موسوعة التفسير

سورةُ الشُّعَراءِ
الآيات (1-9)

ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ

غَريبُ الكَلِماتِ:

بَاخِعٌ: أي: قاتِلٌ، قيل: البَخْعُ: أن يبلُغَ بالذَّبحِ البِخاعَ، وهو عِرقٌ مستبطِنٌ القَفا، وذلك أقصَى حدِّ الذَّبحِ [5] قال ابنُ الأثير: (ذَكَره [أي الزمخشري] في كتابِ الفائِقِ فِي غريبِ الحديثِ، وكتابِ الكشَّافِ في تفسيرِ القرآنِ، ولم أجدْه لغيرِه وطالما بحثْتُ عنه في كتب اللُّغةِ والطِّبِّ والتَّشريحِ فلم أجِدِ البخاعَ -بالباءِ- مذكورًا في شيءٍ منها). ((النهاية في غريب الحديث والأثر)) (1/102). وأجاب عن ذلك الألوسي وابنُ عاشورٍ بأنَّ الزمخشريَّ ثقةٌ في هذا البابِ واسعُ الاطلاعِ، حجةٌ فيما أثبتَه من ذلك. يُنظر: ((تفسير الألوسي)) (8/196)، ((تفسير ابن عاشور)) (15/254) .   ، وأصلُ (بخع): يدُلُّ على القَتلِ [6] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 263)، ((تفسير ابن جرير)) (15/149)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 124)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/206)، ((تفسير الزمخشري)) (3/298)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 210)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 271).   .
خَاضِعِينَ: أي: ذَليلينَ، وأصلُ (خضع): يدُلُّ على تَطامُنٍ في الشَّيءِ [7] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/545)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/189)، ((المفردات)) للراغب (ص: 286).   .
مُحْدَثٍ: أي: مُجَدَّدٍ إنزالُه، وأصلُ (حدث): يدُلُّ على كَونِ الشَّيءِ بعدَ أنْ لم يكُنْ [8] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/36)، ((المفردات)) للراغب (ص: 222)، ((الكليات)) لأبي البقاء الكفوي (ص: 884).   .
زَوْجٍ كَرِيمٍ: أي: صِنفٍ ونوعٍ حسنٍ، وكلُّ شيءٍ شرُف في بابِه فإنَّه يُوصَفُ بالكرمِ [9] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 316)، ((تفسير ابن جرير)) (17/549)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 391)، ((تفسير السمعاني)) (4/228)، ((المفردات في غريب القرآن)) للراغب (ص: 385، 707)، ((تفسير الرسعني)) (5/371).   .

المعنى الإجماليُّ:

ابتدأت السُّورةُ بالحُروفِ المقطَّعةِ، التي تُبيِّنُ إعجازَ القرآنِ؛ وتُبرِزُ عجزَ الخَلْقِ عن معارضتِه بالإتيانِ بشيءٍ مِن مثلِه، مع أنَّه مركَّبٌ مِن هذه الحروفِ العربيَّةِ التي يَتحدَّثون بها!
 ثمَّ قال الله تعالى: تلك آياتُ القُرآنِ الواضِحِ، المُظهرِ للحَقِّ.
 ثمَّ خاطَب الله تعالى رسولَه صلَّى الله عليه وسلَّم بما يُسلِّيه عن تكذيبِ المشركينَ له، فقال: لعلَّك -يا محمَّدُ- مُهلِكٌ نفْسَك غمًّا وأسَفًا؛ بسَبَبِ تَكذيبِ الكافرينَ لك، وعَدَمِ إيمانِهم بدَعوتِك، إنْ نَشَأْ ننَزِّلْ على هؤلاء المُشرِكين مُعجِزةً ظاهِرةً مِن السَّماءِ تُلجِئُهم إلى الإيمانِ، فيَنقادوا للحَقِّ مقهورين.
ثمَّ بيَّن سبحانَه ما عليه هؤلاءِ الكافرونَ مِن عنادٍ وجحودٍ، وبيَّن سوءَ عاقبتِهم، فقال: كُلَّما جاءهم قُرآنٌ مُحدَثٌ تَنزيلُه عليك -أيُّها الرَّسولُ- أعرَضوا عنه فلم يُؤمِنوا به، فقد كذَّب هؤلاء الكُفَّارُ بالقُرآنِ الذي جاءهم مِن عندِ الله، فسيأتيهم عاقِبةُ ما كذَّبوا واستَهزؤوا به.
ثمَّ وبَّخهم سبحانَه على غفلتِهم عن التفكُّرِ في هذا الكونِ، فقال: أوَلم يَرَ أولئك المُشرِكون إلى ما أنبَتْنا في الأرضِ مِن الأصنافِ الكثيرةِ الكريمةِ الطيِّبةِ النَّافعةِ، إنَّ في ذلك لَدَلالةً على كَمالِ قُدرةِ الله تعالى، وما كان أكثَرُ هؤلاء المُشرِكين مُؤمِنينَ، وإنَّ ربَّك -يا محمَّدُ- لهو الغالِبُ القاهِرُ المنتَقِمُ مِن أعدائِه، الواسِعُ الرَّحمةِ بعبادِه، فلا يُعاجِلُهم بعُقوبتِه.

تَفسيرُ الآياتِ:

طسم (1)  .
هذه الحروفُ المقطَّعةُ التي افتُتِحَت بها هذه السُّورةُ وغيرُها، تأتي لبيانِ إعجازِ القرآنِ؛ حيثُ تُظهِرُ عجْزَ الخَلْقِ عن معارضتِه بمثلِه، مع أنَّه مركَّبٌ مِن هذه الحروفِ العربيَّةِ التي يتحدَّثونَ بها [10] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (1/160)، ((تفسير ابن عاشور)) (1/206)، ((تفسير ابن عُثيمين- الفاتحة والبقرة)) (1/24).   .
تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (2).
أي: تلك آياتُ القرآنِ البَيِّنِ، الواضِحِ صِدقُه، المُظهِرِ ببَيانِه ما فيه مِن الهُدى والحَقِّ [11] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (6/135)، ((نظم الدرر)) للبِقَاعي (14/1-3)، ((تفسير السعدي)) (ص: 589)، ((تفسير ابن عاشور)) (19/92)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الشعراء)) (ص: 14-17).   .
لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (3).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
لَمَّا ذكَرَ الله تعالى أنَّه بيَّن الأمورَ قال بعْدَه: لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ، منبِّهًا بذلك على أنَّ الكتابَ وإنْ بلَغَ في البيانِ كلَّ غايةٍ فغيرُ مُدخِلٍ لهم في الإيمانِ؛ لِمَا أنَّه سبَقَ حُكْمُ اللهِ بخِلافِه، فلا تُبالِغْ في الحزنِ والأسَفِ على ذلك؛ لأنَّك إنْ بالَغْتَ فيه كنتَ بمنزلةِ مَن يَقتُلُ نفْسَه ثمَّ لا يَنتفِعُ بذلك أصلًا، فصَبَّرَه وعَزَّاهُ وعرَّفَه أنَّ غَمَّه وحزنَه لا نفعَ فيه، كما أنَّ وُجودَ الكِتابِ على بيانِه ووُضوحِه لا نفعَ لهم فيه [12] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (24/490).   .
لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (3) .
أي: لعلَّك [13] قال ابن عطية: (وخُوطِب بـ «لعل» على ما في نفوسِ البشَرِ مِن توقُّعِ الهلاكِ في مِثلِ تلك الحالِ، ومعنى الآيةِ أي: لا تهتَمَّ -يا محمَّدُ- بهم، وبلِّغْ رسالتَك، وما عليك مِن إيمانِهم؛ فإنَّ ذلك بيدِ الله، لو شاء لآمَنوا). ((تفسير ابن عطية)) (4/224). وقال ابن عاشور: (و«لعَلَّ» إذا جاءت في ترجِّي الشيءِ المَخُوفِ سُمِّيت إشفاقًا وتوقُّعًا). ((تفسير ابن عاشور)) (19/93). وقال ابن عثيمين: («لعلَّ»... هنا للإشفاقِ، مثلُ أن تقولَ: «لعلَّ الحبيبَ هالكٌ»، فلا يمكِنُ أن يكونَ قَصدُك ترجِّيَ أن يَهلِكَ حَبيبُك، لكِنَّك تُشفِقُ. واللهُ تعالى أشفقَ على نبيِّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم من أن يُهلِكَ نفْسَه -يقتُلها مِن الغَمِّ- بسببِ عدَمِ إيمانِهم، والرَّسولُ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ يُعاني مِن عدمِ إيمانِهم، ومِن المشقَّةِ الشَّديدةِ، ويَحزَنُ، ويَضيقُ صَدرُه). ((تفسير ابن عثيمين- سورة الشعراء)) (ص: 20). -يا محمَّدُ- مُهلِكٌ نفْسَك غمًّا وأسَفًا؛ لعَدَمِ إيمانِ قَومِك بما جِئتَهم به مِن الحَقِّ، فلا تُهلِكْ نفْسَك بحُزنِك عليهم؛ فما عليك إلَّا البلاغُ، واللهُ يَهدي مَن يشاءُ [14] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/543)، ((تفسير السمرقندي)) (2/549)، ((تفسير القرطبي)) (13/89)، ((تفسير ابن كثير)) (6/135)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (14/6)، ((تفسير السعدي)) (ص: 589). وقال البِقاعي: (فكان كأنَّه قيل: هذا الكتابُ في غايةِ البيانِ في نفْسِه والإبانةِ للغيرِ، و... أنَّه ليس عليك إلَّا البلاغُ، أتخافُ وتُشفِقُ على نفْسِك من الهلاك غمًّا؛ تأسفًا على عدمِ إيمانِهم، والحالُ أنَّا لو شئنا لهديناهم طَوعًا أو كَرهًا، والظَّاهِرُ أنَّ جملةَ الإشفاقِ في موضِعِ حالٍ مِن اسمِ الإشارةِ، كما أنَّ الآية التي بعْدَها في موضعِ الحالِ منها، أي: نحن نشيرُ إلى الآياتِ المبيِّنةِ لمُرادِنا فيهم، والحالُ أنَّك -لمزيدِ حِرصِك على نفعِهم- بحالٍ يُشفِقُ فيها عليك مَن لا يعلَمُ الغَيبَ مِن أن تقتُلَ نفْسَك غمًّا لإبائِهم الإيمانَ، والحالُ أنَّا لو شِئْنا أتَيْناهم بما يَقهَرُهم ويُذِلُّهم للإيمانِ وغيرِه). ((نظم الدرر)) (14/7).   .
كما قال تعالى: فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آَثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا [الكهف: 6] .
وقال سُبحانَه: وَمَنْ كَفَرَ فَلَا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ [لقمان: 23] .
وقال عزَّ وجلَّ: أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآَهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ [فاطر: 8] .
إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آَيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ (4).
أي: لو شِئْنا لأنزَلْنا على هؤلاءِ الكُفَّارِ مُعجِزةً ظاهِرةً مِن السَّماءِ تَضطرُّهم إلى الإيمانِ، فينقادوا للحَقِّ قَهرًا، ولكِنْ أراد اللهُ بحكمتِه أن يكونَ إيمانُ كُلِّ أحدٍ اختياريًّا [15] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/548)، ((تفسير القرطبي)) (13/89)، ((تفسير ابن كثير)) (6/135)، ((تفسير السعدي)) (ص: 589)، ((تفسير ابن عاشور)) (19/95، 96).   .
كما قال تعالى: وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآَمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ * وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ [يونس: 99، 100].
وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ (5).
أي: وإذا أتى الكُفَّارَ قُرآنٌ حَديثُ النُّزولِ مِن الرَّحمنِ؛ لِيَتذكَّروا ويتَّعِظوا ويتَّبِعوه، أعرَضوا عنه، فلم يُؤمِنوا به ولم يتدَبَّروه [16] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/549)، ((تفسير البغوي)) (3/462)، ((تفسير البيضاوي)) (4/133)، ((تفسير أبي السعود)) (6/234)، ((تفسير السعدي)) (ص: 589)، ((تفسير ابن عاشور)) (19/95، 96). قال ابن عثيمين: (وهذا الإعراضُ معنويٌّ وحِسيٌّ، يشملُ الأمْرين؛ فهم مُعرِضون وإن حَضَروا بأبدانهم، ومُعرِضون أيضًا بأبدانِهم يقومون عنه، قال تعالى: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآَنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ [فصلت: 26]، فهم معرضون -والعياذُ بالله- في قلوبِهم وأبدانِهم). ((تفسير ابن عثيمين- سورة الشعراء)) (ص: 29). ويُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 589).   !
فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (6).
أي: فقد كذَّب الكُفَّارُ بالقُرآنِ الذي جاءهم مِن عندِ اللهِ، فسيأتيهم في المُستقبَلِ صِدقُ أخبارِ القُرآنِ الذي استَهزؤوا به؛ من هَلاكِهم، ونَصرِ اللهِ نَبيَّه، والبَعثِ في الآخرةِ، ودُخولِهم النَّارَ [17] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/549)، ((تفسير القرطبي)) (13/90)، ((الجواب الصحيح)) لابن تيميَّة (1/413)، ((تفسير ابن كثير)) (6/136)، ((تفسير السعدي)) (ص: 589)، ((تفسير ابن عاشور)) (19/99)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الشعراء)) (ص: 31).   .
كما قال تعالى: وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ * لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ [الأنعام: 66، 67].
أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (7).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
لَمَّا كان إعراضُهم عن الإيمانِ بالله الخالقِ لهذا الوجودِ، وتكذيبُ ما جاءَتْهم به رسُلُه؛ مِن أعظمِ الكفرِ، وكانوا يجعلونَ الأصنامَ آلهةً؛ نَبَّهَ تعالى على قدرتِه، وأنَّه الخالقُ المنشئُ الذي يَستحِقُّ العبادةَ، فقال تعالى [18] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (8/141).   :
أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (7).
أي: أولم يَرَ [19] قال ابنُ عثيمين: (تحتَمِل المعنيَينِ؛ الرؤيةَ الحِسِّيةَ: إذا نظَر بعَينِه هو. والعِلميَّةَ: إذا عَلِمَ بذلك مِن غيرِه؛ لأنَّ هناك أشياءَ لا نعلَمُها مِمَّا يَنبتُ في الأرض، يعني: لا نراها ولكِنَّنا نُخبَرُ بها، فالأولَى أن يقال: إنه شامِلٌ للنظرِ بالعَينِ، والنظَرِ بالقلبِ الذي هو العِلمُ). ((تفسير ابن عثيمين- سورة الشعراء)) (ص: 32). ممَّن اختار أنَّ المعنَى: أوَ لم يَنظُروا: السمرقنديُّ، والكرماني، والبيضاوي، والشوكاني، والألوسي. يُنظر: ((تفسير السمرقندي)) (2/550)، ((تفسير الكرماني)) (2/828)، ((تفسير البيضاوي)) (4/133)، ((تفسير الشوكاني (4/110)، ((تفسير الألوسي)) (10/61). وقال القرطبي: (قوله تعالى: أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ نبَّه على عظَمتِه وقدرتِه، وأنَّهم لو رأوا بقلوبِهم، ونظَروا ببصائرِهم لعَلِموا أنَّه الذي يَستحقُّ أنْ يُعبَدَ؛ إذ هو القادرُ على كلِّ شيءٍ). ((تفسير القرطبي)) (13/90). أولئك المُشرِكون إلى الأرضِ، فيتفَكَّروا في كثرةِ ما أنبَتْنا فيها مِن الأصنافِ الطيِّبةِ الحَسَنةِ النَّافعةِ [20] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/549)، ((تفسير القرطبي)) (13/90)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (16/294)، ((تفسير ابن كثير)) (6/136)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (14/10، 11)، ((تفسير السعدي)) (ص: 589)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (6/86).   ؟!
إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (8) .
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
لَمَّا كان ما سبَقَ باهرًا للعَقلِ، مُنَبِّهًا له في كلِّ حالٍ على عَظيمِ اقتِدارِ صانِعِه، وبَديعِ اختيارِه؛ وصَلَ به قولَه [21] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (14/11).   :
إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً.
أي: إنَّ في إحياءِ الأرضِ وإنباتِها بعدَ مَوتِها لَدَلالةً على قُدرةِ اللهِ على إحياءِ الموتى [22] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/550)، ((تفسير القرطبي)) (13/91)، ((تفسير السعدي)) (ص: 589). قال البقاعي: (إِنَّ فِي ذَلِكَ أي: الأمرِ العَظيمِ مِن الإنباتِ، وما تقَدَّمَه مِن العِظاتِ على كثرتِه لَآَيَةً أي: عَلامةً عظيمةً جدًّا لهم على تمامِ القُدرةِ على البَعثِ وغَيرِه، كافيةً في الدعاءِ إلى الإيمانِ، والزَّجرِ عن الطُّغيانِ). ((نظم الدرر)) (14/11).   .
كما قال تعالى: وَآَيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ * وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ * لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلَا يَشْكُرُونَ * سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ [يس: 33 - 36].
وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ.
أي: وما أكثَرُ هؤلاء المُشرِكين بمؤمِنينَ باللهِ تعالى وآياتِه [23] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/550)، ((تفسير القرطبي)) (13/91)، ((تفسير ابن كثير)) (6/136). قال ابن عثيمين: (قال: وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ فلا ينتَفِعُ بالآيةِ إلَّا المؤمِنُ، فإذا لم ينتفِعْ بها أحدٌ ما صارت بالنسبةِ إليه آيةً؛ ولهذا قيَّدَها بقَولِه: وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ أي: لا ينتَفِعونَ بها). ((تفسير ابن عثيمين- سورة الشعراء)) (ص: 35).   .
كما قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ * وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آَيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ [يونس: 96، 97].
وقال سُبحانَه: وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ [يوسف: 103].
وقال عزَّ وجلَّ: وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ [هود: 17] .
وقال تبارك وتعالى: لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ [يس: 7] .
وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (9).
أي: وإنَّ ربَّك -يا محمَّدُ- لهُو القويُّ الغالِبُ، القاهِرُ المنتَقِمُ مِن أعدائِه، الرَّحيمُ بعبادِه، فلا يعاجِلُهم بعِقابِه، ويقبَلُ تَوبةَ مَن آمَنَ به، وينَجِّي أولياءَه مِن عَذابِه [24] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/551)، ((تفسير القرطبي)) (13/91)، ((تفسير ابن كثير)) (6/136).   .

الفَوائِدُ التَّربويَّةُ:

لا يَنبغي أنْ نَجزَعَ إذا ذكَّرْنا إنسانًا ووجَدْناه يُعانِدُ أو يُخاصمُ أو يقولُ: «أنا أعمَلُ ما شئتُ» أو ما أشبهَ ذلك؛ قال الله تعالى لنبيِّه: لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ لا تُهْلِكْ نفسَك إذا لم يؤمِنوا؛ إيمانُهم لهم، وكُفرُهم ليس عليك [25] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 182).   .

الفَوائِدُ العِلميَّةُ واللَّطائِفُ:

1- في قَولِه تعالى: إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آَيَةً  دليلٌ على إثباتِ الحِكمةِ؛ لأنَّ اللهَ لم يُنَزِّلْ هذه الآيةَ؛ لأنَّه لو أنزَلها لكان الإيمانُ اضطراريًّا، والإيمانُ الاضطراريُّ لا مَدحَ فيه ولا ثناءَ، بل لا يَنفَعُ صاحبَه؛ فلهذا إذا آمَنَ الإنسانُ عندَ ملاقاةِ الموتِ ما نفعَه، وبعدَ طلوعِ الشَّمسِ مِن مغربِها ما نفعَه! نعم، لا يَنفَعُ إلَّا إذا كان الإيمانُ اختياريًّا، ولَمَّا نَتَقَ اللهُ الجبلَ فوقَ بني إسرائيلَ آمَنوا، ولكنَّ هذا الإيمانَ لا شَكَّ أنَّه ضعيفٌ؛ لأنَّه إيمانٌ اضطراريٌّ، فمِنْ حكمةِ اللهِ سبحانه وتعالى أنَّه لم يُنَزِّلْ هذه الآيةَ ليَكونَ الإيمانُ عن اختيارٍ، لا عن اضطرارٍ [26] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الشعراء)) (ص: 24).   .
2- قال الله تعالى: إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آَيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ إنْ قيل: لِماذا لم يُرِهم آيةً كما أُرِيَ بنو إسرائيلَ نَتْقَ الجبَلِ فوقَهم كأنَّه ظُلَّةٌ؟
الجواب: كان بنو إسرائيلَ مُؤمِنينَ بموسى وما جاء به، فلم يكنْ إظهارُ الآياتِ لهم لإلجائِهم على الإيمانِ، ولكِنَّه كان لزيادةِ تثبيتِهم، كما قال إبراهيمُ عليه السلامُ: أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى [27] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (19/95).   [البقرة: 260] .
3- في قَولِه تعالى: إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آَيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ دليلٌ على أنَّ الأسبابَ مؤثِّرةٌ؛ لأنَّه إذا نزلَتِ الآيةُ خَضَعوا، وهذا دليلٌ على ثبوتِ الأسبابِ وأنَّها مؤثِّرةٌ [28] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الشعراء)) (ص: 24).   .
4- في قَولِه تعالى: وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ * فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ أنَّه تعالى وصَفَ الكُفَّارَ بالإعراضِ أوَّلًا، وبالتَّكذيبِ ثانيًا، وبالاستِهزاءِ ثالثًا؛ وهذه درجاتُ مَن أخذَ يترقَّى في الشَّقاوةِ؛ فإنَّه يُعرِضُ أولًا، ثم يُصَرِّحُ بالتَّكذيبِ والإنكارِ إلى حيثُ يَستهزئُ به ثالثًا [29] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (24/492).   .
5- قال تعالى: أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ أنواعُ النَّباتِ المذكورةُ في هذه الآيةِ دالَّةٌ على وَحدانيَّةِ اللهِ؛ لأنَّ هذا الصُّنعَ الحَكيمَ لا يَصدُرُ إلَّا عن واحدٍ لا شريكَ له. وهذا دَليلٌ مِن طريقِ العقْلِ، ودليلٌ أيضًا على إمكانِ البعثِ؛ لأنَّ الإنباتَ بعدَ الجَفافِ مثيلٌ لإحياءِ الأمواتِ بعدَ رُفاتِهم؛ كما قال تعالى: وَآَيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا [يس: 33] . وهذا دَليلٌ تقْريبيٌّ للإمكانِ؛ فكان في آيةِ الإنباتِ تَنبيهٌ على إبطالِ أصْلَيْ عدَمِ إيمانِهم؛ وهما: أصْلُ الإشراكِ باللهِ، وأصلُ إنكارِ البعثِ [30] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (19/100، 101).   .
6- قال الله تعالى: أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ * إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ فإنْ قيل: حين ذُكِرَ الأزواجُ ودَلَّ عليها بكلمتَي الكثرةِ والإحاطةِ، وكانت بحيث لا يُحصيها إلَّا عالِمُ الغَيبِ، كيف قال: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً وهلَّا قال: (آيات)؟
فالجوابُ من عدَّةِ أوجُهٍ:
الأول: أن يكونَ ذلك مُشارًا به إلى مصدرِ أَنْبَتْنَا، فكأنَّه قال: إنَّ في الإنباتِ لآيةً أيَّ آيةٍ، فالمُشارُ إليه واحدٌ، وهو الإنباتُ، وإنِ اختلَفَت مُتعلَّقاتُه.
الثاني: أن يُرادَ: إنَّ في كُلِّ واحدةٍ مِن تلك الأزواجِ لَآيةً؛ فيَكونَ على التَّوزيعِ [31] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/301)، ((تفسير أبي حيان)) (7/142)، ((تفسير أبي السعود)) (6/235)، ((تفسير ابن عاشور)) (19/102).   .
الثالث: لعلَّه وحَّدها على كثرتِها إشارةً إلى أنَّ الدَّوالَّ عليه متساويةُ الأقدامِ في الدَّلالةِ، فالراسخون تُغنيهم واحدةٌ، وغيرُهم لا يَرجعون لشيءٍ [32] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (14/11).   .
7- في قَولِه تعالى: وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ خَتَمَ اللهُ تعالى بعِزَّتِه ورحمتِه؛ لِيَجمعَ بيْنَ الترغيبِ والترهيبِ؛ التَّرهيبِ بالعِزَّةِ، والتَّرغيبِ بالرَّحمةِ [33] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الشعراء)) (ص: 37).   .
8- في قوله تعالى: الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ الجمعُ هنا بينَ هاتينِ الصِّفتينِ «العِزَّةِ، والرَّحمةِ» للتناسُبِ البالغِ؛ لأنَّ مِن اجتماعِهما يحصلُ الكمالُ، فهو بعِزَّتِه ذو رحمةٍ؛ فلو قارنَّا بينَ العزةِ والرحمةِ في صفاتِ المخلوقينَ لوجَدْنا أنَّهما لا يجتمعان في الغالبِ؛ وأنَّ العزيزَ الذي يَرى نفْسَه قاهرًا: في الغالبِ لا تكونُ فيه رحمةٌ، فاجتماعُ الصِّفتينِ يحصلُ بهما كمالٌ على الكمالِ، عِزَّةٌ ورحمةٌ، ثم اجتماعُهما كمالٌ، فيكونُ مع العِزَّةِ رحيمًا لا يُؤاخِذُ ولا يَنتقِمُ؛ ولهذا لم يُعَجِّلِ اللهُ سبحانه وتعالى العقوبةَ للظالمِ، ولكنَّه بحكمتِه يُمْلي له حتَّى إذا أخَذَه لم يُفْلِتْه [34] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الشعراء)) (ص: 37).   .

بلاغةُ الآياتِ:

1- قولُه تعالى: طسم المقصودُ بهذه الحروفِ المُقطَّعةِ: التَّعريضُ بإلْهابِ نُفوسِ المُنكِرينَ لِمُعارَضةِ بعضِ سُورِ القرآنِ بالإتيانِ بمِثْلِه في بَلاغتِه وفصاحتِه، وتحدِّيهم بذلك، وتسجيلِ عجْزِهم عن ذلك [35] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (19/91).   .
2- قولُه تعالى: تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ
- قولُه: تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ الإشارةُ بـ تِلْكَ إلى الحاضرِ في الأذهانِ مِن آياتِ القرآنِ المُنزَّلِ مِن قبْلُ، وبيَّنَه الإخبارُ عن اسمِ الإشارةِ بأنَّها آياتُ الكتابِ [36] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (19/92).   ، وما في اسمِ الإشارةِ مِن معنى البُعدِ؛ للتَّنبيهِ على بُعدِ منزلةِ المُشارِ إليه في الفَخامةِ [37] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/233).   .
3- قولُه تعالى: لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ الكلامُ استئنافٌ بَيانيٌّ، وقَع جوابًا عمَّا يُثِيرُه مَضمونُ تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ مِن تساؤُلِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم في نفْسِه عن استمرارِ إعراضِ المُشركينَ عن الإيمانِ وتصديقِ القرآنِ. وحُوِّلَ الخِطابُ مِن تَوجيهِه إلى المعاندينَ إلى تَوجيهِه للرَّسولِ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ، وهو نوعٌ مِن الالْتفاتِ؛ فيه الْتفاتٌ مِن أُسلوبٍ إلى أُسلوبٍ، والْتفاتٌ عمَّن كان الكلامُ مُوجَّهًا إليه بتَوجيهِ الكلامِ إلى شخصٍ آخَرَ [38] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (14/241) و(19/93).   .
- قولُه: لَعَلَّكَ (لعلَّ) للإشفاقِ عليه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم [39] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/299)، ((تفسير البيضاوي)) (4/133)، ((تفسير أبي السعود)) (6/233).   ، وهو حثٌّ على ترْكِ الأسفِ مِن ضَلالِهم، على طريقةِ تَمثيلِ شأْنِ المُتكلِّمِ الحاثِّ على الإقلاعِ بحالِ مَن يَستقرِبُ حُصولَ هَلاكِ المُخاطَبِ إذا استمرَّ على ما هو فيه مِن الغَمِّ [40] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (19/93).   .
- قولُه: أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ جِيءَ بمُضارعِ الكَونِ؛ للإشارةِ إلى أنَّه لا يأسَفُ على عدَمِ إيمانِهم ولوِ استمرَّ ذلك في المُستقبَلِ؛ فيكونُ انتفاؤُه فيما مَضى أوْلى بألَّا يُؤسَفَ له. وعدَلَ عن (ألَّا يُؤمِنوا) إلى أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ؛ لأنَّ في فِعلِ الكونِ دَلالةً على الاستمرارِ، زِيادةً على ما أفادَتْه صِيغةُ المُضارعِ، فتأكَّدَ استمرارُ عدَمِ إيمانِهم الَّذي هو مَورِدُ الإقلاعِ عن الحُزنِ له [41] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (19/94).   .
- وضَميرُ يَكُونُوا عائدٌ إلى معلومٍ مِن مقامِ التَّحدِّي الحاصلِ بقولِه: طسم * تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ [الشعراء: 1، 2]؛ للعلْمِ بأنَّ المُتحدَّيْنَ هم الكافِرونَ المُكذِّبون [42] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (19/94).   .
- وحُذِفَ مُتعلَّقُ مُؤْمِنِينَ؛ إمَّا لأنَّ المُرادَ: مُؤمنينَ بما جِئتَ به مِن التَّوحيدِ والبعثِ، وتَصديقِ القرآنِ وتصديقِ الرَّسولِ، وإمَّا لأنَّه أُرِيدَ بـ مُؤْمِنِينَ المعنى اللَّقبِيُّ، أي: ألَّا يَكونوا في عِدادِ الفريقِ المعروفِ بالمؤمنينَ، وهم أمَّةُ الإسلامِ [43] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (19/94).   .
- وقد جاء في سُورةِ (الكهفِ): فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آَثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا [الكهف: 6] بحرْفِ نفْيِ الماضي وهو (لَمْ)؛ لأنَّ سُورةَ (الكهفِ) مُتأخِّرةُ النُّزولِ عن سُورةِ (الشُّعراءِ)؛ فعدَمُ إيمانِهم قد تقرَّرَ حينَئذٍ، وبلَغَ حدَّ المأْيوسِ منه [44] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (19/94).   .
4- قولُه تعالى: إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آَيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ
- قولُه: إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ ... استِئنافٌ مَسوقٌ لتَعليلِ ما يُفْهَمُ مِن الكلامِ مِن النَّهيِ عن التَّحسُّرِ المذكورِ، ببَيانِ أنَّ إيمانَهم ليس ممَّا تعلَّقتْ به مَشيئةُ اللهِ تعالى حتْمًا؛ فلا وجْهَ للطَّمعِ فيه، والتَّألُّمِ مِن فَواتِه [45] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/233).   .
- وهو استئنافٌ بَيانيٌّ ناشئٌ عن أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ؛ لأنَّ التَّسليةَ على عدَمِ إيمانِهم تُثِيرُ في النَّفسِ سُؤالًا عن إمهالِهم دونَ عُقوبةٍ لِيُؤمِنوا، كما قال موسى: رَبَّنَا إِنَّكَ آَتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ [يونس: 88] ، فأُجِيبَ بأنَّ اللهَ قادرٌ على ذلك. فهذا الاستئنافُ اعتراضٌ بيْنَ الجُملتينِ المعطوفةِ إحداهما على الأُخرى [46] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (19/94).   .
- وجِيءَ بحرْفِ (إنْ) الَّذي الغالبُ فيه أنْ يُشعِرَ بعدَمِ الجزْمِ بوُقوعِ الشَّرطِ؛ للإشعارِ بأنَّ ذلك لا يَشاؤُه اللهُ لحِكمةٍ اقتضَتْ ألَّا يَشاءَه [47] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (19/95).   .
- ومفعولُ نَشَأْ محذوفٌ، يدُلُّ عليه جوابُ الشَّرطِ على الطَّريقةِ الغالبةِ في حذْفِ مفعولِ فِعلِ المشيئةِ. والتَّقديرُ: إنْ نشَأْ تَنزيلَ آيةٍ نُنزِّلْها [48] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/233)، ((تفسير ابن عاشور)) (19/95).   ، وقيل: إنْ نشَأْ إيمانَهم [49] يُنظر: ((تفسير النسفي)) (2/554).   .
- وتَقديمُ الظَّرفينِ -عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ- على المفعولِ الصَّريحِ آَيَةً؛ للاهتمامِ بالمُقدَّمِ، والتَّشويقِ إلى المُؤخَّرِ [50] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/233، 234).   .
- قولُه: فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ أصْلُ الكلامِ: فظَلُّوا لها خاضعينَ، فأُقحِمَتِ الأعناقُ لبَيانِ مَوضعِ الخُضوعِ، وتُرِكَ الكلامُ على أصْلِه، كقولِه: ذهبَتْ أهلُ اليمامةِ، كأنَّ الأهلَ غيرُ مذكورٍ. أو لَمَّا وُصِفَت بالخُضوعِ الَّذي هو للعُقلاءِ قيل: خَاضِعِينَ، كقولِه تعالى: إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ [يوسف: 4] . وقيل: أعناقُ النَّاسِ: رُؤساؤهم ومُقدَّمُوهم، شُبِّهوا بالأعناقِ كما قيل لهم: هم الرُّؤوسُ والنَّواصي والصُّدورُ. وقيلَ: جماعاتُ النَّاسِ [51] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/299)، ((تفسير البيضاوي)) (4/133)، ((تفسير أبي حيان)) (8/140، 141)، ((تفسير أبي السعود)) (6/234).   . وفائدةُ الوجْهِ الأوَّلِ -وهو إقحامُ العُنقِ- تصويرُ حالةِ الخضوعِ؛ إدخالًا للرَّوعةِ. والوجْهُ الثَّاني مِن بابِ إجراءِ ما لا يَعقِلُ مُجرى العُقلاءِ؛ مُبالغةً لِخُضوعِهم، فكأنَّه سَرى منهم إليها. والثَّالثُ مِن إطلاقِ الجُزءِ على الكلِّ؛ فإنَّ المُتكبِّرَ إنَّما يَظهَرُ تجبُّرُه في عُنقِه، ولَيِّه له [52] يُنظر: ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (11/316).   .
- وفُرِّعَ على تَنزيلِ الآيةِ ما هو في مَعنى الصِّفةِ لها، وهو جُملةُ فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ بفاءِ التَّعقيبِ [53] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (19/95).   .
- قولُه: فَظَلَّتْ معطوفٌ على المُضارعِ نُنَزِّلْ الَّذي لو استُعمِلَ بدَلَه الماضي لكانَ صحيحًا [54] قال النحاسُ: (? معناه فتظَلّ؛ لأنَّ الماضيَ يأتي بمعنى المستقبَلِ في المجازاةِ). ((إعراب القرآن)) (3/120).   ، وفائدةُ وضْعِ نُنَزِّلْ مَوضِعَ (أنزَلْنا): استحضارُ صُورةِ إنزالِ تلك الآيةِ العظيمةِ المُلْجِئةِ إلى الإيمانِ، وحُصولِ خُضوعِ رِقابِهم عندَ ذلك في ذِهنِ السَّامعِ؛ لِيَتعجَّبَ منه، وإلَّا لم يصِحَّ عطْفُ الماضي على المُستقبَلِ بحرفِ التَّعقيبِ، أو جَعْلُ الماضي مُسبَّبًا عن المُستقبَلِ [55] يُنظر: ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (11/313)، ((إعراب القرآن وبيانه)) لدرويش (7/55).   . وقيل: فائدةُ عَطفِ فَظَلَّتْ -وهو ماضٍ- على المضارِعِ نُنَزِّلْ: التفنُّنُ بيْنَ الصِّيغتَينِ، وتقريبُ زَمنِ مُضيِّ المُعقَّبِ بالفاءِ مِن زَمَنِ حُصولِ الجزاءِ، بحيثُ يكونُ حصولُ خُضوعِهم للآيةِ بمَنزلةِ حُصولِ تَنزيلِها؛ فيتِمُّ ذلك سريعًا حتَّى يُخيَّلَ لهم مِن سُرعةِ حُصولِه أنَّه أمرٌ مضَى؛ فلذلك قال: فَظَلَّتْ، ولم يقُلْ: (فتَظَلُّ)، وهذا قريبٌ من استِعمالِ الماضي في قولِه تعالى: أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ [النحل: 1] ، وكِلاهما للتهديدِ [56] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (19/95، 96).   .
5- قولُه تعالى: وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ بَيانٌ لشِدَّةِ شَكيمتِهم، وعدَمِ ارْعِوائِهم عمَّا كانوا عليه مِن الكُفرِ والتَّكذيبِ بغيرِ ما ذُكِرَ مِن الآيةِ المُلْجئةِ؛ لِصَرْفِ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم عن الحِرصِ على إسلامِهم، وقَطْعِ رجائِه عنه [57] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/234).   .
- قولُه: وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمَنِ ... فيه دَلالةٌ على فَضْلِه وشَرفِه، وشَناعةِ ما فعَلوا به. والتَّعرُّضُ لعُنوانِ الرَّحمةِ؛ لِتَغليظِ شَناعتِهم، وتَهويلِ جِنايتِهم؛ فإنَّ الإعراضَ عمَّا يأْتيهم مِن جَنابِه عزَّ وجلَّ على الإطلاقِ شَنيعٌ قبيحٌ، وعمَّا يأْتيهم بمُوجَبِ رَحمتِه تعالى لِمَحضِ مَنفعتِهم أشنَعُ وأقبَحُ [58] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/234).   .
- وقولُه: وَمَا يَأْتِيهِمْ ... فيه التعبيرُ بالمُضارِعِ (يأتي)؛ لإفادةِ التَّجدُّدِ والاستمرارِ [59] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (8/141)، ((تفسير ابن عاشور)) (19/97).   .
- و(مِن) في قولِه: مِنْ ذِكْرٍ مُؤكِّدةٌ لعُمومِ نفْيِ الأحوالِ [60] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/234)، ((تفسير ابن عاشور)) (19/98).   .
- وفيه مُناسَبةٌ حَسَنةٌ؛ حيثُ جاء قولُه هنا: وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ بذِكْرِ اسمِ (الرَّحمنِ) دونَ وصْفِ (الرَّبِّ) كما في سُورةِ (الأنبياءِ): مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ [الأنبياء: 2] . ووَجْهُه: أنَّ السِّياقَ هنا لِتَسليةِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم على إعراضِ قَومِه؛ فكان في وصْفِ مُؤْتي الذِّكْرِ بـ (الرَّحمنِ) تَشنيعٌ لحالِ المُعرِضينَ، وتَعريضٌ لِغَباوتِهم أنْ يُعرِضوا عمَّا هو رَحمةٌ لهم، فإذا كانوا لا يُدْرِكون صَلاحَهم، فلا تَذهَبْ نفْسُك حَسراتٍ على قومٍ أضاعوا نفْعَهم، وأنت قد أرشدْتَهم إليه وذَكَّرْتَهم، كما قال المَثَلُ [61] يُنظر: ((الأمثال)) للقاسم بن سلَّام (ص: 331)، ((مجمع الأمثال)) للميداني (2/231)، ((المستقصى في أمثال العرب)) للزمخشري (2/268).   : لا يَحزُنْك دمٌ هَراقَه أهْلُه [62] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (19/98).   .
- وقيلَ: خُصَّتْ سُورةُ (الأنبياءِ) بقولِه: مِنْ رَبِّهِمْ بالإضافةِ؛ لأنَّ (الرَّحمنَ) لم يأْتِ مُضافًا، ولِمُوافقةِ ما بعْدَه، وهو قولُه: قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ [الأنبياء: 4] ، وخُصَّتْ سُورةُ (الشُّعراءِ) بقولِه: مِنَ الرَّحْمَنِ؛ لِيَكونَ كلُّ سُورةٍ مَخصوصةً بوصْفٍ مِن أوصافِه؛ وليس في أوصافِ اللهِ تعالى اسمٌ أشبَهُ باسمِ (اللهِ) مِن (الرَّحمنِ)؛ لأنَّهما اسمانِ ممنوعانِ أنْ يُسمَّى بهما غيرُ اللهِ عزَّ وجلَّ؛ ولِمُوافقةِ ما بعْدَه، وهو قولُه: الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ [الشعراء: 9] ؛ لأنَّ (الرَّحمنَ) و(الرَّحيمَ) مِن مَصدرٍ واحدٍ [63] يُنظر: ((بصائر ذوي التمييز)) للفيروزابادي (1/318).   . وقيل غيرُ ذلك [64] يُنظر: ((درة التنزيل وغرة التأويل)) للإسكافي (2/961)، ((ملاك التأويل)) لأبي جعفر الغرناطي (2/345، 346).   .
- وفي الإتيانِ بفِعلِ كَانُوا وخبَرِه دُونَ أنْ يُقالَ: (إلَّا أعْرَضوا): إفادةُ أنَّ إعراضَهم راسخٌ فيهم، وأنَّه قديمٌ مُستمِرٌّ؛ إذ أخبَرَ عنهم قبْلَ ذلك بقولِه: أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ [الشعراء: 3] ، فانتِفاءُ كونِ إيمانِهم واقعًا هو إعراضٌ منهم عن دَعوةِ الرَّسولِ الَّتي طريقُها الذِّكْرُ بالقرآنِ، فإذا أتاهُم ذِكْرٌ بعدَ الذِّكْرِ الَّذي لم يُؤمِنوا بسَببِه، وجَدَهم على إعراضِهم القديمِ [65] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (19/98).   .
- وجُملةُ إِلَّا كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ جُملةٌ حاليَّةٌ، أي: إلَّا يَكونوا عنه مُعرِضينَ، تدُلُّ على أنَّ دَيْدَنَهم وعادتَهم الإعراضُ عن ذِكْرِ اللهِ، أي: هذِه عادتُهم، فلا تأسَفْ لعدَمِ إيمانِهم بآياتِ الكتابِ المُبينِ، وما يَجيئُهم منها مِن بَعْدُ، فسيُعرِضون عنه؛ لأنَّهم عُرِفوا بالإعراضِ [66] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (8/141)، ((تفسير ابن عاشور)) (19/97).   .
- وتَقديمُ المجرورِ في قولِه: إِلَّا كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ على الخبرِ؛ لرِعايةِ الفاصلةِ [67] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (19/98).   .
- وهذه الآيةُ مُتَّصِلةٌ معنًى بقولِه تعالى: طسم * تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ [الشعراء: 1، 2]؛ فإنَّه تعالى أعلَمَ أوَّلًا: أنَّه أنزَلَ هذا الكتابَ الكريمَ في نِهايةٍ مِن الوُضوحِ والبَيانِ، وأنَّهم ما رَفَعوا له رأسًا، ثمَّ نبَّهَ ثانيًا على أنَّ هذا الكتابَ مع وُضوحِ آياتِه إنَّما أُنزِلَ على سبيلِ التَّدرُّجِ؛ لِيَكونَ أدخَلَ في التَّذكيرِ، وأنجَعَ في الاتِّعاظِ به، وهم مع ذلك قابَلوا كلَّ حِصَّةٍ منه بتَكذيبٍ واستِهزاءٍ، كلُّ ذلك تَسليةً لحَبيبِه صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم؛ لئلَّا يَذهَبَ بنفْسِه حَسَراتٍ؛ ولذلك أوقَعَ قولَه تعالى: لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ ... الآيتينِ اعتراضًا، يعني: انظُرْ إليهم وإلى ما فعَلوا بمِثْلِ هذا الكتابِ الكريمِ وبمُنزِلِه، على أنَّه قادرٌ على أنْ يَقْسِرَهم على الإيمانِ وهم مُهانون خاضِعون، فأشْفِقْ على نفْسِك أنْ تَقتُلَها حَسرةً على ما فاتَك مِن إسلامِهم [68] يُنظر: ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (11/317، 318).   .
6- قولُه تعالى: فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ خُولِفَ بيْنَ الألفاظِ -وهي الإعراضُ والتَّكذيبُ والاستهزاءُ- والغرضُ واحدٌ، وهو الإعراضُ؛ وذلك لاختلافِ الأغراضِ، كأنَّه قِيل: حِينَ أعْرَضوا عن الذِّكْرِ فقد كذَّبوا به، وحينَ كذَّبوا به فقد خفَّ عندَهم قَدْرُه، وصار عُرضةً للاستهزاءِ والسُّخريةِ؛ لأنَّ مَن كان قابلًا للحقِّ مُقبِلًا عليه، كان مُصدِّقًا به لا مَحالةَ ولم يُظَنَّ به التَّكذيبُ، ومَن كان مُصدِّقًا به كان مُوقِّرًا له؛ فعدَل في قولِه: فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ عمَّا يَقْتضيهِ سائرُ ما سلَفَ مِن الإعراضِ والتَّكذيبِ؛ للإيذانِ بأنَّهما كانا مُقارنَينِ للاستِهزاءِ [69] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/299)، ((تفسير أبي حيان)) (8/141)، ((تفسير أبي السعود)) (6/234).   ؛ فالمقصودُ التَّدرُّجُ مِن غَرضٍ إلى غرضٍ، وتصويرُ معنَى ما صدَرَ منهم مِن الاستهزاءِ، وأنَّه نَتيجةُ التَّكذيبِ المُسبَّبِ عن الإعراضِ؛ فالفاءُ في قولِه تعالى: فَقَدْ كَذَّبُوا عاطفةٌ، وفي قولِهم: فَسَيَأْتِيهِمْ سَببيَّةٌ فصيحةٌ؛ لأنَّ مدْخولَها وعيدٌ للمُستهزئِ، والوعيدُ مَسبوقٌ بحُصولِ الاستهزاءِ [70] يُنظر: ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (11/319).   . وقيل: الفاءُ في قولِه: فَقَدْ كَذَّبُوا فَصيحةٌ، أي: فقد تَبيَّنَ أنَّ إعراضَهم إعراضُ تكذيبٍ، بعْدَ الإخبارِ عنهم بأنَّ سُنَّتَهم الإعراضُ عن الذِّكْرِ الآتي بعضُه عقِبَ بعضٍ؛ فإنَّ الإعراضَ كان لأنَّهم قد كذَّبوا بالقُرآنِ. والفاءُ في قولِه: فَسَيَأْتِيهِمْ لترتيبِ ما بعْدَها على ما قبْلَها، وتَعقيبِ الإخبارِ بالوعيدِ بعْدَ الإخبارِ بالتَّكذيبِ [71] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (19/98).   .
- وقيل: في قوله تعالى: فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ احتِباكٌ [72] الاحْتِباك: هو الحذفُ مِن الأوائلِ لدَلالةِ الأواخِرِ، والحذفُ مِن الأواخرِ لدَلالةِ الأوائلِ، إذا اجتمَع الحَذفانِ معًا، وله في القرآنِ نظائرُ، وهو مِن إبداعاتِ القرآنِ وعناصرِ إعجازِه، وهو مِن ألطفِ الأنواعِ. يُنظر: ((الإتقان)) للسيوطي (3/204)، ((البلاغة العربية)) لعبد الرحمن حَبَنَّكَة الميداني (1/347).   ؛ حيثُ ذَكَر التكذيبَ أولًا دليلًا على حذْفِه ثانيًا، والاستهزاءَ ثانيًا دليلًا على حَذْفِ مِثْلِه أولًا [73] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (14/10).   .
- والسِّينُ والفاءُ في قولِه: فَسَيَأْتِيهِمْ لتَأكيدِ مَضمونِ الجُملةِ وتَقريرِه [74] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/234).   .
- وأيضًا قولُه: فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ وعيدٌ لهم وإنذارٌ بأنَّهم سيَعلمون إذا مسَّهم عذابُ اللهِ ما الشَّيءُ الَّذي كانوا يَستهزِئون به [75] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/299)، ((تفسير أبي حيان)) (8/141).   . وأنباؤُه: ما سيَحيقُ بهم مِن العُقوباتِ العاجلةِ والآجلةِ، عبَّرَ عنها بذاكَ؛ إمَّا لكَونِها ممَّا نبَّأَ بها القُرآنُ الكريمُ، وإمَّا لأنَّهم بمُشاهَدتِها يَقِفُون على حقيقةِ حالِ القُرآنِ، كما يقِفُون على الأحوالِ الخافيةِ عنهم باستماعِ الأنباءِ، وفيه تَهويلٌ له؛ لأنَّ النَّبأَ لا يُطلَقُ إلَّا على خبرٍ خطيرٍ، له وقْعٌ عظيمٌ [76] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/234).   .
- وأُوثِرَ إفرادُ فِعلِ (يأْتيهم)، مع أنَّ فاعلَه جمْعُ تَكسيرٍ لغيرِ مُذكَّرٍ حقيقيٍّ يجوزُ تأْنيثُه؛ لأنَّ الإفرادَ أخفُّ في الكلامِ؛ لكثرةِ دَوَرانِه [77] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (19/100).   .
- و(ما) في قولِه: مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ يجوزُ أنْ تكونَ موصولةً؛ فيجوزُ أنْ يكونَ ماصَدَقَها [78] الماصَدَق -عند المناطقة-: الأفرادُ التي يتحقَّقُ فيها معنى الكليِّ، ويقابلُه: المفهومُ، وهو: مجموعُ الصفاتِ والخصائصِ الموضحةِ لمعنًى كليٍّ. يُنظر: ((المعجم الوسيط)) (1/511) و(2/704). ويُنظر أيضًا: ((ضوابط المعرفة)) لحبنكة (ص: 45، 46).   القرآنَ، وذلك كقولِه تعالى: وَلَا تَتَّخِذُوا آَيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا [البقرة: 231]. وجِيءَ في صِلَتِه بفِعلِ يَسْتَهْزِئُونَ دونَ (يُكذِّبون)؛ لتَحصُلَ فائدةُ الإخبارِ عنهم بأنَّهم كذَّبوا به واسْتَهْزؤوا به، وتكون الباءُ في بِهِ لتَعديةِ فِعلِ يَسْتَهْزِئُونَ، والضَّميرُ المجرورُ عائدًا إلى (ما) الموصولةِ، وأنباؤُه: أخبارُه بالوعيدِ. ويجوزُ أنْ يكونَ ماصَدَقَ (ما): جِنسَ ما عُرِفوا باستهزائِهم به، وهو التَّوعُّدُ؛ كانوا يقولون: متى هذا الوعدُ؟ ونحوَ ذلك. وإضافةُ أَنْبَاءُ إلى مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ على هذا إضافةٌ بَيانيَّةٌ، أي: ما كانوا به يَستهزِئون الَّذي هو أنباءُ ما سيَحُلُّ بهم. وجمْعُ الأنباءِ على هذا باعتبارِ أنَّهم اسْتَهْزؤوا بأشياءَ كثيرةٍ؛ منها البعثُ، ومنها العذابُ في الدُّنيا، ومنها نصْرُ المُسلمينَ عليهم: وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [يونس: 48] ، ومنها فتْحُ مكَّةَ، ومنها عذابُ جهنَّمَ، وشجرةُ الزَّقُّومِ. ويجوزُ كونُ (ما) مصدريَّةً، أي: أنباءُ كونِ استهزائِهم، أي: حُصوله، وضميرُ بِهِ عائدًا إلى معلومٍ مِن المقامِ، وهو القرآنُ أو الرَّسولُ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم [79] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (19/99).   .
- وإقحامُ فِعلِ كَانُوا هنا؛ لإفادةِ أنَّ استهزاءَهم راسخٌ فيهم، وأنَّه قديمٌ مُستمِرٌّ. وأُوثِرَ الإتيانُ بالفِعلِ المضارعِ -وهو يَسْتَهْزِئُونَ- دونَ اسمِ الفاعلِ كالَّذي في قولِه: كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ [الشعراء: 5] ؛ لأنَّ الاستهزاءَ يتجدَّدُ عندَ تجدُّدِ وَعِيدِهم بالعذابِ، وأمَّا الإعراضُ فمُتمكِّنٌ منهم [80] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (19/99).   .
- وفيه مُناسبةٌ حَسنةٌ؛ حيث جاء قولُه هنا: فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ، وفي سُورةِ (الأنعامِ) قولُه تعالى: فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ [الأنعام: 5] . ووجْهُه: أنَّ سُورةَ الأنعامِ مُتقدِّمةٌ في النُّزولِ على (الشُّعراءِ)، فاستوفَى فيها اللَّفْظَ؛ فقَيَّدَ التَّكذيبَ بقولِه: بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ، ثمَّ قال: فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ على التَّمامِ، وحذَف مِن (الشُّعراءِ)، وهو مرادٌ؛ إحالةً على الأوَّلِ، فذَكَرَ فيها: فَقَدْ كَذَّبُوا مُطلقًا؛ لأنَّ تَقييدَه في هذه السُّورةِ يدُلُّ عليه، ثمَّ اقتصَرَ على السِّينِ هنا بدلَ (سوف)؛ لِيتَّفِقَ اللَّفظانِ فيه على الاختصارِ [81] يُنظر: ((أسرار التكرار في القرآن)) للكرماني (ص: 104)، ((تفسير أبي حيان)) (4/437).   . ولَمَّا كان فِعلُ الاستقبالِ المقرونُ بـ (سوف) أبعَدَ زمانًا مِن المقرونِ بالسِّينِ، تَعيَّن الأوَّلُ فيما نزل أوَّلًا، والثاني فيما نزَل آخِرًا [82] يُنظر: ((تفسير المنار)) لمحمد رشيد رضا (7/254).   .
7- قولُه تعالى: أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ
- قولُه: أَوَلَمْ يَرَوْا الواوُ عاطفةٌ على جُملةِ وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ [الشعراء: 5] ؛ فالهمزةُ الاستفهاميَّةُ منه مُقدَّمةٌ على واوِ العطفِ لفظًا؛ لأنَّ للاستفهامِ الصَّدارةَ، والاستفهامُ إنكارٌ على عدَمِ رُؤيتِهم ذلك؛ لأنَّ دَلالةَ الإنباتِ على الصَّانعِ الواحدِ دَلالةٌ بيِّنةٌ لكلِّ مَن يراهُ، فلمَّا لم يَنتفِعوا بتلك الرُّؤيةِ نُزِّلَت رُؤيتُهم مَنزلةَ العدَمِ، فأنكَرَ عليهم ذلك [83] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (19/100، 101).   .
- وقيل: الهَمزةُ للإنكارِ التَّوبيخيِّ، والواوُ للعطْفِ على مُقدَّرٍ يَقْتضيهِ المقامُ، أي: أفَعَلوا ما فَعَلوا مِن الإعراضِ عن الآياتِ، والتَّكذيبِ والاستهزاءِ بها، ولم ينظرُوا إِلَى الْأَرْضِ [84] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/234، 235).   !
- قولُه: كَمْ أَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ استئنافٌ مُبيِّنٌ لِمَا في الأرضِ مِن الآياتِ الزَّاجرةِ عن الكُفرِ، الدَّاعيةِ إلى الإيمانِ [85] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/235).   .
- و(مِن) تَبعيضيَّةٌ. ومَورِدُ التَّكثيرِ الَّذي أفادَتْه (كم) هو كثرةُ الإنباتِ في أمكنةٍ كثيرةٍ، ومَورِدُ الشُّمولِ المُفادِ مِن (كل) هو أنواعُ النَّباتِ وأصنافُه؛ وفي الأمْرينِ دَلالةٌ على دَقيقِ الصُّنعِ. واستُغْنِيَ بذِكْرِ أبعاضِ كلِّ زوجٍ عن ذِكْرِ مُميِّزِ (كم)؛ لأنَّه قد عُلِمَ مِن التَّبعيضِ [86] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (19/101).   .
- قولُه: أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ جَمَعَ بيْنَ (كم) و(كل)، ولم يقُلْ: كم أنبَتْنا فيها مِن زوجٍ كريمٍ؛ لأنَّ (كل) دلَّت على الإحاطةِ بأزواجِ النَّباتِ على سبيلِ التَّفصيلِ، و(كم) دلَّت على أنَّ هذا الذي أحاط بأزواج النبات متكاثرٌ، مُفرِطُ الكثرةِ، فالمحيطُ: الكلُّ، والمحاطُ به: الأصنافُ، فهذا معنى الجمْعِ بيْنَهما، وبه نبَّهَ على كَمالِ قُدرتِه [87] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/300)، ((تفسير البيضاوي)) (4/134)، ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (11/322)، ((تفسير أبي حيان)) (8/141، 142)، ((تفسير أبي السعود)) (6/235).   ؛ فمَقامُ بَيانِ كَمالِ قُدرةِ اللهِ تعالى يَقْتضي إيرادَ ما يَستوعِبُ الأصنافَ كلَّها مع بَيانِ تكاثُرِها، ولا يَحصُلُ ذلك إلَّا بالجمْعِ بيْن (كم) و(كل) [88] يُنظر: ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (11/321).   ؛ ففي الآيةِ فنُّ التَّتميمِ [89] التَّتميم: من أنواعِ إطنابِ الزِّيادةِ، وهو الإتيانُ بكلمةٍ أو كلامٍ مُتمِّمٍ للمقصودِ، أو لزِيادةٍ حَسنةٍ، بحيثُ إذا طُرِحَ مِن الكلامِ نقَصَ معناه في ذاتِه، أو في صِفاتِه. أو: هو الإتيانُ في كلامٍ لا يُوهِمُ غيرَ المرادِ بفَضلةٍ تُفيدُ نُكتةً. أو: هو إردافُ الكلامِ بكَلمةٍ تَرفعُ عنه اللبسَ، وتُقرِّبُه للفَهمِ، ومِن أمثلةِ التتميمِ قوله تعالى: وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ [النساء: 124] ؛ فقوله: وَهُوَ مُؤْمِنٌ تتميمٌ في غايةِ الحُسنِ. ومنه قولُه تعالى: وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ [البقرة: 206] ؛ وذلك أنَّ العِزَّةَ محمودةٌ ومذمومةٌ، فلمَّا قال: بِالْإِثْمِ اتَّضحَ المعنى وتَمَّ، وتبيَّن أنَّها العزةُ المذمومةُ المُؤثَّمُ صاحِبُها. يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (1/120) و(2/333)، ((إعراب القرآن وبيانه)) لمحيي الدين درويش (1/44)، ((مفاتيح التفسير)) لأحمد سعد الخطيب (1/49 - 51) و(1/240، 241).   .
- وأيضًا في قولِه: كَرِيمٍ فنُّ التَّتميمِ، فتمَّمَ وصْفَه الزَّوجَ بالكريمِ؛ وذلك لأمْرينِ:
أ- أنَّ النَّباتَ على نوعينِ: نافعٍ وضارٍّ، فدلَّ بكلمةِ كَرِيمٍ أنَّه يَقصِدُ النَّوعَ النَّافعَ؛ لاختصاصِه بالدَّلالةِ على القُدرةِ والنِّعمةِ معًا، فذكَرَ كثرةَ ما أنبَتَ في الأرضِ مِن جميعِ أصنافِ النَّباتِ النَّافعِ، وخلَّى ذِكْرَ الضَّارِّ.
ب- أنَّه يَقصِدُ كِلَا النَّوعينِ النَّافعِ والضَّارِّ، ويَصِفُهما جميعًا بالكرَمِ؛ تَنبيهًا على أنَّه ما أنبَتَ شيئًا إلَّا لفائدةٍ؛ لأنَّ الحكيمَ لا يَفعَلُ فِعلًا إلَّا لغرضٍ صحيحٍ ولِحكمةٍ بالغةٍ، وإنْ غفَلَ عنها الغافلونَ، ولم يَتوصَّلْ إلى مَعرفتِها العاقلونَ [90] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/300، 301)، ((تفسير البيضاوي)) (4/134)، ((تفسير أبي السعود)) (6/235)، ((إعراب القرآن وبيانه)) لدرويش (7/56، 57).   .
- قولُه: زَوْجٍ كَرِيمٍ هذا مِن إدماجِ [91] الإدماجُ لُغةً: الإدخالُ؛ يُقال: أدْمَجَ الشيءَ في ثَوبٍ، إذا لَفَّه فيه. واصطلاحًا: أنْ يُدمِجَ المتكلِّمُ غرضًا في غَرضٍ، أو بديعًا في بديعٍ، بحَيثُ لا يَظهرُ في الكلامِ إلَّا أحدُ الغرَضينِ أو أحدُ البَديعَينِ، بمعنى: أن يَجعلَ المتكلِّمُ الكلامَ الذي سِيق لمعنًى -مِن مَدحٍ أو غيرِه- مُتضمنًا معنًى آخَرَ، كقولِه تعالى: لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآَخِرَةِ [القصص: 70] ؛ فهذا مِن إدماجِ غرَضٍ في غَرَضٍ؛ فإنَّ الغرَضَ منها تَفرُّدُه تعالى بوصْفِ الحمدِ، وأُدمِجَ فيه الإشارةُ إلى البعثِ والجزاءِ، وقيل: أُدمِجتِ المبالغةُ في المطابقةِ؛ لأنَّ انفرادَه بالحمدِ في الآخِرَةِ -وهي الوقتُ الذي لا يُحمَدُ فيه سِواهُ- مبالغةٌ في الوَصفِ بالانفرادِ بالحَمْدِ. يُنظر: ((الإتقان)) للسيوطي (3/298)، ((علوم البلاغة البيان المعاني البديع)) للمراغي (ص: 344)، ((البلاغة العربية)) لعبد الرحمن حَبَنَّكَة الميداني (2/427).   الامتِنانِ في ضِمْنِ الاستِدلالِ؛ لأنَّ الاستدلالَ على بَديعِ الصُّنعِ يَحصُلُ بالنَّظرِ في إنباتِ الكريمِ وغيرِه؛ ففي الاستِدلالِ بإنباتِ الكريمِ مِن ذلك وفاءٌ بغَرضِ الامتنانِ مع عدَمِ فَواتِ الاستدلالِ. وأيضًا فنظَرُ النَّاسِ في الأنواعِ الكَريمةِ أنفَذُ وأشهَرُ؛ لأنَّه يَبتدِئُ بطَلبِ المنفعةِ منها، والإعجابِ بها؛ فإذا تطلَّبَها وقَعَ في الاستدلالِ؛ فيكونُ الاقتصارُ على الاستِدلالِ بها في الآيةِ مِن قَبِيلِ التَّذكيرِ للمُشركينَ بما هم مُمارِسون له، وراغِبون فيه [92] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (19/101).   .
- وهذا الاستدلالُ لَمَّا كان عقليًّا اقتصَرَ عليه، ولم يُكرَّرْ بغيرِه مِن نوعِ الأدلةِ العقليَّةِ، كما كُرِّرَت الدَّلائلُ الحاصلةُ مِن العِبرةِ بأحوالِ الأُمَمِ، مِن قولِه: وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى [الشعراء: 10] ، إلى آخِرِ قِصَّةِ أصحابِ الأَيْكةِ [93] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (19/102).   .
8- قولُه تعالى: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ
- التَّأكيدُ بحرْفِ (إنَّ)؛ لِتَنزيلِ المُتحدَّثِ عنهم مَنزلةَ مَن يُنكِرُ دَلالةَ ذلك الإنباتِ وصِفاتِه على ثُبوتِ الوَحدانيَّةِ، الَّتي هي باعثُ تَكذيبِهم الرَّسولَ لمَّا دَعاهم إلى إثباتِها [94] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (19/102).   .
- واسمُ الإشارةِ فيه مِن معنَى البُعدِ؛ للإيذانِ ببُعدِ مَنزلتِه في الفضْلِ [95] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/235).   .
- قولُه: وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (كانَ) صِلَةٌ مُقحمةٌ للتَّأكيدِ، والمعنى: وما أكثرُهم مُؤمِنين [96] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/235)، ((تفسير ابن عاشور)) (19/102).   .
- وأسنَدَ نفْيَ الإيمانِ إلى أكثرِهم؛ لأنَّ قليلًا منهم يُؤمِنون حينَئذٍ، أو بعْدَ ذلك [97] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/235)، ((تفسير ابن عاشور)) (19/102).   .
9- قولُه تعالى: وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ
- في التَّعرُّضِ لوَصْفِ الرُّبوبيَّةِ، مع الإضافةِ إلى ضَميرِه صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم؛ مِن تَشريفِه والعِدَةِ الخَفيَّةِ بالانتقامِ مِن الكفَرةِ: مَا لا يَخْفى [98] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/235).   .
- قولُه: الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ لَمَّا كان المَوضِعُ مَوضعَ بَيانِ القُدرةِ، قدَّمَ صِفَةَ العِزَّةِ على صِفةِ الرَّحمةِ؛ فالرَّحمةُ إذا كانت عن قُدرةٍ كانت أعظَمَ وقْعًا [99] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (8/142).   ، ولأنَّه لو لم يُقَدِّمْهُ لكان رُبَّما قيلَ: إنَّه رَحِمَهم لِعَجْزِه عن عقوبتِهم! فأزال هذا الوهمَ بذِكْرِ العزيزِ وهو الغالبُ القاهرُ، والمرادُ أنَّهم مع كفرِهم وقدرةِ اللهِ على أنْ يُعَجِّلَ عقابَهم لا يَتْرُكُ رحمتَهم بما تقدَّمَ ذِكْرُه مِن خَلْقِ كلِّ زوجٍ كريمٍ مِن النَّباتِ، ثم مِن إعطاءِ الصحةِ والعقلِ والهدايةِ [100] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (24/492).   .
- قولُه: وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ تذييلٌ لهذا الخبَرِ بوصْفِ اللهِ بالعِزَّةِ، أي: تَمامِ القُدرةِ، فتَعلَمون أنَّه لو شاءَ لعجَّلَ لهم العِقابَ، وبوصْفِ الرَّحمةِ إيماءٌ إلى أنَّ في إمهالِهم رَحمةً بهم؛ لعلَّهم يَشكُرون، ورحيمٌ بكَ؛ قال تعالى: وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ [الكهف: 58] . وفي وصْفِ الرَّحمةِ إيماءٌ إلى أنَّه يَرحَمُ رُسلَه بتأْييدِه ونصْرِه [101] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (19/102).   .
- وقد ختَمَ كلَّ استدلالٍ جِيءَ به على المُشركينَ المُكذِّبين بتَذييلٍ واحدٍ؛ هو قولُه: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ؛ تَسجيلًا عليهم بأنَّ آياتِ الوَحدانيَّةِ وصِدْقِ الرُّسلِ عديدةٌ كافيةٌ لمَن يتطلَّبُ الحقَّ، ولكنَّ أكثرَ المُشركينَ لا يُؤمِنون، وأنَّ اللهَ عزيزٌ قادرٌ على أنْ يُنزِلَ بهم العذابَ، وأنَّه رحيمٌ برُسلِه، فناصِرُهم على أعدائِهم [102] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (19/91).   .