موسوعة التفسير

سورة الشُّورى
الآيات (47-50)

ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ

غريب الكلمات:

لَا مَرَدَّ لَهُ: أي: لا ردَّ له، فلا شَيءَ يَرُدُّ مجيئَه، ولا يَقدِرُ أحدٌ على دَفْعِه، والرَّدُّ: صرفُ الشَّيءِ بذاتِه، أو بحالةٍ مِن أحوالِه، وأصلُ (ردد): رَجْعُ الشَّيءِ [856] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/386)، ((تفسير السمعاني)) (5/85)، ((تفسير البغوي)) (4/152)، ((المفردات في غريب القرآن)) للراغب (ص: 348). .
نَكِيرٍ: أي: مُنكِرٍ يُغَيِّرُ ما بكم، وأصلُ (نكر): يدُلُّ على خِلافِ المَعرفةِ [857] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/476)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 342)، ((تفسير القرطبي)) (16/47)، ((تفسير ابن كثير)) (8/277). .
حَفِيظًا: أي: رَقيبًا عليهم، تَحفَظُ عليهم أعمالَهم، وتُحصيها، وتُحاسِبُهم عليها، وأصلُ (حفظ): يدُلُّ على مُراعاةِ الشَّيءِ [858] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 131)، ((تفسير ابن جرير)) (20/536)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/87)، ((الهداية إلى بلوغ النهاية)) لمكي (10/6615)، ((المفردات)) للراغب (ص: 245). .
يُزَوِّجُهُمْ: أي: يَقرِنُهم، فيَجعَلُ بعضَهم بَنينَ وبعضَهم بناتٍ، وأصلُ (زوج): يدُلُّ على مُقارَنةِ شَيءٍ لِشَيءٍ [859] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 394)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/35)، ((الهداية إلى بلوغ النهاية)) لمكي (10/6616)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 342)، ((عمدة الحفاظ)) للسمين الحلبي (2/151). .
عَقِيمًا: أي: لا يُولدُ له مِن رَجُلٍ أو امرأةٍ، والعُقْمُ أصلُه القطعُ، ومنه قيل: المُلكُ عقيمٌ؛ لأنَّه يُقطَعُ فيه الأرحامُ بالقتلِ والعقوقِ، وأصلُ (عقم): يدُلُّ على غموضٍ وضيقٍ وشدَّةٍ [860] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (4/75)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 342)، ((تفسير الرازي)) (27/610)، ((تفسير ابن كثير)) (7/216)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 281)، ((تفسير ابن عاشور)) (25/138). .

المعنى الإجمالي:

 يأمُرُ الله تعالى بالاستِجابةِ له قبْلَ مجيءِ يومِ القيامةِ، فيقولُ: استَجيبوا -أيُّها النَّاسُ- لرَبِّكم فيما يَدْعوكم إليه رُسُلُه مِن قبلِ أن يأتيَ يومُ القيامةِ الَّذي لا شَيءَ يَمنَعُ مَجيئَه بعدَ أن حكَم اللهُ به، وليس لكم يومَئذٍ مَكانٌ تَلجَؤون إليه، وليس لكم يومَئذٍ مُنكِرٌ يُنكِرُ ما نَزَل بكم، ويَدفَعُه عنكم، وما لكم مِن إنكارٍ لِما جُوزيتُم به.
ثمَّ يُسلِّي الله تعالى نبيَّه صلَّى الله عليه وسلَّم، فيقولُ: فإنْ أعرَضَ المُشرِكونَ فما أرسَلْناك -يا مُحمَّدُ- رَقيبًا عليهم؛ فما عليك إلَّا البلاغُ.
ثمَّ يذكرُ سبحانَه حالَ الإنسانِ في النِّعمةِ والبلاءِ، فيقولُ: وإنَّا إذا أصَبْنا الإنسانَ بنِعمةٍ مِنَّا فَرِحَ بها واطمأَنَّ، وإنْ تُصِبْهم شِدَّةٌ وبَلاءٌ بسَبَبِ ذُنوبِهم، فإنَّ الإنسانَ جَحودٌ لنِعَمِ اللهِ عليه.
ثمَّ يختمُ الله تعالى السُّورةَ الكريمةَ بذِكرِ مَظاهِرِ قُدرتِه، ونفاذِ مشيئتِه، وكمالِ حكمتِه، فيقولُ: لله وَحْدَه مُلكُ السَّمَواتِ والأرضِ، يَخلُقُ اللهُ ما يَشاءُ، ويُعطي لِمَن يَشاءُ مِن خَلْقِه إناثًا، ويُعطي لِمَن يَشاءُ ذُكورًا، أو يَقرِنُ لهم بيْنَ الذُّكورِ والإناثِ، ويَجعَلُ اللهُ مَن يَشاءُ منهم عَقيمًا لا يُولَدُ له؛ لأنَّ الله سُبحانَه عَليمٌ بكُلِّ شَيءٍ، قَديرٌ على كُلِّ شَيءٍ.

تفسير الآيات:

اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَأٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ (47).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا ذَكَر تعالَى ما يكونُ في يومِ القيامةِ مِن الأهوالِ والأمورِ العِظامِ الهائلةِ؛ حَذَّر مِنه، وأمَر بالاستِعدادِ له [861] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (7/215). .
وأيضًا فإنَّ اللهَ تعالى لَمَّا أطنَبَ في الوَعدِ والوَعيدِ؛ ذكَرَ بَعدَه ما هو المقصودُ، فقال [862] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (27/608). :
اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ.
أي: أَجيبوا -أيُّها النَّاسُ- ربَّكم، فآمِنوا به وأطيعوه واتَّبِعوا رَسولَه مِن قبْلِ أن يأتيَ يومُ القيامةِ الَّذي لا شَيءَ يَرُدُّه ويَمنَعُ مَجيئَه بعدَ أن حكَم اللهُ به [863] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/534)، ((تفسير القرطبي)) (16/47)، ((تفسير السعدي)) (ص: 761)، ((تفسير ابن عاشور)) (25/131). .
كما قال تعالى: إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ * مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ [الطور: 7، 8].
مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَأٍ يَوْمَئِذٍ.
أي: ليس لكم أيُّ مَكانٍ تلجؤونَ إليه هَرَبًا مِن عَذابِ اللهِ تعالى يومَ القيامةِ [864] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/534)، ((الوجيز)) للواحدي (ص: 968)، ((تفسير ابن كثير)) (7/215)، ((تفسير ابن عاشور)) (25/132)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الشورى)) (ص: 325، 326). .
كما قال تعالى: يَقُولُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ * كَلَّا لَا وَزَرَ * إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ [القيامة: 10 - 12].
وَمَا لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ.
أي: وما لكم مِن إنكارٍ لِما جُوزيتُم به، بل تَعترِفونَ بذُنوبِكم، ولا أحدَ يُنكِرُ ما نزَل بكم، ويَدفَعُه عنكم [865] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (17/348)، ((تفسير الشوكاني)) (4/623)، ((تفسير ابن عاشور)) (25/132)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الشورى)) (ص: 326). قال الرَّسْعَني: وَمَا لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ يحتملُ وجهَينِ: أحدهما: مِن مُنكِرٍ يُنكِرُ ويُغيِّرُ ما بكم. قاله ابنُ السَّائبِ. الثَّاني: ما لكم مِن إنكارٍ، أي: لا تَقدِرونَ أن تُنكِروا شيئًا. قاله جماعةٌ، منهم الزَّجَّاجُ). ((تفسير الرسعني)) (7/91). ممَّن اختار الوجهَ الأوَّلَ: البغويُّ، وهو ظاهرُ اختيارِ الرَّازي، واختاره ابن عثيمين. يُنظر: ((تفسير البغوي)) (4/152)، ((تفسير الرازي)) (27/609)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الشورى)) (ص: 326). قال ابن جرير: (وَمَا لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ يقولُ: ولا أنتم تَقْدِرونَ لِما يَحِلُّ بكم مِن عِقابِه يَومَئذٍ على تغييرِه، ولا على انتِصارٍ منه إذا عاقَبَكم بما عاقَبَكم به). ((تفسير ابن جرير)) (20/535). وممَّن اختار الوجهَ الثَّانيَ: الزَّجَّاجُ، والسمعاني، والزمخشري، والشوكاني، والألوسي، والسعدي، وابن عاشور. يُنظر: ((معاني القرآن وإعرابه)) للزجاج (4/402)، ((تفسير السمعاني)) (5/85)، ((تفسير الزمخشري)) (4/231)، ((تفسير الشوكاني)) (4/623)، ((تفسير الألوسي)) (13/52)، ((تفسير السعدي)) (ص: 761)، ((تفسير ابن عاشور)) (25/132). وممَّن جمَع بيْنَ المعنيَينِ: البِقاعي، فقال: (وَمَا لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ أي: مِن إنكارٍ يمكنُكم به مِن النَّجاةِ؛ لأنَّ الحَفَظةَ يَشهَدون عليكم، فإن صدَّقْتُموهم وإلَّا شَهِدتْ عليكم أعضاؤُكم وجُلودُكم، ولا لكم مِن أحدٍ يُنكِرُ شيئًا ممَّا تُجازونَ به؛ لِيُخلِّصَكم منه). ((نظم الدرر)) (17/347، 348). .
فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ كَفُورٌ (48).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّه لَمَّا أنهَى ما قدَّمَه في قَولِه: شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ نهايتَه، ودَلَّ عليه وعلى كُلِّ ما قادَتْه الحِكمةُ في حَيِّزِه، حتَّى لم يَبقَ لأحدٍ شُبهةٌ في شَيءٍ مِن الأشياءِ؛ كان ذلك سَبَبًا لِتَهديدِهم على الإعراضِ عنه، وتسليةِ رَسولِهم صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقال مُعرِضًا عن خِطابِهم؛ إيذانًا بشَديدِ الغَضَبِ [866] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (17/348). :
فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا.
أي: فإنْ أعرَضَ المُشرِكونَ عن الاستِجابةِ لرَبِّهم فما أرسَلْناك -يا مُحمَّدُ- رَقيبًا عليهم تَحفَظُ أعمالَهم، وتُحاسِبُهم عليها [867] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/536)، ((الوسيط)) للواحدي (4/60)، ((تفسير القرطبي)) (16/47)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (17/348)، ((تفسير السعدي)) (ص: 761)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الشورى)) (ص: 326). قال ابنُ عاشور: (المعنى: فإنْ أعرَضوا فلَسْتَ مُقصِّرًا في دَعوتِهم، ولا عليك تَبِعةُ صَدِّهم؛ إذ ما أرسَلْناك حفيظًا عليهم... قوله: فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا دلَّ على نَفيِ التَّبِعةِ عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مِن إعراضِهم، وأنَّ الإعراضَ هو الإعراضُ عن دَعوتِه، فاستُفيدَ أنَّه قد بلَّغ الدَّعوةَ، ولولا ذلك ما أثبَتَ لهم الإعراضَ). ((تفسير ابن عاشور)) (25/133). .
كما قال تعالى: وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا [النساء: 80] .
وقال عزَّ وجلَّ: وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ [الأنعام: 107] .
إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ.
أي: ما عليك -يا مُحمَّدُ- إلَّا أن تُبلِّغَ النَّاسَ ما أمَرَك اللهُ بتَبليغِه مِن الرِّسالةِ، وليس عليك هدايتُهم ولا حِسابُهم [868] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/536)، ((تفسير ابن كثير)) (7/215)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (17/348)، ((تفسير السعدي)) (ص: 761). .
كما قال الله تبارك وتعالى: لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ [البقرة: 272] .
وقال سُبحانَه: مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ [المائدة: 99] .
وقال عزَّ وجلَّ: وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ [العنكبوت: 18] .
وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا.
أي: وإنَّا إذا أعطَيْنا الإنسانَ نِعمةً مِنَّا -كالغِنَى والصِّحَّةِ وغيرِ ذلك- فَرِح بها واطمأَنَّ، وأعرَض عن اللهِ المُنعِمِ بها، فلم يَشكُرْه عليها [869] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/536)، ((تفسير القرطبي)) (16/47)، ((تفسير ابن كثير)) (7/216)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (17/349، 350)، ((تفسير الشوكاني)) (4/623)، ((تفسير السعدي)) (ص: 761)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الشورى)) (ص: 331). قال ابن عاشور: (اختَلَفت مَحامِلُ المفَسِّرين للآيةِ؛ فمِنهم مَن حمَلَها على خُصوصِ الإنسانِ الكافِرِ باللهِ مِثلُ الزمخشريِّ والقرطبيِّ والطِّيبي. ومنهم مَن حمَلَها على ما يَعُمُّ أصنافَ النَّاسِ مِثلُ الطَّبَريِّ والبَغَويِّ والنَّسَفيِّ وابنِ كثير. ومنهم مَن حمَلَها على إرادةِ المعنَيَينِ؛ على أنَّ أوَّلَهما هو المقصودُ، والثَّانيَ مُندَرِجٌ بالتَّبَعِ، وهذه طريقةُ البَيضاويِّ وصاحبِ «الكشف». ومنهم مَن عَكَس، وهي طريقةُ الكَوَاشي في «تلخيصِه»). ((تفسير ابن عاشور)) (25/134). ويُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/232)، ((تفسير القرطبي)) (16/47)، ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (14/83)، ((تفسير ابن جرير)) (20/536)، ((تفسير البغوي)) (4/152)، ((تفسير النسفي)) (3/260)، ((تفسير ابن كثير)) (7/216)، ((تفسير البيضاوي)) (5/84). !
كما قال تعالى: وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ [هود: 10] .
وقال سُبحانَه: وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا [الروم: 36].
وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ كَفُورٌ.
أي: وإنْ تُصِبِ النَّاسَ شِدَّةٌ وبَلاءٌ بسَبَبِ ذُنوبِهم، فإنَّ الإنسانَ جَحودٌ لِما تقدَّمَ مِن نِعَمِ الله عليه [870] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/536)، ((تفسير القرطبي)) (16/47)، ((تفسير ابن كثير)) (7/216)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (17/350، 351)، ((تفسير السعدي)) (ص: 762)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الشورى)) (ص: 332). قال ابن عاشور: (شمِل وَصْفُ كَفُورٌ ما يَشملُ كُفرانَ النِّعمةِ، وهما [أي: الكفرُ بالله وكفرُ النِّعمةِ] مُتلازِمانِ في الأكثرِ). ((تفسير ابن عاشور)) (25/136). .
كما قال تعالى: وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ [هود: 9].
وقال سُبحانَه: وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ [الروم: 36].
لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ (49).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّه لَمَّا ذكَرَ اللهُ تعالى إذاقةَ الإنسانِ الرَّحمةَ، وإصابتَه بضِدِّها؛ أتْبَع ذلك بقَولِه: لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، والمقصودُ منه ألَّا يَغتَرَّ الإنسانُ بما مَلَكَه مِن المالِ والجاهِ، بل إذا عَلِمَ أنَّ الكُلَّ مِلكُ اللهِ ومُلكُه، وأنَّه إنَّما حَصَل ذلك القَدْرُ تحتَ يَدِه لأنَّ اللهَ تعالى أنعَمَ عليه به؛ فحِينَئذٍ يَصيرُ ذلك حامِلًا له على مَزيدِ الطَّاعةِ والخِدمةِ، وأمَّا إذا اعتَقَد أنَّ تلك النِّعَمَ إنَّما تَحصُلُ بسَبَبِ عَقْلِه وَجِدِّه واجتِهادِه، بَقِيَ مَغرورًا بنَفْسِه، مُعرِضًا عن طاعةِ اللهِ تعالى [871] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (27/609). .
وأيضًا لَمَّا قدَّم اللهُ سُبحانَه في هذه السُّورةِ أنَّ له التَّصَرُّفَ التَّامَّ في عالَمِ الخَلقِ، بالأجسامِ المَرئيَّةِ، وفي عالَمِ الأمرِ، بالأرواحِ الحِسِّيَّةِ والمعنويَّةِ القائمةِ بالأبدانِ والمُدَبِّرةِ للأديانِ، وغيرِ ذلك مِن بَديعِ الشَّأنِ؛ فقال في افتِتاحِ السُّورةِ: كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ [الشورى: 3] ، وأتْبَعَه أشكالَه، إلى أنْ قال: أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَإِنْ يَشَأِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ [الشورى: 24] الآيةَ، فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا [الشورى: 11] الآيةَ، لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ [الزمر: 63] ، اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ [الشورى: 19] ، مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآَخِرَةِ [الشورى: 20] الآيةَ، وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ [الشورى: 27] ، وَمِنْ آَيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ [الشورى: 32] الآيةَ، إلى أنْ ذَكَر أحوالَ الآخِرةِ في قَولِه: وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ يَقُولُونَ [الشورى: 44] الآياتِ، وخَتَم بتصَرُّفِه المُطلَقِ في الإنسانِ مِن إنعامٍ وانتقامٍ، وما له مِنَ الطَّبعِ المُعْوَجِّ معَ ما وَهَبه له مِنَ العَقلِ المُقيمِ في أحسَنِ تقويمٍ، فدَلَّ ذلك على أنَّ له التَّصَرُّفَ التَّامَّ مِلكًا ومَلَكوتًا، خَلْقًا وأمرًا- أتْبَعَه الدَّليلَ على أنَّ تصَرُّفَه ذلك على سَبيلِ المِلكِ والقَهرِ إيجادًا وإعدامًا، إهانةً وإكرامًا، فقال [872] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (17/351، 352). :
لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ.
أي: لله وَحْدَه مُلْكُ السَّمَواتِ ومُلكُ الأرضِ، وله وَحْدَه التَّصَرُّفُ في سُلطانِه الواسِعِ بما يَشاءُ [873] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/536)، ((الوسيط)) للواحدي (4/60)، ((تفسير ابن كثير)) (7/216)، ((تفسير السعدي)) (ص: 762)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الشورى)) (ص: 339). قال السعدي: (هذه الآيةُ فيها الإخبارُ عن سَعةِ مُلكِه تعالى، ونُفوذِ تصَرُّفِه في المُلكِ في الخَلقِ لِما يشاءُ، والتَّدبيرِ لجَميعِ الأُمورِ، حتَّى إنَّ تدبيرَه -تعالى- مِن عُمومِه أنَّه يَتناوَلُ المخلوقةَ عن الأسبابِ الَّتي يُباشِرُها العِبادُ؛ فإنَّ النِّكاحَ مِن الأسبابِ لوِلادةِ الأولادِ، فاللهُ تعالى هو الَّذي يُعطيهم مِنَ الأولادِ ما يَشاءُ). ((تفسير السعدي)) (ص: 762). .
يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ.
أي: يَخلُقُ اللهُ ما يَشاءُ خَلْقَه [874] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/536)، ((تفسير السعدي)) (ص: 762)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الشورى)) (ص: 339، 340). .
يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا.
أي: يُعطي اللهُ لِمَن يَشاءُ مِن خَلْقِه إناثًا فقط [875] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/536)، ((تفسير السمرقندي)) (3/249)، ((تحفة المودود)) لابن القيم (ص: 20)، ((تفسير ابن كثير)) (7/216)، ((تفسير ابن عاشور)) (25/138). .
وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ.
أي: ويُعطي اللهُ لِمَن يَشاءُ مِن خَلْقِه ذُكورًا فقط [876] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/536)، ((تفسير السمرقندي)) (3/249)، ((تفسير القرطبي)) (16/48)، ((تحفة المودود)) لابن القيم (ص: 20)، ((تفسير ابن كثير)) (7/216)، ((تفسير ابن عاشور)) (25/138). .
أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (50).
أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا.
أي: أو يَقرِنُ اللهُ لِمَن يشاءُ مِن خَلقِه بيْنَ الذُّكورِ والإناثِ [877] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/537)، ((تفسير القرطبي)) (16/48)، ((تفسير ابن كثير)) (7/216)، ((تفسير ابن عاشور)) (25/138، 139)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الشورى)) (ص: 340، 341). قال القرطبي: (قال مجاهِدٌ: هو أن تَلِدَ المرأةُ غُلامًا ثمَّ تَلِدَ جاريةً، ثمَّ تَلِدَ غُلامًا ثمَّ تَلِدَ جاريةً. وقال محمَّدُ ابنُ الحَنَفيَّةِ: هو أن تَلِدَ تَوْءَمًا؛ غلامًا وجاريةً). ((تفسير القرطبي)) (16/48). وممَّن جمَع بيْنَ المعنيَينِ: البِقاعي، فقال: (ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا مُجتَمِعَينِ في بَطنٍ ومُنفَرِدَينِ). ((نظم الدرر)) للبقاعي (17/355). .
وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا.
أي: ويَجعَلُ اللهُ مَن يَشاءُ مِن الأزواجِ عَقيمًا لا يُولَدُ له [878] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/537)، ((تفسير القرطبي)) (16/48)، ((تفسير ابن كثير)) (7/216). .
إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ.
أي: إنَّ اللهَ بالِغُ العِلمِ بكُلِّ شَيءٍ، ومِن ذلك عِلمُه تعالى بما يَخلُقُه، وعِلمُه بمَن يَستحِقُّ كُلَّ قِسمٍ مِن الأقسامِ المتقَدِّمِ ذِكرُها؛ بالِغُ القُدرةِ على كُلِّ شَيءٍ، ومِن ذلك قُدرتُه على خَلْقِ ما يَشاءُ [879] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/539)، ((تفسير ابن كثير)) (7/216)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (17/357)، ((تفسير السعدي)) (ص: 762)، ((تفسير ابن عاشور)) (25/139). قال ابنُ عاشور: (المعنى: أنَّ خَلْقَه ما يشاءُ ليس خَلقًا مُهمَلًا عَرِيًّا عن الحِكمةِ؛ لأنَّه واسِعُ العِلمِ، لا يَفوتُه شَيءٌ مِن المعلوماتِ؛ فخَلْقُه الأشياءَ يجري على وَفقِ عِلمِه وحِكمتِه، وهو قديرٌ نافِذُ القُدرةِ). ((تفسير ابن عاشور)) (25/139). .

الفوائد التربوية:

1- قَولُ الله تعالى: اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَأٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ فيه ذَمُّ الأمَلِ، والأمرُ بانتِهازِ الفُرصةِ في كُلِّ عَمَلٍ يَعرِضُ للعَبدِ؛ فإنَّ للتَّأخيرِ آفاتٍ [880] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 761). ، فالإنسانُ لا يَدْري متى يُفاجِئُه الموتُ، وإذا فاجَأه الموتُ انقطعَ كلُّ عملٍ، كما قال النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم: ((إذا مات الإنسانُ انقطعَ عمَلُه)) [881] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الشورى)) (ص: 326). .
2- في قَولِه تعالى: فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا تسليةٌ للدُّعاةِ مِن بَعدِ الرَّسولِ صلَّى الله عليه وسلَّم، فالدَّاعي عليه البلاغُ، وليس عليه أنْ يَهديَ النَّاسَ -ولا يُمكِنُه ذلك-، لكنَّ بعضَ الدُّعاةِ إذا لم يَجِدْ مُجيبًا لدعوتِه أُصيبَ باليأسِ، واستحسرَ، وتَرَكَ الدَّعوةَ! وهذا غلَطٌ، فعلى الدَّاعي أنْ يَدعوَ إلى الله وإن لم يَستجِبْ له أحدٌ، وألَّا يَيأسَ، وإذا كان النَّبيُّ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ أخبَرَنا بأنَّه رأى النَّبيَّ وليسه معه أحدٌ [882] يُنظر ما أخرجه البخاري (5752)، ومسلم (220). ؛ فإذا كان الأنبياءُ قد لا يُستجابُ لهم؛ فكيفَ بنا نحن [883] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الشورى)) (ص: 333). ؟!
3- قَولُ الله تعالى: وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ كَفُورٌ يُبَيِّنُ أنَّ الإنسانَ إذا فاز بهذا القَدرِ الحَقيرِ الَّذي حَصَل في الدُّنيا، فإنَّه يَفرَحُ بها، ويَعظُمُ غُرورُه بسَبَبِها، ويقَعُ في العُجبِ والكِبْرِ، ويَظُنُّ أنَّه فاز بكُلِّ المُنى، ووصَل إلى أقاصي السَّعاداتِ! وهذه طريقةُ مَن يَضعُفُ اعتِقادُه في سَعاداتِ الآخِرةِ، وهذه الطَّريقةُ مُخالِفةٌ لِطَريقةِ المؤمِنِ الَّذي لا يَعُدُّ نِعَمَ الدُّنيا إلَّا كالوُصْلةِ إلى نِعَمِ الآخِرةِ [884] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (27/609). .
4- قَولُه تعالى: يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ فيه أنَّ الأولادَ هِبةٌ مِن اللهِ عزَّ وجلَّ، والهِبةُ: هي العَطِيَّةُ بلا عِوَضٍ، وأنَّه لا اختيارَ للمرءِ بالنِّسبةِ للأولادِ؛ حيثُ جُعِل الأمرُ راجعًا إلى مشيئتِه تبارَك وتعالَى [885] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الشورى)) (ص: 343). ، فالأولادُ جميعًا مِن الذُّكورِ والإناثِ مواهِبُ اللهِ تعالى وهداياه، فيَجِبُ أن يَقبَلوها منه قَبولَ الهدايا والهِباتِ على الشُّكرِ له والمِنَّةِ [886] يُنظر: ((تفسير الماتريدي)) (9/140). ، فما قَدَّره اللهُ بيْنَ الزَّوجينِ مِن الوَلَدِ فقد وهَبَهما إيَّاه، وكفَى بالعَبدِ تعَرُّضًا لِمَقتِه أن يَتسَخَّطَ ما وَهَبه [887] يُنظر: ((تحفة المودود)) لابن القيم (ص: 20). .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- في قَولِه تعالى: اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ رأفةُ اللهِ تبارك وتعالى بعِبادِه؛ حيثُ يُنذِرُهم بعذابِه قبْلَ الوُقوعِ، ولا شَكَّ أنَّ هذا مِن رَحمتِه ورأفتِه بهم، وإلَّا لَتَرَكهم يَفعَلونَ ما يَشاؤُونَ حتَّى يَنزِلَ بهم العَذابُ [888] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الشورى)) (ص: 327). .
2- في قَولِه تعالى: فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا أنَّ النَّبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم ليس حفيظًا على الأُمَّةِ؛ لا في حياتِه ولا بعدَ مماتِه، وعلى هذا فلا يُستَغاثُ به بعدَ مَوتِه، ولا يُطلَبُ منه الهِدايةُ، وإنَّما الهدايةُ مِن عندِ اللهِ عزَّ وجَلَّ [889] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الشورى)) (ص: 335). .
3- قَولُ الله تعالى: يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ عبَّرَ سُبحانَه فيهنَّ بلَفظِ (الهِبةِ)؛ لأنَّ الأوهامَ العاديَّةَ قد تكتَنِفُ العَقلَ، فتَحجُبُه عن تأمُّلِ محاسِنِ التَّدبيراتِ الإلهيَّةِ، وتَرمي به في مَهاوي الأسبابِ الدُّنيويَّةِ، فيَقَعُ المُسلِمُ مع إسلامِه في مُضاهاةِ الكُفَّارِ في كراهةِ البَناتِ، وفي وادي الوَأدِ بتَضييعِهنَّ أو التَّقصيرِ في حُقوقِهنَّ، وتنبيهًا على أنَّ الأُنثَى نِعمةٌ، وأنَّ نِعمَتَها لا تَنقُصُ عن نِعمةِ الذَّكَرِ، ورُبَّما زادَتْ، وإيقاظًا مِن سِنَةِ الغَفلةِ [890] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (17/354). .
4- قَولُ الله تعالى: يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ * أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا فيه سُؤالٌ: لِمَ قال في إعطاءِ الإناثِ وَحْدَهنَّ، وفي إعطاءِ الذُّكورِ وَحْدَهم بلَفظِ (الهِبةِ)، فقال: يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ، وقال في إعطاءِ الصِّنفَينِ معًا: أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا؟
الجَوابُ: أنَّ كُلَّ شَيئَينِ يُقرَنُ أحَدُهما بالآخَرِ فهما زَوجانِ، وكُلُّ واحِدٍ منهما يُقالُ له: (زَوجٌ)، والكِنايةُ في يُزَوِّجُهُمْ عائِدةٌ على الإناثِ والذُّكورِ الَّتي في الآيةِ الأُولى، والمعنى: يَقرِنُ الإناثَ والذُّكورَ، فيَجعَلُهم أزواجًا [891] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (27/610). .
5- في قَولِه تعالى: يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ * أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا تمامُ قُدرةِ اللهِ تبارك وتعالى؛ حيثُ خَلَقَ مِن هذه النُّطفةِ وهي واحِدةٌ؛ خَلَقَ منها ذُكورًا خُلَّصًا، وإناثًا خُلَّصًا، وأصنافًا ذُكورًا وإناثًا، مع أنَّ الماءَ واحِدٌ، ولكِنَّ اللهَ سُبحانَه وتعالى على كلِّ شيءٍ قَديرٌ [892] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الشورى)) (ص: 344). ، وأيضًا لَمَّا استوى البشَرُ في الإنسانيَّةِ والنِّكاحِ الَّذي هو سببُ الولادةِ، واختلفتْ أصنافُ أولادِهم؛ كان ذلك أدَلَّ دليلٍ على أنَّه لا اختيارَ لأحَدٍ معه، وأنَّ الأسبابَ لا تؤثِّرُ أصلًا إلَّا به [893] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (17/353). .
6- قَولُ الله تعالى: أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا قيل: عبَّرَ في الذَّكَرِ بما هو أبلَغُ في الكَثرةِ؛ تَرغيبًا في سُؤالِه، والخُضوعِ لديه رجاءَ نَوالِه [894] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (17/355). .
7- قال تعالى: يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ إلى قَولِه: إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ هذا المقامُ شَبيهٌ بقَولِه تعالى عن عيسى عليه السَّلامُ: وَلِنَجْعَلَهُ آَيَةً لِلنَّاسِ [مريم: 21] أي: دَلالةً لهم على قُدرتِه تعالى وتقَدَّس؛ حيث خَلَق الخَلْقَ على أربعةِ أقسامٍ؛ فآدَمُ عليه السَّلامُ مخلوقٌ مِن تُرابٍ لا مِن ذَكَرٍ ولا أُنثَى، وحوَّاءُ عليها السَّلامُ مخلوقةٌ مِن ذَكَرٍ بلا أُنثى، وسائِرُ الخَلقِ سِوى عيسى عليه السَّلامُ مِن ذَكَرٍ وأنثى، وعيسى عليه السَّلامُ مِن أُنثَى بلا ذَكَرٍ؛ فتَمَّت الدَّلالةُ بخَلقِ عيسى بنِ مَريمَ عليهما السَّلامُ؛ ولهذا قال: وَلِنَجْعَلَهُ آَيَةً لِلنَّاسِ، فهذا المقامُ في الآباءِ، والمقامُ الأوَّلُ في الأبناءِ، وكُلٌّ منهما أربعةُ أقسامٍ؛ فسُبحانَ العليمِ القَديرِ [895] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (7/216). . فهذه القِسمةُ الرُّباعيَّةُ في الأُصولِ كالقِسمةِ الرُّباعيَّةِ في الفُروعِ؛ فتَمَّت الدَّلالةُ على أنَّه ما شاء كان ولا رادَّ له، وما لم يَشأْ لم يكُنْ ولا مُكَوِّنَ له، ولا مانِعَ لِما أعطى، ولا مُعطِيَ لِما مَنَع سبحانَه [896] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (17/356). .

بلاغة الآيات:

1- قولُه تعالى: اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَأٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ بعدَ أنْ قطَعَ خِطابَهم عَقِبَ قولِه: فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [الشورى: 36] بما تَخلَّصَ به إلى الثَّناءِ على فِرَقِ المؤمنينَ، وما استتْبَعَ ذلك مِن التَّسجيلِ على المشرِكينَ بالضَّلالةِ والعذابِ، ووَصْفِ حالِهم الفظيعِ؛ عادَ الكلامُ إلى خِطابِهم بالدَّعوةِ الجامعةِ لِما تَقدَّمَ؛ طَلبًا لِتَدارُكِ أمْرِهم قبْلَ الفَواتِ، فاستُؤنِفَ الكلامُ استئنافًا فيه معنى النَّتيجةِ للمَواعظِ المتقدِّمةِ؛ لأنَّ ما تَقدَّمَ مِن الزَّواجِرِ يُهيِّئُ بعضَ النُّفوسِ لِقَبولِ دَعوةِ الإسلامِ [897] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/130، 131). .
- قولُه: اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ الاستِجابةُ: إجابةُ الدَّاعي، والسِّينُ والتَّاءُ للتَّوكيدِ. واللَّامُ في لِرَبِّكُمْ لتأكيدِ تعديةِ الفِعلِ إلى المفعولِ؛ مِثلُ: حَمِدتُ له، وشكَرتُ له، وتُسمَّى لامَ التَّبليغِ، ولامَ التَّبيينِ [898] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/131). .
- وفي قولِه: وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ سَبِيلٍ * اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَأٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ [الشورى: 46، 47] مُناسَبةٌ حسَنةٌ، ففي سُورةِ (الرُّومِ): فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ [الروم: 43]؛ فاختَلَفَ ما انقطَعَ إليه قولُه: لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ، فجاءَ في هذه السُّورةِ: مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَأٍ يَوْمَئِذٍ، وفي (الرُّومِ): يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ؛ ووجْهُ هذه المناسَبةِ: أنَّ قولَه تعالى: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ معناهُ: استقِمْ أنت ومَن معك مِن المؤمنينَ على الدِّينِ المستقيمِ مِن قبْلِ أنْ يَجِيءَ يومٌ لا يَنفَعُ فيه الإيمانُ؛ فكأنَّه خاطَبَ النَّاسَ بالاجتماعِ على الإيمانِ، والتَّآلُفِ على الإسلامِ قبْلَ يومِ القيامةِ الَّذي تَتفرَّقُ فيه الجُموعُ؛ ففريقٌ في الجنَّةِ، وفريقٌ في السَّعيرِ، فلمَّا كان قولُه: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ أمْرًا للنَّاسِ كلِّهم بالاجتماعِ على الحقِّ ورفضِ الباطلِ، حذَّرَهم التَّفرُّقَ في الآخِرةِ، ومَصيرُ المطيعِ إلى دارِ الثَّوابِ، والعاصي إلى دارِ العقابِ؛ فكان هذا مُلائمًا لِما قبْلَه.
أمَّا الآيةُ الَّتي هنا في سُورةِ (الشُّورى) فجاءتْ بعدَ قولِه: أَلَا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُقِيمٍ... إلى: مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَأٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ [الشورى: 45 - 47] ، فلمَّا قال: إنَّ الظَّالِمينَ لا وليَّ لهم يَنصُرُهم مِن دونِ اللهِ، قال عِندَ ذِكرِ اليومِ الَّذي لا مَرَدَّ له مِن اللهِ: مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَأٍ يَوْمَئِذٍ، فاقتَضى ما تَقدَّمَ مِن ذِكرِ أنَّه لا ناصرَ لهم يَدفَعُ عذابَ اللهِ تعالى عنهم؛ سَدَّ طُرقِ النَّجاةِ دونَهم بأنَّه لا ملجَأَ لهم، ولا ذابَّ عنهم، ومَن دهَمَه الخَطْبُ العظيمُ الَّذي لا يُطيقُ احتمالَه، فلم يَجِدْ مَهرَبًا ولا ناصرًا، لم يَبقَ له إلَّا الاستِسلامُ [899] يُنظر: ((درة التنزيل وغرة التأويل)) للإسكافي (ص: 1161-1163)، ((أسرار التكرار في القرآن)) للكرماني (ص: 222)، ((بصائر ذوي التمييز)) للفيروزابادي (1/415، 416)، ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص: 506، 507). .
2- قولُه تعالى: فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ كَفُورٌ
- قولُه: فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ فيه تَلْوينٌ للكلامِ، وصَرْفٌ له عن خِطابِ النَّاسِ بعْدَ أمرِهم بالاستِجابةِ، وتَوجيهٌ له إلى رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، أي: فإنْ لم يَسْتجيبوا وأعرَضوا عمَّا تَدْعوهم إليه، فما أرسَلْناك رقيبًا ومُحاسِبًا عليهم [900] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (8/36). .
- والفاءُ في قولِه: فَإِنْ أَعْرَضُوا ... للتَّفريعِ على قولِه: اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ الآيةَ [الشورى: 47] ، وهو جامعٌ لِما تَقدَّمَ؛ إذ أمَرَ اللهُ نَبيَّه بدَعْوتِهم للإيمانِ مِن قولِه في أوَّلِ السُّورةِ: وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا [الشورى: 7] ، ثمَّ قولِه: فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ [الشورى: 15] ، وما تَخلَّلَ ذلك واعترَضَه مِن تَضاعيفِ الأمْرِ الصَّريحِ والضِّمْنيِّ إلى قولِه: اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ الآيةَ [الشورى: 47] ، ثمَّ فُرِّعَ على ذلك كلِّه إعلامُ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بمَقامِه وعمَلِه إنْ أعرَضَ مُعرِضونَ مِن الَّذين يَدْعوهم، وبمَعذِرتِه فيما قام به، وأنَّه غيرُ مُقصِّرٍ، وهو تَعريضٌ بتَسليتِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ على ما لاقاهُ مِن المشرِكينَ، والمعنى: فإنْ أعرَضوا بعدَ هذا كلِّه، فما أرسَلْناك حفيظًا عليهم، ومُتكفِّلًا بهم؛ إذ ما عليك إلَّا البلاغُ. وإذ قد كان ما سبَقَ مِن الأمْرِ بالتَّبليغِ والدَّعوةِ مُصَدَّرًا بقولِه أوائلَ السُّورةِ: وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَولِيَاءَ اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ [الشورى: 6] ، لا جَرَمَ ناسَبَ أنْ يُفرِّعَ على تلك الأوامرِ بعدَ تَمامِها مِثلَ ما قدَّمَ لها، فقال: فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ، وهذا الارتباطُ هو نُكتةُ الالْتفاتِ مِن الخِطابِ الَّذي في قولِه: اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ الآيةَ [الشورى: 47] ، إلى الغَيبةِ في قولِه هنا: فَإِنْ أَعْرَضُوا، وإلَّا لِقَيل: فإنْ أعرَضتُم [901] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/132، 133). .
- قولُه: فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا ليس هو جَوابَ الشَّرْطِ في المعنى، ولكنَّه دَليلٌ عليه، وقائمٌ مَقامَه؛ إذِ المعنَى: فإنْ أعْرَضوا فلَسْتَ مُقصِّرًا في دَعوتِهم، ولا عليك تَبِعةُ صَدِّهم؛ إذ ما أرْسَلْناك حَفيظًا عليهم، بقَرينةِ قولِه: إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ [902] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/133). .
- وجُملةُ إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ بَيانٌ لِجُملةِ فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا؛ باعتبارِ أنَّها دالَّةٌ على جَوابِ الشَّرطِ المقدَّرِ [903] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/133). .
- وهذه الجُملةُ: وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ كَفُورٌ تتَّصِلُ بقولِه: فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ؛ لِما تَضمَّنَتْه هذه مِن التَّعريضِ بتَسليةِ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ على ما لاقاهُ مِن قَومِه، ويُؤذِنُ بهذا الاتِّصالِ أنَّ هاتَينِ الجُملتَينِ جُعِلتَا آيةً واحدةً هي ثامنةٌ وأربعونَ في هذه السُّورةِ؛ فالمعنى: لا يَحزُنْك إعراضُهم عن دَعْوتِك؛ فقد أعرَضوا عن نِعمتي وعن إنذاري بزِيادةِ الكُفْرِ؛ فالجُملةُ مَعطوفةٌ على جُملةِ فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا [904] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/133). .
- وابتداءُ الكلامِ بضَميرِ الجلالةِ المنفصِلِ وَإِنَّا مُسنَدًا إليه فِعلُ أَذَقْنَا، دونَ أنْ يُقالَ: (وإذا أذَقْنا الإنسانَ... إلخ)، مع أنَّ المقصودَ وَصْفُ هذا الإنسانِ بالبَطَرِ بالنِّعمةِ، وبالكُفرِ عِندَ الشِّدَّةِ؛ لأنَّ المقصودَ مِن مَوقعِ هذه الجُملةِ هنا تَسليةُ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ عن جَفاءِ قَومِه وإعراضِهم؛ فالمعنى: أنَّ مُعامَلتَهم ربَّهم هذه المعاملةَ تُسَلِّيكَ عن مُعاملتِهم إيَّاك؛ ولهذا لا تَجِدُ نَظائرَ هذه الجُملةِ في مَعْناها مُفتتَحًا بمِثلِ هذا الضَّميرِ؛ لأنَّ مَوقعَ تلك النَّظائرِ لا تُماثِلُ مَوقعَ هذه، وإنْ كان مَعناهما مُتماثِلًا، فهذه الخُصوصيَّةُ خاصَّةٌ بهذه الجُملةِ. ولكنْ نَظمُ هذه الآيةِ جاءَ صالحًا لإفادةِ هذا المعنى، ولإفادةِ معنًى آخَرَ مُقارِبٍ له؛ وهو أنْ يكونَ هذا حِكايةَ خُلُقٍ للنَّاسِ كلِّهم مُرتكِزٍ في الجِبِلَّةِ، لكنَّ مَظاهِرَه مُتفاوِتةٌ بتَفاوُتِ أفرادِه في التَّخلُّقِ بالآدابِ الدِّينيَّةِ، فيُحمَلُ (الإنسانُ) في الموضعَينِ على جِنسِ بَني آدمَ، ويُحمَلُ الفرَحُ على مُطلَقِه المَقولِ عليه بالتَّشكيكِ حتَّى يَبلُغَ مَبلَغَ البَطَرِ، وتُحمَلُ السَّيِّئةُ الَّتي قدَّمَتْها أيديهِم على مَراتبِ السَّيِّئاتِ إلى أنْ تَبلُغَ مَبلَغَ الإشراكِ، ويُحمَلُ وَصْفُ كَفُورٌ على ما يَشملُ اشتِقاقُه مِن الكُفْرِ بتَوحيدِ اللهِ، والكُفرِ بنِعمةِ اللهِ. والمرادُ بـ (الإنسان) في الموضعِ الأوَّلِ والموضعِ الثَّاني معنًى واحدٌ، وهو تَعريفُ الجِنسِ المرادُ به الاستِغراقُ، أي: إذا أذَقْنا النَّاسَ، وأنَّ النَّاسَ كَفُورونَ، ويكونُ استغراقًا عُرْفيًّا أُرِيدَ به أكثَرُ جِنسِ الإنسانِ في ذلك الزَّمانِ والمكانِ؛ لأنَّ أكثَرَ نَوعِ الإنسانِ يومَئذٍ مُشرِكون، وهذا هو المناسِبُ لِقَولهِ: فَإِنَّ الْإِنْسَانَ كَفُورٌ، أي: شَديدُ الكُفرِ قَوِيُّه، ولقولِه: بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ، أي: مِن الكُفرِ. وإنَّما عُدِلَ عن التَّعبيرِ بـ (النَّاسِ) إلى التَّعبيرِ بـ (الإنسانِ)؛ للإيماءِ إلى أنَّ هذا الخُلُقَ المُخبَرَ به عنهم هو مِن أخلاقِ النَّوعِ، لا يُزيلُه إلَّا التَّخلُّقُ بأخلاقِ الإسلامِ، فالَّذين لم يُسلِموا باقُونَ عليه، وذلك أدْخَلُ في التَّسليةِ؛ لأنَّ اسمَ (الإنسانِ) اسمُ جِنسٍ يَتضمَّنُ أوصافَ الجِنسِ المُسمَّى به على تَفاوُتٍ في ذلك؛ وذلك لِغَلَبةِ الهوَى [905] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/133 - 135). .
- قولُه: وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ ... فيه تأْكيدُ الخبرِ بحَرْفِ التَّأكيدِ (إنَّ)؛ لِمُناسَبةِ التَّسليةِ بأنْ نُزِّلَ السَّامعُ الَّذي لا يَشُكُّ في وُقوعِ هذا الخبرِ مَنزِلةَ المتردِّدِ في ذلك؛ لاستِعظامِه إعراضَهم عن دَعوةِ الخَيرِ [906] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/135). .
- وتَصديرُ الشَّرطيَّةِ الأُولى وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا بحرفِ (إذا)؛ للتَّنبيهِ على أنَّ إيصالَ النِّعمةِ مُحقَّقُ الوُجودِ، كثيرُ الوُقوعِ، كما أنَّ تَصديرَ الثَّانيةِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ كَفُورٌ بـ (إنْ)؛ للإيذانِ بنُدرةِ وُقوعِها [907] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (5/84)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (17/350)، ((تفسير أبي السعود)) (8/36)، ((تفسير ابن عاشور)) (25/135). ، وأنَّ ما يَعْفُو اللهُ تعالى عنه أكثرُ [908] يُنظر: ((بدائع الفوائد)) لابن القيم (1/47). ، وفي نسبةِ الرَّحمةِ إليه تعالى دونَ السَّيِّئةِ تعليمٌ للعبادِ ألَّا يُضافَ إليه سبحانَه الشَّرُّ [909] يُنظر: ((تفسير الألوسي)) (11/43). .
- وأتَى في الرَّحمةِ بالفعلِ الماضي أَذَقْنَا الدَّالِّ على تحقيقِ الوُقوعِ؛ وأتَى بفعلِ الإذاقةِ الدَّالِّ على مباشرةِ الرَّحمةِ لهم؛ وأنَّها مَذُوقَةٌ لهم -والذَّوقُ هو أخَصُّ أنواعِ الملابَسةِ وأشَدُّها، وأمَّا في حصولِ السَّيِّئةِ فأتَى بالمستقبَلِ تُصِبْهُمْ الدَّالِّ على أنَّه غيرُ مُحَقَّقٍ ولا بُدَّ [910] يُنظر: ((بدائع الفوائد)) لابن القيم (1/47). .
وقيل: عبَّرَ بالذَّوقِ؛ لأنَّ نِعَمَ اللهِ في الدُّنيا وإنْ كانت عَظيمةً فإنَّها بالنِّسبةِ إلى السَّعاداتِ المُعَدَّةِ في الآخِرةِ كالقَطرةِ بالنِّسبةِ إلى البَحرِ [911] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (27/609). . وقيل: استَعمَلَ في الرَّحمةِ الإذاقةَ، وفي مُقابَلتِها الإصابةَ، فقال: وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ؛ تنبيهًا على أنَّ الإنسانَ بأدنى ما يُعطى مِنَ النَّعمةِ يَأشَرُ ويَبطَرُ؛ إشارةً إلى قَولِه: كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآَهُ اسْتَغْنَى [912] يُنظر: ((المفردات)) للراغب (ص: 333). [العلق: 6، 7].
- وأُفرِدَ الضَّميرُ في فَرِحَ، وجُمِع في وَإِنْ تُصِبْهُمْ، وعَمَّ في (إِنَّ الْإِنْسَانَ كَفُورٌ)، لِمَفهومٍ واحدٍ على التَّرقِّي في معنى: ليس ببِدْعٍ مِن هذا الإنسانِ المعهودِ الإصرارُ؛ لأنَّ هذا الجنسَ مَوسومٌ بكُفرانِ النِّعمِ، فجعَلَ ذمَّ «الإنسانِ» الثَّاني المُطلَقِ دليلًا على ذمِّ هذا المقيَّدِ [913] يُنظر: ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (14/83، 84). .
- وقولُه: بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ أي: بما قدَّموا مِن المعاصي، وعُبِّرَ بالأيدي؛ لأنَّ أكثَرَ الأفعالِ تُزاوَلُ بها؛ فالأيدي أكثَرُ عمَلًا مِن الأرجُلِ، كما أنَّ حَرَكةَ اليَدِ -وإن كانتْ مِن جِنسٍ واحدٍ هي وحَركةُ الرِّجْلِ- أكثَرُ أنواعًا فضْلًا عن أفرادِها؛ فالأعمالُ حَقيقةً إنَّما تُزاوَلُ باليَدِ؛ لأنَّها أكثَرُ مِن أيِّ عُضْوٍ في البدنِ مُزاولةً للأعمالِ. حتَّى لو قال قائلٌ: اللِّسانُ أكثَرُ حركةً مِن اليَدِ؛ مَن يُحصي كَلماتِ اللِّسانِ؟ فالجوابُ: أنَّها وإنْ كانتْ مِن جِنسٍ واحدٍ أيضًا، لكنَّ اليَدَ تَبطِشُ، تضْرِبُ، تَكتُبُ، تَمْحو، يعني لا تُحصى أنواعُها؛ فلذلك عُبِّرَ بالأيدي عن النَّفْسِ [914] يُنظر: ((إعراب القرآن)) لدرويش (9/51)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الشورى)) (ص: 332). .
- وقولُه: الْإِنْسَانَ مِن وضْعِ المُضمَرِ مَوضعَ المظْهَرِ، ولم يقُلْ: (فإنَّه كَفورٌ)؛ لِيُسجِّلَ على أنَّ هذا الجنسَ مَوسومٌ بكُفرانِ النِّعمِ، كما قال: إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ [إبراهيم: 34]، إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ [العاديات: 6] ، والمعنى أنَّه يَذكُرُ البلاءَ، ويَنسى النِّعمَ ويَغمِطُها، وهذا وإنِ اختَصَّ بالمجرمينَ، جازَ إسنادُه إلى الجنسِ؛ لِغَلَبتِهم واندراجِهم فيه [915] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/232)، ((تفسير البيضاوي)) (5/84)، ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (14/83)، ((تفسير أبي السعود)) (8/36). . وأيضًا لم يَقُلْ (فإنَّه كفورٌ)؛ لِيُبيِّنَ أنَّ طَبيعةَ الإنسانِ تقتَضي هذه الحالةَ، إلَّا إذا أدَّبَها الرَّجُلُ بالآدابِ الَّتي أرشدَ اللهُ إليها [916] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (27/609). .
- والحُكمُ الَّذي تَضمَّنتْه جُملةُ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ كَفُورٌ هو المقصودُ مِن جُملةِ الشَّرطِ كلِّها؛ ولذلك أُعِيدَ حَرْفُ التَّأكيدِ فيها بعدَ أنْ صُدِّرتْ به الجُملةُ المُشتمِلةُ على الشَّرْطِ؛ لِيُحيطَ التَّأكيدُ بكِلْتا الجُملتَينِ، فغلَبَ على نَوعِ الإنسانِ الكُفرُ باللهِ على الإيمانِ به؛ ولذلك عقَّبَ هذا الحُكمَ على النَّوعِ بقولِه: لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ [الشورى: 49] ، ولم يَخرُجْ عن هذا العمومِ إلَّا الصَّالحونَ مِن نوعِ الإنسانِ، على تَفاوُتٍ بيْنَهم في كَمالِ الخُلُقِ [917] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/136). .
3- قولُه تعالى: لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ * أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ
- قولُه: لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ استئنافٌ بَيانيٌّ؛ لأنَّ ما سبَقَه مِن عَجيبِ خُلُقِ الإنسانِ الَّذي لم يُهذِّبْه الهدْيُ الإلهيُّ، يُثيرُ في نفْسِ السَّامعِ سُؤالًا عن فَطْرِ الإنسانِ على هذَينِ الخُلُقينِ اللَّذَينِ يَتلقَّى بهما نِعمةَ ربِّه وبَلاءَه، وكيف لم يُفطَرْ على الخُلُقِ الأكملِ؛ لِيَتلقَّى النِّعمةَ بالشُّكرِ، والضُّرَّ بالصَّبرِ والضَّراعةِ؟ وسُؤالًا أيضًا عن سَببِ إذاقةِ الإنسانِ النِّعمةَ مَرَّةً والبؤسَ مرَّةً، فيَبْطَرُ ويَكفُرُ، وكيف لم يُجعَلْ حالُه كَفافًا لا لَذَّاتِ له ولا بلايا كَحالِ العَجْماواتِ؟ فكان جَوابُه: أنَّ اللهَ المتصرِّفُ في السَّمواتِ والأرضِ يَخلُقُ فيهما ما يَشاءُ مِن الذَّواتِ وأحوالِها، وهو جَوابٌ إجماليٌّ إقناعيٌّ يُناسِبُ حضْرةَ التَّرفُّعِ عن الدُّخولِ في المجادَلةِ عن الشُّؤونِ الإلهيَّةِ [918] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/136، 137). .
- وأيضًا قولُه: لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ واردٌ على نَمَطِ الآياتِ السَّابقةِ، وهي: وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ [الشورى: 25] ، وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ [الشورى: 28] ، وَمِنْ آَيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ [الشورى: 29] ، ولَمَّا ذكَرَ بَثَّ الحيوانِ، وأراد أنْ يُبيِّنَ كيفيَّةَ البَثِّ قدَّمَ استِبدادَه بالمُلكِ، واستِقلالَه بالملَكوتِ، ثمَّ ثنَّى بأنَّه خالقٌ لِما يشاءُ، فاعلٌ لِما يُريدُ، له التَّصرُّفُ في مُلكِه ما يشاءُ كيف يشاءُ، ثمَّ ثلَّثَ بقولِه: يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ؛ فترَقَّى مِن ذلك العامِّ إلى ذِكرِ الإناثِ، ثمَّ إلى إفرادِ الذُّكورِ، ثمَّ إلى جمْعِهما، فلا يَدخُلُ في الكلامِ إرادةُ الإنسانِ وكَراهتُه، وأمَّا قولُه: وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا فهو كالاستِدراكِ وتَتميمِ معنى الاستِبدادِ بالخلْقِ؛ ولذلك غيَّرَ العبارةَ إلى وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ [919] يُنظر: ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (14/85، 86). .
- وفي قولِه: يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إجمالٌ يَبعَثُ المتأمِّلَ المُنصِفَ على تَطلُّبِ الحِكمةِ في ذلك، فإنْ تَطلَّبَها انقادَتْ له، كما أَومَأَ إلى ذلك تَذييلُ هذه الجُملةِ بقولِه: إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ، فكأنَّه يقولُ: عليكم بالنَّظَرِ في الحِكمةِ في مَراتبِ الكائناتِ وتَصرُّفِ مُبدِعِها؛ فكما خلَقَ الملائكةَ على أكمَلِ الأخلاقِ في جميعِ الأحوالِ، وفطَرَ الدَّوابَّ على حدٍّ لا يَقبَلُ كَمالَ الخُلُقِ، كذلك خلَقَ الإنسانَ على أساسِ الخَيرِ والشَّرِّ، وجعَلَه قابلًا للزِّيادةِ منهما، على اختلافِ مَراتبِ عُقولِ أفرادِه وما يُحيطُ بها مِن الاقتِداءِ والتَّقليدِ، وخلَقَه كاملَ التَّمييزِ بيْنَ النِّعمةِ وضِدِّها؛ لِيَرتفِعَ دَرَجاتٍ ويَنحَطَّ درَكاتٍ ممَّا يَختارُه لِنَفْسِه [920] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/137). .
- قولُه: يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ بَدَلٌ مِن جُملةِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ بدَلَ اشتِمالٍ؛ لأنَّ خلْقَه ما يشاءُ يَشتمِلُ على هِبَتِه لِمَن يَشاءُ ما يشاءُ، وهذا الإبدالُ إدماجُ مَثَلٍ جامعٍ لِصُوَرِ إصابةِ المحبوبِ، وإصابةِ المكروهِ؛ فإنَّ قولَه: وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا هو مِن المكروهِ عِندَ غالبِ البشرِ، ويَتضمَّنُ ضَرْبًا مِن ضُروبِ الكُفرانِ، وهو اعتقادُ بعضِ النِّعمةِ سيِّئةً في عادةِ المشرِكينَ مِن تَطيُّرِهم بوِلادةِ البَناتِ لهم [921] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/138). .
- وتَنكيرُ إِنَاثًا؛ لأنَّ التَّنكيرَ هو الأصلُ في أسماءِ الأجناسِ، وتَعريفُ الذُّكُورَ باللَّامِ؛ لأنَّهم الصِّنفُ المعهودُ للمُخاطَبينَ، فاللَّامُ لِتَعريفِ الجنسِ، وإنَّما يُصارُ إلى تَعريفِ الجنسِ لِمَقصَدٍ، أي: يَهَبُ ذلك الصِّنفَ الَّذي تَعهَدونَه، وتَتحدَّثونَ به، وتَرغَبونَ فيه [922] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/138). . وقيل: نكَّرهنَّ وعرَّف الذُّكورَ؛ لانحِطاطِ رُتبَتِهنَّ، لئلَّا يُظنَّ أنَّ التَّقديمَ كان لأحقِّيَّتِهنَّ به [923] يُنظر: ((فتح الرحمن بكشف ما يلتبس في القرآن)) للأنصاري (ص: 510). .
- وفي قولِه: يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ قدَّمَ الإناثَ مع أنَّ جِهتَهنَّ التَّأخيرُ؛ لأنَّ الآيةَ سِيقَتْ لبيانِ عظَمةِ مُلكِه سُبحانَه ومشيئتِه، وأنَّه فاعلٌ ما يشاءُ، لا ما يشاؤُه عبيدُه، ولَمَّا كان الأبَوانِ لا يُريدانِ إلَّا الذُّكورَ غالبًا قدَّمَهنَّ في الذِّكرِ؛ لبيانِ نفوذِ إرادتِه ومشيئتِه، وانفرادِه بالأمرِ. وقيل: تقديمُ الإِناثِ لأنَّهنَّ أكثرُ لتكثيرِ النَّسلِ. وقيل: بُدِئ في هذه الآيةِ بذكرِ الإناثِ؛ تأنيسًا بهنَّ، وتشريفًا لهنَّ؛ لِيُهتمَّ بصَونِهنَّ، والإحسانِ إليهنَّ. وقيل: جبرًا لهنَّ؛ مِن أجْلِ استِثقالِ الوالدينِ لِمَكانِهنَّ.
وقيل: قدَّمَ الإناثَ في الذِّكرِ على الذُّكورِ في قولِه: يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ، ثمَّ في الآيةِ الثَّانيةِ قدَّمَ الذُّكورَ على الإناثِ، فقال: أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا؛ وذلك لِوُجوهٍ؛ الأوَّلُ: أنَّ الكريمَ يَسعى في أن يقَعَ الخَتْمُ على الخَيرِ والرَّاحةِ والسُّرورِ والبَهجةِ، فإذا وهَبَ الولدَ الأُنثى أوَّلًا، ثمَّ أَعطى الذَّكَرَ بعدَه، فكأنَّه نقَلَه مِن الغمِّ إلى الفرَحِ، وهذا غايةُ الكرمِ، أمَّا إذا أَعطى الولدَ الذَّكَرَ أوَّلًا، ثمَّ أَعطى الأُنثى ثانيًا، فكأنَّه نقَلَه مِن الفرَحِ إلى الغمِّ، فذكَرَ تعالى هِبةَ الولدِ الأُنثى أوَّلًا، وثانيًا هبةَ الولدِ الذَّكَرِ؛ حتَّى يكونَ قد نقَلَه مِن الغمِّ إلى الفرحِ، فيكونَ ذلك أليَقَ بالكرمِ. الثَّاني: أنَّه إذا أَعطى الولدَ الأُنثى أوَّلًا، عَلِم أنَّه لا اعتراضَ له على اللهِ تعالى، فيَرْضى بذلك، فإذا أعطاهُ الولدَ الذَّكَرَ بعدَ ذلك، عَلِم أنَّ هذه الزِّيادةَ فضلٌ مِن اللهِ تعالى وإحسانٌ إليه، فيَزدادُ شُكرُه وطاعتُه، ويَعلَمُ أنَّ ذلك إنَّما حصَلَ بمَحْضِ الفضلِ والكرَمِ. الثَّالثُ: الأُنثى ضَعيفةٌ ناقصةٌ عاجزةٌ، فقدَّمَ ذِكرَها تَنبيهًا على أنَّه كلَّما كان العجزُ والحاجةُ أتَمَّ، كانتْ عِنايةُ اللهِ به أكثَرَ. الرَّابعُ: كأنَّه يُقالُ: أيَّتُها المرأةُ الضَّعيفةُ العاجزةُ، قدَّمتُكِ في الذِّكرِ؛ لِتَعْلَمي أنَّ المُحسِنَ المُكرِمَ هو اللهُ تعالى -فمِنَ الآباءِ والأُمَّهاتِ مَن يَكرَهُ وُجودَها- فإذا عَلِمَتِ المرأةُ ذلك، زادتْ في الطَّاعةِ والخِدمةِ والبُعدِ عن مُوجِباتِ الطَّعْنِ والذَّمِّ.
وفيه وجهٌ آخَرُ: أنَّه ذكَرَ البلاءَ في آخِرِ الآيةِ الأُولى، وكُفرانَ الإنسانِ بنِسيانِه الرَّحمةَ السَّابقةَ عِندَه، ثمَّ عقَّبَه بذِكرِ مُلكِه ومَشيئتِه، وذِكرِ قِسمةِ الأولادِ، فقدَّمَ الإناثَ؛ لأنَّ سِياقَ الكلامِ أنَّه فاعلٌ ما يَشاؤُه، لا ما يَشاؤُه الإنسانُ، فكان ذِكرُ الإناثِ اللَّاتي مِن جُملةِ ما لا يشاؤُه الإنسانُ أهَمَّ، والأهمُّ واجبُ التَّقديمِ، ولِيَلِيَ الجنسُ الَّذي كانتِ العربُ تَعُدُّه بلاءً ذِكرَ البلاءِ، وأخَّرَ الذُّكورَ، فلمَّا أخَّرَهم لذلك، تَدارَكَ تأْخيرَهم -وهم أَحِقَّاءُ بالتَّقديمِ- بتَعريفِهم؛ فجبَر نقْصَ الأُنُوثَة بالتَّقديمِ، وجبَر نقصَ التَّأخيرِ بالتَّعريفِ؛ لأنَّ التَّعريفَ تَنويهٌ وتَشهيرٌ، كأنَّه قال: ويَهَبُ لِمَن يَشاءُ الفُرسانَ الأعلامَ المذكورينَ الَّذين لا يَخْفَوْنَ عليكم، ثمَّ أَعطَى بعدَ ذلك كِلا الجِنْسينِ حقَّه مِن التَّقديمِ والتَّأخيرِ، لِيُعلَمَ أنَّ تقديمَهنَّ لم يكنْ لِتَقدُّمِهنَّ، بل لمُقتضًى، فقال: أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا، كما قال: إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى [الحجرات: 13] ، فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى [924] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/232)، ((تفسير ابن عطية)) (5/43)، ((تفسير البيضاوي)) (5/84)، ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (14/85)، ((تفسير أبي حيان)) (9/348)، ((تحفة المودود بأحكام المولود)) لابن القيم (ص: 20)، ((تفسير أبي السعود)) (8/37)، ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص: 510، 511)، ((تفسير ابن عاشور)) (25/138). [القيامة: 39] .
- كما أنَّ تقديمَ الإناثِ فيه تعريضٌ بالمشرِكينَ الَّذين كانوا يَتطيَّرونَ بإنجابِ البناتِ، على عكسِ العادةِ في تَقديمِ الذُّكورِ على الإناثِ حيثُما ذُكِرا في القرآنِ، فهذا مِن دَقائقِ هذه الآيةِ [925] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/138). .
- وتغييرُ العاطفِ في الثَّالثِ، إذ عُطِف بـ أَوْ في قولِه: أَوْ يُزَوِّجُهُمْ دونَ غيرِه؛ لأنَّه قسيمُ المشترَكِ بيْنَ القِسمينِ، ولم يَحتَجْ إليه الرَّابعُ؛ لإفصاحِه بأنَّه قسيمُ المشترَكِ بيْنَ الأقسامِ المتقدِّمةِ، فلو عُطِف بالواوِ تُوهِّم أنَّه قِسمٌ لكلٍّ مِن القِسمينِ دونَ المشتركِ بيْنَهما [926] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (5/84)، ((تفسير أبي السعود)) (8/37)، ((حاشية الشهاب على تفسير البيضاوي)) (7/427). .
- وفي قولِه: يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ * أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا ما يُعرَفُ في البَلاغةِ بصحَّةِ التَّقسيمِ، وهو استيفاءُ المتكلِّمِ جميعَ أقسامِ المعنى الَّذي هو شارعٌ فيه بحيثُ لا يُغادِرُ منه شيئًا؛ فإنَّه سبحانَه إمَّا أنْ يُفرِدَ العبدَ بهِبةِ الإناثِ، أو بهبةِ الذُّكورِ، أو بهِما جميعًا، أو لا يَهَبَه شيئًا؛ فقد وقَعتْ صحَّةُ التَّقسيمِ في هذه الآيةِ على التَّرتيبِ الَّذي تَستدعيهِ البلاغةُ، وهو الانتقالُ في نَظمِ الكلامِ ورَصْفِه مِن الأدْنَى إلى الأعْلَى؛ فقدَّمَ هِبةَ الإناثِ، وانتقَلَ إلى هبةِ الذُّكورِ، ثمَّ إلى هِبةِ المجموعِ، وجاء في كلِّ قِسمٍ مِن أقسامِ العَطيَّةِ بلَفظِ الهبةِ، وأفرَدَ معنى الحِرمانِ بالتَّأخيرِ؛ لأنَّ إنعامَه على عِبادِه أهَمُّ عِندَه، وتَقديمُ الأهمِّ واجبٌ في كلِّ كلامٍ بليغٍ، والآيةُ إنَّما سِيقتْ للاعتِدادِ بالنِّعمِ، وإنَّما أتَى بذِكرِ الحِرمانِ ليَتكمَّلَ التَّمدُّحُ بالقُدرةِ على المنعِ كما يُمدَحُ بالعطاءِ، فيُعلَمَ أنَّه لا مانعَ لِما أَعطَى، ولا مُعطيَ لِما منَعَ، وعُدِلَ مِن لفظِ الحِرمانِ والمنعِ إلى لفظٍ هو رِدْفُه وتابِعُه، وهو لفظُ الجَعْلِ [927] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/232)، ((تفسير ابن عاشور)) (25/138)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (9/54). .
- وقولُه: إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ تَذييلٌ وعِلَّةٌ لِما قبْلَه؛ لِيَكونَ ذريعةً إلى ذِكرِ فضْلٍ مِن فَضائلِ هذا النَّوعِ مِن المخلوقِ، ومُنتهَى كَمالِه، وغايةِ دَرجاتِه؛ وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا؛ ليُؤذِنَ بأنَّ المقصودَ مِن الخلْقِ: البَثُّ والدَّعوةُ إلى اللهِ، والتَّوجُّهُ إليه، والعِبادةُ له [928] يُنظر: ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (14/86)، ((تفسير ابن عاشور)) (25/139). .
- وأيضًا جُملةُ إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ في مَوضعِ العِلَّةِ للمُبدَلِ منه، وهو يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ. ومَوقعُ (إنَّ) هنا مَوقعُ فاءِ التَّفريعِ، والمعنى: أنَّ خلْقَه ما يَشاءُ ليس خلْقًا مُهمَلًا عَرِيًّا عن الحِكمةِ؛ لأنَّه واسعُ العِلمِ لا يَفُوتُه شَيءٌ مِن المعلوماتِ، فخلْقُه الأشياءَ يَجري على وَفقِ عِلمِه وحِكمتِه، وهو قَديرٌ نافذُ القُدرةِ، فإذا عَلِمَ الحِكمةَ في خلْقِ شَيءٍ أرادَه، فجَرى على قدَرِه، ولَمَّا جمَعَ بيْنَ وصْفَيِ العِلمِ والقُدرةِ تَعيَّنَ أنَّ هنالك صِفةً مَطويَّةً، وهي الإرادةُ؛ لأنَّه إنَّما تَتعلَّقُ قُدرتُه بعدَ تعلُّقِ إرادتِه بالكائنِ [929] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/139). .