موسوعة التفسير

سورةُ المعارجِ
الآيات (19-35)

ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ

غريب الكلمات:

هَلُوعًا: أي: شَديدَ الحِرصِ، قَليلَ الصَّبرِ، والهَلَعُ: جَزَعٌ واضطِرابٌ يَعتَري الإنسانَ عِندَ المَخاوِفِ وعندَ المَطامِعِ، وأصلُ (هلع): يدُلُّ على سُرعةٍ وحِدَّةٍ [110] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (6/62)، ((تفسير ابن عطية)) (5/368)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 426)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 963). .
جَزُوعًا: أي: كثيرَ الجَزَعِ، والجَزَعُ: نَقيضُ الصَّبرِ، وهو انقِطاعُ القُوَّةِ عن حَملِ ما نزَلَ، وأصلُ (جزع): يدُلُّ على انقِطاعٍ [111] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/453)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 358). .
بِيَوْمِ الدِّينِ: أي: يومِ الجزاءِ والحسابِ، وهو يومُ القيامةِ، يُقالُ: دِنْتُه بما صَنَع، أي: جازيتُه، وأصلُ (دين) جِنْسٌ مِن الانْقِيادِ، والذُّلِّ [112] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 38)، ((مجاز القرآن)) لأبي عبيدة (1/23)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/319)، ((البسيط)) للواحدي (22/456)، ((المفردات في غريب القرآن)) للراغب (ص: 323). .
مُشْفِقُونَ: أي: خائِفونَ حَذِرونَ، وأصلُ (شفق): يدُلُّ على رِقَّةٍ في الشَّيءِ [113] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 285)، ((تفسير ابن جرير)) (16/253)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 444)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/197)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 237)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 294)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 879). .
الْعَادُونَ: أي: المُعْتَدونَ المُجاوِزونَ ما أحَلَّ اللهُ لهم إلى ما حَرَّمَ عليهم، وأصلُ (عدو): يدُلُّ على تَجاوُزٍ في الشَّيءِ وتقَدُّمٍ لِما ينبغي أن يُقتَصَرَ عليه [114] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/12)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (4/249)، ((تفسير القرطبي)) (12/107)، ((تفسير ابن كثير)) (5/462)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 659). .

مشكل الإعراب:

قوله تعالى: إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا
 قوله تعالى: جَزُوعًا ومَنُوعًا في نَصبِهما وَجهانِ؛ أحدُهما: أنَّهما مَنصوبانِ على الحالِ مِنَ الضَّميرِ في هَلُوعًا، وهو العامِلُ فيهما، والتَّقديرُ: هَلُوعًا حالَ كونِه جَزُوعًا وقتَ مَسِّ الشَّرِّ، ومَنوعًا وقتَ مسِّ الخَيرِ. والظَّرفانِ مَعمولانِ لهاتَيْنِ الحالَيْنِ. الثَّاني: أنْ يَكونا خبَرَينِ لـ «كان» أو «صار» مُضمَرةً، أي: إذا مَسَّه الشَّرُّ كان أو صار جَزوعًا، وإذا مَسَّه الخيرُ كان أو صار مَنوعًا [115] يُنظر: ((التبيان في إعراب القرآن)) للعكبري (2/1240)، ((الدر المصون)) للسمين الحلبي (10/459)، ((تفسير الألوسي)) (15/70)، ((الجدول في إعراب القرآن)) لمحمود صافي (29/83). .

المعنى الإجمالي:

يقولُ الله تعالى مُبيِّنًا طبائِعَ النَّفْسِ البشَريَّةِ، وما جُبِلت عليه: إنَّ الإنسانَ طُبِعَ على شدَّةِ الحِرصِ؛ إذا أصابه بلاءٌ جَزِعَ ولم يَصبِرْ، وإذا أصابه الخَيرُ بَخِلَ بمالِه، ومَنعَه عن المحتاجينَ، إلَّا المصَلِّينَ؛ فهم صابِرونَ في الضَّرَّاءِ، شاكِرونَ في السَّرَّاءِ.
 ثمَّ يَصِفُ الله تعالى هؤلاء المصلِّينَ -الَّذين اسْتَثْناهم- ببعضِ الصِّفاتِ، فيقولُ:
أولئك المصَلُّونَ هم الَّذين يُواظِبونَ على أداءِ صَلَواتِهم.
والَّذين في أموالِهم نَصيبٌ معلومٌ للسَّائِلِ، والمتعفِّفِ الَّذي لا يَسألُ.
والَّذين يُصَدِّقونَ بمَجيءِ يومِ الحِسابِ والجَزاءِ.
والَّذين هم مِن عَذابِ رَبِّهم وَجِلُونَ حَذِرونَ؛ إنَّ عذابَ اللهِ غيرُ مأمونٍ لأحَدٍ.
والَّذين هم صائِنونَ لِفُروجِهم ممَّا حرَّمه اللهُ تعالى، إلَّا مِن زَوجاتِهم أو مِن إمائِهم اللَّاتي يَملِكونَهنَّ؛ فإنَّهم لا يُلامُونَ على وَطْئِهنَّ على الوَّجهِ المَشروعِ، فمَنِ التَمَس التَّمَتُّعَ بفَرْجِه فيما سِوى زَوجتِه وأمَتِه، فأولئك هم المُعتَدونَ حُدودَ اللهِ، المُجاوِزونَ ما أحلَّه لهم إلى ما حرَّمَه عليهم.
والَّذين هم لِأماناتِهم ولعُهودِهم مع اللهِ وعِبادِه: مُراعونَ قائِمونَ بحِفظِها.
والَّذين هم قائِمونَ بأداءِ الشَّهادةِ المطلوبةِ منهم دونَ تبديلٍ أو كِتمانٍ.
والَّذين هم يُحافِظونَ على أداءِ صَلاتِهم وإقامتِها؛ أولئِك المتَّصِفونَ بتلك الصِّفاتِ في جنَّاتٍ يُكرِمُهم اللهُ تعالى فيها بأنواعِ الكَراماتِ.

تفسير الآيات:

إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا (19).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا كان مِن أعجَبِ العجَبِ أنْ يُقبِلَ على الدُّنيا أحدٌ يَسمَعُ التَّهديدَ بالعرْضِ بيْن يَدَيِ اللهِ، والعِقابَ لِمَن لم يُقبِلْ على عِبادتِه سُبحانَه؛ بيَّنَ أنَّ ذلك لِما جَبَلَه عليه سُبحانَه، وأنَّ الإنسانَ مَقهورٌ مع جِبِلَّتِه، إلَّا مَن حَفِظَه اللهُ [116] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/400). .
إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا (19).
أي: طُبِعَ النَّاسُ ورُكِّبوا على شدَّةِ الحِرصِ الَّذي يترتَّبُ عليه الجزَعُ والمنْعُ، فلا يَشكُرونَ اللهَ على النَّعْماءِ، ولا يَصبِرونَ على الضَّرَّاءِ [117] يُنظر: ((الهداية إلى بلوغ النهاية)) لمكي بن أبي طالب (12/7712)، ((شفاء العليل)) لابن القيم (ص: 60)، ((تفسير ابن كثير)) (8/226)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/400)، ((تفسير السعدي)) (ص: 887)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/166-168). وممَّن قال في الجملةِ بأنَّ المرادَ: جِنسُ الإنسانِ بوَصفِ طبيعتِه الأصليَّةِ: النَّسَفي، وابنُ جُزَي، وابن كثير، والبِقاعي، والسعدي، وابن عاشور. يُنظر: ((تفسير النسفي)) (3/538)، ((تفسير ابن جزي)) (2/411)، ((تفسير ابن كثير)) (8/226)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/400)، ((تفسير السعدي)) (ص: 887)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/166). وقيل: المرادُ بالإنسانِ هنا: الكافِرُ. وممَّن ذهب إلى هذا: ابنُ جرير. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/266). ويُنظر أيضًا: ((تفسير القرطبي)) (18/289). وممَّن قال بهذا القولِ مِن السَّلفِ: الضَّحَّاكُ، والكلبيُّ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/266)، ((تفسير الماوردي)) (6/94). قال ابنُ عطيَّةَ: (وقولُه تعالى: إِنَّ الْإِنْسَانَ عُمومٌ لاسمِ الجِنسِ، لكنَّ الإشارةَ هنا إلى الكُفَّارِ؛ لأنَّ الأمْرَ فيهم وَكيدٌ كَثيرٌ). ((تفسير ابن عطية)) (5/368). وقال ابن عاشور: (الَّذي استخلَصْتُه مِن تتَبُّعِ استِعمالاتِ كَلِمةِ الهَلَعِ: أنَّ الهَلَعَ قِلَّةُ إمساكِ النَّفْسِ عندَ اعتراءِ ما يَحزُنُها أو ما يَسُرُّها، أو عندَ توَقُّعِ ذلك والإشفاقِ منه، وأمَّا الجزَعُ فمِن آثارِ الهلَعِ، وقد فَسَّر بعضُ أهلِ اللُّغةِ الهَلَعَ بالشَّرَهِ، وبعضُهم بالضَّجَرِ، وبَعضُهم بالشُّحِّ، وبعضُهم بالجُوعِ، وبعضُهم بالجُبنِ عندَ اللِّقاءِ، وما ذكَرْناه في ضَبطِه يجمَعُ هذه المعانيَ، ويُريك أنَّها آثارٌ لصِفةِ الهلَعِ. ومعنى خُلِقَ هَلُوعًا: أنَّ الهلَعَ طَبيعةٌ كامِنةٌ فيه معَ خَلْقِه، تظهَرُ عندَ ابتداءِ شُعورِه بالنَّافِعِ والضَّارِّ؛ فهو مِن طِباعِه المخلوقةِ كغَيرِها مِن طِباعِه البَشَريَّةِ). ((تفسير ابن عاشور)) (29/167، 168). وقال الرَّسْعَني: (قال المفسِّرون: ما بَعْدَ الهلوعِ تفسيرٌ له). ((تفسير الرسعني)) (8/284). .
عن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: سَمِعتُ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقولُ: ((شَرُّ ما في رجُلٍ: شُحٌّ هالِعٌ، وجُبنٌ خالِعٌ [118] الجُبْنُ الخالعُ: هو الشَّديدُ، كأنَّه يَخلَعُ قلبَه مِن شِدَّةِ خَوفِه، والمرادُ به: ما يَعرِضُ مِن نَوازِعِ الأفكارِ، وضَعفِ القلبِ عندَ الخَوفِ. يُنظر: ((غريب الحديث)) للقاسم بن سلَّام (2/651)، ((النهاية في غريب الحديث والأثر)) لابن الأثير (2/65). ) [119] أخرجه أبو داودَ (2511)، وأحمدُ (8010)، وابن حبَّانَ (3250). صحَّحه ابنُ تيميَّةَ في ((مجموع الفتاوى)) (28/437)، والألبانيُّ في ((صحيح سنن أبي داود)) (2511)، وشعيبٌ الأرناؤوط في تخريج ((سنن أبي داود)) (2511). .
وعن عَمرِو بنِ تَغلِبَ رَضِيَ اللهُ عنه، أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((إنِّي أُعطي الرَّجُلَ، وأدَعُ الرَّجُلَ، والَّذي أدَعُ أحَبُّ إلَيَّ مِن الَّذي أُعطِي؛ أُعطي أقوامًا لِما في قُلوبِهم مِنَ الجَزَعِ والهَلَعِ، وأَكِلُ أقوامًا إلى ما جَعَل اللهُ في قُلوبِهم مِنَ الغِنى والخَيرِ )) [120] رواه البخاري (7535). .
إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا (20).
أي: إذا أصاب الإنسانَ بلاءٌ -كفَقرٍ، أو مَرَضٍ، أو فَقْدِ حَبيبٍ- فإنَّه يَجزَعُ بشِدَّةٍ، ولا يَصبِرُ [121] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/267)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/401)، ((تفسير السعدي)) (ص: 887)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/170). .
وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا (21).
أي: وإذا أصاب الإنسانَ خَيرٌ ونِعمةٌ، فصار غَنِيًّا كَثيرَ المالِ؛ فإنَّه يَغْدُو شديدَ البُخلِ بمالِه، فلا يُنفِقُه في طاعةِ اللهِ، ولا يُعطي منه ذَوِي الحاجةِ مِن عِبادِ اللهِ [122] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/267)، ((تفسير القرطبي)) (18/290)، ((تفسير السعدي)) (ص: 887). .
إِلَّا الْمُصَلِّينَ (22).
أي: إلَّا المصَلِّينَ المتَّصِفينَ بالأوصافِ الآتيةِ، فليسوا كذلك؛ فهم صابِرونَ في الضَّرَّاءِ، شاكِرونَ في السَّرَّاءِ [123] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/267)، ((تفسير البيضاوي)) (5/246)، ((تفسير ابن كثير)) (8/226)، ((تفسير السعدي)) (ص: 887). .
الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ (23).
أي: الَّذين يُواظِبونَ على أداءِ صَلَواتِهم المفروضةِ على الوَجهِ الصَّحيحِ، فلا يتخَلَّفونَ عنها، ولا يَترُكونَها [124] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/267)، ((معاني القرآن)) للزجاج (5/222)، ((تفسير القرطبي)) (18/291، 292)، ((تفسير ابن كثير)) (8/226)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/402)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/171). .
وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (24).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا ذكَرَ زكاةَ الرُّوحِ، أتْبَعَه زكاةَ عَديلِها؛ المالِ [125] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/403). .
وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (24).
أي: والَّذين في أموالِهم نَصيبٌ معلومٌ لِذَوي الحاجةِ [126] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/269)، ((تفسير الزمخشري)) (4/613)، ((تفسير ابن كثير)) (8/227)، ((تفسير السعدي)) (ص: 887). قيل: الحَقُّ المعلومُ في الآية هو الزَّكاةُ المفروضةُ. وممَّن ذهب إلى هذا القولِ: ابنُ جرير، والواحديُّ، والقرطبي، واستظهره الشوكاني، واختاره العُلَيمي. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/269)، ((الوسيط)) للواحدي (4/353)، ((تفسير القرطبي)) (18/291)، ((تفسير الشوكاني)) (5/350)، ((تفسير العليمي)) (7/161). وممَّن قال بهذا القولِ مِن السَّلفِ: قَتادةُ، والحسَنُ في روايةٍ، والكلبيُّ، وابنُ سِيرينَ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/270)، ((البسيط)) للواحدي (22/228). قال ابنُ جريرٍ في تفسيرِ قولِه تعالى: حَقٌّ مَعْلُومٌ: (حَقٌّ مُؤَقَّتٌ). ((تفسير ابن جرير)) (23/269). وقال القرطبي: (وصَفَ الحقَّ بأنَّه معلومٌ، وسِوى الزَّكاةِ ليس بمعلومٍ، إنَّما هو على قَدرِ الحاجةِ، وذلك يَقِلُّ ويَكثُرُ). ((تفسير القرطبي)) (18/291). ويُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/613). وقيل: الحَقُّ المعلومُ في الآيةِ ما سِوى الزَّكاةِ؛ لأنَّ الآيةَ مَكِّيَّةٌ، فنُزولُها قبْلَ فَرضِ مَقاديرِ الزَّكاةِ. وممَّن ذهب إلى هذا القولِ في الجملةِ: ابنُ عطيَّة، والألوسيُّ، وابنُ عاشور. يُنظر: ((تفسير ابن عطية)) (5/368)، ((تفسير الألوسي)) (15/71)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/172). وممَّن قال بهذا القولِ مِن السَّلفِ: ابنُ عُمَرَ، وابنُ عبَّاسٍ، والشَّعبيُّ، وإبراهيمُ النخعي في روايةٍ، ومجاهِدٌ، وعَطاءٌ، والحسَنُ في روايةٍ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/270)، ((البسيط)) للواحدي (22/228). قال ابن عطيَّة: (قال الحسَنُ، ومجاهدٌ، وابنُ عبَّاسٍ: هذه الآيةُ في الحقوقِ الَّتي في المالِ سِوى الزَّكاةِ، وهي ما نَدَبَت الشَّريعةُ إليه مِن المواساةِ، وقد قال ابنُ عُمَرَ، ومجاهِدٌ، والشَّعبيُّ، وكثيرٌ مِن أهلِ العِلمِ: إنَّ في المالِ حَقًّا سِوى الزَّكاةِ، وهذا هو الأصَحُّ في هذه الآيةِ). ((تفسير ابن عطية)) (5/368). وقال الألوسي: (وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ، أي: نَصيبٌ مُعَيَّنٌ يَستوجِبونَه على أنفُسِهم؛ تقَرُّبًا إلى اللهِ تعالى، وإشفاقًا على النَّاسِ، وهو... ما يُوظِّفُه الرَّجُلُ على نفْسِه يؤدِّيه في كلِّ جُمُعةٍ أو كُلِّ شَهرٍ مَثَلًا). ((تفسير الألوسي)) (15/71). وقال ابن عاشور: (معنى كونِ الحَقِّ مَعلومًا أنَّه يَعلَمُه كُلُّ واحدٍ منهم، ويَحسِبونَه، ويَعلَمُه السَّائِلُ والمحرومُ بما اعتاد منهم). ((تفسير ابن عاشور)) (29/172). وقيل: الحقُّ المعلومُ أي: مِن الزَّكَواتِ والصَّدَقاتِ الموَظَّفةِ. وممَّن قال بذلك في الجملةِ: البيضاويُّ، والسعديُّ. يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (5/246)، ((تفسير السعدي)) (ص: 887). .
لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (25).
أي: في أموالِهم حقٌّ معلومٌ للسَّائِلِ الَّذي يَسأَلُ النَّاسَ الصَّدَقاتِ، والمتعفِّفِ الَّذي لا يَسألُ النَّاسَ رَغمَ حاجتِه وفَقْرِه الشَّديدِ [127] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/269)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/403، 404)، ((تفسير السعدي)) (ص: 887)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/172). وممَّن قال بهذا المعنى للسَّائلِ والمحرومِ: ابنُ جرير، والبِقاعي، والسعديُّ، وابنُ عاشور. يُنظر: المصادر السابقة. وممَّن قال بهذا القولِ مِن السَّلفِ: قَتادةُ، والحسَنُ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/275)، ((تفسير ابن أبي زمنين)) (4/285). قال ابن جرير: (وهو الزَّكاةُ لِلسَّائلِ الَّذي يَسألُه مِن مالِه، والمحرومِ الَّذي قد حُرِمَ الغِنَى، فهو فقيرٌ لا يَسألُ... وأجْمَعوا على أنَّ السَّائلَ هو الَّذي وصفْتُ صِفتَه، واختَلَفوا... في معنَى المحرومِ في هذا الموضعِ). ((تفسير ابن جرير)) (23/269، 271). وقال ابنُ عطيَّةَ: (السَّائلُ: المتكفِّفُ، والمحرومُ: الَّذي قد ثَبَتَ فَقْرُه، ولم تَنجَحْ سِعاياتُه لدُنياهُ، قالت عائشةُ: هو الَّذي لا يَكادُ يَتيسَّرُ له مَكسَبُه. وقال بعضُ أهلِ العِلمِ: المحرومُ: مَنِ احتَرقَ زَرعُه. وقال بعضُهم: المحرومُ: مَن ماتَتْ ماشيتُه. وهذه أنواعُ الحِرمانِ؛ لا أنَّ الاسمَ يَستلزِمُ هذا خاصَّةً. وقال عمرُ بنُ عبدِ العزيزِ: المحرومُ: الكلْبُ. أراد -واللهُ أعلمُ- أنْ يُعطِيَ مِثالًا مِن الحيوانِ ذي الكَبِدِ الرَّطْبةِ؛ لِما فيه مِن الأجْرِ حسَبَ الحديثِ المأثورِ). ((تفسير ابن عطية)) (5/368). .
وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (26).
أي: والَّذين يُقِرُّونَ بمَجيءِ يومِ القيامةِ الَّذي يقَعُ فيه الحِسابُ والجَزاءُ [128] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/276)، ((تفسير القرطبي)) (18/291)، ((تفسير ابن كثير)) (8/227)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/404، 405)، ((تفسير السعدي)) (ص: 887)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/172). .
وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (27).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا كان الدِّينُ معْناه الجزاءُ مِن الثَّوابِ والعِقابِ، وكان رُبَّما صَرَفه صارفٌ إلى الثَّوابِ فقطْ -للعِلمِ بعُمومِ رَحمتِه سُبحانه، وأنَّ رَحمتَه غَلَبَت غَضَبَه-؛ صرَّحَ بالعِقابِ [129] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/405). .
وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (27).
أي: والَّذين هم مِن عَذابِ رَبِّهم وَجِلُونَ حَذِرونَ؛ فهم لذلك حَريصونَ على امتِثالِ أوامِرِ اللهِ تعالى، واجتِنابِ نَواهيه [130] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/276)، ((تفسير القرطبي)) (18/291)، ((تفسير ابن كثير)) (8/227)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/405)، ((تفسير السعدي)) (ص: 887)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/172). والعذابُ هنا: قيل هو عذابُ الآخرةِ. وممَّن قال بذلك: ابنُ جرير، ومكِّي. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/276)، ((الهداية إلى بلوغ النهاية)) لمكي (12/7716). وقال البِقاعي: (خائفونَ في هذه الدَّارِ خَوفًا عَظيمًا هو في غايةِ الثَّباتِ مِن أنْ يُعذِّبَهم في الآخرةِ، أو الدُّنيا، أو فيهما). ((نظم الدرر)) (20/405). .
كما قال تبارك وتعالى: وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آَتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ [المؤمنون: 60] .
وقال سبحانه: وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ * قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ * فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ [الطور: 25 - 27].
إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ (28).
أي: إنَّ عذابَ اللهِ غيرُ مأمونٍ لأحَدٍ؛ فوَجَب الخَوفُ والحَذَرُ منه، بتَركِ مُخالَفةِ أمرِ اللهِ ونَهْيِه [131] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/276)، ((تفسير ابن كثير)) (8/227)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/406)، ((تفسير السعدي)) (ص: 887)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/173). .
كما قال تعالى: يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا [السجدة: 16] .
وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (29).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا ذَكَر التَّحَلِّيَ بتَطهيرِ النَّفْسِ بالصَّلاةِ، وتزكيةِ المالِ بالصَّدَقةِ؛ نَدَب إلى التَّخَلِّي عن أمرٍ جامِعٍ بيْنَ تدنيسِ المالِ والنَّفْسِ، وهو الزِّنا الحامِلُ عليه شَهوةُ الفَرجِ، الَّتي هي أعظَمُ الشَّهَواتِ حملًا للنَّفْسِ على المُهلِكاتِ [132] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/406). .
وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (29).
أي: والَّذين هم صائِنونَ لِفُروجِهم من كُلِّ ما حرَّمه اللهُ تعالى عليهم بشَأنِها [133] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/276)، ((تفسير ابن كثير)) (8/227)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/406)، ((تفسير السعدي)) (ص: 887)، ((تفسير ابن عاشور)) (18/13). قال السعدي: (فلا يَطَؤونَ بها وطْأً مُحَرَّمًا؛ مِن زنًا، أو لِواطٍ، أو وَطءٍ في دُبُرٍ أو حَيضٍ، ونحوِ ذلك، ويحفَظونَها أيضًا مِن النَّظَرِ إليها ومَسِّها ممَّن لا يجوزُ له ذلك، ويَترُكونَ أيضًا وسائِلَ المحرَّماتِ الدَّاعيةَ لفِعلِ الفاحِشةِ). ((تفسير السعدي)) (ص: 887). .
إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (30).
أي: هم يَحفَظونَ فُروجَهم إلَّا مِن زَوجاتِهم أو مِن إمائِهم اللَّاتي يَملِكونَهنَّ، فلا حَرَجَ عليهم في وَطْئِهنَّ، والاستِمتاعِ بهِنَّ على الوَجهِ المشروعِ، ولا يُلامُون على ذلك [134] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/276)، ((تفسير ابن كثير)) (5/462)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/406، 407)، ((تفسير السعدي)) (ص: 887). .
فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (31).
أي: فمَن طَلَب الاستِمتاعَ بغَيرِ زَوجتِه وجاريتِه فهم المُعتَدونَ، المُجاوِزونَ ما أحلَّه اللهُ تعالى إلى ما حَرَّمه [135] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/276)، ((تفسير ابن عطية)) (5/369)، ((تفسير ابن كثير)) (5/462)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/407، 408)، ((تفسير السعدي)) (ص: 887). .
وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (32).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا ذَكَرَ اللهُ تَعالى العادِيَ؛ أتْبَعه الواقفَ عندَ الحُدودِ [136] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/408). .
وأيضًا ذِكرُ رَعْيِ الأماناتِ والعهْدِ لمُناسَبةِ وَصْفِ ما يَوَدُّ الكافرُ يومَ الجزاءِ أنْ يَفتدِيَه مِن العذابِ بفَصيلَتِه الَّتي تُؤْويهِ، فيَذهَبُ منه رَعْيُ العُهودِ الَّتي يَجِبُ الوفاءُ بها للقَبيلةِ، وحسْبُك مِن تَشويهِ حالِه أنَّه قدْ نَكَثَ العُهودَ الَّتي كانت عليه لقَومِه مِن الدِّفاعِ عن حَقيقتِهم بنفْسِه، وكان يَفدِيهم بنفْسِه، والمُسلِمُ لَمَّا كان يَرْعى العهدَ بما يُمْلِيه عليه دِينُه، جازاهُ اللهُ بأنْ دَفَعَ عنه خِزْيَ وِدادةِ فِدائِه نفْسَه بمَوالِيه وأهلِ عَهْدِه [137] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/173). .
وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (32).
أي: والَّذين هم لِمَا ائْتَمَنَهم اللهُ والنَّاسُ عليه، ولعُهودِهم مع اللهِ وعِبادِه: مُراعونَ قائِمونَ بحِفظِها، فلا يَخونونَ الأماناتِ، ولا يَنقُضونَ العُهودَ [138] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/277)، ((تفسير ابن عطية)) (5/369)، ((تفسير القرطبي)) (18/292)، ((تفسير ابن كثير)) (8/227)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/408)، ((تفسير السعدي)) (ص: 887). .
كما قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا [النساء: 58] .
وقال سبحانه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ [المائدة: 1] .
وقال عزَّ وجلَّ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [الأنفال: 27] .
وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ (33).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لما كان أجلُّ العهودِ والأماناتِ ما كان بإشهادٍ؛ بيَّن فضلَ الشَّهادةِ [139] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/408). .
وأيضًا ذُكِرَ لمُناسَبةِ ذِكرِ رَعْيِ الأماناتِ؛ إذ الشَّهادةُ مِن جُملةِ الأماناتِ؛ لأنَّ حقَّ المَشهودِ له وَديعةٌ في حِفظِ الشَّاهدِ، فإذا أدَّى شَهادتَه فكأنَّه أدَّى أمانةً لصاحبِ الحقِّ المشهودِ له كانت في حِفظِ الشَّاهدِ [140] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/613)، ((تفسير أبي السعود)) (9/33)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/174). .
وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ (33).
أي: والَّذين هم قائِمونَ بأداءِ الشَّهادةِ المطلوبةِ منهم شَرعًا، ولو على أقارِبِهم، فيَتحَمَّلونَها، ويهتَمُّونَ بها، ويَحفَظونَها حتَّى يؤَدُّوها في غايةِ التَّمامِ دونَ زيادةٍ أو نُقصانٍ، ودونَ تبديلٍ أو كِتمانٍ [141] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/277)، ((تفسير ابن عطية)) (5/369)، ((تفسير القرطبي)) (18/291، 292)، ((تفسير ابن كثير)) (8/227)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/408، 409)، ((تفسير السعدي)) (ص: 887)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/174). .
كما قال الله تعالى: وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آَثِمٌ قَلْبُهُ [البقرة: 283] .
وقال سبحانه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا [النساء: 135] .
وقال عزَّ وجلَّ: وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ [الفرقان: 72] .
وقال تبارك وتعالى: وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ [الطلاق: 2] .
وعن زَيدِ بنِ خالدٍ الجُهَنيِّ رَضِيَ اللهُ عنه، أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((ألَا أُخبِرُكم بخَيرِ الشُّهَداءِ؟ الَّذي يأتي بشَهادتِه قبل أن يُسأَلَها )) [142] رواه مسلم (1719). ويُنظر: ((فتح الباري)) لابن حجر (5/259). .
وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (34).
أي: والَّذين هم يُحافِظونَ على أداءِ صَلاتِهم، وإقامتِها على الوَجهِ الصَّحيحِ المطلوبِ منهم شَرْعًا [143] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/277)، ((تفسير ابن عطية)) (5/370)، ((تفسير ابن كثير)) (8/227)، ((تفسير السعدي)) (ص: 887). .
أُولَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ (35).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا أُجرِيَت على المؤمِنينَ هذه الصِّفاتُ الجليلةُ؛ أخبَرَ عن جزائِهم عليها، بأنَّهم مُكْرَمونَ في الجنَّةِ [144] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/175). .
أُولَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ (35).
أي: أولئِك المتَّصِفونَ بتلك الصِّفاتِ: في جنَّاتٍ يُكرِمُهم اللهُ تعالى فيها بأنواعِ الكَراماتِ، وأصنافِ المسَرَّاتِ [145] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/277)، ((تفسير القرطبي)) (18/292)، ((تفسير ابن كثير)) (8/227)، ((تفسير السعدي)) (ص: 887) وقال ابنُ عاشور: (الإكرامُ: التَّعظيمُ وحُسنُ اللِّقاءِ، أي: هم مع جزائِهم بنَعيمِ الجنَّاتِ، يُكرَمونَ بحُسنِ اللِّقاءِ والثَّناءِ). ((تفسير ابن عاشور)) (29/175). .
كما قال تعالى: إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ * أُولَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ * فَوَاكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ * فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ * عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ * يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ * بَيْضَاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ * لَا فِيهَا غَوْلٌ وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ * وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ * كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ [الصافات: 40 - 49] .

الفوائد التربوية:

1- قَولُ اللهِ تعالى: وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا أي: مُبالِغًا في الإمساكِ عمَّا يَلزَمُه مِنَ الحُقوقِ؛ للانهِماكِ في حُبِّ العاجِلِ، وقُصورِ النَّظَرِ عليه، وُقوفًا معَ المحسوسِ؛ لغَلَبةِ الجُمودِ والبَلادةِ، وهذا الوَصفُ ضِدُّ الإيمانِ؛ لأنَّ الإيمانَ نِصفانِ: صَبرٌ، وشُكرٌ [146] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/401). .
2- قولُه تعالَى: إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا، وإِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (6) أَنْ رَآَهُ اسْتَغْنَى [العلق: 6، 7]، و إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ [إبراهيم: 34]، و وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا [الأحزاب: 72] ، إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ [العاديات: 6] الإنسانُ هنا هو الإنسانُ مِن حيثُ هو، مِن غيرِ اخْتِصاصٍ بواحِدٍ بعَيْنِه، فهذا شأنُ الإنسانِ مِن حيثُ ذاتُه ونفْسُه، وخروجُه عن هذه الصِّفاتِ بفضلِ ربِّه وتوفيقِه له ومِنَّتِه عليه، لا مِن ذاتِه، فليس له مِن ذاتِه إلَّا هذه الصِّفاتُ، وما به مِن نِعمةٍ فمِنَ اللهِ وحْدَه، فهو الَّذي حبَّب إلى عبدِه الإيمانَ وزَيَّنَه في قلبِه، وكَرَّهَ إليه الكفرَ والفُسوقَ والعِصيانَ، وهو الَّذي كتَب في قلبِه الإيمانَ، وهو الَّذي يُثَبِّتُ أنبياءَه ورُسُلَه وأولياءَه على دينِه، وهو الَّذي يَصرِفُ عنهم السُّوءَ والفَحْشاءَ؛ قال تعالَى: وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ [يونس: 100] ، وقال تعالَى: وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ [المدثر: 56] ، وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ [التكوير: 29] ، فهو رَبُّ جميعِ العالَمِ رُبوبيَّةً شامِلةً لجميعِ ما في العالَمِ مِن ذَواتٍ وأفعالٍ وأحوالٍ [147] يُنظر: ((الروح)) لابن القيم (ص: 126). .
3- قَولُه تعالى: إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا * إِلَّا الْمُصَلِّينَ ذكَرَ اللهُ تعالى هذه الأخلاقَ على وَجهِ الذَّمِّ، واستثنَى منهم المصَلِّينَ؛ لأنَّ صَلاتَهم تَحمِلُهم على قِلَّةِ الاكتِراثِ بالدُّنيا، فلا يَجزَعونَ مِن شَرِّها، ولا يَبخَلونَ بخَيرِها [148] يُنظر: ((تفسير ابن جزي)) (2/411). .
4- قال تعالى: وَجَمَعَ فَأَوْعَى * إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا وإذْ ذَكَر اللهُ الهَلَعَ هنا عَقِبَ مَذمَّةِ الجمْعِ والإيعاءِ، فقدْ أشعَرَ بأنَّ الإنسانَ يَستطيعُ أنْ يَكُفَّ عن هَلَعِه إذا تَدبَّرَ في العواقبِ [149] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/168). .
5- في قَولِه تعالى: إِلَّا الْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ إلى قولِه: وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ ذَكَرَ اللهُ تعالى الصَّلاةَ في أوَّلِ الأوصافِ الحَميدةِ وفي آخِرِها، وبهذا يُعْرَفُ أنَّ الصَّلاةَ أعظمُ الأعمالِ بعدَ شهادةِ أنْ لا إلهَ إلَّا اللهُ، وأنَّ محمَّدًا رَسولُ اللهِ [150] يُنظر: ((شرح رياض الصالحين)) لابن عثيمين (5/84). ، وأنَّ الصَّلاةَ أصْلٌ لكُلِّ خَيرٍ، ومَبدَأٌ لهذا المذكورِ كُلِّه؛ لِقَولِه تبارك وتعالى: وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ [البقرة: 45] ؛ فهي عَونٌ على كُلِّ خَيرٍ [151] يُنظر: ((تتمة أضواء البيان)) لعطية سالم (8/269). .
6- قَولُه تعالى: الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ فيه إشارةٌ إلى فضلِ المداومةِ على العِبادةِ [152] يُنظر: ((تفسير الألوسي)) (15/70). .
7- قَولُ اللهِ تعالى: وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ * لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ فيه حَثٌّ على تفَقُّدِ أربابِ الضَّروراتِ مِمَّن لا كسْبَ له، ومَنِ افتَقَر بعدَ الغِنى [153] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/404). .
8- في قَولِه تعالى: وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ الثَّناءُ على مَن خاف مِن عذابِ اللهِ؛ لأنَّ مَن خاف مِن شيءٍ اتَّقاه، فإذا خاف مِن عذابِ اللهِ فلا بُدَّ أنْ يَتَّقِيَ أسبابَ العَذابِ [154] يُنظر: ((لقاء الباب المفتوح)) لابن عثيمين (اللقاء رقْم: 13). .
9- قَولُ اللهِ تعالى: وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ * إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ أي: لا يَنبغي لأحَدٍ أنْ يأمَنَه، بل يجوزُ أن يَحُلَّ به [155] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/406). ، وإنْ بالَغَ في الطَّاعةِ [156] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/613)، ((تفسير البيضاوي)) (5/246)، ((تفسير أبي السعود)) (9/33). .
10- قَولُ اللهِ تعالى: وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ فيه وُجوبُ أداءِ كُلِّ أمانةٍ، والوفاءِ بكُلِّ عَهدٍ، والقيامِ بكُلِّ شَهادةٍ تحَمَّلَها الإنسانُ [157] يُنظر: ((الإكليل)) للسيوطي (ص: 273). .
11- قَولُ اللهِ تعالى: وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ فيه ثَناءٌ عليهم بعنايتِهم بالصَّلاةِ مِن أن يَعتَريَها شَيءٌ يُخِلُّ بكَمالِها؛ فالمحافظةُ راجِعةٌ إلى استِكمالِ أركانِ الصَّلاةِ وشُروطِها وأوقاتِها [158] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/174). .
12- في هذه الآياتِ وصَفَ اللهُ تعالى أهلَ السَّعادةِ والخَيرِ بهذه الأوصافِ الكاملةِ، والأخلاقِ الفاضِلةِ؛ مِن العباداتِ البدَنيَّةِ كالصَّلاةِ والمُداوَمةِ عليها، والأعمالِ القلبيَّةِ كخَشيةِ الله الدَّاعيةِ لكلِّ خَيرٍ، والعباداتِ الماليَّةِ، والعقائدِ النَّافِعةِ، والأخلاقِ الفاضِلةِ، ومُعامَلةِ الله، ومُعامَلةِ خَلقِه أحسَنَ مُعامَلةٍ مِن إنصافِهم وحِفظِ عُهودِهم وأسرارِهم، والعِفَّةِ التَّامَّةِ بحِفظِ الفُروجِ عمَّا يَكْرَهُ اللهُ تعالى [159] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 888). .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- في قَولِه تعالى: إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا أنَّ اللهَ تعالى خَلَق الإنسانَ على هذه الصِّفةِ [160] يُنظر: ((الفتاوى الكبرى)) لابن تيمية (1/150). ؛ ففيه دَلالةٌ على قولِ جماهيرِ المُثبِتينَ للقَدَرِ القائِلينَ بأنَّ اللهَ تعالى خالِقُ أفعالِ العِبَادِ؛ فإنَّهم يقولونَ: إنَّ اللهَ تعالى خالِقُ العَبدِ وجميعِ ما يقومُ به؛ مِن إرادتِه وقدرتِه، وحرَكاتِه وغيرِ ذلك [161] يُنظر: ((منهاج السنة النبوية)) لابن تيمية (2/295). .
2- قَولُ اللهِ تعالى: إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا فيه سؤالٌ: ما الحِكمةُ في خَلقِ الإنسانِ على مَساوي الأخلاقِ؟
الجوابُ: الحِكمةُ في خَلقِ شَهوةِ القَبيحِ: ليُمانِعَ نَفْسَه إذا نازَعَتْه نحوَه، ويحارِبَ شيطانَه عندَ تزيينِه مَعصيةً، فيَستَحِقَّ مِنَ الله تعالى مَثوبتَه وجنَّتَه [162] يُنظر: ((درة التنزيل وغرة التأويل)) للإسكافي (ص: 1304). .
3- في قَولِه تعالى: إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا * إِلَّا الْمُصَلِّينَ أنَّ الإنسانَ خُلِقَ على هذه الصِّفةِ، وأنَّ مَن كان على غَيرِها فمِن أجْلِ ما زَكَّاه اللهُ به مِن فَضْلِه وإحسانِه [163] يُنظر: ((طريق الهجرتين)) لابن القيم (ص: 107). .
4- قَولُ اللهِ تعالى: إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا فيه سُؤالٌ: حاصِلُ هذا الكلامِ أنَّه نُفورٌ عن المَضارِّ طَلَبًا للرَّاحةِ، وهذا هو اللَّائِقُ بالعَقلِ، فلِمَ ذَمَّه اللهُ عليه؟
الجوابُ: إنَّما ذَمَّه عليه؛ لأنَّه قاصِرُ النَّظَرِ على الأحوالِ الجُسمانيَّةِ العاجِلةِ، وكان مِنَ الواجِبِ عليه أن يكونَ مَشغولًا بأحوالِ الآخِرةِ، فإذا وقَعَ في مَرَضٍ أو فَقرٍ، وعَلِمَ أنَّه فِعلُ اللهِ تعالى، كان راضيًا به؛ لعِلْمِه أنَّ اللهَ يَفعَلُ ما يَشاءُ، ويَحكُمُ ما يُريدُ، وإذا وَجَد المالَ والصِّحَّةَ، صرَفَهما إلى طلَبِ السَّعاداتِ الأُخرويَّةِ [164] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (30/644). .
5- قَولُ اللهِ تعالى: وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ هذا شامِلٌ لجَميعِ الأماناتِ الَّتي بيْنَ العبدِ وبيْنَ رَبِّه، كالتَّكاليفِ السِّرِّيَّةِ الَّتي لا يطَّلِعُ عليها إلَّا اللهُ؛ والأماناتِ الَّتي بيْنَ العَبدِ وبيْنَ الخَلقِ في الأموالِ والأسرارِ، وكذلك العَهدُ؛ شامِلٌ للعَهدِ الَّذي عاهَدَ عليه اللهَ، والعَهدِ الَّذي عاهَدَ عليه الخَلقَ؛ فإنَّ العَهدَ يُسأَلُ عنه العَبدُ: هل قام به ووفَّاه، أو رفَضَه وخانه، فلمْ يَقُمْ به [165] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 887). ؟
6- قال تعالى: وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ ذِكرُ القِيامِ بالشَّهادةِ إتمامٌ لخِصالِ أهلِ الإسلامِ، فلا يُتطلَّبُ له مُقابلٌ مِن خِصالِ أهلِ الشِّركِ المَذكورةِ فيما تَقدَّمَ [166] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/174). .
7- في قَولِه تعالى: وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ * لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ أنَّ كلَّ ما أعَدَّه الإنسانُ للتِّجارةِ والتَّكَسُّبِ ففيه الزَّكاةُ؛ لعُمومِ الآيةِ الكريمةِ [167] يُنظر: ((مجموع فتاوى ورسائل العثيمين)) (18/252). والزَّكاةُ في عُروضِ التِّجارةِ واجبةٌ، وذلك باتِّفاقِ المَذاهِبِ الفِقهيَّةِ الأربَعةِ. يُنظر: ((تبيين الحقائق للزَّيْلَعي مع حاشية الشِّلْبي)) (1/279)، ((الشرح الكبير للدردير مع حاشية الدسوقي)) (1/ 472)، ((المجموع)) للنووي (6/47)، ((كشاف القناع)) للبُهُوتي (2/240). قال ابنُ المُنذِرِ: (أجمَعَ أهلُ العِلمِ على أنَّ في العُروضِ الَّتي يُرادُ بها التِّجارةُ الزَّكاةَ، إذا حال عليها الحَوْلُ). ((الإشراف)) (3/81). وقال ابنُ عبدِ البَرِّ: (وقد شذَّ داودُ، فلم يَرَ الزَّكاةَ في العُروضِ، وإنْ نوى بها صاحِبُها التِّجارةَ). ((التمهيد)) (17/126). وقال الخطَّابي: (وُجوبُ الزَّكاة في الأموالِ الَّتي تُرصَدُ للتِّجارةِ، وهو كالإجماعِ مِن أهلِ العِلمِ. وزعَم بعضُ المتأخِّرينَ مِن أهلِ الظَّاهرِ أنَّه لا زكاةَ فيها، وهو مَسبوقٌ بالإجماعِ). ((معالم السنن)) (2/53). .
8- مِن السُّؤالِ ما لا يكونُ مأمورًا به، والمسؤولُ مأمورٌ بإجابةِ السَّائِلِ، قال تعالى: وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ * لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ، وقال: وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ [168] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (1/186). [الضحى: 10] .
9- في قَولِه تعالى: وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ * لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ أنَّ مَن سَأَلَ وظَهَرَ صِدْقُه، وَجَبَ إطعامُه [169] يُنظر: ((مختصر الفتاوى المصرية لابن تيمية)) للبعلي (ص: 575). .
10- في قَولِه تعالى: لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ أنَّ الزَّكاةَ تُجْعَلُ في صِنفٍ واحدٍ وصِنفَينِ، فتُجْزِئُ، وليس بحَتمٍ أنْ تُجعَلَ في الثَّمانيةِ الأصنافِ كلِّها [170] يُنظر: ((النكت الدالة على البيان)) للقصاب (4/405). ! على القَولِ بأنَّ الحقَّ المعلومَ هو الزَّكاةُ المفروضةُ.
11- قَولُ اللهِ تعالى: وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ دلَّت هذه الآيةُ على تحريمِ نِكاحِ المُتعةِ؛ لكَونِها غيرَ زَوجةٍ مَقصودةٍ، ولا مِلكَ يَمينٍ [171] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 887). .
12- إنَّ ظاهرَ عُمومِ قولِه تعالى: وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ يَقتضي جوازَ أنْ يَستَمتعَ الرَّجُلُ بزَوجتِه فيما شاء، ما عدا الدُّبُرَ؛ فإنَّه لا يجوزُ للرَّجُلِ أنْ يجامِعَ زوجتَه فيه [172] يُنظر: ((فتاوى نور على الدرب)) لابن عثيمين (10/325). .
13- قال اللهُ تعالى: وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ قال ابنُ عُيَيْنةَ: (مَن لامَ أحدًا فيما ملَكَت يمينُه وإن كثُرَ، أو لامَه في نسائِه إذا بلغ الأربعَ، فقد عصى اللهَ تعالى؛ لقَولِه تعالى: فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ). وقال أيضًا: (مَن تزوَّجَ بأربَعِ نِسوةٍ، أو تسَرَّى بمَماليكَ؛ فلا خلَلَ في زُهدِه في الدُّنيا) [173] يُنظر: ((تفسير السمعاني)) (6/49، 50). .
14- ظاهِرُ عُمومِ قولِه تعالى: وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ إباحةُ وَطْءِ الإماءِ بمِلْكِ اليمينِ مُطلَقًا على أيِّ دِينٍ كُنَّ، إلَّا ما استَثناه الدَّليلُ [174] يُنظر: ((مختصر الفتاوى المصرية لابن تيمية)) للبعلي (ص: 427). وذهَب جمهورُ الفقهاءِ إلى أنَّ الأَمَةَ إذا كانت مجوسيَّةً أو وَثنيةً لم تحلَّ لسيدِها المسلمِ بملكِ اليمينِ، كما لا تحلُّ له بالزَّواجِ لو كانت حرَّةً. يُنظر: ((الموسوعة الفقهية الكويتية)) (11/298). .
15- في قَولِه تعالى: وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ تحريمُ الاستِمناءِ باليدِ، فهذا الصَّنيعُ خارجٌ عن هذَينِ القِسمَينِ: إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ، وقد قال تعالى: فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ [175] يُنظر: ((النكت الدالة على البيان)) للقصاب (4/408)، ((تفسير السمعاني)) (3/464)، ((تفسير ابن كثير)) (5/463). .
16- في قَولِه تعالى: وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ دليلٌ على أنَّ إتيانَ البهيمةِ معصيةٌ؛ فأيُّ شيءٍ وراءَ الأزواجِ ومِلْكِ اليمينِ يُعتبرُ عُدوانًا وظُلمًا [176] يُنظر: ((الشرح الممتع)) لابن عثيمين (14/246). ويُنظر أيضًا: ((تفسير ابن عطية)) (4/136). .
17- في قَولِه تعالى: وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ أنَّ التَّعَرِّيَ عندَ الجِماعِ لا حَرَجَ فيه؛ لأنَّه إذا كان لا مَلامةَ في عدَمِ سَتْرِ الفَرجِ فما سِواه مِن بابِ أَوْلى [177] يُنظر: ((فتاوى نور على الدرب)) لابن عثيمين (10/324). .
18- في قَولِه تعالى: أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ سؤالٌ: كيف الجمعُ بيْنَ كَونِ اللهِ تعالى مُنْفَرِدًا بالمِلْكِ وبيْنَ إثباتِ المِلْكِ للمخلوقينَ -كالآيةِ هنا-، ومِثْلِ قَولِه تعالى: أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ [النور: 61] ؟
الجوابُ: أنَّ الجَمعَ بيْنَهما مِن جِهاتٍ:
الأُولى: أنَّ مِلْكَ الإنسانِ للشَّيءِ ليس عامًّا شاملًا! لأنه يَمْلِكُ ما تحتَ يدِه، ولا يمْلِكُ ما تحتَ يدِ غيرِه! والكلُّ مِلْكٌ للهِ عزَّ وجلَّ، فمِن حيثُ الشُّمولُ: مِلْكُ اللهِ عزَّ وجلَّ أشملُ وأوسعُ، وهو مِلْكٌ تامٌّ.
الثاني: أنَّ مِلْكَ الإنسان لشَيءٍ ما ليس مِلْكًا حقيقيًّا يتَصَرَّفُ فيه كما يَشاءُ! وإنما يتَصَرَّفُ فيه كما أَمَر الشَّرعُ؛ وكما أَذِن المالكُ الحقيقيُّ -وهو اللهُ عزَّ وجلَّ-، فإذًا مِلْكُ الإنسانِ قاصرٌ.
وأيضًا لا يمْلِكُ فيه شيئًا مِن النَّاحيةِ القَدَرِيَّةِ؛ لأنَّ التَّصرُّفَ للهِ، فلا يستطيعُ أنْ يقولَ لعبدِه المريضِ: ابْرَأْ؛ فيَبْرَأُ! ولا يستطيعُ أنْ يقولَ لعبدِه الصَّحيحِ: امرَضْ؛ فيَمْرَضُ! لكنَّ التَّصرُّفَ الحقيقيَّ للهِ عزَّ وجلَّ، فلو قال له: ابْرَأْ؛ بَرَأ، ولو قال: امْرَضْ؛ مَرِضَ، فإذًا لا يمْلِكُ التَّصرُّفَ المطلقَ شرعًا وقَدَرًا، فمِلْكُه هنا قاصرٌ مِن حيثُ التَّصرُّفُ، وقاصرٌ مِن حيثُ الشُّمولُ والعُمومُ [178] يُنظر: ((شرح العقيدة الواسطية)) لابن عثيمين (1/23). .

بلاغة الآيات:

1- قولُه تعالَى: إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا
- جُملةُ إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا مُعترِضةٌ بيْنَ مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى * وَجَمَعَ فَأَوْعَى [المعارج: 17، 18] وبيْنَ الاستِثناءِ إِلَّا الْمُصَلِّينَ ... [المعارج: 22]، وهي تَذييلٌ لجُملةِ وَجَمَعَ فَأَوْعَى [المعارج: 18] ؛ تَنبيهًا على خَصلةٍ تُخامِرُ نُفوسَ البشَرِ، فتَحمِلُهم على الحِرصِ لنَيلِ النَّافعِ، وعلى الاحتفاظِ به خَشيةَ نَفادِه؛ لِما فيهم مِن خُلُقِ الهَلَعِ، وهذا تَذييلُ لَومٍ، وليس في مَساقِه عُذْرٌ لِمَن جَمَع فأَوعَى، ولا هو تَعليلٌ لفِعلِه. ومَوقعُ حرْفِ التَّوكيدِ (إنَّ) ما تَتضمَّنُه الجُملةُ مِن التَّعجيبِ مِن هذه الخَصلةِ البشَريَّةِ، فالتَّأكيدُ لمُجرَّدِ الاهتمامِ بالخبَرِ، ولَفْتِ الأنظارِ إليه، والتَّعريضِ بالحذَرِ منه، والمقصودُ مِن التَّذييلِ هو قولُه: وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا [المعارج: 21] ، وأمَّا قولُه: إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا [المعارج: 20] فتَمهيدٌ وتَتْميمٌ لِحالتَيْهِ [179] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/166). .
- وقيل: الجُملةُ كالتَّعليلِ لِما تقدَّمَ [180] يُنظر: ((إعراب القرآن)) لدرويش (10/213). .
- وهَلوعٌ: فَعولٌ، مِثالُ مُبالَغةٍ للاتِّصافِ بالهَلَعِ [181] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/167). .
2- قولُه تعالَى: إِلَّا الْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ
- قولُه: إِلَّا الْمُصَلِّينَ قيل: استثناءٌ منقطِعٌ، لمَّا وصَف مَن أدبَر وتولَّى بالهلعِ قال: لكنِ المصلِّينَ في مقابلةِ أولئكَ [182] يُنظر: ((تفسير الكوراني)) (ص: 232)، ((تفسير الألوسي)) (15/70). ، وقيل: هو استِثناءٌ مُنقطِعٌ ناشئٌ عن الوعيدِ المبتدَأِ به مِن قولِه: يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ ... [المعارج: 11] ؛ فالمعْنى على الاستدراكِ، والتَّقديرُ: لكنَّ المصلِّين الموصوفينَ بكَيتَ وكَيْتَ أولئك في جنَّاتٍ مُكرَمونَ؛ فجُملةُ أُولَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ حيث وَقَعَت بعْدَ (إلَّا) المنقطِعةِ -وهي بمعْنى (لكنَّ)- فلَها حكْمُ الجُملةِ المخبَرِ بها عن اسمِ (لكنَّ) المشدَّدةِ، أو عن المبتدَأِ الواقعِ بعْدَ (لكِنْ) المخفَّفةِ. والكلامُ استِئنافٌ بَيانيٌّ لمُقابَلةِ أحوالِ المؤمنينَ بأحوالِ الكافرينَ، ووَعْدِهم بوَعيدِهم، على عادةِ القرآنِ في أمثالِ هذه المُقابَلةِ [183] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/171). . وقيل: هو استثناءٌ متَّصِلٌ أي: إنَّ الإنسانَ خُلِق هلوعًا واستمرَّ ذلك عليه، ولم يفارِقْه إلَّا المصلِّينَ الموصوفينَ بالصفاتِ الآتيةِ، فإنَّهم خلَعوا ربقةَ الهلعِ عن أعناقِهم [184] يُنظر: ((تفسير الكوراني)) (ص: 232)، ((تفسير الألوسي)) (15/70). قال البيضاوي: (إِلَّا الْمُصَلِّينَ استِثناءٌ للمَوصوفينَ بالصِّفاتِ المذكورةِ بَعدُ مِن المَطبوعينَ على الأحوالِ المذكورةِ قبْلُ؛ لِمُضادَّةِ تلك الصِّفاتِ لها مِن حيثُ إنَّها دالَّةٌ على الاستغراقِ في طاعةِ الحقِّ، والإشفاقِ على الخلْقِ، والإيمانِ بالجَزاءِ، والخَوفِ مِن العُقوبةِ، وكسْرِ الشَّهوةِ، وإيثارِ الآجِلِ على العاجِلِ، وتلك ناشئةٌ مِن الانهماكِ في حُبِّ العاجلِ، وقُصورِ النَّظرِ عليها). ((تفسير البيضاوي)) (5/246). .
- وهذه صِفاتٌ ثمانٍ هي مِن شِعارِ المسلمينَ؛ فعُدِلَ عن إحضارِهم بوَصْفِ المسلِمينَ إلى تَعدادِ خِصالٍ مِن خِصالِهم إطنابًا في الثَّناءِ عليهم؛ لأنَّ مَقامَ الثَّناءِ مَقامُ إطنابٍ، وتَنْبيهًا على أنَّ كلَّ صِلةٍ مِن هذه الصِّلاتِ الثَّمانِ هي مِن أسبابِ الكَونِ في الجَنَّاتِ [185] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/171). .
- ولَمَّا كان وصْفُ المصلِّينَ غَلَب على المسلِمينَ -كما دلَّ عليه قولُه تعالَى: مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ الآية [المدثر: 42، 43]-، أُتْبِع وصْفُ المصلِّينَ في الآيةِ هذه بوَصْفِ الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ، أي: مُواظِبونَ على صَلاتِهم، لا يَتخلَّفونَ عن أدائِها ولا يَترُكونَها [186] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/171). . وكذلك في إضافةِ (صلاة) إلى ضَميرِ الْمُصَلِّينَ تَنويهٌ باختِصاصِها بهم، وهذا الوصفُ للمُسلِمينَ مُقابِلُ وَصْفِ الكافرينَ في قولِه: بِعَذَابٍ وَاقِعٍ * لِلْكَافِرينَ [187] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/172). [المعارج: 1، 2].
- ومَجيءُ الصِّلةِ جُملةً اسميَّةً هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ دونَ أنْ يُقالَ: (الَّذين يَدُومون)؛ لقصْدِ إفادتِها الثَّباتَ تَقويةً كمُفادِ الدَّوامِ [188] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/172). .
- وفيه مُناسَبةٌ حَسنةٌ، حيثُ ختَم قولَه: الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ هنا بقولِه: دَائِمُونَ، وختَمَه بعْدُ بقولِه: يُحَافِظُونَ؛ وفيه وَجْهانِ: الأوَّلُ: أنَّ المُرادَ بدَوامِهم عليها: ألَّا يَتْرُكوها في وقْتٍ مِن أوقاتِها، وبمُحافَظتِهم عليها: أنْ يَأتُوا بها على أكمَلِ أحوالِها؛ مِن الإتيانِ بها بجَميعِ واجِباتِها وسُنَنِها، ومنها الاجتهادُ في تَفريغِ القلْبِ عن الوَسوسةِ، والرِّياءِ، والسُّمعةِ. الثَّاني: أنَّ الدَّيمومةَ على الشَّيءِ والمحافَظةَ عليه شَيءٌ واحدٌ، لكنَّه لَمَّا كانت الصَّلاةُ هي عَمودَ الإسلامِ، بُولِغَ في التَّوكيدِ فيها، فذُكِرَت أوَّلَ خِصالِ الإسلامِ المذكورةِ في هذه السُّورةِ وآخِرَها؛ ليُعلَمَ مَرتبتُها في الأركانِ الَّتي بُنِيَ الإسلامُ عليها [189] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/612)، ((تفسير أبي حيان)) (10/276)، ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص: 581، 582). .
3- قولُه تعالَى: وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ * لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ فيه إعادةُ اسمِ المَوصولِ مع الصِّلاتِ المَعطوفةِ على قولِه: الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ؛ لمَزيدِ العِنايةِ بأصحابِ تلك الصِّلاتِ [190] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/172). .
- قولُه: وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ * لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ فيه تَسميةُ ما يُعطُونَه مِن أموالِهم مِن الصَّدقاتِ باسمِ حَقٌّ؛ للإشارةِ إلى أنَّهم جَعَلوا السَّائلَ والمَحرومَ كالشُّركاءِ لهم في أموالِهم، مِن فَرْطِ رَغبتِهم في مُواساةِ إخوانِهم؛ إذْ لم تكُنِ الصَّدقةُ يَومَئذٍ واجبةً، ولم تكُنِ الزَّكاةُ قد فُرِضَت [191] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/172). . وذلك على قولٍ في التَّفسيرِ.
- ومَجيءُ الصِّلةِ جُملةً اسميَّةً لإفادةِ ثَباتِ هذه الخَصلةِ فيهم، وتَمكُّنِها منهم؛ دفْعًا لتَوهُّمِ الشُّحِّ في بعضِ الأحيانِ لِما هو مَعروفٌ بيْنَ غالبِ النَّاسِ مِن مُعاوَدةِ الشُّحِّ للنُّفوسِ [192] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/172). .
- وهذه الصِّفةُ للمؤمنينَ مُضادَّةُ صِفةِ الكافرينَ المُتقدِّمةِ في قولِه: وَجَمَعَ فَأَوْعَى [193] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/172). [المعارج: 18] .
4- قولُه تعالَى: وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ أُوثِرَ فيها الفِعلُ المضارعُ؛ لدَلالتِه على الاستِمرارِ [194] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/172). .
- وهذا الوصفُ مُقابِلُ وصْفِ الكافرينَ بقولِه: إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا [195] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/172). [المعارج: 6] .
5- قولُه تعالَى: وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ وَصْفُ المؤمنينَ بأنَّهم مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ مُقابِلُ قولِه في حقِّ الكافرينَ: سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ * لِلْكَافِرينَ [المعارج: 1، 2]؛ لأنَّ سُؤالَهم سُؤالُ مُستخِفٍّ بذلك ومُحيلِه [196] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/172). .
- وصَوغُ الصِّلةِ بالجُملةِ الاسميَّةِ؛ لتَحقيقِ ثَباتِ اتِّصافِهم بهذا الإشفاقِ؛ لأنَّه مِن المُغيَّباتِ، فمِن شأْنِ كَثيرٍ مِن الناسِ التَّردُّدُ فيه [197] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/173). .
6- قولُه تعالَى: إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ جُملةٌ مُعترِضةٌ، أي: غيرُ مأمونٍ لهم، وهذا تَعريضٌ بزَعْمِ المشركينَ الأمْنَ منه [198] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/173). .
7- قولُه تعالَى: وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ
- قولُه: وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ قيل: وَصْفُهم بأنَّهم لفُروجِهم حافِظونَ مُقابِلُ قولِه في تَهويلِ حالِ المشركينَ يومَ الجزاءِ بقولِه: وَلَا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا [المعارج: 10]؛ إذ أخصُّ الأحِمَّاءِ بالرَّجُلِ زَوجُه؛ فقُصِدَ التَّعريضُ بالمشركينَ بأنَّ هذا الهَولَ خاصٌّ بهم بخِلافِ المسلمينَ؛ فإنَّهم هم وأزواجَهم يُحْبَرونَ؛ لأنَّهم اتَّقوا اللهَ في العِفَّةِ عن غيرِ الأزواجِ، قال تعالَى: الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ [الزخرف: 67] ، أي: ليس في المسلمينَ سِفاحٌ، ولا زِنًا، ولا مُخالَّةٌ، ولا بِغاءٌ؛ ولذلك عُقِّبَ بالتَّفريعِ بقولِه: فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ [199] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/173). .
8- قولُه تعالَى: وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ
- صَوغُ الصِّلةِ بالجُملةِ الاسميَّةِ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ؛ لتَحقيقِ ثَباتِ اتِّصافِهم بهذا الوصْفِ [200] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/173). .
9- قولُه تعالَى: وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ
- تَخصيصُ الشَّهادةِ بالذِّكرِ معَ اندراجِها في الأماناتِ؛ لإبانةِ فضْلِها؛ لأنَّ في إقامتِها إحياءَ الحقوقِ وتَصحيحَها، وفي مَنْعِها تَضييعَها وإبطالَها [201] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/613)، ((تفسير أبي السعود)) (9/33)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/174). .
- وجاءت جُملةُ الصِّلةِ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ اسميَّةً؛ لتَحقيقِ ثَباتِ اتِّصافِهم بهذا الوَصْفِ؛ لأنَّ أداءَ الشَّهادةِ يَشُقُّ على النَّاسِ؛ إذ قد يكونُ المَشهودُ عليه قَريبًا أو صَديقًا، وقد تُثِيرُ الشَّهادةُ على المَرْءِ إحْنةً منه وعَداوةً [202] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/174). .
- قولُه: بِشَهَادَاتِهِمْ قُرِئَ بِشَهَادَتِهِمْ بصِيغةِ الإفرادِ، وهو اسمُ جِنسٍ يعُمُّ جَميعَ الشَّهاداتِ الَّتي تَحمَّلوها. وقُرِئَ بِشَهَادَاتِهِمْ بصِيغةِ الجمْعِ [203] قرأ يعقوبُ وحفصٌ بِشَهَادَاتِهِمْ بصِيغةِ الجمْعِ، وقرأ الباقونَ بصِيغةِ الإفرادِ. يُنظر: ((النشر في القراءات العشر)) لابن الجزري (2/391). ، وذلك على اعتِبارِ جمْعِ المُضافِ إليه [204] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/174). .
10- قولُه تعالَى: وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ ثَناءٌ عليهم بعِنايتِهم بالصَّلاةِ مِن أنْ يَعترِيَها شَيءٌ يُخِلُّ بكَمالِها؛ لأنَّ مادَّةَ المُفاعَلةِ هنا للمُبالَغةِ في الحِفظِ [205] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/174). .
- وإيثارُ الفِعلِ المضارِعِ يُحَافِظُونَ؛ لإفادةِ تَجدُّدِ ذلك الحِفاظِ، وعدَمِ التَّهاوُنِ به، وبذلك تَعلَمُ أنَّ هذه الجُملةَ ليسَتْ مُجرَّدَ تأْكيدٍ لجُملةِ الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ، بل فيها زِيادةُ معنًى معَ حُصولِ الغرَضِ مِن التَّأكيدِ بإعادةِ ما يُفيدُ عِنايتَهم بالصَّلاةِ في كِلْتا الجُملتَينِ [206] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/174). قال الشوكاني: (كرَّر ذِكرَ الصَّلاةِ لاختلافِ ما وصَفهم به أوَّلًا، وما وصَفهم به ثانيًا؛ فإنَّ معنَى الدَّوامِ: هو أن لا يشتغِلَ عنها بشيءٍ مِن الشَّواغِلِ...، ومعنى المحافظةِ: أنْ يُراعي الأمورَ التي لا تكونُ صلاةً بدونِها، وقيل: المرادُ يُحافِظونَ عليها بعدَ فعلِها مِن أنْ يفعَلوا ما يُحبِطُها، ويُبطِلُ ثوابَها). ((تفسير الشوكاني)) (5/351). .
- وتَقديمُ المُسنَدِ إليه على المُسنَدِ الفِعليِّ في قولِه: وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ يُفيدُ تَقويةَ الخبَرِ، مع إفادةِ التَّجدُّدِ مِن الفِعلِ المُضارعِ [207] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/175). .
- وقدْ حَصَل بيْنَ أُخرى هذه الصِّلاتِ -وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ- وبيْن أُولاها -الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ- مُحسِّنُ رَدِّ العَجُزِ على الصَّدرِ [208] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/175). ورَدُّ العَجُزِ على الصَّدرِ -ويُعرَفُ أيضًا بالتَّصديرِ-: هو أنْ تكونَ اللَّفظةُ بعَيْنِها تقدَّمتْ في أوَّلِ الكَلامِ، ثُمَّ تُعادُ في آخِرِه، وبتعبيرٍ آخَرَ: هو أنْ يُجعَلَ أحدُ اللَّفظَينِ المُكرَّرَينِ، أو المُتجانِسَينِ، أو المُلحَقَينِ بهما في أوَّلِ الفِقرةِ، ثُمَّ تُعادُ في آخِرِها، وهو على ثلاثةِ أقسامٍ؛ الأوَّلُ: أن يُوافِقَ آخِرُ الفاصِلةِ آخِرَ كَلِمةٍ في الصَّدرِ؛ كقوله تعالى: أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا [النساء: 166]، والثَّاني: أنْ يُوافِقَ أوَّلَ كَلمةٍ منه؛ كقولِه: وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ [آل عمران: 8]، والثَّالثُ: أنْ يُوافِقَ بعضَ كَلِماتِه؛ كقولِه: وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ [الأنعام: 10] . يُنظر: ((البرهان في علوم القرآن)) للزركشي (3/461)، ((الإتقان)) للسيوطي (3/354)، ((جواهر البلاغة)) للهاشمي (ص: 333)، ((البلاغة العربية)) لعبد الرحمن حَبَنَّكَة الميداني (2/514). .
- وفي تَكريرِ الصَّلاةِ مُبالَغةٌ لا تَخْفى؛ اهتمامًا بشَأْنِها، وتَنويهًا بفضْلِها، ويُضافُ إلى التَّكريرِ تَصديرُ الجُملةِ بالضَّميرِ، وبِناءُ الجُملةِ عليه، وتَقديمُ الجارِّ والمجرورِ على الفِعلِ، وفِعليَّةُ الخبَرِ، فتُفيدُ الجُملةُ الاسميَّةُ الدَّوامَ والاستِمرارَ، وتُفيدُ الجُملةُ الفِعليَّةُ التَّجدُّدَ مع الاستِمرارِ، وهذا نمَطٌ عَجيبٌ انفرَدَ به كِتابُ اللهِ تعالى [209] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (5/246)، ((تفسير أبي السعود)) (9/34)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (10/216). .
- ومِن قولِه: الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ إلى قولِه: وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ تَكريرُ المَوصولاتِ لتَنزيلِ اختِلافِ الصِّفاتِ مَنزلةَ اختلافِ الذَّواتِ؛ إيذانًا بأنَّ كلَّ واحدٍ من الأوصافِ المذكورةِ نعْتٌ جَليلٌ على حِيالِه، له شأنٌ خَطيرٌ مُستتبِعٌ لأحكامٍ جَمَّةٍ، حَقيقٌ بأنْ يُفرَدَ له مَوصوفٌ مُستقِلٌّ، ولا يُجعَلَ شَيءٌ منها تَتِمةً للآخَرِ [210] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (9/34). .
- ومِن قولِه: إِلَّا الْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ إلى قولِه: وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ * أُولَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ، وقال قبْلَه في سُورةِ (المؤمنينَ): وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ إلى قولِه: وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ * أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ [المؤمنون: 4-11] ، تَجاوَبَت الآياتُ في السُّورتينِ لفْظًا ومعْنًى، واختَصَّت سُورةُ (المعارجِ) بقولِه: وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ، وحُذِفَ مِن سُورةِ (المؤمنين)؛ وذلك لمُناسَبةٍ حَسَنةٍ، وهي أنَّ آياتِ سُورةِ (المعارِجِ) مَبْنيَّةٌ على التَّأكيدِ والمُبالَغةِ، فلمَّا قال: إِلَّا الْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ، أكَّد ذلك في آخِرِ هذه الآياتِ كرًّا عليها بقولِه: وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ [المعارج: 34] . ووصَفَ المزكِّين بأنَّهم فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ * لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ، وبعْدَه: وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ، ثمَّ أتْبَعَ ذلك التَّوكيدَ بقولِه: وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ، وبعْدَه: وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ، ثمَّ بالَغَ في تَحذيرِهم فقال: فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ. وهذه الآيةُ جاءت في سُورةِ (المؤمنينَ). وبعْدَها في السُّورتينِ: وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ، ثمَّ خصَّ الآيةَ في سُورةِ (المعارِجِ) بما أجْرَى عليه الآياتِ قبْلَها مِن المبالَغةِ في الطَّاعاتِ الَّتي تَضمَّنَت ذِكْرَها، فقال: وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ؛ فكان مِن المبالَغةِ الَّتي تَقْتضيها الآياتُ المتقدِّمةُ ذِكرُ الشَّهاداتِ عَقِيبَ أداءِ الأماناتِ [211] يُنظر: ((درة التنزيل وغرة التأويل)) للإسكافي (ص: 1297-1304)، ((أسرار التكرار في القرآن)) للكرماني (ص: 241)، ((بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز)) للفيروزابادي (1/481). .
11- قولُه تعالَى: أُولَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ
- جَيءَ باسمِ الإشارةِ أُولَئِكَ؛ للتَّنبيهِ على أنَّهم استَحقُّوا ما بعْدَ اسمِ الإشارةِ مِن أجْلِ ما سبَقَ قبْلَ اسمِ الإشارةِ [212] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/175). . وما فيه مِن معْنى البُعدِ، مع قُربِ العهْدِ بالمُشارِ إليهِم؛ للإيذانِ بعُلوِّ شأْنِهم، وبُعدِ مَنزلَتِهم في الفضلِ [213] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (9/34). .
- وتقديمُ فِي جَنَّاتٍ على الخَبرِ مُكْرَمُونَ؛ للاهتِمامِ، مع مُراعاةِ الفَواصِلِ [214] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (9/34)، ((تفسير الألوسي)) (15/72). .