موسوعة التفسير

سُورةُ التِّينِ
الآيات (1-8)

ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ

غريب الكلمات:

 وَطُورِ سِينِينَ: أي: طُورِ سَيناءَ؛ والطُّورُ: اسمُ جبلٍ مخصوصٍ، وسِينِينُ لغةٌ في سيناءَ، وهو اسمٌ للمَكانِ الَّذي به الجَبَلُ الَّذي كلَّم اللهُ عليه موسى عليه السَّلامُ، وسُمِّيَ بذلك؛ لحُسْنِه أو لبَرَكَتِه أو لنَباتِه، وأصلُ (طور): يدُلُّ على امتدادٍ في شَيءٍ [5] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 52، 281)، ((تفسير ابن جرير)) (24/505)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/430)، ((البسيط)) للواحدي (24/150)، ((المفردات)) للراغب (ص: 439)، ((تذكرة الاريب)) لابن الجوزي (ص: 459). .
أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ: أي: أعدَلِ قامةٍ وأحسَنِ صُورةٍ، وأصلُ (قوم): يدُلُّ على انتِصابٍ [6] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/510)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/43)، ((تفسير البغوي)) (8/472)، ((تفسير ابن كثير)) (8/435)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 318). .
مَمْنُونٍ: أي: مَقطوعٍ مَنقوصٍ، وأصلُ (منن) هنا: يدُلُّ على قَطْعٍ [7] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 477)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 428)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/267)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 420). .
بِالدِّينِ: أي: بالجزاءِ والحسابِ، يُقالُ: دِنْتُه بما صَنَع، أي: جازَيْتُه، وأصلُ (دين): جِنْسٌ مِن الانْقِيادِ، والذُّلِّ [8] يُنظر: ((مجاز القرآن)) لأبي عبيدة (1/23)، ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 38)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/319)، ((البسيط)) للواحدي (23/298)، ((المفردات)) للراغب (ص: 323). .

مشكل الإعراب:

قَولُه تعالى: ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ * إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ
قَولُه تعالى: أَسْفَلَ مَفعولٌ ثانٍ لِـ «رَدَّ»، فهو بمعنى التَّصييرِ الَّذي ينصِبُ مفعولَينِ، وجُوِّزَ أن يكونَ المرادُ بالرَّدِّ: تغييرَ الحالِ، فهو متعَدٍّ لمفعولٍ واحِدٍ، وأَسْفَلَ: حالٌ مِن المفعولِ، أي: ردَدْناه حالَ كَونِه أسفَلَ.
وقَولُه تعالى: إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ الَّذِينَ اسمٌ مَوصولٌ مبنيٌّ في محَلِّ نَصبٍ على الاستثناءِ المتَّصِلِ مِن ضَميرِ رَدَدْنَاهُ العائِدِ على الإنسانِ؛ فإنَّه في معنى الجَمعِ، أي: ردَدْنا الإنسانَ أسفَلَ سافِلينَ مِنَ النَّارِ إلَّا الَّذين آمَنوا ... فالمؤمِنونَ لا يُرَدُّونَ أسفَلَ سافِلينَ إلى النَّارِ يومَ القيامةِ، ولا تَقبُحُ صُوَرُهم، بل يَزدادونَ بهجةً إلى بهجتِهم، وحُسْنًا إلى حُسْنِهم. وقَولُه تعالى: فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ: استئنافٌ بيانيٌّ مُقَرِّرٌ لِما يُفيدُه الاستثناءُ مِن خُروجِهم عن حُكمِ الرَّدِّ، ومُبَيِّنٌ لكيفيَّةِ حالِهم.
 ومَن قال: إنَّ المرادَ: رَدُّه إلى الهَرَمِ والخَرَفِ وضَعفِ القُوى، فالاستثناءُ عليه مُنقَطِعٌ، أي: لكِنِ الَّذين آمَنوا...، ووَجْهُه: أنَّ الهَرَمَ والرَّدَّ إلى أرذَلِ العُمُرِ يُصابُ به المؤمِنُ كما يُصابُ به الكافِرُ، فلا يكونُ لاستثناءِ المؤمنينَ على وَجهِ الاتِّصالِ مَعنًى، وعلى ذلك فقَولُه تعالى: فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ في محلِّ رَفعٍ خَبَرٌ لـ الَّذِينَ، والفاءُ رابطةٌ في الخَبَرِ؛ لتضَمُّنِ المبتدأِ المَوصولِ معنى الشَّرطِ، والكلامُ على معنى الاستدراكِ، كأنَّه قيل: لكِنِ الَّذين آمَنوا... فلَهم أجرٌ [9] يُنظر: ((إعراب القرآن)) للنحاس (5/160)، ((التبيان في إعراب القرآن)) للعكبري (2/1294)، ((الدر المصون)) للسمين الحلبي (11/52)، ((تفسير الشوكاني)) (5/568)، ((تفسير الألوسي)) (15/396)، ((الجدول في إعراب القرآن)) لمحمود صافي (30/361). .

المعنى الإجمالي:

افتَتَح اللهُ تعالى هذه السُّورةَ الكريمةَ مُقسِمًا بالتِّينِ والزَّيتونِ، وفي ذلك إشارةٌ إلى الأرضِ المقَدَّسةِ الَّتي يَنبُتُ فيها ذلك، ومنها بُعِثَ عيسى عليه السَّلامُ، ومُقسِمًا بجَبَلِ سَيناءَ الَّذي كَلَّم اللهُ عليه موسى عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ، وبالبَلَدِ الآمِنِ؛ مكَّةَ المكَرَّمةِ -شَرَّفَها اللهُ تعالى- أقسَمَ أنَّه خلَقَ الإنسانَ في أحسَنِ صُورةٍ، وأعدَلِ هَيئةٍ، مُنتَصِبَ القامةِ، سليمَ الفِطرةِ، ثمَّ هو يرُدُّه -سُبحانَه- إلى نارِ جهنَّمَ إنْ كفَر، إلَّا الَّذين آمَنوا وعَمِلوا الصَّالِحاتِ؛ فلَهم أجرٌ كامِلٌ غيرُ مَنقوصٍ ولا مَقطوعٍ.
ثمَّ وبَّخ اللهُ تعالى المشرِكينَ على التَّكذيبِ بالحسابِ والجزاءِ بعدَ ظُهورِ الدَّليلِ عليه، فقال: فما الَّذي يَجعلُك تُكذِّبُ -أيُّها الإنسانُ- بحِسابِ النَّاسِ على أعمالِهم بعدَ مَوتِهم؟! أليس اللهُ بأعدَلِ العادِلينَ في حُكْمِه بيْن عِبادِه؟!

تفسير الآيات:

وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ (1).
أي: أُقسِمُ بالتِّينِ، وأقسِمُ بالزَّيتونِ، وفي ذلك إشارةٌ إلى الأرضِ المقَدَّسةِ الَّتي يَنبُتُ فيها ذلك، ومنها بُعِثَ عيسى عليه السَّلامُ [10] يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/751)، ((تفسير ابن جرير)) (24/504)، ((الوسيط)) للواحدي (4/523). ومِمَّن قال بأنَّ المرادَ: التِّينُ الَّذي يؤكَلُ، والزَّيتونُ الَّذي يُعصَرُ منه الزَّيتُ: مقاتلُ بنُ سُلَيمانَ، وابنُ جرير، ونسَبه الواحديُّ إلى أكثَرِ المفَسِّرينَ. يُنظر: المصادر السَّابقة. وقيل: المرادُ: القَسَمُ بالأرضِ المقَدَّسةِ الَّتي يَنبُتُ فيها ذلك، ومنها بُعِثَ عيسى عليه السَّلامُ، وأُنزِلَ عليه فيها الإنجيلُ. ومِمَّن ذهب إلى هذا القَولِ: ابنُ تيميَّةَ، وابنُ القيِّمِ. يُنظر: ((الجواب الصحيح)) لابن تيمية (5/204)، ((التبيان في أقسام القرآن)) لابن القيم (ص: 43). قال ابن تيميَّةَ: (التِّينُ والزَّيْتونُ: هي الأرضُ الَّتي بُعِثَ فيها المسيحُ، وكثيرًا ما تُسمَّى الأرضُ بما يَنْبُتُ فيها، فيُقالُ: فلانٌ خَرَجَ إلى الكَرْمِ، وإلى الزَّيتونِ، وإلى الرُّمَّانِ، ونحوِ ذلك، ويُرادُ الأرضُ الَّتي فيها ذلك؛ فإنَّ الأرضَ تتناولُ ذلك؛ فعَبَّرَ عنها ببَعضِها). ((منهاج السنة النبوية)) (7/230). وقال ابنُ جُزَي: (والأظهَرُ أنَّهما الموضِعانِ مِنَ الشَّامِ، وهما اللَّذانِ كان فيهما مَولِدُ عيسى ومَسكَنُه؛ وذلك أنَّ اللهَ ذَكَر بعْدَ هذا الطُّورَ الَّذي كَلَّم عليه موسى، والبَلَدَ الَّذي بُعِثَ منه محمَّدٌ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم). ((تفسير ابن جزي)) (2/494). وذَكَر الشَّوكانيُّ أنَّ هذا القَولَ ونَحوَه فيه عُدولٌ عن المعنى الحقيقيِّ في اللُّغةِ العرَبيَّةِ، وليس فيه نَقلٌ عن الشَّارِعِ. يُنظر: ((تفسير الشوكاني)) (5/566). وقال السعدي: (التِّينُ: هو التِّينُ المعروفُ، وكذلك الزَّيتونُ، أقسَمَ بهاتَينِ الشَّجَرتينِ؛ لكثرةِ مَنافِعِ شَجَرِهما وثَمَرِهما، ولأنَّ سُلطانَهما في أرضِ الشَّامِ؛ محَلِّ نُبوَّةِ عيسى ابنِ مريمَ عليه السَّلامُ). ((تفسير السعدي)) (ص: 929). .
وَطُورِ سِينِينَ (2).
أي: وأُقسِمُ بجَبَلِ سَيناءَ الَّذي كَلَّم اللهُ عليه موسى عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ [11] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/508)، ((الجواب الصحيح)) لابن تيمية (5/204)، ((تفسير ابن كثير)) (8/434)، ((تفسير السعدي)) (ص: 929)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/421). قال ابن جرير: (وأَوْلى الأقوالِ في ذلك بالصَّوابِ: قولُ مَن قال: طُورُ سِينِينَ: جَبَلٌ معروفٌ؛ لأنَّ الطُّورَ هو الجبلُ ذو النَّباتِ، فإضافَتُه إلى سِينينَ تعريفٌ له). ((تفسير ابن جرير)) (24/508). وقال البِقاعي: (سِينينُ وسَيناءُ: اسمٌ للمَوضِعِ الَّذي هذا الجَبَلُ به). ((نظم الدرر)) (22/136). .
كما قال تعالى: وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا [مريم: 52] .
وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ (3).
أي: وأُقسِمُ بهذا البَلَدِ الآمِنِ، وهو مكَّةُ الَّتي يأمَنُ فيها مَن يَحُلُّ بها مِن البَشَرِ وغَيرِهم [12] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/508)، ((الوسيط)) للواحدي (4/523)، ((الجواب الصحيح)) لابن تيمية (5/204)، ((تفسير ابن كثير)) (8/434)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (22/137)، ((تفسير السعدي)) (ص: 929). قال ابنُ عطيَّة: (البَلَدُ الأمينُ: مكَّةُ، بلا خِلافٍ). ((تفسير ابن عطية)) (5/499). .
كما قال تعالى: وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آَمِنًا [آل عمران: 97] .
وقال سُبحانَه: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آَمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ [العنكبوت: 67] .
لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4).
أي: لقد خلَقْنا الإنسانَ في أحسَنِ صُورةٍ وأعدَلِ هَيئةٍ، مُنتَصِبَ القامةِ، مُتناسِبَ الأعضاءِ، على الفِطرةِ السَّليمةِ [13] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/510-513)، ((الوسيط)) للواحدي (4/524)، ((التبيان في أقسام القرآن)) لابن القيم (ص: 45)، ((تفسير ابن كثير)) (8/435)، ((تفسير السعدي)) (ص: 929)، ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 253). ومِمَّن قال في الجُملةِ بهذا المعنى المذكورِ: ابنُ جرير، والواحديُّ، وابنُ القيِّم، وابنُ كثير، والسعديُّ، وابنُ عثيمين. يُنظر: المصادر السَّابقة. قال ابنُ جريرٍ: (قولُه: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ وهذا جوابُ القَسَمِ). ((تفسير ابن جرير)) (24/510). وقال القرطبي: (فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ وهو اعتِدالُه واستِواءُ شَبابِه، كذا قال عامَّةُ المفسِّرينَ، وهو أحسَنُ ما يكونُ). ((تفسير القرطبي)) (20/114). وقال ابنُ عطيَّةَ بعدَ أن ذكر اختِلافَ النَّاسِ في تقويمِ الإنسانِ ما هو؟ وأنَّ مِنهم مَن قال: هو حُسنُ صُورتِه وحَواسِّه، ونسَبه إلى النَّخَعيِّ ومجاهِدٍ وقَتادةَ، وأنَّ منهم مَن قال: هو انتصابُ قامتِه، ومنهم مَن قال: هو عقلُه وإدراكُه اللَّذانِ زَيَّناه بالتَّمييزِ، قال: (والصَّوابُ أنَّ جميعَ هذا هو حُسنُ التَّقويمِ). ((تفسير ابن عطية)) (5/500). قال ابن عاشور: (خَلَق الإنسانَ في أحسَنِ تَقويمٍ، أي: خَلَقَه على الفِطْرةِ السَّليمةِ، مُدْرِكًا لأدِلَّةِ وُجودِ الخالِقِ ووَحدانيَّتِه). ((تفسير ابن عاشور)) (30/422). وقال أيضًا: (هذا يَقتضي أنَّه تقويمٌ خاصٌّ بالإنسانِ، لا يُشارِكُه فيه غيرُه مِن المخلوقاتِ، ويتَّضِحُ ذلك في تعديلِ القُوى الظَّاهرةِ والباطنةِ، بحيثُ لا تكونُ إحدى قُواه مُوقِعةً له فيما يُفسِدُه، ولا يَعوقُ بعضُ قُواه البعضَ الآخَرَ عن أداءِ وظيفتِه، فإنَّ غيرَه مِن جِنسِه كان دونَه في التَّقويمِ... فأفادتِ الآيةُ أنَّ اللهَ كَوَّن الإنسانَ تكوينًا ذاتيًّا مُتناسِبًا مع ما خُلِق له نَوعُه مِن الإعدادِ لنِظامِه وحضارتِه... فإنَّ العقلَ أشرَفُ ما خُصَّ به نَوعُ الإنسانِ مِن بيْنِ الأنواعِ. فالمَرْضيُّ عندَ الله هو تقويمُ إدراكِ الإنسانِ ونظَرِه العقليِّ الصَّحيحِ؛ لأنَّ ذلك هو الَّذي تَصدُرُ عنه أعمالُ الجسَدِ). ((تفسير ابن عاشور)) (30/424). وقال ابنُ عثيمين: (أقسَمَ اللهُ أنَّه خَلَق الإنسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ في أحسَنِ هيئةٍ وخِلْقةٍ وفِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ فِطرةً وقَصْدًا؛ لأنَّه لا يوجَدُ أحدٌ مِن المخلوقاتِ أحسَنُ مِن بني آدَمَ خِلقةً). ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 253). وقال ابن جُزَي: (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ فيه قَولانِ: أحدُهما: أنَّ حُسْنَ التَّقويمِ هو حُسنُ الصُّورةِ، وكمالُ العقلِ والشَّبابِ والقوَّةِ، وأَسْفَلَ سَافِلِينَ: الضَّعفُ والهَرَمُ والخَرَفُ، فهو كقولِه تعالى: وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ [يس: 68] ، وقولِه: ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً [الروم: 54] . وقولُه: إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا بعدَ هذا غيرُ مُتَّصِلٍ بما قبْلَه، والاستثناءُ على هذا القولِ مُنقطِعٌ بمعنَى: «لكِنْ»؛ لأنَّه خارجٌ عن معنى الكلامِ الأوَّلِ. والآخَرُ: أنَّ حُسْنَ التَّقويمِ: الفِطرةُ على الإيمانِ، وأَسْفَلَ سَافِلِينَ: الكفرُ أو تشويهُ الصُّورةِ في النَّارِ. والاستثناءُ على هذا متَّصِلٌ؛ لأنَّ الَّذين آمَنوا وعمِلوا الصَّالحاتِ لم يُرَدُّوا أسفَلَ سافِلينَ). ((تفسير ابن جزي)) (2/494). .
كما قال تعالى: يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ * الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ * فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ [الانفطار: 6 - 8].
ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ (5).
أي: ثمَّ ردَدْناه بعدَ موتِه إلى النَّارِ إنْ لم يُطِعِ اللَّهَ ويَتَّبعِ الرُّسلَ [14] يُنظر: ((التبيان في أقسام القرآن)) (ص: 46)، ((تفسير ابن كثير)) (8/435). ومِمَّن قال في الجملةِ بهذا المعنى المذكورِ: البيضاويُّ، وابنُ القيِّم، وابنُ كثير، والقاسميُّ، والسعديُّ والشنقيطيُّ. يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (5/323)، ((التبيان في أقسام القرآن)) لابن القيم (ص: 46)، ((تفسير ابن كثير)) (8/435)، ((تفسير القاسمي)) (9/503)، ((تفسير السعدي)) (ص: 929)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (2/599). ويُنظر أيضًا: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (16/279). قال البيضاوي: (ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ بأنْ جعَلْناه مِن أهلِ النَّارِ، أو إلى أسفَلِ سافِلينَ وهو النَّارُ). ((تفسير البيضاوي)) (5/323). ومِمَّن اختار أنَّ المعنى: ثمَّ ردَدْناه إلى سِنِّ الهَرَمِ وأرذَلِ العُمُرِ: مقاتلُ بنُ سُلَيمانَ، وابنُ قُتَيبةَ، وابنُ جرير، والزجاجُ، والسمرقنديُّ، والثعلبي، والبغوي. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/751)، ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 532)، ((تفسير ابن جرير)) (24/513، 516)، ((معاني القرآن وإعرابه)) للزجاج (5/343)، ((تفسير السمرقندي)) (3/595)، ((تفسير الثعلبي)) (10/240)، ((تفسير البغوي)) (5/277). وقال الزَّجَّاج: (ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ إلى أرذَلِ العُمُرِ، وقيل: إلى الضَّلالِ، كما قال عزَّ وجلَّ: إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ [العصر: 2، 3]، وهو -واللهُ أعلَمُ- أنْ خُلِقَ الخَلقُ على الفِطرةِ، فمَن كفَرَ وضَلَّ فهو المردودُ إلى أسفَلِ السَّافِلينَ). ((معاني القرآن وإعرابه)) (5/343). وقال ابنُ عثيمين: (كلَّما ازدادت السِّنُّ في الإنسانِ تغيَّرَ إلى أردَأَ في القوَّةِ الجسَديَّةِ، وفي الهيئةِ الجسَديَّةِ، وفي نَضارةِ الوَجهِ وغيرِ ذلك، يُرَدُّ أسفَلَ سافِلينَ. وإذا قُلْنا: إنَّ أحسَنَ تقويمٍ تَشملُ حتَّى الفِطرةَ الَّتي جَبَل اللهُ الخَلْقَ عليها، والعبادةَ الَّتي تترتَّبُ أو تَنبني على هذه الفِطرةِ؛ فإنَّ هذا إشارةٌ إلى أنَّ مِنَ النَّاسِ مَن تعودُ به حالُه -والعياذُ بالله- إلى أن يكونَ أسفَلَ سافِلينَ بعدَ أن كان في الأعلى والقِمَّةِ مِنَ الإيمانِ والعِلمِ. والآيةُ تَشملُ المعنيَينِ جميعًا). ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 253). وقال ابنُ عاشور: (المعنى: أنَّ الإنسانَ أخَذَ يُغَيِّرُ ما فُطِرَ عليه مِن التَّقويمِ، وهو الإيمانُ بإلهٍ واحِدٍ، وما يَقتَضيه ذلك مِن تَقْواه ومُراقَبتِه؛ فصار أسفَلَ سافِلينَ، وهل أسفَلُ مِمَّن يَعتَقِدُ إلهيَّةَ الحِجارةِ والحيوانِ الأبكَمِ؛ مِن بَقَرٍ أو تماسيحَ أو ثعابينَ، أو مِن شَجَرِ السَّمُرِ، أو مَن يَحسَبُ الزَّمانَ إلهًا ويُسَمِّيه الدَّهرَ، أو مَن يَجحَدُ وُجودَ الصَّانِعِ وهو يُشاهِدُ مَصنوعاتِه ويُحِسُّ بوُجودِ نَفْسِه؟! قال تعالى: وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ [الذاريات: 21]. فإنْ مِلتَ إلى جانِبِ الأخلاقِ رأيتَ الإنسانَ يَبلُغُ به انحِطاطُه إلى حضيضِ التَّسَفُّلِ). ((تفسير ابن عاشور)) (30/427، 428). .
إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (6).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا حَكَم بذلك الرَّدِّ على جميعِ النَّوعِ إشارةً إلى كثرةِ المتَّصِفِ به منهم، وكان الصَّالحُ قليلًا جِدًّا؛ جعَلَه محَطَّ الاستثناءِ، فقال [15] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (22/145). :
إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (6).
أي: إلَّا الَّذين آمَنوا بما وَجَب عليهم الإيمانُ به، وعَمِلوا الأعمالَ الصَّالِحاتِ، فإنَّهم لا يُرَدُّون إلى النَّارِ؛ ولهم أجرٌ كامِلٌ غيرُ مَنقوصٍ، دائِمٌ غيرُ مَقطوعٍ [16] يُنظر: ((الوسيط)) للواحدي (4/524)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (16/279، 280)، ((التبيان في أقسام القرآن)) لابن القيم (ص: 48)، ((تفسير ابن كثير)) (8/435)، ((تفسير السعدي)) (ص: 929). وهذا القولُ المذكورُ بِناءً على أنَّ المرادَ بقولِه: رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ أي: إلى النَّارِ. وتقدَّم ذِكرُ القائلينَ به. وعلى القولِ الثَّاني في قولِه: رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ -أي: أنَّ المرادَ به: ردَدْناه إلى سِنِّ الهَرَمِ وأرذَلِ العُمُرِ- فالمعنى: إلَّا الَّذين آمَنوا وعَمِلوا الصَّالحاتِ وقْتَ صِحَّتِهم وشَبابِهم؛ فلَهم أجرٌ غيرُ مَنقوصٍ بَعْدَ هَرَمِهم؛ حيثُ يُعطَونَ ثوابَ الأعمالِ الَّتي كانوا يَعمَلونَها زمَنَ صِحَّتِهم وشَبابِهم. يُنظر: ((تفسير البغوي)) (5/278). وقال ابنُ القيِّم: (إن قالوا: إنَّ الَّذي يُرَدُّ إلى أرذَلِ العُمُرِ هم الكفَّارُ دونَ المؤمنينَ؛ كابَروا الحِسَّ، وإن قالوا: إنَّ مِن النَّوعَينِ مَن يُرَدُّ إلى أرذَلِ العُمُرِ؛ احتاجوا إلى التَّكلُّفِ لصَّحةِ الاستثِناءِ، فمِنهم مَن قدَّر ذلك بأنَّ الَّذين آمَنوا وعَمِلوا الصَّالحاتِ لا تَبطُلُ أعمالُهم إذا رُدُّوا إلى أرذَلِ العُمُرِ، بل تجري عليهم أعمالُهم الَّتي كانوا يَعمَلونها في الصِّحَّةِ، فهذا وإن كان حقًّا فإنَّ الاستثناءَ إنَّما وقَع مِن الرَّدِّ لا مِن الأجرِ والعمَلِ، ولَمَّا عَلِم أربابُ هذا القولِ ما فيه مِن التَّكلُّفِ خَصَّ بَعضُهم الَّذين آمَنوا وعَمِلوا الصَّالحاتِ بقُرَّاءِ القُرآنِ خاصَّةً، فقالوا: مَن قرأ القرآنَ لا يُرَدُّ إلى أرذَلِ العُمُرِ. وهذا ضعيفٌ مِن وجهَينِ؛ أحَدُهما: أنَّ الاستِثناءَ عامٌّ في المؤمِنينَ؛ قارئِهم وأُمِّيِّهم، الثَّاني: أنَّه لا دليلَ على ما ادَّعَوه، وهذا لا يُعلَمُ بالحِسِّ، ولا خَبَرَ يجِبُ التَّسليمُ له يَقتضيه. واللهُ أعلَمُ). ((التبيان في أقسام القرآن)) (ص: 47، 48). وقال الشنقيطي: (قوله: ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ * إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ فعلى أحدِ التَّفسيرَينِ في الآيةِ: أنَّ الإنسانَ إذا رُدَّ أسفَلَ سافِلينَ إلى أرذَلِ العُمُرِ، وكان هَرِمًا لا يَعقِلُ، أنَّه يُرَدُّ إلى أسفلِ السَّافِلينَ، إلَّا الَّذين آمَنوا وعمِلوا الصَّالحاتِ فلَهم مِن الأجرِ ما كان يُكتَبُ لهم، هذا وجْهٌ في الآيةِ، ولكنَّ الوجهَ الصَّحيحَ فيها عندَ المفسِّرينَ: أنَّ معنى: رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ أي: جعَلْناه إلى دَرَكاتِ النَّارِ إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ وهو الجنَّةُ). ((العذب النمير)) للشنقيطي (2/599، 600). وقال ابنُ عاشور: (المعنى: أنَّ الَّذين آمَنوا بعْدَ أن رُدُّوا أسفَلَ سافِلينَ أيَّامَ الإشراكِ، صاروا بالإيمانِ إلى الفِطرةِ الَّتي فَطَر اللهُ الإنسانَ عليها، فراجَعوا أصْلَهم إلى أحسَنِ تقويمٍ). ((تفسير ابن عاشور)) (30/429). وقال القرطبي: (الاستثناءُ -على قَولِ مَن قال: أَسْفَلَ سَافِلِينَ: النَّار- متَّصِلٌ، ومَن قال: إنَّه الهَرَمُ، فهو منقَطِعٌ). ((تفسير القرطبي)) (20/115). قال الواحديُّ: (قولُه تعالى: فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ ذكَرَ المفسِّرونَ فيه قَولَينِ؛ أحدُهما: غيرُ مَنقوصٍ ولا مقطوعٍ. والآخَرُ: غَيْرُ مَمْنُونٍ أي: لا يُمَنُّ به عليهم). ((البسيط)) (24/157). وقال ابن عثيمين: (قوله: فَلَهُمْ أَجْرٌ أي: ثوابٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ غيرُ مَقطوعٍ، ولا مَمنونٍ به أيضًا، فكلمةُ مَمْنُونٍ صالحةٌ لمعنَى القَطعِ، وصالحةٌ لمعنى المِنَّةِ، فهُم لهم أجرٌ لا يَنقطِعُ، ولا يُمَنُّ عليهم به، يعني أنَّهم إذا استَوفَوا هذا الأجرَ لا يُمَنُّ عليهم فيُقالُ: أعطَيْناكم وفعَلْنا وفعَلْنا، وإن كانت المِنَّةُ لله عزَّ وجلَّ عليهم بالإيمانِ والعمَلِ الصَّالحِ والثَّوابِ، كلُّها مِنَّةٌ مِن الله، لكنْ لا يمنُّ عليهم به). ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 253). وتقدَّم في تفسير سورة الإنشقاق  الآية (25) الكلامُ عن المعنى الثَّاني لقولِه: مَمْنُونٍ وأنَّ مِن العلماءِ مَن أنكرَه. يُنظر: ((الرد على مَن قال بفناء الجنة والنار)) لابن تيميَّة (ص: 84، 85)، ((تفسير ابن كثير)) (8/ 362). .
كما قال تعالى: فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ [الانشقاق: 24-25] .
فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ (7).
أي: فما الَّذي يَجعلُكَ تُكذِّبُ -أيُّها الإنسانُ- بأنَّ النَّاسَ يُحاسَبونَ على أعمالِهم، ويُجازَونَ بها بعدَ الحُجَجِ الَّتي بَيَّنَها اللهُ [17] يُنظر: ((تأويل مشكل القرآن)) لابن قتيبة (ص: 205)، ((الوسيط)) للواحدي (4/526)، ((تفسير الزمخشري)) (4/774)، ((التبيان في أقسام القرآن)) لابن القيم (ص: 51)، ((تفسير السعدي)) (ص: 930)، ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 254). قال ابنُ عطية: (اختُلِف في المخاطَبِ بقولِه تعالى: فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ فقال قتادةُ والفرَّاءُ والأخفشُ: هو محمدٌ عليه السَّلامُ، قال الله له: فماذا الذي يُكذِّبُكَ فيما تخبِرُ به مِن الجزاءِ والبعثِ -وهو الدِّينُ- بعدَ هذه العبرِ التي يُوجِبُ النَّظرُ فيها صحةَ ما قلتَ، ويحتمِلُ أنْ يكونَ «الدينُ» على هذا التأويلِ جميعُ دينِه وشرعِه، وقال جمهورٌ مِن المتأولينَ: المخاطَبُ الإنسانُ الكافرُ، أي: ما الذي يجعلُك كذَّابًا بالدِّينِ، تجعلُ له أندادًا، وتزعمُ أن لا بعثَ بعد هذه الدلائلِ، وقال منصورٌ: قلْتُ لمجاهدٍ: قولُه تعالى: فَمَا يُكَذِّبُكَ يريدُ به النبيَّ صلى الله عليه وسلم؟ قال معاذَ الله، يعني به الشَّاكَّ). ((تفسير ابن عطية)) (5/500). ويُنظر: ((معاني القرآن)) للفراء (3/277). وقال الواحدي: (وعامةُ المفسِّرينَ على أنَّ هذا خطابٌ للإنسانِ المكذِّبِ بالدِّينِ). ((البسيط)) (24/159). وقال السمعاني: (قولُه تعالَى: فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ المعنَى: فما يُكذِّبُكَ أيُّها الشَّاكُّ بيومِ الحسابِ بعدَ ما شاهدْتَ مِن قُدرَةِ الله تعالى ما شاهدْتَ، هذا هو القولُ المعروفُ). ((تفسير السمعاني)) (6/254). وقال ابن جرير: (أولَى الأقوالِ في ذلك عندي بالصَّوابِ قولُ مَنْ قالَ: معنَى «مَا» معنَى «مَنْ». ووجهُ تأوِيلِ الكلامِ إلى: فمَنْ يُكَذِّبُكَ يا محمَّدُ بعدَ الَّذي جاءَكَ مِنْ هذا البيانِ مِن الله بالدِّينِ؟ يعني: بطاعَةِ اللهِ، ومُجازاتِه العِبادَ على أعمالِهم). ((تفسير ابن جرير)) (24/524). وقال البِقاعي: (أيْ: أيُّ شَيءٍ يَنسبُك إلى الكذبِ يا أشرَفَ الخَلقِ وأكمَلَهم نفْسًا وأتْقاهم عِرضًا وأطهَرَهم خَلقًا وخُلقًا، وعبَّر بـ «ما» إشارةً إلى أنَّ الكذبَ بهذا مع هذا الدَّليلِ القَطعيِّ الَّذي تضَمَّنَتْه هذه السُّورةُ في عِدادِ ما لا يُعقلُ، بل دُونَه). ((نظم الدرر)) (22/148). ؟!
أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ (8).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا صَحَّ أنَّ تارِكَ الظَّالِمِ بغيرِ انتِقامٍ، والمحسِنِ بلا إكرامٍ: ليس على مِنهاجِ العَدْلِ الَّذي شَرَعه اللهُ تعالى؛ حَسُنَ جِدًّا تكريرُ الإنكارِ بقَولِه سُبحانه وتعالى [18] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (22/149). :
أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ (8).
أي: أليس الله هو أعدَلَ العادِلينَ في حُكْمِه بيْن عِبادِه [19] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/525)، ((الوسيط)) للواحدي (4/526)، ((التبيان في أقسام القرآن)) لابن القيم (ص: 54)، ((تفسير ابن كثير)) (8/435). ومِمَّن قال في الجملة بأنَّ المرادَ: أنَّه أعدَلُ الحاكِمينَ قَضاءً بيْن خَلْقِه، وأقضَى القاضينَ، وأفصلُ الفاصِلينَ: ابنُ جرير، والواحديُّ، والبغوي، والرَّسْعَني، والخازن، وابن كثير، والعُلَيمي. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/525)، ((الوسيط)) للواحدي (4/526)، ((تفسير البغوي)) (5/ 278)، ((تفسير الرسعني)) (8/678)، ((تفسير الخازن)) (4/445)، ((تفسير ابن كثير)) (8/ 435)، ((تفسير العليمي)) (7/396). ويُنظر أيضًا: ((تفسير ابن جزي)) (2/495). قال السعدي: (أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ فهل تَقتضي حِكمتُه أن يَترُكَ الخَلقَ سُدًى، لا يُؤْمَرونَ ولا يُنهَونَ، ولا يُثابونَ ولا يُعاقَبونَ؟! أمِ الَّذي خلَق الإنسانَ أطوارًا بعدَ أطوارٍ، وأوصَل إليهم مِن النِّعَمِ والخَيرِ والبِرِّ ما لا يُحصونَه، ورَبَّاهم التَّربيةَ الحسَنةَ؛ لا بُدَّ أن يُعيدَهم إلى دارٍ هي مُستقَرُّهم وغايَتُهم، الَّتي إليها يَقصِدونَ، ونحوَها يَؤُمُّونَ). ((تفسير السعدي)) (ص: 930). ومِمَّن قال بأنَّ المرادَ: أنَّه أتقَنُ الحاكِمينَ صُنعًا في خَلْقِه: القُرطبيُّ، وابنُ عادل، والشَّوكانيُّ. يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (20/117)، ((تفسير ابن عادل)) (20/411)، ((تفسير الشوكاني)) (5/568). قال ابنُ عثيمين: (هذا الاستفهامُ للتَّقريرِ؛ يُقَرِّرُ اللهُ عزَّ وجَلَّ أنَّه أحكَمُ الحاكِمينَ، وأحكَمُ هنا: اسمُ تَفضيلٍ، وهو مأخوذٌ مِنَ الحِكمةِ، ومِنَ الحُكمِ؛ فالحُكمُ الأكبَرُ الأعظَمُ الَّذي لا يُعارِضُه شيءٌ هو حُكمُ اللهِ عزَّ وجَلَّ، والحِكمةُ العُلْيا البالغةُ هي حِكمةُ اللهِ عزَّ وجَلَّ؛ فهو سُبحانَه وتعالى أحكَمُ الحاكِمينَ قَدَرًا وشَرْعًا، وله الحُكمُ، وإليه يُرجَعُ الأمرُ كُلُّه). ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 254). ويُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/431). ؟!

الفوائد التربوية:

في قَولِه تعالى: ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ * إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ فَضيلةٌ لِمَن أَسَنَّ في الإسلامِ؛ لأنَّ اللهَ جلَّ جلالُه يَكتُبُ أجرَ ما كان يَعمَلُه في شَبيبتِه، ولا يَقْطَعُه عنه [20] يُنظر: ((النكت الدالة على البيان)) للقصاب (4/526). . وذلك على أنَّ معنى رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ: ردَدْناه إلى سِنِّ الهَرَمِ.

الفوائد العلمية واللطائف :

1- قال تعالى: وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ، وقال: وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا [الشمس: 1] الآياتِ، وقال: فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ [الرحمن: 68] إلى غيرِ ذلك، ولم يدُلَّ التَّقديمُ في شَيءٍ مِن هذه المواضعِ على فَضْلِ المَبدوءِ به؛ فعُلِم أنَّ التَّقديمَ ليس لازمًا للفَضلِ [21] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (4/386). .
2- في قَولِه تعالى: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ أنَّ شَكْلَ الآدميِّ هو أحسنُ شَكْلٍ في المخلوقاتِ وأقوَمُه [22] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة غافر)) (ص: 435). .
3- في قَولِه تعالى: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ سؤالٌ؛ هذه الآيةُ الكريمةُ توهِمُ أنَّ الإنسانَ يُنكِرُ أنَّ ربَّه خلَقَه؛ لِما تقرَّر في فنِّ المعاني مِن أنَّ خاليَ الذِّهنِ مِن التَّردُّدِ والإنكارِ لا يؤكَّدُ له الكلامُ -ويُسمَّى ذلك ابتدائيًّا-، والمُتردِّدَ يَحسُنُ التَّوكيدُ له بمؤكِّدٍ واحدٍ -ويُسمَّى طلَبيًّا-، والمُنكِرَ يجبُ التَّوكيدُ له بحسَبِ إنكارِه -ويُسمَّى إنكاريًّا-، واللهُ تعالى في هذه الآيةِ أكَّد إخبارَه بأنَّه خلَقَ الإنسانَ في أحسَنِ تقويمٍ بأربعةِ أقسامٍ، وباللَّامِ، وبـ «قد»؛ فهي ستَّةُ تأكيداتٍ، وهذا التَّوكيدُ يوهِمُ أنَّ الإنسانَ مُنكِرٌ لأنَّ ربَّه خلَقَه؛ وقد جاءت آياتٌ أخرى صريحةٌ في أنَّ الكفَّارَ يُقِرُّونَ بأنَّ اللهَ هو خالِقُهم، وهي قولُه: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [الزخرف: 87] ؟
الجوابُ مِن وجهَينِ:
الأوَّلُ: هو ما حرَّره عُلماءُ البلاغةِ مِن أنَّ المُقِرَّ إذا ظهرَتْ عليه أمَارةُ الإنكارِ جُعِل كالمنكِرِ؛ فأُكِّدَ له الخبَرُ، فالكفَّارُ لَمَّا أنكَروا البعثَ ظهرَتْ عليهم أمارةُ إنكارِ الإيجادِ الأوَّلِ؛ لأنَّ مَن أقَرَّ بالأوَّلِ لَزِمه الإقرارُ بالثَّاني؛ لأنَّ الإعادةَ أيسَرُ مِن البَدءِ؛ فأكَّد لهم الإيجادَ الأوَّلَ، ويوضِّحُ هذا أنَّ اللهَ تعالى بيَّن أنَّه المقصودُ بقولِه: فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ أي: ما يَحمِلُك أيُّها الإنسانُ على التَّكذيبِ بالبعثِ والجزاءِ بعدَ عِلمِك أنَّ اللهَ أوجَدك أوَّلًا؟! فمَن أوجَدك أوَّلًا قادرٌ على أن يوجِدَك ثانيًا.
الوجهُ الثَّاني: أنَّ القسَمَ شاملٌ لقولِه: ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ أي: إلى النَّار، وهم لا يُصَدِّقونَ بالنَّارِ؛ بدليلِ قولِه تعالى: هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ [23] يُنظر: ((دفع إيهام الاضطراب)) للشنقيطي (ص: 276). [الطور: 14].
4- قال تعالى: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ يُؤخَذُ مِن هذه الآيةِ أنَّ الإنسانَ مخلوقٌ على حالةِ الفِطرةِ الإنسانيَّةِ الَّتي فطَرَ اللهُ النَّوعَ ليتَّصِفَ بآثارِها، وهي الفِطرةُ الإنسانيَّةُ الكامِلةُ في إدراكِه إدراكًا مُستقيمًا مِمَّا يتأدَّى مِن المحسوساتِ الصَّادِقةِ -أي: الموافِقةِ لحقائِقِ الأشياءِ، الثَّابتةِ في نفْسِ الأمرِ- بسَبَبِ سلامةِ ما تؤدِّيه الحواسُّ السَّليمةُ، وما يَتلقَّاه العَقلُ السَّليمُ مِن ذلك، ويتصَرَّفُ فيه بالتَّحليلِ والتَّركيبِ المنتظِمَينِ؛ بحيث لو جانبَتْه التَّلقيناتُ الضَّالَّةُ والعوائِدُ الذَّميمةُ والطَّبائِعُ المنحَرِفةُ والتَّفكيرُ الضَّارُّ، أو لو تسلَّطَت عليه تسلُّطًا ما، فاستطاع دفاعَها عنه بدَلائِلِ الحَقِّ والصَّوابِ- لَجرى في جميعِ شُؤونِه على الاستقامةِ، ولَمَا صَدَرَت منه إلَّا الأفعالُ الصَّالحةُ، ولكِنَّه قد يتعثَّرُ في ذُيولِ اغترارِه، ويُرخي العِنانَ لهَواه وشَهوتِه، فتَرمي به في الضَّلالاتِ، أو يتغَلَّبُ عليه دُعاةُ الضَّلالِ بعامِلِ التَّخويفِ أو الإطماعِ، فيُتابِعُهم طَوعًا أو كَرهًا، ثمَّ لا يلبَثُ أن يَستحكِمَ فيه ما تقلَّدَه فيَعتادُه ويَنسى الصَّوابَ والرُّشدَ! ويُفسِّرُ هذا المعنى قولُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((ما مِن مولودٍ إلَّا يُولَدُ على الفِطرةِ، فأبَواه يُهَوِّدانِه أو يُنَصِّرانِه أو يُمَجِّسانِه )) الحديثَ [24] أخرجه البخاريُّ (1358) واللَّفظُ له، ومسلمٌ (2658) مِن حديثِ أبي هُرَيرةَ رضيَ الله عنه. ؛ ذلك أنَّ أبَوَيه هما أوَّلُ مَن يتولَّى تأديبَه وتثقيفَه، وهما أكثَرُ النَّاسِ مُلازَمةً له في صِباه، فهما اللَّذان يُلْقيانِ في نَفْسِه الأفكارَ الأُولى، فإذا سَلِمَ مِن تضليلِ أبَوَيه فقدْ سار بفِطرتِه شَوطًا، ثمَّ هو بعدَ ذلك عُرضةٌ لعديدٍ مِن المؤَثِّراتِ فيه؛ إنْ خَيرًا فخَيرٌ، وإنْ شَرًّا فشَرٌّ، واقتصَر النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم على الأبَوَين؛ لأنَّهما أقوى أسبابِ الزَّجِّ في ضَلالتِهما، وأشَدُّ إلحاحًا على ولَدِهما [25] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/425). .
5- يُستفادُ مِن قَولِه تعالى: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ أنَّ الإنسانَ مَفطورٌ على الخَيرِ، وأنَّ في جِبِلَّتِه جَلبَ النَّفعِ والصَّلاحِ لنَفْسِه، وكَراهةَ ما يَظُنُّه باطِلًا أو هلاكًا، ومحبَّةَ الخَيرِ والحَسَنِ مِنَ الأفعالِ؛ لذلك تَراه يُسَرُّ بالعَدْلِ والإنصافِ، ويَنصَحُ بما يَراه مجلبةً لِخَيرِ غَيرِه، ويُغيثُ المَلْهوفَ، ويُعامِلُ بالحُسنى، ويَغارُ على المُستضعَفينَ، ويَشمَئِزُّ مِن الظُّلمِ -ما دام مجرَّدًا عن رَوْمِ نفعٍ يَجلِبُه لنَفْسِه، أو إرضاءِ شَهوةٍ يُريدُ قَضاءَها، أو إشفاءِ غَضَبٍ يَجِيشُ بصَدْرِه؛ تلك العَوارِضُ الَّتي تَحولُ بيْنه وبيْن فِطرتِه زمنًا- ويَهَشُّ إلى كلامِ الوُعَّاظِ والحُكَماءِ والصَّالحينَ، ويُكرِمُهم ويُعَظِّمُهم، ويَوَدُّ طُولَ بَقائِهم [26] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/426). .
6- في قَولِه تعالى: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ إشارةٌ إلى ما خُصَّ به الإنسانُ مِنَ العَقلِ والفَهمِ وانتِصابِ القامةِ؛ الدَّالَّةِ على استيلائِه على كُلِّ ما في هذا العالَمِ [27] يُنظر: ((بصائر ذوي التمييز)) للفيروزابادي (4/311). .
7- تأمَّلْ حِكمةَ القرآنِ؛ لَمَّا قال: إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ [العصر: 2] فإنَّه ضَيَّقَ الاستثناءَ وخَصَّصَه، فقال: إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ [العصر: 3] ، ولَمَّا قال: ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ وَسَّعَ الاستثناءَ وعَمَّمَه، فقال: إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ولم يَقُلْ: «وتَواصَوا»؛ فإنَّ التَّواصيَ هو أمرُ الغيرِ بالإيمانِ والعَمَلِ الصَّالحِ، وهو قَدْرٌ زائدٌ على مجرَّدِ فِعْلِه، فمَن لم يكُنْ كذلك فقد خَسِرَ هذا الرِّبحَ، فصار في خُسْرٍ، ولا يَلزَمُ أنْ يكونَ في أسفَلِ سافِلينَ؛ فإنَّ الإنسانَ قد يقومُ بما يجبُ عليه ولا يأمُرُ غيرَه، فإنَّ الأمرَ بالمعروفِ والنَّهيَ عنِ المنكَرِ مرتبةٌ زائدةٌ، وقد تكونُ فرضًا على الأعيانِ، وقد تكونُ فرضًا على الكفايةِ، وقد تكونُ مُستحَبَّةً [28] يُنظر: ((التبيان في أقسام القرآن)) لابن القيم (ص: 85). .
8- في قَولِه تعالى: أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ أنَّه ما مِن شيءٍ يَحكُمُ اللهُ به إلَّا وهو حِكمةٌ عَظيمةٌ [29] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين: الحجرات - الحديد)) (ص: 33). .
9- أحكامُ الله سُبحانَه لا تَجِدُ فيها عَيبًا ولا نَقْصًا [30] يُنظر: ((شرح رياض الصالحين)) لابن عثيمين (1/188). ؛ قال تعالى: أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ، وفيه أنَّ حُكْمَ اللهِ أحسَنُ الأحكامِ، فإذا كان اللهُ أحسَنَ الحاكِمينَ أحكامًا، وهو أحكمُ الحاكِمينَ؛ فمَنِ ادَّعى أنَّ حُكْمَ غيرِ اللهِ مِثلُ حُكْمِ اللهِ أو أحسَنُ؛ فهو كافِرٌ؛ لأنَّه مُكَذِّبٌ للقرآنِ [31] يُنظر: ((القول المفيد على كتاب التوحيد)) لابن عثيمين (2/160). .
10- قَولُه تعالى: أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ خَتَمَ سُبحانَه السُّورةَ به، وهذا تقريرٌ لمضمونِ السُّورةِ مِن إثباتِ النُّبُوَّةِ والتَّوحيدِ والمَعادِ، وحُكْمُه يَتضَمَّنُ نَصْرَه لرَسولِه على مَن كَذَّبَه وجَحَدَ ما جاء به بالحُجَّةِ والقُدرةِ والظُّهورِ عليه، وحُكْمَه بيْن عبادِه في الدُّنيا بشَرعِه وأَمْرِه، وحُكْمَه بيْنَهم في الآخرةِ بثَوابِه وعِقابِه، وأنَّ أَحْكَمَ الحاكِمينَ لا يَليقُ به تعطيلُ هذه الأحكامِ بعْدَما ظهَرتْ حِكمتُه في خَلْقِ الإنسانِ في أحسَنِ تقويمٍ، ونَقْلِه في أطوارِ التَّخليقِ حالًا بعدَ حالٍ إلى أَكْمَلِ الأحوالِ، فكيف يليقُ بأحْكَمِ الحاكِمينَ ألَّا يُجازيَ المُحسِنَ بإحسانِه، والمُسيءَ بإساءتِه؟! وهل ذلك إلَّا قَدْحٌ في حُكْمِه وحِكمتِه؟! فلِلَّهِ ما أَخْصَرَ لفظَ هذه السُّورةِ، وأعْظَمَ شأنَها، وأَتَمَّ معناها [32] يُنظر: ((التبيان في أقسام القرآن)) لابن القيم (ص: 54). !

بلاغة الآيات:

1- قولُه تعالَى: وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ * وَطُورِ سِينِينَ * وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ
- ابتِداءُ الكلامِ بالقسَمِ المؤكِّدِ يُؤذِنُ بأهمِّيَّةِ الغرَضِ المَسوقِ له الكلامُ، وإطالةُ القسَمِ تَشويقٌ إلى المقسَمِ عليه [33] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/420). .
- ومعْنى القسَمِ بهذه الأشياءِ وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ * وَطُورِ سِينِينَ * وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ: الإبانةُ عن شرَفِ البِقاعِ المُبارَكةِ، وما ظَهَرَ فيها مِن الخَيرِ والبَرَكةِ بسُكْنى الأنبياءِ والصَّالحينَ؛ فمَنبِتُ التِّينِ والزَّيتونِ مُهاجَرُ إبراهيمَ ومَولدُ عِيسى ومَنْشؤه، والطُّورُ: المكانُ الَّذي نُودِيَ منه مُوسى، ومكَّةُ: مكانُ البَيتِ الَّذي هو هُدًى للعالَمينَ، ومَولدُ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ومَبعثُه [34] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/774)، ((تفسير أبي حيان)) (10/503). .
- وكذلك أُقسِمَ بالتِّينِ والزَّيتونِ مِن أجْلِ الدَّلالةِ على صِفاتٍ إلهيَّةٍ كما يُقسَمُ بالاسمِ لدَلالتِه على الذَّاتِ، مع الإيذانِ بالمِنَّةِ على النَّاسِ؛ لِما في هاتَينِ الثَّمرَتينِ مِن المنافعِ للنَّاسِ المُقتضيةِ الامتِنانَ عليهم بأنْ خَلَقَها اللهُ لهم؛ فَفاكهةُ التِّينِ تَنبُتُ في كلِّ البلادِ، وهي سَهلةُ النَّباتِ لا تَحتاجُ إلى كَثرةِ عَمَلٍ وعِلاجٍ. والزَّيتونُ ثَمَرةٌ نافعةٌ صالحةٌ، تَكْفي النَّاسَ حَوائجَ طَعامِهم وإضاءتِهم، فهما عَجيبانِ مِن بيْنِ أصنافِ الأشجارِ المُثمِرةِ [35] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/773)، ((تفسير البيضاوي)) (5/323)، ((تفسير أبي السعود)) (9/174)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/420)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (10/ 524). .
- وكذلك في ابتداءِ السُّورةِ بالقسَمِ بما يَشملُ إرادةَ مَهابطِ أشهَرِ الأديانِ الإلهيَّةِ، بَراعةُ استهلالٍ لغرَضِ السُّورةِ [36] براعةُ الاستهلالِ: هي كَوْنُ ابتداءِ الكلامِ مُناسِبًا للمقصودِ، وأنْ يكونَ أوَّلُ الكلامِ دالًّا على ما يُناسِبُ حالَ المتكلِّمِ، مُتضمِّنًا لِمَا سِيق الكلامُ مِن أجْلِه مِن غيرِ تصريحٍ، بلْ بألْطَفِ إشارةٍ يُدرِكُها الذَّوقُ السَّليمُ، ومِن أحسَنِ صُوَرِ براعةِ الاستِهلالِ مَوقِعًا، وأبلَغِها معنًى: فواتحُ سُوَرِ القرآنِ الكريمِ، ومنها الحُروفُ المقطَّعةُ؛ فإنَّها تُوقِظُ السَّامِعينَ للإصغاءِ إلى ما يَرِدُ بعْدَها؛ لأنَّهم إذا سمِعوها مِن النَّبيِّ الأُمِّيِّ علِموا أنَّها والمَتْلُوَّ بعْدَها مِن جِهةِ الوحيِ، وفيها تنبيهٌ على أنَّ المَتلُوَّ عليهم مِن جِنسِ ما يَنظِمونَ منه كلامَهم، مع عَجْزِهم عن أنْ يأتوا بمِثلِه. يُنظر: ((التعريفات)) للجرجاني (ص: 45)، ((الأطول شرح تلخيص مفتاح العلوم)) لعصام الدين الحنفي (1/129)، ((تفسير أبي السعود)) (4/282)، ((أنوار الربيع في أنواع البديع)) لابن معصوم (1/53)، ((علوم البلاغة)) لأحمد المراغي (ص: 378). ؛ وهو أنَّ اللهَ سُبحانَه خلَقَ الإنسانَ في أحسَنِ تَقويمٍ، أي: خَلَقَه على الفِطرةِ السَّليمةِ مُدرِكًا لأدِلَّةِ وُجودِ الخالقِ ووَحدانيَّتِه. وفيه إيماءٌ إلى أنَّ ما خالَفَ ذلك مِن النِّحَلِ والمِلَلِ قد حادَ عن أُصولِ شَرائعِ اللهِ كلِّها، بقطْعِ النَّظرِ عن اختلافِها في الفُروعِ، ويَكْفي في تقَوُّمِ معْنى بَراعةِ الاستهلالِ ما يَلوحُ في المعْنى مِن احتمالٍ [37] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/422، 423). .
- البلدُ الأمينُ: هو مكَّةُ، و(أَمينٌ) للمُبالَغةِ في أمْنِه، أي: آمِنٌ مَن فيه ومَن دَخَلَه، وما فيه مِن طَيرٍ وحَيوانٍ [38] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (10/503)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/422). .
- وقولُه: وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ الإشارةُ إلى البلَدِ الأمينِ للتَّعظيمِ؛ ولأنَّ نُزولَ السُّورةِ في ذلك البلَدِ، فهو حاضرٌ بمَرأًى ومَسمَعٍ مِن المُخاطَبينَ [39] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/422). .
2- قولُه تعالَى: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ * ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ * إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ
- قولُه: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ مع ما عُطِفَ عليه هو جَوابُ القسَمِ، والقسَمُ عليه يدُلُّ على أنَّ التَّقويمَ تَقويمٌ خَفِيٌّ، وأنَّ الرَّدَّ ردٌّ خَفِيٌّ يَجِبُ التَّدبُّرُ لإدراكِه؛ فلذلك ناسَبَ أنْ يُحقَّقَ بالتَّوكيدِ بالقسَمِ؛ لأنَّ تَصرُّفاتِ مُعظَمِ النَّاسِ في عَقائدِهم جاريةٌ على حالةٍ تُشبِهُ حالةَ مَن يُنكِرونَ أنَّهم خُلِقوا على الفِطرةِ [40] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/423). . وذلك على أنَّ المرادَ بـ أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ: الفِطْرةُ السَّليمةُ.
- وحرْفُ فِي يُفيدُ الظَّرفيَّةَ، والمرادُ بها معْنى التَّمكُّنِ والمِلكِ، فهي مُستعمَلةٌ في معْنى باءِ المُلابَسةِ أو لامِ المِلكِ، وإنَّما عُدِلَ عن أحدِ الحرفينِ الحقيقيَّينِ لهذا المعْنى إلى حرْفِ الظَّرفيَّةِ؛ لإفادةِ قوَّةِ المُلابَسةِ، أو قوَّةِ الملْكِ مع الإيجازِ، ولولا الإيجازُ لَكانت مُساواةُ الكلامِ أنْ يُقالَ: لقد خَلَقْنا الإنسانَ بتَقويمٍ مَكينٍ هو أحسَنُ تَقويمٍ [41] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/424). .
- وأَحْسَنِ صِفةٌ لمَحذوفٍ، أي: في تَقويمٍ أحسَنِ تقويمٍ [42] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (10/503). .
- قولُه: ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ (ثُمَّ) لإفادةِ التَّراخي الرُّتبيِّ كما هو شَأنُها في عطْفِ الجُمَلِ؛ لأنَّ الرَّدَّ أسفَلَ سافِلينَ بعْدَ خلْقِه مَحوطًا بأحسَنِ تَقويمٍ عَجيبٌ؛ لِما فيه مِن انقلابِ ما جُبِلَ عليه، وتَغييرُ الحالةِ الموجودةِ أعجَبُ مِن إيجادِ حالةٍ لم تكُنْ، ولأنَّ هذه الجُملةَ هي المقصودُ مِن الكلامِ؛ لتَحقيقِ أنَّ الَّذين حادُوا عن الفِطرةِ صاروا أسفَلَ سافِلينَ [43] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/427). . وذلك على أنَّ المرادَ بـ أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ: الفِطْرةُ السَّليمةُ.
- وأَسْفَلَ قيل: اسمُ تَفضيلٍ، أي: أشدَّ سَفالةٍ، وأُضِيفَ إلى سَافِلِينَ أي: الموصوفينَ بالسَّفالةِ، فالمرادُ: أسفَلَ سافِلينَ في الاعتِقادِ بخالِقِه، بقَرينةِ قولِه: إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا [التين: 6] . ويَجوزُ أنْ يكونَ أَسْفَلَ سَافِلِينَ ظَرْفًا، أي: مكانًا أسفَلَ ما يَسكُنُه السَّافِلونَ، فإضافةُ أَسْفَلَ إلى سَافِلِينَ مِن إضافةِ الظَّرفِ إلى الحالِّ فيه، ويَنتصِبُ أَسْفَلَ بـ رَدَدْنَاهُ انتصابَ الظَّرفِ، أو على نزْعِ الخافضِ، أي: إلى أسفَلِ سافِلينَ، وذلك هو دارُ العذابِ، كقولِه: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ [44] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/427، 428). [النساء: 145] .
- قولُه: إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ استثناءٌ مُتَّصلٌ مِن عُمومِ الإنسانِ، فلمَّا أخبَرَ عن الإنسانِ بأنَّه رُدَّ أسفَلَ سافِلينَ، ثمَّ استَثْنى مِن عُمومِه الَّذين آمَنوا؛ بَقِيَ غيرُ المؤمنينَ في أسفَلِ سافِلينَ، والمعْنى: أنَّ الَّذين آمَنوا بعْدَ أنْ رُدُّوا أسفَلَ سافِلينَ أيَّامَ الإشراكِ صاروا بالإيمانِ إلى الفِطرةِ الَّتي فَطَرَ اللهُ الإنسانَ عليها، فراجَعوا أصْلَهم إلى أحسَنِ تَقويمٍ -وذلك على قولٍ في التَّفسيرِ-، وعُطِفَ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ؛ لأنَّ عَمَلَ الصَّالحاتِ مِن أحسَنِ التَّقويمِ بعْدَ مَجيءِ الشَّريعةِ؛ لأنَّها تَزيدُ الفِطرةَ رُسوخًا، ويَنسحِبُ الإيمانُ على الأخلاقِ، فيَرُدُّها إلى فضْلِها، ثمَّ يَهْديها إلى زِيادةِ الفضائلِ مِن أحاسِنِها؛ فكان عطْفُ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ للثَّناءِ على المؤمنينَ بأنَّ إيمانَهم باعثٌ لهم على العمَلِ الصَّالحِ، وذلك حالُ المؤمنينَ حِينَ نُزولِ السُّورةِ، فهذا العطْفُ عطْفُ صِفةٍ كاشفةٍ [45] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/429). والصِّفةُ الكاشِفةُ: هي الصِّفةُ الَّتي تُميِّزُ المَوصوفَ عن سائرِ الأجناسِ، وتُبيِّنُ حَقيقتَه، فهي صفة تُبيِّنُ الواقعَ، ولا تُقيِّدُ المَوصوفَ؛ وهي عكسُ الصِّفةِ المُقيِّدةِ الَّتي تُخرِجُ ما سِواه، فالصِّفةُ الكاشفةُ هي خَبرٌ عن المَوصوفِ عندَ التَّحقيقِ، تُبيِّنُ ماهيَّةَ الشَّيءِ بأنْ تكونَ وَصْفًا لازِمًا مُختَصًّا به؛ مِثالُ ذلك قولُه تعالَى: وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ [المؤمنون: 117] ، فقولُه: لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ صِفةٌ كاشفةٌ، ولا مَفهومَ مُخالَفةٍ له، فلا يَصِحُّ لأحدٍ أنْ يقولَ: أمَّا مَن عبَدَ معه إلهًا آخَرَ له بُرهانٌ به فلا مانعَ مِن ذلك! لاستِحالةِ وُجودِ بُرهانٍ على عِبادةِ إلهٍ آخَرَ معه، فقولُه: لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ وَصْفٌ مُطابِقٌ للواقعِ؛ لأنَّهم يَدْعون معه غيرَه بلا بُرهانٍ، فذِكْرُ الوصفِ لِمُوافَقتِه الواقِعَ، لا لإخراجِ المفهومِ عن حُكمِ المنطوقِ. يُنظر: ((الكليات)) للكفوي (ص: 545)، ((تحفة المحتاج في شرح المنهاج وحواشي الشرواني والعبادي)) (1/338)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (5/364، 365)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الشعراء)) (ص: 27)، ((دراسات أصولية في القرآن الكريم)) للحفناوي (ص: 22). .
- وفُرِّعَ على معْنى الاستِثناءِ -وهو أنَّهم لَيسوا ممَّن يُرَدُّ أسفَلَ سافِلينَ- الإخبارُ بأنَّ لهم أجْرًا عَظيمًا؛ لأنَّ الاستثناءَ أفاد أنَّهم لَيسوا بأسفَلِ سافِلينَ، فأُرِيدَ زِيادةُ البَيانِ لفضْلِهم وما أُعِدَّ لهم [46] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/429). .
- في قَولِه: ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ * إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ احتِباكٌ [47] الاحْتِباك: هو الحذفُ مِن الأوائلِ لِدَلالةِ الأواخِرِ، والحذفُ مِن الأواخِرِ لدَلالةِ الأوائلِ، إذا اجتمَع الحَذفانِ معًا، وله في القرآنِ نظائرُ، وهو مِن إبداعاتِ القُرآنِ وعناصِرِ إعجازِه، وهو مِن ألْطَفِ الأنواعِ. يُنظر: ((الإتقان)) للسيوطي (3/204)، ((البلاغة العربية)) لعبد الرحمن حَبَنَّكَة الميداني (1/347). ؛ حُذِفَ أوَّلًا -بما أفهَمَتْه الآيةُ- عمَلُ السَّيِّئاتِ، وثانيًا: الإبقاءُ على أصلِ الخَلْقِ في أحسَنِ تقويمٍ على الفِطرةِ الأُولى؛ لِيَكونَ نَظْمُها في الأصلِ: ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ بعَمَلِ السَّيِّئاتِ؛ فله على ذلك عذابٌ مُهِينٌ إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ؛ فإنَّا أبقَيْناهم على الفِطرةِ الأُولى في أحسَنِ تقويمٍ [48] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (22/146). .
- وتَنوينُ أَجْرٌ؛ للتَّعظيمِ [49] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/429). .
3- قولُه تعالَى: فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ * أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ
- قولُه: فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ تَفريعٌ على جَميعِ ما ذُكِرَ مِن تَقويمِ خَلْقِ الإنسانِ، ثمَّ رَدِّه أسفَلَ سافِلينَ؛ لأنَّ ما بعْدَ الفاءِ مِن الكلامِ مُسبَّبٌ عن البَيانِ الَّذي قبْلَ الفاءِ، أي: فقَدْ بانَ لك أنَّ غيرَ الَّذين آمَنوا همُ الَّذين رُدُّوا إلى أسفَلِ سافِلينَ، فمَن يُكذِّبُ منهم بالدِّينِ الحقِّ بعْدَ هذا البَيانِ؟! أو: إنْ عَلِمْتَ هذا أيُّها الإنسانُ فما يُكذِّبُك، والفاءُ هي الفصيحةُ [50] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/430)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (10/526). ؟!
- و(ما) في قولِه: فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ يَجوزُ أنْ تكونَ استِفهاميَّةً، والاستِفهامُ تَوبيخيٌّ، والخِطابُ للإنسانِ المذكورِ في قولِه: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ [التين: 4] ؛ فإنَّه بعْدَ أنِ استُثنِيَ منه الَّذين آمَنوا، بَقِيَ الإنسانُ المكذِّبُ. وضَميرُ الخِطابِ الْتفاتٌ مِن الغَيبةِ إلى الخِطابِ، ومُقتضى الظَّاهرِ أنْ يُقالَ: فما يُكذِّبُه، ونُكتةُ الالْتِفاتِ هنا أنَّه أصرَحُ في مُواجَهةِ الإنسانِ المكذِّبِ بالتَّوبيخِ، ولتَشديدِ الإنكارِ والتَّوبيخِ والتَّبكيتِ، أيْ: فما يَجعلُكَ كاذبًا بسَببِ الدِّينِ وإنكارِه بعْدَ هذِه الدَّلائلِ؟!
ويجوزُ أنْ تكونَ (ما) مَوصولةً، و(ماصَدَقَها) [51] الماصَدَق: اسمٌ صِناعيٌّ مأخوذٌ في الأصلِ مِن كَلِمةِ (ما) الاستِفهاميَّةِ أو المَوصوليَّةِ، وكَلِمةِ (صَدَق) الَّتي هي فِعلٌ ماضٍ مِنَ الصِّدقِ، كأنْ يُقالَ مَثَلًا: على ماذا صَدَق هذا اللَّفظُ؟ فيُقالُ في الجوابِ: صدَقَ على كذا أو كذا؛ فاشتَقُّوا مِن ذلك أو نَحَتوا كَلِمةَ (ماصَدَق)، والمرادُ: الفَردُ أو الأفرادُ الَّتي يَنطَبِقُ عليها اللَّفظُ، أو: الأفرادُ الَّتي يَتحَقَّقُ فيها معنى الكُلِّيِّ. يُنظر: ((ضوابط المعرفة)) للميداني (ص: 45)، ((المعجم الوسيط)) (1/511). : المُكذِّبُ، فهي بمعْنى (مَن)، وهي في مَحلِّ مُبتدَأٍ، والخِطابُ للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، والضَّميرُ المستتِرُ في يُكَذِّبُكَ عائدٌ إلى (ما)، وهو الرَّابطُ للصِّلةِ بالمَوصولِ، والباءُ للسَّببيَّةِ، أي: يَنسُبُك إلى الكذِبِ بسَببِ ما جِئتَ به مِن الإسلامِ، أو مِن إثباتِ البَعثِ والجزاءِ، وحُذِفَ ما أُضِيفَ إليه (بعْدُ) فبُنِيَت (بعْدُ) على الضَّمِّ، والتَّقديرُ: بعْدَ تَبيُّنِ الحقِّ، أو بعْدَ تَبيُّنِ ما ارتضاهُ لنفْسِه مِن أسفَلِ سافِلينَ. وجُملةُ أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ يَجوزُ أنْ تكونَ خبرًا عن (ما)، والرَّابطُ مَحذوفٌ تَقديرُه: بأحكَمِ الحاكمينَ فيه. ويجوزُ أنْ تكونَ الجملةُ دَليلًا على الخبَرِ المُخبَرِ به عن (ما) المَوصولةِ، وحُذِفَ إيجازًا؛ اكتِفاءً بذِكرِ ما هو كالعِلَّةِ له، فالتَّقديرُ: فالَّذي يُكذِّبُك بالدِّينِ يَتولَّى اللهُ الانتِصافَ منه، أليسَ اللهُ بأحكَمِ الحاكمينَ؟ والاستفهامُ تَقريريٌّ [52] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/774)، ((تفسير البيضاوي)) (5/324)، ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (16/508)، ((تفسير أبي حيان)) (10/504)، ((تفسير أبي السعود)) (9/176)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/430، 431)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (10/526). .
- وجُملةُ أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ تحقيقٌ لِمَا سبَقَ، والاستِفهامُ تقريريٌّ، والمعنى: أليس الَّذي فعَلَ ذلك مِن الخَلقِ والرَّدِّ بأحْكَمِ الحاكِمِينَ صُنعًا وتدبيرًا؟ ومَن كان كذلك كان قادرًا على الإعادةِ والجزاءِ. وعلى القَولِ بأنَّ الحُكمَ بمعْنَى القَضاءِ؛ فالجملةُ مُستأنَفةٌ للتَّهديدِ والوَعيدِ؛ فهي وعيدٌ للكُفَّارِ، وأنَّه يَحكُم عليهم بما هُم أهلُه، وإخبارٌ بعدلِه سُبحانَه [53] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/774، 775)، ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (16/508)، ((تفسير أبي حيان)) (10/504)، ((تفسير أبي السعود)) (9/176)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/430، 431). .
- ونَوطُ الخبَرِ بذي وَصْفٍ يُؤذِنُ بمُراعاةِ خَصائصِ المعْنى المُشتَقِّ منه الوصفُ، فلمَّا أُخبِرَ عن اللهِ بأنَّه أفضلُ الَّذين يَحكُمون بقولِه: أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ، عُلِمَ أنَّ اللهَ يَفوقُ قَضاؤه كلَّ قَضاءٍ في خَصائصِ القضاءِ وكَمالاتِه، وهي: إصابةُ الحقِّ، وقطْعُ دابرِ الباطلِ، وإلزامُ كلِّ مَن يَقْضي عليه بالامتثالِ لقَضائِه، والدُّخولِ تحْتَ حُكمِه [54] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/431). .
- وأيضًا في الكلامِ تَعجُّبٌ وتَعجيبٌ؛ وذلك أنَّه تعالَى لَمَّا قرَّرَ أنَّه خَلَقَ الإنسانَ في أحسَنِ تَقويمٍ، ثمَّ ردَّه إلى أرذَلِ العُمُرِ -على قولٍ-؛ دلَّ على كَمالِ قُدرتِه على الإنشاءِ والإعادةِ، فسَأَلَ بعْدَ ذلك عن سَببِ تَكذيبِ الإنسانِ بالجزاءِ، كأنَّه قِيل: فما سَببُ تَكذيبَك أيُّها الإنسانُ بالجزاءِ بعْدَ هذا الدَّليلِ القاطعِ؟! وعلى هذا فقولُه: أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ وَعيدٌ للكفَّارِ، وأنَّه يُحكَمُ عليهم بما هو أهْلُه [55] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/774)، ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (16/508). .