موسوعة التفسير

سورةُ المُدَّثِّرِ
الآيات (49-56)

ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ

غَريبُ الكَلِماتِ:

مُسْتَنْفِرَةٌ: أي: نافِرةٌ هارِبةٌ، وأصلُ (نفر): يدُلُّ على تَباعُدٍ [286] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 498)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 453)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/459)، ((المفردات)) للراغب (ص: 817)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 427). .
قَسْوَرَةٍ: أي: رُمَاةٍ، أو أَسَدٍ؛ مِنَ «القَسْرِ» وهو: القَهْرُ، وسُمِّيَ الأسدُ بذلك؛ لأنَّه يَقهَرُ السِّباعَ، وأصلُ (قسر): يدُلُّ على الغَلَبةِ والقَهْرِ [287] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 498)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 379)، ((المفردات)) للراغب (ص: 670)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 435). .
مُنَشَّرَةً: أي: مَنشورةً مفتوحةً غيرَ مَطويَّةٍ، تُنشَرُ وتُقرأُ، وأصلُ (نشر): يدُلُّ على فَتحِ شَيءٍ وتَشَعُّبِه [288] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/430)، ((البسيط)) للواحدي (22/465)، ((تفسير ابن عطية)) (5/400)، ((تفسير العليمي)) (7/216)، ((تفسير الشوكاني)) (5/400). .

المعنى الإجماليُّ:

يقولُ تعالى مبيِّنًا شدَّةَ إعراضِ المشرِكينَ وعِنادِهم: فما لِهؤلاء المُشرِكِينَ عن القُرآنِ مُعِرضينَ؟! كأنَّهم في إعراضِهم عنه حَميرُ وَحْشٍ هارِبةٌ، هرَبَت مِن أَسَدٍ أو رُماةٍ!
إنَّ هؤلاء المُشرِكينَ لا يَكْتَفونَ بتلك التَّذكِرةِ، ولا يَرضَونَ بها، بل يُريدُ كُلُّ واحدٍ مِنهم أن يُنزِلَ اللهُ عليه كِتابًا مِن السَّماءِ مَفتوحًا يأمُرُه باتِّباعِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم! كلَّا لن نُجيبَهم إلى مُقتَرَحاتِهم؛ فهم قومٌ لا يخافُونَ عَذابَ اللهِ في الآخِرةِ، ولا يُؤمِنونَ ببَعثٍ ولا جنَّةٍ ولا نارٍ، وليس الأمرُ كما يَزعُمُ هؤلاء المُشرِكونَ في القُرآنِ مِن أنَّه سِحرٌ يُؤثَرُ، وأنَّه قَولُ البَشَرِ، وإنَّما هو تَذكِرةٌ بليغةٌ مِنَ اللهِ تعالى، فمَن شاء مِن العِبادِ تذَكَّرَ بهذا القُرآنِ واتَّعَظَ، وما يَذكُرونَ بهذا القُرآنِ ويتَّعِظونَ إلَّا أن يَشاءَ اللهُ لهم ذلك؛ هو سُبحانَه أهْلٌ لِأَنْ يَخافَه عِبادُه ويَحذَروا سَخَطَه وعِقابَه، وهو وَحْدَه أهْلٌ لِأَنْ يَغفِرَ ذُنوبَ عِبادِه، ويَرحَمَهم.

تَفسيرُ الآياتِ:

فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ (49).
أي: فما لِهؤلاء المُشركِينَ عن القُرآنِ الَّذي يُذكَّرونَ به مُعرِضينَ، فلا يُؤمِنونَ به ولا يتَّبِعونَه [289] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/454)، ((البسيط)) للواحدي (22/457)، ((تفسير القرطبي)) (19/88)، ((تفسير ابن جزي)) (2/431)، ((تفسير ابن كثير)) (8/273). ؟!
كما قال الله تبارك وتعالى: وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ [الشعراء: 5] .
وقال سُبحانَه: قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ * أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ [ص: 67، 68].
وقال عزَّ وجَلَّ: وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ [الأحقاف: 3].
كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ (50).
أي: كأنَّ المُشرِكينَ في إعراضِهم عن القُرآنِ ونُفورِهم مِن الحَقِّ: حَميرُ وَحْشٍ هارِبةٌ [290] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/454)، ((تفسير الماوردي)) (6/148)، ((تفسير القرطبي)) (19/88)، ((تفسير ابن كثير)) (8/273)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (21/77). وقال ابنُ عاشور: (الحُمُرُ: جمعُ حِمارٍ، وهو الحِمارُ الوَحْشيُّ، وهو شديدُ النِّفارِ إذا أحَسَّ بصَوتِ القانِصِ). ((تفسير ابن عاشور)) (29/329). .
فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ (51).
أي: هرَبَت أشدَّ الهرَبِ ممَّن يُريدُ صَيْدَها مِن أَسَدٍ أو رُماةٍ [291] يُنظر: ((مجاز القرآن)) لأبي عبيدة (2/276)، ((معاني القرآن وإعرابه)) للزجاج (5/250)، ((تفسير الزمخشري)) (4/656)، ((تفسير القرطبي)) (19/89)، ((تفسير ابن كثير)) (8/273، 274)، ((تفسير السعدي)) (ص: 898)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/330). وممَّن قال بأنَّ المرادَ بـ قَسْوَرَةٍ: الرُّماةُ: مقاتلُ بنُ سُلَيمانَ، والزمخشريُّ، ونسَبَه ابنُ كثيرٍ إلى الجُمهورِ. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/500)، ((تفسير الزمخشري)) (4/656)، ((تفسير ابن كثير)) (8/274). وممَّن قال بهذا القولِ مِن السَّلفِ: ابنُ عبَّاسٍ في روايةٍ عنه، وأبو موسى الأشعريُّ، ومجاهدٌ، وعِكْرِمةُ، وقَتادةُ في روايةٍ عنه، والضَّحَّاكُ، وابنُ كَيْسانَ. وقال سعيدُ بنُ جُبَيرٍ، والحسَنُ: القُنَّاصُ، وهو روايةٌ عن ابنِ عبَّاسٍ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/455)، ((تفسير الثعلبي)) (10/78)، ((البسيط)) للواحدي (22/462)، ((تفسير ابن الجوزي)) (4/366). وممَّن قال بأنَّ المرادَ بـ قَسْوَرَةٍ: الأسدُ: الزَّجَّاجُ، والواحديُّ، والبِقاعي. يُنظر: ((معاني القرآن وإعرابه)) للزجاج (5/250)، ((الوجيز)) للواحدي (ص: 1152)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (21/78). وممَّن قال بهذا القولِ مِن السَّلفِ: ابنُ عبَّاسٍ في روايةٍ عنه، وأبو هُرَيرةَ، وعَطاءٌ، وزَيدُ بنُ أسْلَمَ، وابنُه، والكلبيُّ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/459)، ((تفسير البغوي)) (5/180)، ((تفسير ابن الجوزي)) (4/366). قال ابنُ عطيَّةَ: (قال ابنُ عبَّاسٍ أيضًا وأبو هُرَيرةَ وجمهورٌ مِنَ اللُّغَويِّينَ: القَسْوَرةُ: الأسَدُ). ((تفسير ابن عطية)) (5/399). وقيل: القَسْوَرةُ: حِبالُ الصَّيَّادينَ. وقيل: النَّبْلُ. وقيل: أصواتُ النَّاسِ. وقيل غيرُ ذلك. يُنظر: ((تفسير ابن الجوزي)) (4/366). .
بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتَى صُحُفًا مُنَشَّرَةً (52).
أي: لا يَكْتَفون بتلك التَّذكِرةِ ولا يَرضَونَ بها، بل [292] قال الشَّوكاني: (عطفٌ على مُقدَّرٍ يَقتضيه المَقامُ، كأنَّه قيل: لا يَكتَفون بتلك التَّذكرةِ، بَلْ يُرِيدُ). ((تفسير الشوكاني)) (5/400). ويُنظر: ((تفسير الألوسي)) (15/148). قال ابن جرير: (يقولُ تعالى ذِكرُه: ما بهؤلاء المشرِكين في إعراضِهم عن هذا القرآنِ أنَّهم لا يَعلَمون أنَّه مِن عندِ الله، ولكنْ كلُّ رجُلٍ منهم يُريدُ أن يُؤتَى كتابًا مِن السَّماءِ يَنزِلُ عليه). ((تفسير ابن جرير)) (23/460، 461). وقال البِقاعي: (لَمَّا كان الجوابُ قَطعًا: لا شَيءَ لهم في إعراضِهم هذا، أضرَبَ عنه بقَولِه: بَلْ يُرِيدُ). ((نظم الدرر)) (21/78). وقال السعدي: (ومع هذا الإعراضِ وهذا النُّفورِ يَدَّعونَ الدَّعاوى الكِبارَ؛ فـ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتَى صُحُفًا مُنَشَّرَةً نازِلةً عليه مِن السَّماءِ، يَزعُمُ أنَّه لا يَنقادُ للحَقِّ إلَّا بذلك!). ((تفسير السعدي)) (ص: 898). ويُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/331). يُريدُ كُلُّ واحدٍ مِنَ المُشرِكينَ أن يُنزِلَ اللهُ عليه كِتابًا مِن السَّماءِ مَفتوحًا غيرَ مَطْوِيٍّ [293] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/460)، ((تفسير القرطبي)) (19/90)، ((تفسير ابن جزي)) (2/431)، ((تفسير ابن كثير)) (8/274). قال الواحدي: (قال المفسِّرونَ: وذلك أنَّ كُفَّارَ قُرَيشٍ قالوا لمحمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: لِيُصبِحْ عندَ رأسِ كلٍّ مِنَّا كتابٌ مَنشورٌ مِنَ اللهِ: أنَّ آلهتَنا باطِلةٌ، وأنَّ إلهَك حَقٌّ، وأنَّك رسولُه، نُؤمَرُ فيه باتِّباعِك! كقَولِه تعالى: حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ [الإسراء: 93] ). ((البسيط)) (22/464). وقال ابنُ جُزَي: (معنى مُنَشَّرَةً: منشورةً غَيرَ مَطويَّةٍ، أي: طريَّةً كما كُتِبَت، لم تُطْوَ بَعْدُ). ((تفسير ابن جزي)) (2/431). وقال ابنُ عاشور: (المُنَشَّرةُ: المفتوحةُ المقروءةُ، أي: لا نَكتفي بصَحيفةٍ مَطويَّةٍ لا نَعلَمُ ما كُتِب فيها). ((تفسير ابن عاشور)) (29/331). !
كما قال تعالى: وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آَيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ [الأنعام: 124] .
كَلَّا بَلْ لَا يَخَافُونَ الْآَخِرَةَ (53).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّها رَدعٌ للكافِرينَ عن تلك الإرادةِ، وزَجرٌ عن اقتِراحِ الآياتِ؛ فإنَّه لَمَّا حَصَلَت المُعجِزاتُ الكثيرةُ كَفَت في الدَّلالةِ على صِحَّةِ النُّبُوَّةِ، فطَلَبُ الزِّيادةِ يكونُ مِن بابِ التَّعَنُّتِ [294] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (30/717). .
كَلَّا بَلْ لَا يَخَافُونَ الْآَخِرَةَ (53).
أي: لن نُعطِيَ كُلَّ واحدٍ منهم كتابًا خاصًّا، وليس الأمرُ كما زَعَموا أنَّهم سيُؤمِنونَ لو أتَتْهم صُحُفٌ مُنَشَّرةٌ، وإنَّما هم قومٌ لا يَخافونَ عذابَ اللهِ في الآخِرةِ؛ لأنَّهم لا يؤمِنونَ بالبَعثِ والجنَّةِ والنَّارِ، فأعرَضوا بسَبَبِ ذلك عن القُرآنِ، وامتَنَعوا عن اتِّباعِ الحَقِّ، واغتَرُّوا بالدُّنيا حتَّى هَلَكوا [295] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/461)، ((تفسير ابن عطية)) (5/400)، ((تفسير القرطبي)) (19/90)، ((تفسير ابن كثير)) (8/274)، ((تفسير السعدي)) (ص: 898)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/331). .
كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ (54).
أي: ليس الأمرُ كما يَزعُمُ هؤلاء المُشرِكونَ في القُرآنِ مِن أنَّه سِحرٌ يُؤْثَرُ، وأنَّه قَولُ البَشَرِ، وإنَّما هو تَذكِرةٌ بليغةٌ مِنَ اللهِ تعالى لخَلْقِه، يُذَكِّرُهم به [296] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/461)، ((تفسير الزمخشري)) (4/657)، ((تفسير ابن جزي)) (2/453)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/332). وممَّن ذهب إلى هذا المعنى المذكورِ: ابنُ جرير، ومكِّيٌّ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/461)، ((الهداية إلى بلوغ النهاية)) لمكي (12/7852). وقال البِقاعي: (كَلَّا أي: ليس الأمرُ قَطْعًا كما تَزعُمونَ مِن أنَّ هذا القُرآنَ لا يَستَحِقُّ الإقبالَ). ((نظم الدرر)) (21/79). .
كما قال تعالى: كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آَيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ [ص: 29] .
فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (55).
أي: فمَن شاء مِن العِبادِ تذكَّرَ بهذا القُرآنِ واتَّعظَ، وعَمِلَ بما فيه مِن أوامِرَ ونَواهٍ [297] يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/501)، ((تفسير ابن جرير)) (23/463)، ((تفسير القرطبي)) (19/90)، ((تفسير السعدي)) (ص: 898). قال الزمخشري: (فمَن شاء أن يَذكُرَه ولا يَنساه، ويَجعَلَه نُصْبَ عَيْنِه، فَعَل؛ فإنَّ نَفْعَ ذلك راجِعٌ إليه). ((تفسير الزمخشري)) (4/657). وقال السعدي: (فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ؛ لأنَّه قد بُيِّن له السَّبيلُ، ووُضِّحَ له الدَّليلُ). ((تفسير السعدي)) (ص: 898). وقال ابن الجوزي: (فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ الهاءُ عائدةٌ على القرآنِ، فالمعنى: فمَن شاء أن يذكرَ القرآنَ ويتَّعِظَ به ويَفْهَمَه، ذَكَرَهُ). ((تفسير ابن الجوزي)) (4/367). وقيل: الضَّميرُ الظَّاهرُ في ذَكَرَهُ يجوزُ أن يعودَ إلى الله تعالى. يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/332). .
كما قال الله تعالى: إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا [المزمل: 19] .
وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ (56).
وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ.
أي: وما يَذكُرونَ بهذا القُرآنِ ويتَّعِظونَ به ويَعمَلونَ، إلَّا أن يَشاءَ اللهُ لهم ذلك [298] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/463)، ((البسيط)) للواحدي (22/466)، ((تفسير القرطبي)) (19/90)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/332). .
كما قال تعالى: إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ * لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ * وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ [التكوير: 27 - 29] .
هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ.
أي: اللهُ وَحْدَه هو الحقيقُ بأن يَخافَه عِبادُه، ويَحذَروا سَخَطَه وعِقابَه؛ بفِعلِ أوامِرِه، واجتِنابِ نواهيه، وهو وَحْدَه الحقيقُ بأن يَغفِرَ ذُنوبَ عِبادِه، ويَرحَمَهم [299] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/463)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (11/690)، ((تفسير ابن كثير)) (8/274)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (21/80، 81)، ((تفسير الشوكاني)) (5/401)، ((تفسير السعدي)) (ص: 898)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/334). قال ابنُ جُزَي: (أي: هو أهلٌ لأن يُتَّقى؛ لشِدَّةِ عِقابِه، وهو أهلٌ لأن يَغفِرَ الذُّنوبَ؛ لكَرَمِه، وسَعةِ رَحمتِه وفَضْلِه). ((تفسير ابن جزي)) (2/431). .

الفَوائِدُ التَّربَويَّةُ:

1- في قَولِه تعالى: فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ ذَمُّ المُعْرِضينَ عن سَماعِ القُرآنِ [300] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (10/79). .
2- قَولُ اللهِ تعالى: هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ هذا تعريضٌ بالتَّحريضِ للعُصاةِ أن يُقلِعوا عن الذُّنوبِ [301] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/334). .
3- أصلُ التَّقوَى أنْ يجعلَ العبدُ بينَه وبينَ ما يخافُه ويحذرُه وقايةً تَقيه منه، فتقوَى العبدِ لربِّه أنْ يجعَلَ بينَه وبينَ ما يخشاه مِن ربِّه مِن غضبِه وسخطِه وعقابِه وقايةً تقيه مِن ذلك، وهو فعلُ طاعتِه، واجتنابُ معاصيه.
والتَّقوى تارةً تُضافُ إلى اسمِ الله عزَّ وجلَّ، كقولِه تعالى: وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ [المائدة: 96] ، فإذا أُضيفَت التَّقوَى إليه سبحانَه وتعالى، فالمعنى: اتَّقوا سخطَه وغضبَه، وهو أعظمُ ما يُتقَّى، وعن ذلك ينشأُ عقابُه الدُّنيويُّ والأخرويُّ، قال تعالى: وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ [آل عمران: 28] ، وقال تعالى: هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ، فهو سبحانَه أهلٌ أنْ يُخشَى ويُهابَ ويجلَّ ويعظَّمَ في صدورِ عبادِه حتَّى يَعبدوه ويُطيعوه، لما يستحقُّه مِن الإجلالِ والإكرامِ، وصفاتِ الكبرياءِ والعظمةِ وقوةِ البطشِ، وشدةِ البأس...
وتارةً تُضافُ التَّقوَى إلى عقابِ الله وإلى مكانِه كالنَّارِ، أو إلى زمانِه كيومِ القيامةِ، كما قال تعالى: فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ [البقرة: 24] ، وقال تعالى: وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ [302] يُنظر: ((جامع العلوم والحكم)) لابن رجب (1/398، 399). [البقرة: 281] .

الفَوائِدُ العِلميَّةُ واللَّطائِفُ:

1- في قَولِه تعالى: فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ سؤالٌ: أنَّه في قَولِه سُبحانَه: ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ [التوبة: 127] أنَّه إذا كان هو الَّذي صَرَفهم وجَعَلهم مُعْرِضِينَ ومأفوكِينَ، فكيف يَنبغي إنكارُ ذلك عليهم؟!
قيل: هم دائِرونَ بيْنَ عَدْلِه وحُجَّتِه عليهم، فمَكَّنَهم، وفَتَح لهم البابَ، ونَهَج لهم الطَّريقَ، وهَيَّأَ لهم الأسبابَ؛ فأرْسَلَ إليهم رُسُلَه، وأنْزَل عليهم كُتُبَه، ودعاهم على ألْسِنَةِ رُسُلِه، وجَعَل لهم عقولًا تُمَيِّزُ بيْنَ الخَيرِ والشَّرِّ، والنَّافعِ والضَّارِّ، وأسبابِ الرَّدَى وأسبابِ الفلاحِ، وجَعَل لهم أسماعًا وأبصارًا؛ فآثَروا الهوى على التَّقْوى، واستَحَبُّوا العَمَى على الهُدَى، وقالوا: مَعصيتُك آثَرُ عندَنا مِن طاعتِك! والشِّرْكُ أحَبُّ إلينا مِن توحيدِك! وعبادةُ سِواك أنْفَعُ لنا في دُنيانا مِن عبادتِك! فأَعْرَضَتْ قلوبُهم عن ربِّهم وخالقِهم ومَليكِهم، وانصرفَتْ عن طاعتِه ومحبَّتِه، فهذا عَدْلُه فيهم، وتلك حُجَّتُه عليهم، فهم سَدُّوا على أنفُسِهم بابَ الهدَى إرادةً منهم واختيارًا، فسَدَّه عليهم اضطرارًا، فخَلَّاهم وما اختاروا لأنْفُسِهم، ووَلَّاهم ما تَوَلَّوه، ومَكَّنَهم فيما ارتَضَوه، وأدْخَلَهم مِن البابِ الَّذي اسْتَبَقُوا إليه، وأَغْلَقَ عنهم البابَ الَّذي تَوَلَّوا عنه وهم مُعْرِضُون، فلا أقْبَحَ مِن فِعْلِهم، ولا أحسَنَ مِن فِعْلِه [303] يُنظر: ((شفاء العليل)) لابن القيم (ص: 97). !
2- قال اللهُ تعالى: وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ فيها رَدٌّ على القَدَريَّةِ الَّذين لا يُدخِلونَ أفعالَ العِبادِ تحتَ مَشيئةِ اللهِ، والجَبْرِيَّةِ الَّذين يَزعُمونَ أنَّه ليس للعَبدِ مَشيئةٌ، ولا فِعلٌ حَقيقةً، وإنَّما هو مجبورٌ على أفعالِه! فأثبت تعالى للعِبادِ مَشيئةً حَقيقةً وفِعلًا، وجَعَل ذلك تابِعًا لمَشيئتِه [304] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 898). . ومَشيئتُه جَلَّ وتعالى مُتقَدِّمةٌ على مَشيئةِ العَبدِ، لولا ذلك ما استطاعَ العبدُ فِعْلَ شَيءٍ، ولا كانت مَشيئةٌ في شَيءٍ [305] يُنظر: ((النكت الدالة على البيان)) للقصاب (4/449). .
3- في قَولِه تعالى: هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ لم يَقُلْ سُبحانَه: «أهلٌ للتَّقْوى»، بل قال: أَهْلُ التَّقْوَى؛ فهو وَحْدَه أهلٌ أنْ يُتَّقَى فيُعْبَدَ دونَ ما سِواه، ولا يَستَحِقُّ غيرُه أنْ يُتَّقَى، كما قال تعالى: وَلَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ [306] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (11/690). [النحل: 52] .

بلاغةُ الآياتِ:

1- قولُه تعالَى: فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ تَفريعٌ للتَّعجيبِ مِن إصرارِهم على الإعراضِ عمَّا فيه تَذكرةٌ [307] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/329). ؛ فالفاءُ لتَرتيبِ إنكارِ إعْراضِهم عنِ القُرآنِ بغيرِ سَببٍ على ما قبْلَها مِن مُوجباتِ الإقبالِ عليه، والاتِّعاظِ به مِن سُوءِ حالِ المُكذِّبينَ [308] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (9/62). .
- وجِيءَ باسمِ التَّذكرةِ الظَّاهرِ دونَ أنْ يُؤتَى بضَميرٍ، نحْو أنْ يُقالَ: (عنها مُعرِضينَ)؛ لئلَّا يَختصَّ الإنكارُ والتَّعجيبُ بإعراضِهِم عن تَذكرةِ الإنذارِ بسَقَرَ، بلِ المقصودُ التَّعميمُ لإعراضِهِم عن كلِّ تَذكرةٍ، وأعظَمُها تَذكرةُ القُرآنِ، كما هو المناسِبُ للإعراضِ؛ قال تبارك وتعالَى: إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ [309] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/329). [التكوير: 27] .
- والاستِفهامُ مُستعمَلٌ في الإنكارِ والتَّعجيبِ مِن غَرابةِ حالِهم، بحيث تَجدُرُ أنْ يَستفهِمَ عنها المُستفهِمون، أيْ: فإذَا كان حالُ المُكذِّبينَ به على ما ذُكِرَ، فأيُّ شَيءٍ حصَلَ لهم مُعرِضينَ عن القُرآنِ مع تَعاضُدِ مُوجباتِ الإقبالِ عليه، وتآخُذِ الدَّواعِي إلى الإيمانِ به [310] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (9/62)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/329)، ((إعراب القرآن وبيانه)) لدرويش (10/292). ؟!
2- قولُه تعالَى: كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ * فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ شَبَّهَهم في إعراضِهم ونُفورِهم عن القُرآنِ بحُمُرٍ رأت الأسَدَ أو الرُّماةَ ففَرَّت منه، وهذا مِن بديعِ التَّمثيلِ؛ فإنَّ القَومَ مِن جَهْلِهم بما بعَثَ اللهُ سبحانه رَسولَه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: كالحُمُرِ، فهي لا تَعقِلُ شَيئًا، فإذا سَمِعَت صوتَ الأسَدِ أو الرَّامي نفَرَت منه أشَدَّ النُّفورِ، وهذا غايةُ الذَّمِّ لهؤلاء؛ فإنَّهم نَفَروا عن الهدى الَّذي فيه سعادتُهم وحياتُهم كنُفورِ الحُمُرِ عمَّا يُهلِكُها ويَعقِرُها، وتحتَ المُستَنفِرةِ معنًى أبلَغُ مِنَ النَّافِرةِ؛ فإنَّها لشِدَّةِ نُفورِها قد استنفَرَ بَعضُها بعضًا، وحَضَّه على النُّفورِ، فكأنَّها تواصت بالنُّفورِ، وتواطأَت عليه [311] يُنظر: ((إعلام الموقعين)) لابن القيم (1/126). ويُنظر أيضًا: ((تفسير الزمخشري)) (4/656)، ((تفسير البيضاوي)) (5/263)، ((تفسير أبي حيان)) (10/339)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (21/77)، ((تفسير أبي السعود)) (9/63)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/329)، ((إعراب القرآن وبيانه)) لدرويش (10/293). .
- والسِّينُ والتَّاءُ في مُسْتَنْفِرَةٌ للمُبالَغةِ في الوصْفِ، مِثلُ: استَكمَلَ واستجابَ، واستعْجَبَ واستَسخَرَ، واستَخرَجَ واستَنبَطَ، أي: نافرةٌ نِفارًا قويًّا، فهي تَعْدو بأقْصى سُرعةِ العَدْوِ [312] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/330). .
- وقولُه: مُسْتَنْفِرَةٌ قُرِئَ مُسْتَنْفَرَةٌ بفتْحِ الفاءِ [313] قرأها نافعٌ وابنُ عامرٍ وأبو جعفرٍ بفتحِ الفاءِ، والباقونَ بكسرِها. يُنظر: ((النشر في القراءات العشر)) لابن الجزري (2/393). ، أي: استَنفَرَها مُستنفِرٌ، أي: أنْفَرَها، فهو مِن (استَنْفَره) المُتعدِّي بمعْنى أنْفَرَه، وبِناءُ الفعلِ للنَّائبِ يُفيدُ الإجمالَ ثمَّ التَّفصيلَ بقولِه: فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ، وقُرِئَ بكسْرِ الفاءِ، أي: استَنْفَرَت، هي مِثلُ: استجابَ، فيكونُ جُملةُ فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ بَيانًا لسَببِ نُفورِها [314] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/330). .
- وقَسْوَرَةٍ قِيل: هو اسمُ جمْعِ قَسْوَرٍ، وهو الرَّامي؛ فيَكونُ التَّشبيهُ جارِيًا على مُراعاةِ الحالةِ المشهورةِ في كَلامِ العرَبِ. وقيل: القَسورةُ مُفرَدٌ، وهو الأسَدُ، وعلى هذا فهو تَشبيهٌ مُبتكَرٌ لحالةِ إعراضٍ مَخلوطٍ برُعْبٍ ممَّا تَضمَّنَتْه قَوارعُ القرآنِ. وإيثارُ لَفظِ قَسورةٍ هنا لصَلاحيتِه للتَّشبيهَينِ، مع الرِّعايةِ على الفاصِلةِ [315] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/330). .
3- قولُه تعالَى: بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتَى صُحُفًا مُنَشَّرَةً إضرابٌ انتقاليٌّ لذِكرِ حالةٍ أُخرى مِن أحوالِ عِنادِهم [316] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/331). ، قيل: هو إضرابٌ انتقاليٌّ عن مَحذوفٍ هو جَوابُ الاستفهامِ السَّابقِ، كأنَّه قِيل: فلا جَوابَ لهم عن هذا السُّؤالِ -أي: لا سبَبَ لهم في الإعراضِ- بَلْ يُرِيدُ [317] يُنظر: ((إعراب القرآن وبيانه)) لدرويش (10/292). .
وقيل: هو عطْفٌ على مُقدَّرٍ يَقتضيهِ المقامُ، كأنَّه قيل: لا يَكتفونَ بتلك التَّذكرةِ ولا يَرْضَون بها، بلْ يُريدُ كلُّ واحدٍ منهم... [318] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (9/63). .
- قيل: جَمَعَ صُحُفًا؛ إمَّا لأنَّهم سَأَلوا أنْ يكونَ كلُّ أمرٍ أو نهْيٍ تَأتي الواحدَ منهم في شأنِه صَحيفةٌ، وإمَّا لأنَّهم لَمَّا سَأَلوا أنْ تَأتيَ كلَّ واحدٍ منهم صَحيفةٌ باسمِه، وكانوا جَماعةً مُتَّفِقينَ جُمِعَ لذلك، فكأنَّ الصُّحفَ جَميعُها جاءت لكلِّ امرئٍ منهم [319] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/331). .
- ومُنَشَّرَةً مُبالَغةٌ في مَنْشورةٍ، والمُبالَغةُ واردةٌ على ما يَقتضيهِ فِعلُ (نَشَرَ) المُجرَّدِ مِن كَونِ الكتابِ مَفتوحًا واضحًا مِن الصُّحفِ المُتعارَفةِ [320] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/331). .
4- قولُه تعالَى: كَلَّا بَلْ لَا يَخَافُونَ الْآَخِرَةَ
- كَلَّا إبطالٌ لظاهرِ كَلامِهم ومُرادِهم منه، وردْعٌ عن إرادتِهم تلك، وزَجْرٌ لهم عن اقتِراحِ الآياتِ، أي: لا يكونُ لهم ذلك [321] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/656، 657)، ((تفسير البيضاوي)) (5/263)، ((تفسير أبي حيان)) (10/340)، ((تفسير أبي السعود)) (9/63)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/331)، ((إعراب القرآن وبيانه)) لدرويش (10/292). .
- ثمَّ أضرَبَ على كَلامِهم بإبطالٍ آخَرَ بحرْفِ الإضرابِ، فقال: بَلْ لَا يَخَافُونَ الْآَخِرَةَ، أي: ليس ما قالوه إلَّا تَنصُّلًا، فلو أُنزِلَ عليهم كِتابٌ ما آمَنوا، وهم لا يَخافون الآخرةَ، أي: لا يُؤمِنون بها، فكُنِّيَ عن عدَمِ الإيمانِ بالآخرةِ بعدَمِ الخَوفِ منها؛ لأنَّهم لو آمَنوا بها لَخافوها؛ إذ الشَّأنُ أنْ يُخافَ عَذابُها إذ كانت إحالتُهم الحياةَ الآخرةَ أصْلًا لتَكذيبِهم بالقرآنِ [322] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/331). .
5- قولُه تعالَى: كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ * فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ * وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ
- قولُه: كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ (كَلَّا) ردْعٌ ثانٍ مُؤكِّدٌ للرَّدعِ الَّذي قبْلَه، أي: لا يُؤتَون صُحفًا مَنشورةً، ولا يُوزَعون إلَّا بالقرآنِ [323] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/657)، ((تفسير البيضاوي)) (5/264)، ((تفسير أبي حيان)) (10/340)، ((تفسير أبي السعود)) (9/63)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/332)، ((إعراب القرآن وبيانه)) لدرويش (10/292). .
- وجُملةُ إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ تَعليلٌ للرَّدعِ عن سُؤالِهم أنْ تُنزَّلَ عليهم صُحُفٌ مُنشَّرةٌ، بأنَّ هذا القرآنَ تَذكرةٌ عَظيمةٌ [324] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/332). .
- وتَنكيرُ تَذْكِرَةٌ للتَّعظيمِ، يعْني أنَّه تَذكرةٌ بَليغةٌ كافيةٌ، مُبهَمٌ أمْرُها في الكِفايةِ [325] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/657)، ((تفسير البيضاوي)) (5/264)، ((تفسير أبي السعود)) (9/63)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/332). .
- قولُه: فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ تَفريعٌ على إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ، وهذا تَعريضٌ بالتَّرغيبِ في التَّذكُّرِ، أي: التَّذكُّرُ طَوعُ مَشيئتِكم، فإنْ شِئتُم فتَذَكَّروا [326] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/332). .
- والضَّميرُ الظَّاهرُ في ذَكَرَهُ يجوزُ أنْ يعودَ إلى ما عاد إليه ضَميرُ إِنَّهُ -وهو القرآنُ- فيكونَ على الحَذْفِ والإيصالِ [327] الحذفُ والإيصالُ: هو حذْفُ حرفِ الجرِّ لتضمُّنِ الفِعلِ معنى فِعلٍ مُتعَدٍّ، وهو ما يُعرَفُ عندَ النُّحاةِ بنزْعِ الخافِضِ، وهذا مِن أَسَدِّ وأَدمثِ مذاهبِ العربيَّةِ؛ وذلك أنَّه موضعٌ يَملِكُ فيه المعنى عِنانَ الكلامِ فيأخُذُه إليه، ويُصرِّفُه بحسَبِ ما يُؤثِرُه عليه، مِثلُ قولِه تعالَى: فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ [يس: 66] ؛ فتعديةُ فِعلِ الاستباقِ إليه على حذْفِ (إلى) بطريقةِ الحذفِ والإيصالِ، أو على تَضمينِ (استَبَقوا) معنى (ابْتَدَروا)، أي: ابتَدَروا الصِّراطَ مُتسابِقينَ، أي: مُسرِعينَ لِمَا دهمَهم؛ رجاءَ أن يَصِلوا إلى بُيوتِهم قبْلَ أنْ يَهلِكوا فلمْ يُبصِروا الطَّريقَ، ومِثلُ قولِه عزَّ اسمُه: وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا [الأعراف: 155] ، أي: مِن قومِه. يُنظر: ((المحتسب)) لابن جِنِّي (1/51)، ((الإيضاح)) للقزويني (2/173)، ((السماع والقياس)) لأحمد تَيْمور باشا (ص: 72)، ((تفسير ابن عاشور)) (23/52) و(27/320). ، وأصْلُه: ذَكَر به. ويجوزُ أنْ يعودَ إلى اللهِ تعالَى وإنْ لم يَتقدَّمْ لاسْمِه ذِكرٌ في هذه الآياتِ؛ لأنَّه مُستحضَرٌ مِن المَقامِ [328] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/332). .
- قولُه: فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ إنذارٌ للنَّاسِ بأنَّ التَّذكُّرَ بالقرآنِ يَحصُلُ إذا شاؤوا التَّذكُّرَ به، والمشيئةُ تَستدعي التَّأمُّلَ فيما يُخلِّصُهم مِن المؤاخَذةِ على التَّقصيرِ، وهمْ لا عُذْرَ لهم في إهمالِ ذلك [329] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/332). !
- ومَفعولُ شَاءَ مَحذوفٌ، تَقديرُه: أنْ يَذكُرَه [330] يُنظر: ((إعراب القرآن وبيانه)) لدرويش (10/292). .
- قولُه: وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ مُعترِضةٌ في آخِرِ الكلامِ؛ لإفادةِ تَعلُّمِهم بهذه الحَقيقةِ، والواوُ اعتراضيَّةٌ [331] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/332). .
- وجُملةُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ واقعةٌ مَوقعَ التَّعليلِ لمَضمونِ جُملةِ فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ [المدثر: 55] ؛ تَقويةً للتَّعريضِ بالتَّرغيبِ في التَّذكُّرِ، والتَّذكُّرُ يُفْضي إلى التَّقْوى، فالمعْنى: فعليكمْ بالتَّذكُّرِ، واتَّقوا اللهَ تعالَى؛ لأنَّ اللهَ هو أهلٌ للتَّقوى [332] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/334). .
- وتَعريفُ جُزأَيِ الجُملةِ في قولِه: هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى يُفيدُ قصْرَ مُستحِقِّ اتِّقاءِ العِبادِ إيَّاه على اللهِ تعالَى، وأنَّ غيرَه لا يَستحِقُّ أنْ يُتَّقى ويُتجنَّبَ غضَبُه، كما قال: وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ [الأحزاب: 37] . فإمَّا أنْ يكونَ القصرُ قصْرًا إضافيًّا [333] القَصرُ أو الحَصرُ هو: تَخصيصُ شَيءٍ بشَيءٍ وحصْرُه فيه، ويُسمَّى الأمرُ الأوَّلُ: مَقصورًا، والثَّاني: مقصورًا عليه؛ مِثلُ: إنَّما زَيدٌ قائمٌ، و: ما ضرَبتُ إلَّا زيدًا. وينقسِمُ إلى قَصْرٍ حقيقيٍّ، وقصرٍ إضافيٍّ، وادِّعائيٍّ، وقصرِ قَلْبٍ؛ فالحقيقيُّ هو: أن يختصَّ المقصورُ بالمقصورِ عليه بحسَبِ الحقيقةِ والواقِعِ، بألَّا يتعدَّاه إلى غيرِه أصلًا، مِثلُ: لا إلهَ إلَّا اللهُ، حيثُ قُصِر وصْفُ الإلَهيَّةِ الحقِّ على مَوصوفٍ هو اللهُ وحْدَه، وهذا مِن قصرِ الصِّفةِ على المَوصوفِ، وهو قصرٌ حقيقيٌّ. والقصرُ الإضافيُّ: أن يكونَ المقصورُ عنه شيئًا خاصًّا، يُرادُ بالقصرِ بيانُ عدَمِ صحَّةِ ما تصوَّره بشأنِه أو ادَّعاه المقصودُ بالكلامِ، أو إزالةُ شكِّه وترَدُّدِه، إذا كان الكلامُ كلُّه منحصرًا في دائرةٍ خاصَّةٍ؛ فليس قصرًا حقيقيًّا عامًّا، وإنَّما هو قصرٌ بالإضافةِ إلى موضوعٍ خاصٍّ، يَدورُ حوْلَ احتمالَينِ أو أكثرَ مِن احتمالاتٍ محصورةٍ بعددٍ خاصٍّ، ويُستدَلُّ عليها بالقرائنِ. مِثلُ قولِه تعالى: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ [آل عمران: 144] . والقصرُ الادِّعائيُّ: ما كان القصرُ الحقيقيُّ فيه مبنيًّا على الادِّعاءِ والمبالَغةِ؛ بتنزيلِ غيرِ المذكور منزِلةَ العدَمِ، وقصْرِ الشَّيءِ على المذكورِ وحْدَه. وقَصْرُ القَلبِ: أن يَقلِبَ المتكلِّمُ فيه حُكمَ السَّامعِ؛ كقولِك: ما شاعرٌ إلَّا زَيدٌ، لِمَن يَعتقِدُ أنَّ شاعرًا في قبيلةٍ معيَّنةٍ أو طرَفٍ مُعَيَّنٍ، لكنَّه يقولُ: ما زيدٌ هناك بشاعِرٍ. وللقَصرِ طُرُقٌ كثيرةٌ؛ منها: القصرُ بالنَّفيِ والاستثناءِ، والقصرُ بـ (إنَّما)، والقصرُ بتقديمِ ما حَقُّه التأخيرُ، وغيرُ ذلك. يُنظر: ((مفتاح العلوم)) للسَّكَّاكي (ص: 288)، ((الإيضاح في علوم البلاغة)) للقزويني (1/118) و(3/6)، ((التعريفات)) للجُرْجاني (1/175، 176)، ((الإتقان)) للسيوطي (3/167)، ((جواهر البلاغة)) للهاشمي (ص: 167، 168)، ((موجز البلاغة)) لابن عاشور (ص: 19 - 22)، ((البلاغة العربية)) لعبد الرحمن بن حسن حَبَنَّكة الميداني (1/525). للرَّدِّ على المشرِكين الَّذين يَخشَون غضَبَ الأصنامِ، ويَطلُبون رِضاها، أو يكونَ قصْرًا ادِّعائيًّا [334] القَصرُ أو الحَصرُ هو: تَخصيصُ شَيءٍ بشَيءٍ وحصْرُه فيه، ويُسمَّى الأمرُ الأوَّلُ: مَقصورًا، والثَّاني: مقصورًا عليه؛ مِثلُ: إنَّما زَيدٌ قائمٌ، و: ما ضرَبتُ إلَّا زيدًا. وينقسِمُ إلى قَصْرٍ حقيقيٍّ، وقصرٍ إضافيٍّ، وادِّعائيٍّ، وقصرِ قَلْبٍ؛ فالحقيقيُّ هو: أن يختصَّ المقصورُ بالمقصورِ عليه بحسَبِ الحقيقةِ والواقِعِ، بألَّا يتعدَّاه إلى غيرِه أصلًا، مِثلُ: لا إلهَ إلَّا اللهُ، حيثُ قُصِر وصْفُ الإلَهيَّةِ الحقِّ على مَوصوفٍ هو اللهُ وحْدَه، وهذا مِن قصرِ الصِّفةِ على المَوصوفِ، وهو قصرٌ حقيقيٌّ. والقصرُ الإضافيُّ: أن يكونَ المقصورُ عنه شيئًا خاصًّا، يُرادُ بالقصرِ بيانُ عدَمِ صحَّةِ ما تصوَّره بشأنِه أو ادَّعاه المقصودُ بالكلامِ، أو إزالةُ شكِّه وترَدُّدِه، إذا كان الكلامُ كلُّه منحصرًا في دائرةٍ خاصَّةٍ؛ فليس قصرًا حقيقيًّا عامًّا، وإنَّما هو قصرٌ بالإضافةِ إلى موضوعٍ خاصٍّ، يَدورُ حوْلَ احتمالَينِ أو أكثرَ مِن احتمالاتٍ محصورةٍ بعددٍ خاصٍّ، ويُستدَلُّ عليها بالقرائنِ. مِثلُ قولِه تعالى: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ [آل عمران: 144] . والقصرُ الادِّعائيُّ: ما كان القصرُ الحقيقيُّ فيه مبنيًّا على الادِّعاءِ والمبالَغةِ؛ بتنزيلِ غيرِ المذكور منزِلةَ العدَمِ، وقصْرِ الشَّيءِ على المذكورِ وحْدَه. وقَصْرُ القَلبِ: أن يَقلِبَ المتكلِّمُ فيه حُكمَ السَّامعِ؛ كقولِك: ما شاعرٌ إلَّا زَيدٌ، لِمَن يَعتقِدُ أنَّ شاعرًا في قبيلةٍ معيَّنةٍ أو طرَفٍ مُعَيَّنٍ، لكنَّه يقولُ: ما زيدٌ هناك بشاعِرٍ. وللقَصرِ طُرُقٌ كثيرةٌ؛ منها: القصرُ بالنَّفيِ والاستثناءِ، والقصرُ بـ (إنَّما)، والقصرُ بتقديمِ ما حَقُّه التأخيرُ، وغيرُ ذلك. يُنظر: ((مفتاح العلوم)) للسَّكَّاكي (ص: 288)، ((الإيضاح في علوم البلاغة)) للقزويني (1/118) و(3/6)، ((التعريفات)) للجُرْجاني (1/175، 176)، ((الإتقان)) للسيوطي (3/167)، ((جواهر البلاغة)) للهاشمي (ص: 167، 168)، ((موجز البلاغة)) لابن عاشور (ص: 19 - 22)، ((البلاغة العربية)) لعبد الرحمن بن حسن حَبَنَّكة الميداني (1/525). لتَخصيصِه تعالَى بالتَّقْوى الكاملةِ الحقِّ؛ وإلَّا فإنَّ بعضَ التَّقْوى مأمورٌ بها، كتَقْوى حُقوقِ ذوي الأرحامِ في قَولِه تعالَى: وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ [النساء: 1] . وقد يُقالُ: إنَّ ما ورَدَ الأمرُ به مِن التَّقوى في الشَّريعةِ راجِعٌ إلى تَقْوى اللهِ، وهذا مِن مُتمِّماتِ القصْرِ الادِّعائيِّ [335] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/334). .
- وهذا تَعريضٌ بالتَّحريضِ للمشرِكين أنْ يُقلِعوا عن كُفْرِهم بأنَّ اللهَ يَغفِرُ لهم ما أسْلَفوه؛ قال تعالَى: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ [الأنفال: 38] ، وبالتَّحريضِ للعُصاةِ أنْ يُقلِعوا عن الذُّنوبِ؛ قال تعالَى: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [336] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/334). [الزمر: 53] .
- وأُعِيدَت كَلمةُ أَهْلُ في الجُملةِ المعطوفةِ دونَ أنْ يُقالَ: (والمَغفرةِ)؛ للإشارةِ إلى اختلافِ المعْنى بيْن (أهْلٍ) الأوَّلِ و(أهْلٍ) الثَّاني، على طَريقةِ إعادةِ فِعلِ وَأَطِيعُوا في قولِه تعالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ [337] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/335). [النساء: 59] .