٌ متَّصِلٌ [38] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/794)، ((تفسير ابن عطية)) (5/520)، ((تفسير البيضاوي)) (5/336)، ((تفسير ابن جزي)) (2/511)، ((تفسير أبي السعود)) (9/197)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/530، 531). .
- والظَّرفيَّةُ في قولِه: لَفِي خُسْرٍ أفادتْ تَشبيهَ مُلازَمةِ الخُسرِ بإحاطةِ الظَّرفِ بالمَظروفِ، فكانت أبلَغَ مِن أنْ يُقالَ: إنَّ الإنسانَ لَخاسرٌ [39] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/531). .
- وتَنكيرُ خُسْرٍ قيل: للتَّعظيمِ، أي: في خُسرٍ عظيمٍ، ويجوزُ أنْ يكونَ للتَّنويعِ، أيْ: نوعٍ مِن الخُسرِ غيرِ ما يَعرِفُه الإنسانُ [40] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (5/336)، ((تفسير أبي السعود)) (9/197)، ((تفسير الألوسي)) (15/458)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/532). .
- ومَجيءُ هذا الخبَرِ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ على العُمومِ، مع تَأكيدِه بالقسَمِ، وحرْفِ التَّوكيدِ في جَوابِه؛ يُفيدُ التَّهويلَ والإنذارَ بالحالةِ المُحيطةِ بمُعظَمِ النَّاسِ [41] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/531). .
فقَرَن الله تعالى بهذه الآيةِ قرائِنَ تدُلُّ على مُبالَغتِه تعالى في بيانِ كَونِ الإنسانِ في خُسرٍ:
أحَدُها: قَولُه: لَفِي خُسْرٍ يفيدُ أنَّه كالمغمورِ في الخُسرانِ، وأنَّه أحاط به مِن كُلِّ جانبٍ.
وثانيها: كَلِمةُ (إنَّ)؛ فإنَّها للتَّأكيدِ.
وثالثُها: حرفُ اللَّامِ في لَفِي خُسْرٍ [42] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (32/280). .
- وأعقَبَ بالاستثناءِ بقولِه: إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا الآيةَ، فيَتقرَّرُ الحُكْمُ تامًّا في نفْسِ السَّامعِ مُبيِّنًا أنَّ النَّاسَ فَريقانِ: فريقٌ يَلحَقُه الخُسرانُ، وفَريقٌ لا يَلحَقُه شَيءٌ منه [43] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/531). .
- وقدْ أفاد استثناءُ المُتَّصِفينَ بمَضمونِ الصِّلةِ ومَعطوفِها إيماءً إلى عِلَّةِ حُكمِ الاستثناءِ، وهو نَقيضُ الحُكمِ الثَّابتِ للمُسْتثنى منه؛ فإنَّهم لَيسوا في خُسرٍ مِن أجْلِ أنَّهم آمَنوا وعَمِلوا الصَّالحاتِ [44] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/532). .
- والتَّعريفُ في قولِه: الصَّالِحَاتِ تَعريفُ الجِنسِ مُرادٌ به الاستِغراقُ، أي: عَمِلوا جَميعَ الأعمالِ الصَّالحةِ الَّتي أُمِروا بعَمَلِها بأمْرِ الدِّينِ، وعَمَلُ الصَّالحاتِ يَشملُ تَرْكَ السَّيِّئاتِ [45] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/532). .
- وعُطِفَ على عمَلِ الصَّالحاتِ التَّواصي بالحقِّ والتَّواصي بالصَّبرِ وإنْ كان ذلك مِن عمَلِ الصَّالحاتِ، عَطْفَ الخاصِّ على العامِّ؛ للاهتِمامِ به؛ لأنَّه قد يُغفَلُ عنه، يُظَنُّ أنَّ العمَلَ الصَّالحَ هو ما أثَرُه عمَلُ المَرءِ في خاصَّتِه، فوَقَعَ التَّنبيهُ على أنَّ مِن العمَلِ المأمورِ به إرشادَ المسلمِ غَيرَه ودَعوتَه إلى الحقِّ، فالتَّواصي بالحقِّ يَشملُ تَعليمَ حَقائقِ الهدْيِ وعَقائدِ الصَّوابِ، وإراضةَ النَّفْسِ على فَهْمِها بفِعلِ المعروفِ وتَرْكِ المُنكَرِ، والتَّواصي بالصَّبرِ عطْفٌ على التَّواصي بالحقِّ عطْفَ الخاصِّ على العامِّ أيضًا، وإنْ كان خُصوصُه خُصوصًا مِن وَجْهٍ؛ لأنَّ الصَّبرَ تَحمُّلُ مَشقَّةِ إقامةِ الحقِّ، وما يَعترِضُ المُسلمَ مِن أذًى في نفْسِه في إقامةِ بَعضِ الحقِّ [46] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/532، 533). .
فتَخصيصُ هَذا التَّواصِي بالذِّكرِ مع انْدراجِه تحتَ التَّواصِي بالحقِّ؛ لإبرازِ كَمالِ الاعتناءِ بهِ، وللمُبالَغةِ؛ لأنَّه يدُلُّ على أنَّ الخاصَّ -لكَمالِه- بَلَغَ إلى مَرتبةٍ خَرَجَ بها عن الاندراجِ تحتَ العامِّ على ما عُرِفَ في أمثالِه. أو لأنَّ الأوَّلَ عبارةٌ عن رُتبةِ العِبادةِ الَّتي هيَ فِعلُ ما يَرضَى به اللهُ تعالَى، والثَّانيَ عبارةٌ عن رُتبةِ العُبوديَّةِ الَّتي هي الرِّضا بما فَعَلَ اللهُ تعالَى؛ فإنَّ المُرادَ بالصَّبرِ ليسَ مُجرَّدَ حَبْسِ النَّفْسِ عمَّا تَتشوَّقُ إليهِ مِن فِعلٍ وتَرْكٍ، بلْ هو تَلقِّي ما ورَدَ منه تعالَى بالجَميلِ والرِّضا به ظاهرًا وباطنًا [47] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (5/336)، ((تفسير أبي السعود)) (9/197)، ((حاشية الشهاب على البيضاوي)) (8/395). .
- وفي قولِه: وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ كُرِّرَ فِعلُ التَّواصِي؛ لاختِلافِ المفعولَينِ، وهما بِالْحَقِّ وبِالصَّبْرِ [48] يُنظر: ((أسرار التكرار في القرآن)) للكرماني (ص: 254، 255)، ((بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز)) للفيروزابادي (1/542)، ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص: 626). .
- ولعلَّه سُبحانه وتعالَى إنَّما ذَكَرَ سَببَ الرِّبحِ دونَ الخُسرانِ؛ اكتِفاءً ببَيانِ المَقصودِ، وإشعارًا بأنَّ ما عدَا ما عُدَّ يُؤدِّي إلى خُسرٍ ونقْصِ حظٍّ، أو تَكرُّمًا؛ فإنَّ الإبهامَ في جانبِ الخُسرِ كَرَمٌ [49] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (5/336). .