موسوعة التفسير

سُورةُ الحُجُراتِ
الآيات (11-13)

ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﰎ ﰏ ﰐ ﰑ ﰒ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ

 غريب الكلمات:

تَلْمِزُوا: أي: تَعِيبوا، واللَّمْزُ: العيبُ [310] يُنظر: ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 155)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/209)، ((المفردات)) للراغب (ص: 747)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 364)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 385)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 977). .
وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ: أي: لا تَتَداعَوْا بالألقابِ الَّتي يَسوءُ الشَّخصَ سَماعُها، تَقولُ: نَبَزَه يَنْبِزُه نَبْزًا، أي: لَقَّبَه، والألقابُ جمعُ لَقَبٍ: وهو اسمٌ يُسمَّى به الإنسانُ سِوى اسمِه الأوَّلِ، ويُراعَى فيه المعنى [311] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/367)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 155)، ((المفردات)) للراغب (ص: 744، 788)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 364)، ((تفسير القرطبي)) (16/328)، ((تفسير ابن كثير)) (7/376)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 385)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 976). .
وَلَا تَجَسَّسُوا: أي: لا تَتَبَّعُوا عَوْراتِ المسلِمينَ، أو: لا تَبْحثوا عن الأخبارِ، والتَّجسُّسُ: البحثُ، أو: التَّفْتيشُ عن بواطنِ الأُمورِ، وأكثرُ ما يُقالُ ذلك في الشَّرِّ، والجسُّ أصلُه: مَسُّ العِرقِ، وتَعَرُّفُ نبْضِه للحُكمِ به على الصِّحةِ والسَّقَمِ، وأصلُ (جسس): تَعرُّفُ الشَّيءِ بمَسٍّ لطيفٍ [312] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/374)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 156)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/414)، ((الغريبين في القرآن والحديث)) للهروي (1/341)، ((المفردات)) للراغب (ص: 196)، ((النهاية)) لابن الأثير (1/272)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 385)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 975). .
وَلَا يَغْتَبْ: الغِيبةُ: أنْ يُذكَرَ الإنْسانُ في غَيْبَتِه بسُوءٍ وإنْ كانَ فيه، وأصْلُ (غيب): يدُلُّ على تَستُّرِ الشَّيءِ عن العُيونِ، والغِيبةُ مِن هذا؛ لأنَّها لا تُقالُ إلَّا في غَيْبَةٍ [313] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/376)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 524)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (4/403)، ((المفردات)) للراغب (ص: 617)، ((النهاية)) لابن الأثير (3/399)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 385). .
شُعُوبًا وَقَبَائِلَ: الشُّعُوبُ: جَمعُ شَعْبٍ، وهو الحَيُّ العَظيمُ، أو: رُؤوسُ القبائِلِ؛ سُمِّيَت بذلك لأنَّ القبائِلَ تتشعَّبُ منها، أو سُمِّيَ الشَّعبُ بذلك؛ للاجتِماعِ والائتِلافِ. ولـ (شعب) أصْلانِ مختَلِفانِ: أحَدُهما يدُلُّ على الافتِراقِ، والآخَرُ على الاجتِماعِ.
والقبائِلُ: جَمعُ قَبيلةٍ، وهي دونَ الشَّعبِ، والقَبيلةُ: بنو أبٍ واحدٍ، وأصلُ (قبل): يدُلُّ على مُواجَهةِ شَيءٍ لشَيءٍ؛ وسُمِّيت القبائِلُ بذلك لإقبالِ كُلِّ واحِدةٍ منها على الأُخرى [314] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/384)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 291)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/190) و(5/51، 53)، ((البسيط)) للواحدي (20/364)، ((المفردات)) للراغب (ص: 654)، ((تفسير البغوي)) (4/265). .

المعنى الإجمالي:

يَنْهى اللهُ عِبادَه المؤمنينَ أنْ يَسخَرَ قومٌ منهم مِن قومٍ آخَرينَ مؤمنينَ؛ عَسى أنْ يكونوا خَيرًا منهم، وأعظَمَ قدْرًا، ولا يَسخَرْ كذلك نِساءٌ مِن نِساءٍ؛ عَسى أنْ يكُنَّ خيرًا منهنَّ، وأعظَمَ قدْرًا، ويَنْهاهم أنْ يَطعُنَ بعضُهم بعضًا ويَعيبَه، ويَنهاهم أنْ يَتنادَوا بالألقابِ القَبيحةِ الَّتي يَكرَهُها المُنادَى بها، بِئسَ الاسمُ الَّذي تَنالونَه اسمُ الفسوقِ بعْدَ اتِّصافِكم بالإيمانِ، ومَن لم يَتُبْ مِن ذلك فأولئك هم الظَّالِمون.
ويأمُرُ اللهُ تعالى عِبادَه المؤمنينَ أنْ يَجتنِبوا كثيرًا مِن الظَّنِّ؛ وذلك لأنَّ بعضَ الظَّنِّ ذنْبٌ وإثْمٌ، ويَنهاهم عن التَّجسُّسِ، وعن غِيبةِ بعضِهم بعضًا، ثمَّ يَذكُرُ اللهُ تعالى تشبيهًا يُنفِّرُ مِن الغِيبةِ أكمَلَ تنفيرٍ، فيقولُ: أيُحِبُّ أحدُكم أنْ يَأكُلَ لَحْمَ أخيهِ بعْدَ مَوتِه؟! فإذا كَرِهْتُم ذلك فعلَيكم أنْ تَكرَهوا غِيبةَ المسلمِ كذلك، ثمَّ يأمُرُهم أنْ يتَّقُوا اللهَ؛ إنَّ اللهَ توَّابٌ رَحيمٌ.
ثمَّ يوجِّهُ تعالى الخِطابَ إلى النَّاسِ كافَّةً، ويخبِرُهم أنَّه بدَأَ خلْقَهم مِن ذكَرٍ -هو آدَمُ- وأُنثَى -هي حوَّاءُ-، وجعَلَهم شُعوبًا وقَبائلَ مِن أجْلِ أنْ يَحصُلَ بيْنَهم التَّعارُفُ، وأخبَرَهم أنَّ أكْرَمَهم عِندَه الأتْقَى، إنَّه عليمٌ خَبيرٌ.

تفسير الآيات:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (11).
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبْلَها:
لَمَّا اقتَضَت الأُخُوَّةُ أنْ تَحسُنَ المعامَلةُ بيْنَ الأخَوينِ، كان ما تقرَّرَ مِن إيجابِ مُعامَلةِ الأخوةِ بيْنَ المسلمينَ يَقْتضي حُسْنَ المعامَلةِ بيْنَ آحادِهم، فجاءتْ هذه الآياتُ مُنبِّهةً على أُمورٍ مِن حُسْنِ المعامَلةِ قد تقَعُ الغَفلةُ عن مُراعاتِها لكَثرةِ تَفشِّيها في الجاهليَّةِ لهذه المُناسَبةِ [315] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/246). .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ.
أي: يا أيُّها الَّذين آمَنوا لا يَستهزِئْ قَومٌ مؤمِنونَ مِن قَومٍ آخَرينَ مُؤمنينَ، ويَستخِفُّوا بهم؛ عَسى أنْ يكونَ المُستهزَأُ بهم خَيرًا مِن الهازِئينَ، وأعظَمَ قدْرًا منهم [316] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/364، 366)، ((تفسير القرطبي)) (16/325)، ((تفسير ابن كثير)) (7/376)، ((تفسير السعدي)) (ص: 801)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/412). قال ابن جرير: (واختَلَف أهلُ التَّأويلِ في السُّخْريةِ الَّتي نَهَى اللهُ المؤمنينَ عنها في هذه الآيةِ؛ فقال بعضُهم: هي سُخريةُ الغنيِّ مِن الفقيرِ، نُهِيَ أن يُسخَرَ مِن الفقيرِ لِفَقْرِه... وقال آخَرونَ: بل ذلك نَهْيٌ مِن اللهِ مَن سَتَر عليه مِنْ أهلِ الإيمانِ أنْ يَسْخَرَ مِمَّنْ كُشِف في الدُّنيا سِترُه منهم... والصَّوابُ مِن القولِ في ذلك عندي أنْ يُقالَ: إنَّ اللهَ عَمَّ بنَهْيِه المؤمنينَ أنْ يَسْخَرَ بعضُهم مِن بعضٍ جميعَ معاني السُّخريةِ، فلا يَحِلُّ لمؤمنٍ أنْ يَسخَرَ مِن مؤمِنٍ؛ لا لِفَقْرِه، ولا لِذَنْبٍ رَكِبه، ولا لغيرِ ذلِكَ). ((تفسير ابن جرير)) (21/364-366). وقال ابنُ عثيمين: (والسُّخريةُ قد تكونُ في هَيئتِه، وقد يكونُ كذلك في خِلْقَتِه؛ قِصَرًا أو طولًا، أو ضخامةً أو نَحافةً، أو ما أشْبَهَ ذلك، ويكونُ كذلك سخريةً بكلامِه، وتقليدًا له استِهزاءً وسُخريةً، ويكونُ كذلك في المُعامَلةِ، يَسخَرُ به في مُعامَلتِه النَّاسَ، وكذلك بالمِشْيَةِ، وكلُّ ما كان فيه سُخريةٌ مِن أخيك فإنَّه داخلٌ في هذه الآيةِ). ((شرح رياض الصالحين)) (6/257) بتصرف. وقال الغزالي: (ومعنَى السُّخريةِ الاستهانةُ والتَّحقيرُ، والتَّنبيهُ على العيوبِ والنَّقائصِ على وَجْهٍ يُضْحَكُ منه، وقد يَكونُ ذلك بالمُحاكاةِ في الفعلِ والقولِ، وقد يكونُ بالإشارةِ والإيماءِ، وإذا كان بحضرةِ المُستهزَأِ به لم يُسَمَّ ذلك غِيبةً، وفيه معنى الغِيبةِ). ((إحياء علوم الدين)) (3/131). .
قال تعالى: زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ [البقرة: 212] .
وعن أبي هُريرةَ رضِيَ اللهُ عنه، قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((المسلِمُ أخو المسلِمِ، لا يَظلِمُه، ولا يَخذُلُه، ولا يَحقِرُه )) [317] رواه مسلم (2564). .
وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ.
أي: ولا يَستهزِئْ نِساءٌ مُؤمناتٌ مِن نِساءٍ أُخْرياتٍ مُؤمناتٍ، ويَسْتخفِفْنَ بهنَّ؛ عَسى أنْ يكونَ المسْتهزَأُ بهنَّ خَيرًا مِن المُسْتهزِئاتِ، وأعظَمَ قدْرًا منهنَّ [318] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/364، 365)، ((تفسير ابن كثير)) (7/376)، ((تفسير السعدي)) (ص: 801). .
وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ.
أي: ولا يَطعُنْ بعضُكم على بعضٍ، فيَعِيبَه ويَقدَحَ فيه [319] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/366)، ((تفسير القرطبي)) (16/327)، ((تفسير ابن كثير)) (7/376)، ((تفسير السعدي)) (ص: 801)، ((تفسير ابن عاشور)) (26/248). قال الواحدي: (قوله تعالى: وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ... قال ابنُ عبَّاسٍ والمفسِّرونَ كلُّهم: لا يَطْعنْ بعضُكم على بعضٍ. والمعنى: لا تَلمِزوا إخوانَكم الَّذين هم كأنفُسِكم). ((البسيط)) (20/356). وقال الرازي: (قوله تعالى: وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ فيه وجْهانِ؛ أحدُهما: أنَّ عيبَ الأخِ عائدٌ إلى الأخِ، فإذا عاب عائبٌ نفْسًا فكأنَّما عاب نفْسَه. وثانيهما: هو أنَّه إذا عابه وهو لا يَخلو مِن عَيبٍ يُحارِبُه المَعيبُ، فيَعيبُه؛ فيَكونُ هو بعَيبِه حاملًا للغَيرِ على عَيبِه، وكأنَّه هو العائبُ نفْسُه ... ويحتمِلُ وجهًا آخَرَ ثالثًا، وهو أن تقولَ: لا تَعيبوا أنفُسَكم، أي: كلَّ واحدٍ منكم، فإنَّكم إن فَعَلْتُم فقد عِبْتُم أنفُسَكم، أي: كلُّ واحدٍ عاب كلَّ واحدٍ، فصِرتُم عائبينَ مِن وجْهٍ، مَعِيبينَ مِن وجهٍ). ((تفسير الرازي)) (28/109). وقال ابن عاشور: (وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ. اللَّمزُ: ذِكرُ ما يَعُدُّه الذَّاكرُ عَيبًا لأحدٍ مُواجَهةً، فهو المباشَرةُ بالمكروهِ؛ فإن كان بحقٍّ فهو وقاحةٌ واعتِداءٌ، وإن كان باطلًا فهو وقاحةٌ وكَذِبٌ، ... ويكونُ بحالةٍ بيْنَ الإشارةِ والكلامِ بتحريكِ الشَّفَتَينِ بكلامٍ خَفيٍّ يَعرِفُ منه المواجَهُ به أنَّه يُذَمُّ أو يُتَوَعَّدُ، أو يُتنقَّصُ باحتِمالاتٍ كثيرةٍ، وهو غيرُ النَّبْزِ، وغيرُ الغِيبةِ. وللمُفَسِّرينَ وكُتبِ اللُّغةِ اضْطِرابٌ في شرحِ معنَى اللَّمزِ، وهذا الَّذي ذكَرْتُه هو المَنخولُ مِن ذلك. ومعنَى: وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ لا يَلمِزْ بعضُكم بعضًا، فنُزِّل البعضُ المَلْمُوزُ نفْسًا لِلَامِزِه؛ لِتَقَرُّرِ معنَى الأُخُوَّةِ). ((تفسير ابن عاشور)) (26/248). .
كما قال الله تبارك وتعالى: الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [التوبة: 79] .
وقال سُبحانه: وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ [الهمزة: 1] .
وعن عبدِ اللهِ بنِ عمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهما، قال: سمِعْتُ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقولُ: ((مَن قال في مُؤمنٍ ما ليس فيه أسكَنَه اللهُ رَدْغةَ الخَبالِ [320] رَدْغةُ الخَبالِ: أي: عُصارةُ أهلِ النَّارِ. يُنظر: ((النهاية)) لابن الأثير (2/215). حتَّى يَخرُجَ ممَّا قال)) [321] أخرجه أبو داود (3597)، وأحمد (5385) مطوَّلًا. صحَّح إسنادَه أحمدُ شاكر في تخريج ((مسند أحمد)) (7/204)، وشعيبٌ الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (9/283)، وصحَّح الحديثَ الألبانيُّ في ((صحيح سنن أبي داود)) (3597). .
وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ.
أي: ولا يُنادِ بعضُكم بعضًا -أيُّها المؤمنونَ- بالأسماءِ والصِّفاتِ القَبيحةِ الَّتي يَكرَهُها المنادَى بها [322] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/367، 371)، ((تفسير القرطبي)) (16/328-330)، ((تفسير ابن كثير)) (7/376)، ((تفسير السعدي)) (ص: 801)، ((تفسير ابن عاشور)) (26/248، 249). قال النووي: (اتَّفَقَ العُلَماءُ على تحريمِ تلقيبِ الإنسانِ بما يَكرهُ، سواءٌ كان صِفةً له؛ كالأعمَشِ، والأجلَحِ، والأعمى، والأعرَجِ، والأحوَلِ، والأبرَصِ، والأشَجِّ، والأصفرِ، والأحدَبِ، والأصَمِّ، والأزرَقِ، والأفطَسِ، والأشتَرِ، والأثرَمِ، والأقطَعِ، والزَّمِنِ، والمُقعَدِ، والأشَلِّ؛ أو كان صِفةً لأبيه أو لأُمِّه، أو غيرَ ذلك ممَّا يكرَهُ، واتَّفَقوا على جوازِ ذِكْره بذلك على جِهةِ التَّعريفِ لِمَن لا يَعرِفُه إلَّا بذلك). ((الأذكار)) (ص: 475). ويُنظر: ((تحفة المودود)) لابن القيم (ص: 136). .
سَببُ النُّزولِ:
عن أبي جَبِيرةَ بنِ الضَّحَّاكِ الأنصاريِّ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: ((فِينا نزَلَت هذه الآيةُ في بني سَلِمةَ: وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ؛ قال: قدِمَ علينا رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وليس مِنَّا رجُلٌ إلَّا وله اسمانِ أو ثلاثةٌ، فجعَلَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقولُ: يا فُلانُ، فيقولونَ: مَهْ يا رسولَ اللهِ؛ إنَّه يَغضَبُ مِن هذا الاسمِ! فأُنزِلَت هذه الآيةُ: وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ)) [323] أخرجه أبو داود (4962) واللفظ له، والترمذي (3268)، والنسائي في ((السنن الكبرى)) (11516)، وابن ماجه (3741)، وأحمد (18288). قال الترمذي: (حسنٌ صحيحٌ)، وصحَّحه ابنُ حِبَّانَ في ((الصحيح)) (5709)، والحاكمُ في ((المستدرك)) (3724) وقال: (على شرطِ مُسلمٍ)، والألبانيُّ في ((صحيح سنن أبي داود)) (4962)، وقال شعيبٌ الأرناؤوط في تخريج ((سنن أبي داود)) (4962): (إسنادُه صحيحٌ إنْ صحَّت صُحبةُ أبي جَبِيرةَ بنِ الضَّحَّاكِ، وإلَّا فمُرسَلٌ). .
بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ.
أي: بِئسَ الاسمُ الَّذي تَنالونَه اسمُ الفسوقِ بعْدَ اتِّصافِكم بالإيمانِ [324] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/372)، ((الإيمان)) لابن تيمية (ص: 195)، ((تفسير ابن كثير)) (7/376)، ((تفسير السعدي)) (ص: 801)، ((تفسير ابن عاشور)) (26/249، 250)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 41). قيل: المرادُ: أنَّ مَن فعَل ما نهَيْتُ عنه مِن السُّخريةِ، واللَّمزِ والنَّبزِ، فهو فاسقٌ؛ فلا تَفعلوا ذلك فتَستَحِقُّوا إنْ فَعَلَتْموه أن تُسَمَّوا فُسَّاقًا، وبِئسَ ذلك بعدَ الإيمانِ. وممَّن قال بهذا المعنى: ابنُ جرير، والثعلبي، ومكِّي، والنسفي، وابن تيميَّة، وابن عثيمين. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/ 372)، ((تفسير الثعلبي)) (9/82)، ((الهداية إلى بلوغ النهاية)) لمكي (11/7005)، ((تفسير النسفي)) (3/354)، ((الإيمان)) لابن تيمية (ص: 195)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات- الحديد)) (ص: 41). وقيل: المرادُ: بِئسَ الاسمُ هذا، أن يُسَمِّيَه باسمِ الكُفرِ بعدَ الإيمانِ، يقولُ له: يا يهوديُّ، ويا نصرانيُّ! وممَّن اختار هذا القولَ: مقاتلُ بنُ سُلَيمانَ، والزَّجَّاجُ، والقرطبي، والخازن، والشوكاني. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/95)، ((معاني القرآن وإعرابه)) للزجاج (5/36)، ((تفسير القرطبي)) (16/328)، ((تفسير الخازن)) (4/181)، ((تفسير الشوكاني)) (5/75). وزاد الخازنُ أن يُقالَ له أيضًا: يا فاسِقُ بعدَ ما تاب، وزاد القرطبيُّ أن يُسَمَّى زانيًا بعدَ توبتِه. وممَّن قال بهذا القولِ مِن السَّلفِ في الجملةِ: الحسَنُ، ومحمَّدُ بنُ كعبٍ القُرَظيُّ، وابنُ زَيدٍ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/372)، ((الدر المنثور)) للسيوطي (7/564). قال الزَّجَّاجُ: (ويحتملُ أن يكونَ في كلِّ لقَبٍ يَكرَهُه الإنسانُ؛ لأنَّه إنَّما يجبُ أن يُخاطِبَ المؤمنُ أخاه بأحَبِّ الأسماءِ إليه). ((معاني القرآن وإعرابه)) (5/36). وقال ابن كثير: (بِئسَ الصِّفةُ والاسمُ الفُسُوقُ، وهو التَّنابُزُ بالألقابِ، كما كان أهلُ الجاهِليَّةِ يَتَناعَتونَ، بَعْدَما دخَلْتُم في الإسلامِ وعَقَلْتُموه). ((تفسير ابن كثير)) (7/376). ويُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 801). .
وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ.
أي: ومَن لم يَتُبْ مِن السُّخريةِ بإخوانِه المؤمنينَ، أو لَمْزِهم، أو مُنابزتِهم بالألقابِ؛ فإنَّهم هم الظَّالِمونَ لأنفُسِهم بتَعريضِها لِعِقابِ اللهِ، والظَّالِمونَ لغيرِهم بالاعتداءِ عليهم [325] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/373)، ((تفسير القرطبي)) (16/330)، ((مدارج السالكين)) لابن القيم (1/313، 314)، ((تفسير ابن عاشور)) (26/250)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 42). قال ابن جرير: (يقولُ تعالى ذِكرُه: ومَن لم يَتُبْ مِن نَبْزِه أخاه بما نهى اللهُ عنه؛ مِن نَبزِه بالألقابِ، أو لَمْزِه إيَّاه، أو بسخريتِه منه- فأولئك هم الَّذين ظلَموا أنفُسَهم بما كَسَّبوها عِقابَ الله، بِرُكوبِهم ما نَهاهم عنه). ((تفسير ابن جرير)) (21/373). وقال العُلَيمي: (الظَّالِمُونَ بوَضعِ العِصيانِ مَوضِعَ الطَّاعةِ). ((تفسير العليمي)) (6/370). وقال الشوكاني: (فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ لارتكابِهم ما نَهَى اللهُ عنه، وامْتِناعِهم مِن التَّوبةِ، فظَلَموا مَن لَقَّبوه، وظُلْمِهم أنفسَهم بما لزِمها مِن الإثْمِ). ((تفسير الشوكاني)) (5/76). وقال ابن عاشور: (فمَن لم يَتُبْ فهو ظالمٌ: لأنَّه ظلَمَ النَّاسَ بالاعتِداءِ عليهم، وظلَمَ نفْسَه بأنْ رَضيَ لها عِقابَ الآخرةِ معَ التَّمكُّنِ مِن الإقلاعِ عن ذلك؛ فكان ظُلْمُه شديدًا جدًّا). ((تفسير ابن عاشور)) (26/250). .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ (12).
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبْلَها:
أنَّه لَمَّا كان الإنسانُ رُبَّما دعا صاحِبَه بلقَبٍ له سيِّئٍ، غيرَ قاصدٍ به عَيْبَه، أو فعَلَ فِعلًا يَتنزَّلُ على الهُزْءِ، غيرَ قاصدٍ به الهُزْءَ- نَهَى تعالى عن المُبادَرةِ إلى الظَّنِّ مِن غيرِ تَثبُّتٍ؛ لأنَّ ذلك مِن وضْعِ الأشياءِ في غيرِ مَواضِعِها، الَّذي هو معْنى الظُّلمِ [326] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (18/377). .
وأيضًا لَمَّا كان الظَّنُّ هو السَّببَ فيما تقدَّم وعليه تُبنَى القبائحُ، ومنه يظهرُ العدوُّ المُكاشِحُ، والقائلُ إذا أوقف أمورَه على اليقينِ فقلَّما يتيقَّنُ في أحدٍ عَيبًا فيَلمِزُه به؛ فإنَّ الفعلَ في الصُّورةِ قد يكونُ قبيحًا وفي نفْسِ الأمرِ لا يكونُ كذلك؛ لِجَوازِ أن يكونَ فاعلُه ساهيًا، أو يكونَ الرَّائي مخطئًا [327] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (28/110). ، لذا قال تعالى:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ.
أي: يا أيُّها الَّذين آمَنوا لا تَقرَبوا كثيرًا مِن الظَّنِّ، فتتَّهِموا النَّاسَ بالسُّوءِ ظنًّا منكم بلا بُرهانٍ [328] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/373)، ((تفسير القرطبي)) (16/331، 332)، ((تفسير ابن كثير)) (7/377). قال ابن جرير في معنَى الآيةِ: (لا تَقرَبوا كثيرًا مِن الظَّنِّ بالمؤمنينَ، وذلك أن تَظُنُّوا بهم سوءًا؛ فإنَّ الظَّانَّ غيرُ مُحِقٍّ. وقال جلَّ ثَناؤُه: اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ ولم يقلْ: اجتَنِبوا الظَّنَّ كلَّه؛ إذ كان قد أَذِنَ للمؤمنينَ أن يظُنَّ بعضُهم ببعضٍ الخَيرَ، فقال: لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ [النور: 12]، فأَذِنَ اللهُ جلَّ ثَناؤُه للمؤمنينَ أن يظُنَّ بعضُهم ببعضٍ الخَيرَ، وأن يَقولوه، وإن لم يَكونوا مِن قِيلِه فيهم على يقينٍ). ((تفسير ابن جرير)) (21/373، 374). وقال ابن عطية: (حكَم على بعضِه بأنه إثْمٌ؛ إذ بعضُه ليس بإثمٍ، ولا يَلزَمُ اجتِنابُه، وهو ظنُّ الخَيرِ بالنَّاسِ، وحُسْنُه بالله تعالى، والمَظنونُ مِن شَهاداتِ الشُّهودِ، والمظنونُ به مِن أهلِ الشَّرِّ؛ فإنَّ سقوطَ عدالتِه وغير ذلك هو مِن حُكمِ الظَّنِّ به. وظنُّ الخَيرِ بالمؤمنِ محمودٌ. والظَّنُّ المَنهيُّ عنه: هو أنَّ يظُنَّ سوءًا برجُلٍ ظاهِرُه الصَّلاحُ، بل الواجبُ أنْ يُزيلَ الظَّنَّ وحُكمَه، ويَتأوَّلَ الخيرَ). ((تفسير ابن عطية)) (5/151). وقال ابن عطيَّةَ أيضًا: (هذه الآياتُ والَّتي بعْدَها نزلتْ في خُلقِ أهلِ الجاهليَّةِ؛ وذلك لأنَّهم كانوا يجرونَ مع شهَواتِ نُفوسِهم، لم يُقَوِّمْهم أمْرٌ مِن الله ولا نهْيٌ، فكان الرَّجُلُ يَسْطو ويَهمِزُ ويَلمِزُ ويَنبِزُ بالألقابِ، ويَظُنُّ الظُّنونَ فيَتكلَّمُ بها، ويَغتابُ، ويَفتخِرُ بنسَبِه، إلى غيرِ ذلك مِن أخلاقِ النُّفوسِ البطَّالةِ؛ فنزلتْ هذه الآيةُ تأديبًا لأمَّةِ محمَّدٍ صلَّى الله عليه وسلَّم. وذكَر بعضُ النَّاسِ لهذه الآياتِ أسبابًا... والقويُّ عندي أنَّ هذه الآياتِ نزلتْ تقويمًا [لسائرِ الخَلقِ] كسائرِ أمرِ الشَّرعِ، ولو تُتبِّعَتِ الأسبابُ لَكانت أكثرَ مِن أن تُحصى). ((تفسير ابن عطية)) (5/149). .
عن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((إيَّاكم والظَّنَّ؛ فإنَّ الظَّنَّ أكذَبُ الحديثِ، ولا تَحَسَّسوا، ولا تَجسَّسوا [329] قال النَّوَوي: (قال بعضُ العلماءِ: التَّحسُّسُ بالحاءِ: الاستِماعُ لِحَديثِ القَومِ، وبالجيمِ: البحثُ عن العَوْراتِ. وقيل: بالجيمِ: التَّفتيشُ عن بَواطِنِ الأمورِ، وأكثَرُ ما يُقالُ في الشَّرِّ، والجاسوسُ: صاحِبُ سِرِّ الشَّرِّ، والنَّاموسُ: صاحبُ سرِّ الخَيرِ. وقيل: بالجيم: أن تَطلُبَه لِغَيرِك، وبالحاءِ: أن تَطلُبَه لِنَفْسِك. قاله ثعلبٌ. وقيل: هما بمعنًى، وهو طلَبُ معرفةِ الأخبارِ الغائبةِ والأحوالِ). ((شرح النووي على مسلم)) (16/119). ، ولا تَنافَسوا، ولا تَحاسَدوا، ولا تَباغَضوا، ولا تَدابَروا، وكُونوا -عِبادَ اللهِ- إخوانًا )) [330] رواه البخاري (6064)، ومسلمٌ (2563) واللَّفظُ له. .
إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ.
أي: إنَّ ظنَّ المؤمنِ بغَيرِه السُّوءَ مِن غيرِ دليلٍ ذنْبٌ [331] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/374)، ((البسيط)) للواحدي (20/359)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (18/379)، ((تفسير السعدي)) (ص: 801)، ((تفسير ابن عاشور)) (26/251، 252). .
وَلَا تَجَسَّسُوا.
مُناسَبتُها لِمَا قبْلَها:
لَمَّا أمَرَ اللهُ تعالى بصَونِ عِرضِ المسلِمِ غايةَ الصِّيانةِ؛ فنهى عن الخَوضِ فيه بالظَّنِّ؛ فإنْ قال الظَّانُّ: أبحَثُ لِأتحقَّقَ، قيل له [332] يُنظر: ((فتح الباري)) لابن حجر (10/481). ويُنظر أيضًا: ((تفسير الرازي)) (28/110). :
وَلَا تَجَسَّسُوا.
أي: ولا تتَّبِعوا -أيُّها المؤمنونَ- عُيوبَ النَّاسِ وتُنَقِّبوا عنها، بلِ اتْرُكوهم، وعامِلوهم بحسَبِ ظَواهِرِهم [333] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/374)، ((تفسير القرطبي)) (16/333)، ((تفسير ابن كثير)) (7/379)، ((تفسير السعدي)) (ص: 801)، ((تفسير ابن عاشور)) (26/253، 254)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 50). .
عن ابنِ عُمرَ رَضِيَ اللهُ عنهما، قال: ((صَعِدَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم المِنبرَ، فنادَى بصَوتٍ رفيعٍ، فقال: يا مَعْشَرَ مَنْ أسلَمَ بلِسانِه، ولم يُفْضِ الإيمانُ إلى قلْبِه، لا تُؤذوا المسلمينَ، ولا تُعَيِّروهم، ولا تتَّبِعوا عَوْراتِهم؛ فإنَّه مَن تَتبَّعَ عَورةَ أخيه المسلِمِ تَتبَّعَ اللهُ عَوْرتَه، ومَن تَتبَّعَ اللهُ عَورتَه يَفضَحْه ولو في جَوفِ رَحْلِه)) [334] أخرجه الترمذي (2032) واللَّفظُ له، وابنُ حِبَّانَ (5763). قال الترمذي: (حسَنٌ غريبٌ). وصحَّحه ابنُ حِبَّانَ، وصحَّح إسنادَه الزَّيْلَعيُّ في ((تخريج الكشاف)) (3/344)، وقال الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)) (2032): (حسَنٌ صحيحٌ). وقوَّى إسنادَه شعيبٌ الأرناؤوط في تخريج ((صحيح ابن حبان)) (5763). .
وعن مُعاويةَ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: سمِعْتُ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقولُ: ((إنَّك إنِ اتَّبَعْت عَوْراتِ النَّاسِ أفسَدْتَهم، أو كِدْتَ أنْ تُفسِدَهم ))، فقال أبو الدَّرْداءِ: (كلمةٌ سمِعَها مُعاويةُ مِن رسولِ اللهِ نفَعَه اللهُ تعالى بها) [335] أخرجه أبو داود (4888) واللَّفظُ له، وابنُ حِبَّانَ (5760)، والطَّبَرانيُّ (19/379) (890). صحَّحه ابنُ حِبان، والألبانيُّ في ((صحيح سنن أبي داود)) (4888)، وصحَّح إسنادَه العراقيُّ في ((تخريج الإحياء)) (2/250)، وشعيبٌ الأرناؤوط في تخريج ((سنن أبي داود)) (4888). .
وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا.
مُناسَبتُها لِمَا قبْلَها:
لَمَّا قال الله تعالى وَلَا تَجَسَّسُوا؛ فإنْ قال الظَّانُّ: تحقَّقْتُ مِن غيرِ تجسُّسٍ، قيل له [336] يُنظر: ((فتح الباري)) لابن حجر (10/481). :
وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا.
أي: ولا يَذكُرْ -أيُّها المؤمنونَ- بعضُكم بعضًا في حالِ غَيبتِه بما يَكرَهُ سَماعَه مِن عَيبٍ وقدْحٍ فيه [337] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/376)، ((تفسير القرطبي)) (16/334، 337)، ((تفسير ابن كثير)) (7/379)، ((تفسير السعدي)) (ص: 802)، ((تفسير ابن عاشور)) (26/254)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 50). قال النووي: (الغِيبةُ: ذِكْرُك الإِنسانَ بما يَكرَهُ؛ سواءٌ ذكَرْتَه بلَفظِك، أو في كِتابِك، أو رمزتَ أو أشرتَ إليه بعَينِك أو يدِك أو رأسِك. وضابِطُه: كلُّ ما أفهَمْتَ به غيرَك نُقْصانَ مُسلِمٍ فهو غِيبةٌ مُحرَّمةٌ). ((الأذكار)) (ص: 338). وقال ابنُ عثيمين: (سواءٌ كان ذلك في خِلْقتِه، أو خُلُقِه، أو في أحوالِه، أو في عَقلِه، أو في ذَكائِه، أو في غيرِ ذلك). ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 52). .
عن أبي هُريرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((أتَدْرون ما الغِيبةُ؟ قالوا: اللهُ ورسولُه أعلَمُ، قال: ذِكرُك أخاكَ بما يَكرَهُ. قِيل: أفَرأَيْتَ إنْ كان في أخي ما أقولُ؟ قال: إنْ كان فيه ما تقولُ فقدِ اغتَبْتَه، وإنْ لم يكُنْ فيه فقدْ بَهَتَّه )) [338] رواه مسلم (2589). .
وعن أبي بَكْرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((إنَّ دِماءَكم وأموالَكم وأعراضَكم عليكم حَرامٌ، كحُرمةِ يَومِكم هذا، في شَهرِكم هذا، ألَا لِيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ منكم الغائ بَ)) [339] رواه البخاري (105) واللفظ له، ومسلم (1679). .
وعن أبي هُريرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((بحَسْبِ امْرِئٍ مِن الشَّرِّ أنْ يَحقِرَ أخاه المُسلِمَ، كلُّ المسلمِ على المسلمِ حَرامٌ: دَمُه، ومالُه، وعِرضُه )) [340] رواه مسلم (2564). .
وعن عائشةَ رَضِيَ اللهُ عنها، قالت: ((قلْتُ للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: حَسْبُكَ مِن صَفيَّةَ كذا وكذا -تَعني: قصيرةً-، فقال: لَقد قلْتِ كلمةً لو مُزِجَت بماءِ البحْرِ لَمَزجَتْه! )) [341] أخرجه أبو داودَ (4875) واللَّفظُ له، والترمذيُّ (2502)، وأحمدُ (25560). قال الترمذي: (حسَنٌ صحيحٌ)، وصحَّحه ابنُ دقيقِ العيدِ في ((الاقتراح)) (118)، والشوكاني في ((الفتح الرباني)) (11/5593)، والألباني في ((صحيح سنن أبي داود)) (4875)، وصحَّح إسنادَه على شرط مسلمٍ شُعيبٌ الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (42/361). .
وعن أبي بَرْزةَ الأسْلَميِّ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((يا مَعشرَ مَن آمَنَ بلِسانِه، ولم يَدخُلِ الإيمانُ قلْبَه، لا تَغتابُوا المسلمين، ولا تتَّبِعوا عَوْراتِهم؛ فإنَّه مَنِ اتَّبَعَ عَوْراتِهم يَتَّبِعِ اللهُ عَوْرتَه، ومَن يتَّبِعِ اللهُ عَورتَه يَفضَحْه في بَيتِه)) [342] أخرجه أبو داود (4880) واللَّفظُ له، وأحمد (19776). جوَّد إسنادَه العراقيُّ في ((تخريج الإحياء)) (2/250)، وقال الألباني في ((صحيح سنن أبي داود)) (4880): (حسَنٌ صحيحٌ). وصحَّحه لغيرِه شعيبٌ الأرناؤوط في تخريج ((سنن أبي داود)) (4880). .
أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ.
أي: أيُحِبُّ أحدُكم -أيُّها المؤمنونَ- أنْ يَأكُلَ لَحمَ أخيهِ بعْدَ مَماتِه؟ فإنْ كَرِهْتُم ذلك واشْمَأْزَزتُم منه -لِحُرْمتِه وبَشاعتِه- فاكْرَهوا كذلك غِيبةَ المسلمِ، وتَقذَّروا منها [343] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/380)، ((تفسير ابن كثير)) (7/380)، ((تفسير السعدي)) (ص: 802)، ((تفسير ابن عاشور)) (26/255). قال القرطبي: (مثَّل اللهُ الغِيبةَ بأكلِ المَيتةِ؛ لأنَّ المَيِّتَ لا يَعلَمُ بأكْلِ لحْمِه، كما أنَّ الحيَّ لا يَعلَمُ بغِيبةِ مَن اغتابَه). ((تفسير القرطبي)) (16/335). .
وَاتَّقُوا اللَّهَ.
أي: واجْعَلوا بيْنَكم -أيُّها المؤمنونَ- وبيْنَ سَخَطِ اللهِ وعَذابهِ وِقايةً بامتِثالِ أوامرِه، واجتنابِ نَواهِيه، ومِن ذلك تَجنُّبُ ظَنِّ السُّوءِ بالمؤمنِ، وتَتبُّعِ عَوْراتِه، والتَّجسُّسِ عمَّا خَفِيَ مِن أمْرِه، واغتيابِه بما يَكرَهُه [344] يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/96)، ((تفسير ابن جرير)) (21/381، 382)، ((تفسير ابن كثير)) (7/384). .
إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ.
أي: إنَّ اللهَ يُوفِّقُ عِبادَه للتَّوبةِ ويَقبَلُها منهم، رَحيمٌ بهم فيَدْعوهم إلى ما يَنفَعُهم، ويُغدِقُ عليهم نِعَمَه، ولا يُؤاخِذُهم بذُنوِبهم بعْدَ تَوبتِهم منها [345] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/382)، ((تفسير السمعاني)) (5/228)، ((تفسير ابن كثير)) (7/384)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (18/381)، ((تفسير السعدي)) (ص: 802). .
يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13).
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبْلَها:
أنَّه لَمَّا ذكَرَ اللهُ سُبحانه الأُخُوَّةَ الدِّينيَّةَ؛ تَذكيرًا بالعاطِفِ الموجِبِ للإكرامِ، المانِعِ مِن الانتِقامِ، ونَهَى عن أُمورٍ يَجُرُّ إليها الإعجابُ بالنَّفْسِ مِن جِهةِ التَّعظيمِ بالآباءِ، والعَراقةِ في النَّسبِ العالي- أسقَطَ ذلك مُبيِّنًا أنْ لا نسَبَ إلَّا ما يُثمِرُه الإيمانُ الَّذي بدَأَ به مِن التَّقْوى [346] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (18/381). .
وأيضًا لَمَّا أمَرَ اللهُ تعالى المؤمنينَ بأنْ يكونوا إخْوةً، وأنْ يُصلِحوا بيْنَ الطَّوائفِ المُتقاتِلةِ، ونَهاهم عمَّا يَثْلِمُ الأُخوَّةَ وما يُغَطِّي على نُورِها في نُفوسِهم؛ مِن السُّخريةِ، واللَّمْزِ، والتَّنابُزِ، والظَّنِّ السُّوءِ، والتَّجسُّسِ، والغِيبةِ -ذكَّرَهم بأصْلِ الأُخوَّةِ في الأنسابِ الَّتي أكَّدَتْها أُخوَّةُ الإسلامِ ووَحدةُ الاعتِقادِ؛ لِيَكونَ ذلك التَّذكيرُ عَونًا على تَبصُّرِهم في حالِهم [347] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/260، 261). .
وأيضًا فهو انتقالٌ مِن واجباتِ المعامَلاتِ، إلى ما يجِبُ أنْ يُراعِيَه المرْءُ في نفْسِه [348] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/258). .
يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى.
أي: يا أيُّها النَّاسُ، إنَّا بدَأْنا خلْقَكم مِن أبيكم آدَمَ وأُمِّكم حوَّاءَ [349] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/382)، ((تفسير ابن كثير)) (7/385)، ((تفسير السعدي)) (ص: 802)، ((تفسير ابن عاشور)) (26/258)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/417). قال ابنُ عطيَّة: (يَحتَمِلُ أن يُريدَ آدمَ وحوَّاءَ، فكأنَّه قال: إنَّا خلَقْنا جميعَكم مِن آدمَ وحوَّاءَ، ويَحتمِلُ أن يُريدَ بالذَّكَرِ والأُنثَى اسمَ الجِنسِ، فكأنَّه قال: إنَّا خلَقْنا كلَّ واحدٍ منكم مِن ماءِ ذكَرٍ وماءِ أُنثى، وقصْدُ هذه الآيةِ التَّسويةُ بيْنَ النَّاسِ). ((تفسير ابن عطية)) (5/152). وممَّن ذهَب إلى الاحتمالِ الأوَّلِ: مقاتلُ بنُ سُلَيمانَ، والزَّجَّاجُ، والسمعاني، وابنُ كثير، والسعدي، وابن عاشور، والشنقيطي. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/96)، ((معاني القرآن وإعرابه)) للزجاج (5/37)، ((تفسير السمعاني)) (5/228)، ((تفسير ابن كثير)) (7/385)، ((تفسير السعدي)) (ص: 802)، ((تفسير ابن عاشور)) (26/258)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/417). وممَّن قال بالاحتمالِ الثَّاني: ابنُ جرير. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/382). وممن قال بهذا القولِ مِن السَّلفِ: مجاهدٌ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/383). .
كما قال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً [النساء: 1].
وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا.
أي: وجعَلْناكم -أيُّها النَّاسُ- راجِعينَ في أنسابِكم إلى شُعوبٍ وقَبائلَ؛ مِن أجْلِ أنْ يَحصُلَ التَّعارُفُ بيْنَكم بالانتِسابِ إليها، لا مِن أجْلِ أنْ يَفخَرَ بها بعضُكم على بعضٍ [350] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/383، 386)، ((تفسير ابن كثير)) (7/385)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (18/382)، ((تفسير السعدي)) (ص: 802)، ((تفسير ابن عاشور)) (26/258)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/417). قال السعدي: (لو استقلَّ كلُّ واحدٍ منهم بنفْسِه لم يحصُلْ بذلك التَّعارُفُ الَّذي يترتَّبُ عليه التَّناصُرُ والتَّعاوُنُ، والتَّوارُثُ، والقيامُ بحُقوقِ الأقارِبِ، ولكِنَّ اللهَ جعَلهم شُعوبًا وقبائلَ؛ لأجْلِ أن تَحصُلَ هذه الأمورُ وغَيرُها مِمَّا يتوقَّفُ على التَّعارُفِ، ولُحوقِ الأنسابِ). ((تفسير السعدي)) (ص: 802). وقال القَلْقَشَنْدي: (قد عدَّ أهلُ اللُّغةِ طبَقاتِ الأنسابِ سِتَّ طبَقاتٍ: الطَّبقةُ الأولى: الشَّعبُ، بفتحِ العَينِ، وهو النَّسبُ الأبعَدُ؛ كعَدْنانَ مثلًا... الطَّبقةُ الثَّانيةُ: القَبيلةُ، وهي ما انقسَمَ فيه الشَّعبُ؛ كرَبيعةَ ومُضَرَ... الطَّبقةُ الثَّالثةُ: العِمارةُ، بكسرِ العَينِ المُهمَلةِ، وهي ما انقسَم فيه أنسابُ القَبيلةِ؛ كقُرَيشٍ وكِنانةَ. وتُجمَعُ على عِماراتٍ، وعَمائرَ. الطَّبقةُ الرَّابعةُ: البَطنُ، وهي ما انقسَم فيه أقسامُ العِمارةِ؛ كبَني عبدِ مَنافٍ، وبَني مَخزومٍ. ويُجمعُ: على بُطونٍ، وأبْطُنٍ. الطَّبقةُ الخامِسةُ: الفَخِذُ، وهي ما انقسَم فيه أقسامُ البَطنِ؛ كبَني هاشمٍ، وبني أُمَيَّةَ. وتُجمعُ على: أفخاذٍ. الطَّبقةُ السَّادسةُ: الفَصيلةُ، بالصَّادِ المُهمَلةِ، وهي ما انقسَم فيه أقسامُ الفَخِذِ؛ كبَني العبَّاسِ... وبالجُملةِ فالفَخِذُ يَجمَعُ الفصائلَ، والبطنُ يجمعُ الأفخاذَ، والعِمارةُ يجمعُ البُطونَ، والقبيلةُ تَجمعُ العَمائرَ، والشَّعبُ يجمعُ القبائلَ... وزاد بعضُهم العَشيرةَ قبْلَ الفَصيلةِ). ((قلائد الجمان في التعريف بقبائل عرب الزمان)) (ص: 14). ويُنظر: ((الأحكام السلطانية)) للماوَرْدي (ص: 304)، ((تفسير الزمخشري)) (4/374). وقال الشنقيطي: (ولم يُذكَرْ مِن هذه السِّتِّ في القرآنِ إلَّا ثلاثٌ: الشُّعوبُ والقَبائلُ كما في هذه الآيةِ، والفَصيلةُ في المَعارِجِ، في قولِه: وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ [المعارج: 13] ). ((أضواء البيان)) (7/418). .
إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ.
أي: إنَّ أفضَلَكم وأشرَفَكم -أيُّها النَّاسُ- عندَ اللهِ تعالى أكثَرُكم تَقْوى له بامتِثالِ أوامِرِه، واجتنابِ نَواهيهِ، لا أشرَفُكم نَسَبًا، ولا أعظَمُكم عَشيرةً [351] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/386)، ((تفسير ابن كثير)) (7/386)، ((تفسير ابن عاشور)) (26/262)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/418). .
عن أبي هريرةَ رضِي الله عنه قال: ((سُئِل رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: أيُّ النَّاسِ أكْرَمُ؟ قال: أكرمُهم عندَ الله أتْقاهم )) [352] أخرجه البخاري (4689). .
وعن أبي هريرةَ أيضًا، قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((إنَّ الله لا يَنظرُ إلى صُورِكم وأموالِكم، ولكنْ ينظرُ إلى قلوبِكم وأعمالِكم)) [353] أخرجه مسلم (2564). .
وعن أبي هُرَيرةَ أيضًا، أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((لَيَدَعَنَّ رِجالٌ فَخْرَهم بأقوامٍ؛ إنَّما هم فَحْمٌ مِن فحْمِ جهنَّمَ، أو لَيَكونُنَّ أهْوَنَ على اللهِ مِن الجِعْلانِ [354] الجِعْلانُ: واحِدُه جُعَلٌ، وهي دُوَيْبَّةٌ سَوداءُ تكونُ في المواضِعِ النَّدِيَّة يُقالُ لها: الخُنفُساءُ. يُنظر: ((مرقاة المفاتيح)) للقاري (7/3072)، ((تاج العروس)) للزَّبِيدي (28/210). الَّتي تَدفَعُ بأنْفِها النَّتْنَ))، وقال: ((إنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ قد أذهَبَ عنكم عُبِّيَّةَ [355] عُبِّيَّةَ الجاهِليَّةِ: أي: نَخْوَتَها وكِبْرَها. يُنظر: ((مرقاة المفاتيح)) للقاري (7/3073). الجاهليَّةِ وفَخْرَها بالآباءِ؛ مُؤمنٌ تقِيٌّ، وفاجرٌ شقِيٌّ، النَّاسُ بنو آدَمَ، وآدَمُ مِن تُرابٍ )) [356]  أخرجه أبو داود (5116)، والترمذي (3955)، وأحمد (10781) واللَّفظُ له. قال الترمذي: (حسَنٌ غريبٌ)، وصحَّح الحديثَ ابنُ تيميَّةَ في ((اقتضاء الصراط المستقيم)) (1/247)، وحسَّنَه الألبانيُّ في ((صحيح سنن أبي داود)) (5116)، وصحَّحه لغيرِه شعيبٌ الأرناؤوط في تخريج ((سنن أبي داود)) (5116)، وحسَّن إسنادَه المُنذِريُّ في ((الترغيب والترهيب)) (4/62). .
وعن سَهلِ بنِ سعدٍ رَضِيَ اللهُ عنهما، قال: ((مَرَّ رجُلٌ على رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقال: ما تَقولون في هذا؟ قالوا: حَرِيٌّ إنْ خطَبَ أنْ يُنكَحَ، وإنْ شَفَع أنْ يُشَفَّعَ، وإنْ قال أنْ يُستمَعَ. قال: ثمَّ سكَتَ، فمرَّ رجُلٌ مِن فُقراءِ المسلمينَ، فقال: ما تَقولونَ في هذا؟ قالوا: حَرِيٌّ إنْ خطَبَ ألَّا يُنكَحَ، وإنْ شفَعَ ألَّا يُشَفَّعَ، وإنْ قال ألَّا يُستمَعَ، فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: هذا خَيرٌ مِن مِلْءِ الأرضِ مِثلَ هذا )) [357] رواه البخاري (5091). .
إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ.
أي: إنَّ اللهَ ذو عِلمٍ تامٍّ بعِبادِه، ذو خِبرةٍ كاملةٍ ببَواطنِهم وسَرائرِهم، لا يَخْفَى عليه شَيءٌ مِن أُمورِهم الظَّاهرةِ والباطِنةِ [358] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/387)، ((تفسير ابن كثير)) (7/388)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (18/384)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 59). .

الفوائد التربوية:

1- قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ وتَوجيهُ الخِطابِ للمؤمنِ يدُلُّ على أنَّ ما يُتلى عليه فهو مِن مُقْتضياتِ الإيمانِ، وأنَّ فَقْدَه ومُخالَفتَه نقْصٌ في الإيمانِ [359] يُنظر: ((شرح رياض الصالحين)) لابن عثيمين (6/257). .
2- قولُ اللهِ تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ هذا مِن حُقوقِ المؤمنينَ بَعضِهم على بعضٍ؛ ألَّا يَسخَرَ قومٌ مِن قومٍ بكلِّ كلامٍ، وقولٍ، وفِعلٍ دالٍّ على تَحقيرِ الأخِ المسلمِ؛ فإنَّ ذلك حَرامٌ لا يَجوزُ، وهو دالٌّ على إعجابِ السَّاخرِ بنفْسِه، وعَسَى أنْ يكونَ المسخورُ به خَيرًا مِن السَّاخِرِ، كما هو الغالِبُ والواقعُ؛ فإنَّ السُّخريةَ لا تقَعُ إلَّا مِن قلْبٍ مُمتلئٍ مِن مَساوي الأخلاقِ، مُتحَلٍّ بكلِّ خُلقٍ ذَميمٍ؛ ولهذا قال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((بحَسْبِ امْرِئٍ مِن الشَّرِّ أنْ يَحقِرَ أخاهُ المسلمَ )) [360] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 801). والحديث رواه مسلم (2564). ، ومِنْ أقبَحِ القبيحِ استِخفافُ الدَّنيءِ الأرذَلِ بالأكرَمِ الأفضَلِ، واسْتِهْزاؤُه به [361] يُنظر: ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/413). .
3- قولُه تعالى: عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ فيه وُجوبُ أنْ يَعتقِدَ كلُّ أحدٍ أنَّ المسخورَ منه رُبَّما كان عندَ اللهِ خَيرًا مِن السَّاخرِ؛ لأنَّ النَّاسَ لا يَطَّلِعونَ إلَّا على ظَواهرِ الأحوالِ، ولا عِلمَ لهم بالخَفيَّاتِ، وإنَّما الَّذي يَزِنُ عندَ اللهِ: خُلوصُ الضَّمائرِ، وتَقْوى القلوبِ، وعِلمُهم مِن ذلك بمَعزِلٍ؛ فيَنْبغي ألَّا يَجترِئَ أحدٌ على الاستِهزاءِ بمَن تَقتَحِمُه عَينُه إذا رآهُ رثَّ الحالِ، أو ذا عاهةٍ في بَدَنِه، أو غيرَ لَبِقٍ في مُحادثَتِه؛ فلَعلَّه أخلَصُ ضَميرًا، وأتْقى قلبًا ممَّن هو على ضِدِّ صِفتِه، فيَظلِمُ نفْسَه بتَحقيرِ مَن وقَّرَه اللهُ، والاستِهانةِ بمَن عظَّمَه اللهُ [362] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/368). .
4- في قولِه تعالى: وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ تَحريمُ عَيبِ المؤمنينَ بَعضِهم بَعضًا [363] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 40). ، وفيه تنبيهٌ على أنَّ العاقلَ لا يعيبُ نفْسَه، فلا ينبغي أن يعيبَ غيرَه؛ لأنَّه كنَفْسِه [364] يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (16/327). .
5- قولُ اللهِ تعالى: وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ فيه تَحريمُ المُنابَزةِ بالألقابِ، وهي الوصْفُ بلقَبٍ يَكرَهُه الشَّخصُ [365] يُنظر: ((الإكليل)) للسيوطي (ص: 242). .
6- قولُ اللهِ تعالى: وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ فيه أنَّ التَّوبةَ فرْضٌ على العِبادِ [366] يُنظر: ((جامع العلوم والحكم)) لابن رجب (1/429). ، فالواجبُ على العبْدِ أنْ يَتوبَ إلى اللهِ تعالى، ويَخرُجَ مِن حقِّ أخيهِ المسلمِ؛ باستِحلالِه، والاستِغفارِ، والمدْحِ له، مُقابَلةً على ذَمِّه [367] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 801). .
7- قال بَعضُ السَّلَفِ: (أصبِحُوا تائِبينَ، وأمْسُوا تائِبينَ). يُشيرُ إلى أنَّ المُؤمِنَ لا يَنبغي أن يُصبِحَ ويُمسيَ إلَّا على تَوبةٍ؛ فإنَّه لا يدري متى يُفاجِئُه الموتُ صَباحًا أو مَساءً؛ فمَن أصبَحَ أو أمسى على غيرِ توبةٍ فهو على خَطَرٍ؛ لأنَّه يَخشى أن يَلقَى اللهَ غيرَ تائبٍ، فيُحشَرَ في زُمرةِ الظَّالِمينَ؛ قال اللهُ تعالى: وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [368] يُنظر: ((لطائف المعارف)) لابن رجب (ص: 344). .
8- في قولِه تعالى: اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ تَحضيضٌ على الظَّنِّ الحَسَنِ [369] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (15/331). ، وتَحريمُ ظَنِّ السُّوءِ بأهْلِ الخَيرِ، وإباحتُه بأهْلِ الشَّرِّ؛ لأنَّه لم يُنْهَ عن كلِّ الظَّنِّ [370] يُنظر: ((الإكليل)) للسيوطي (ص: 242). .
9- في قولِه تعالى: اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ لم يَقُلْ سُبحانَه: اجتَنِبوا الظَّنَّ كلَّه؛ لأنَّ الظَّنَّ يَنقسِمُ إلى قِسمينِ:
القِسمِ الأولِ: ظَنِّ خَيرٍ بالإنسانِ، وهذا مَطلوبٌ أنْ تَظُنَّ بإخوانِك خيرًا ما داموا أهْلًا لذلك، وهو المسلمُ الَّذي ظاهِرُه العدالةُ؛ فإنَّ هذا يُظَنُّ به خيرًا، ويُثْنى عليه بما ظَهَرَ لنا مِن إسلامِه وأعمالِه.
القِسمِ الثاني: ظَنِّ السُّوءِ، وهذا يَحرُمُ بالنِّسبةِ لِمُسلمٍ ظاهِرُه العدالةُ؛ فإنَّه لا يَحِلُّ أنْ يُظَنَّ به ظَنُّ السُّوءِ، كما صَرَّحَ بذلك العُلماءُ، أمَّا ظنُّ السُّوءِ بمَن قامتِ القرينةُ على أنَّه أهلٌ لذلك؛ فهذا لا حَرَجَ على الإنسانِ أنْ يَظُنَّ السُّوءَ به [371] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 49). .
10- قولُ اللهِ تعالى: وَلَا تَجَسَّسُوا، فيه تَحريمُ التَّجسُّسِ، قال ابنُ عبَّاسٍ: (وهو تَتبُّعُ عَوْراتِ النَّاسِ)، وقال الأوزاعيُّ: (منه الاستِماعُ إلى حَديثِ القومِ وهم له كارِهون) [372] يُنظر: ((الإكليل)) للسيوطي (ص: 242). .
11- قولُ اللهِ تعالى: وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا، فيه وُجوبُ حِفظِ عِرضِ المؤمنِ في غَيبتِه [373] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (28/110). ، وتَحريمُ الغِيبةِ، وهي ذِكرُ الشَّخصِ بما يَكرَهُه ممَّا هو فيه [374] يُنظر: ((الإكليل)) للسيوطي (ص: 242). ، ودلَّ قولُه تعالى: أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ على التَّحذيرِ الشَّديدِ مِن الغِيبةِ، وأنَّ الغِيبةَ مِن الكبائرِ؛ لأنَّ اللهَ شبَّهَها بأكْلِ لحْمِ الميِّتِ، وذلك مِن الكبائرِ [375] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 801). .
12- قال تعالى: إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ، قولُه: خَلَقْنَاكُمْ ووَجَعَلْنَاكُمْ فيه إشارةٌ إلى عدَمِ جَوازِ الافتخارِ؛ لأنَّ ذلك ليس بسَعْيِكم، ولا قُدْرةَ لكم على شَيءٍ مِن ذلك، فكيفَ تَفتخِرونَ بما لا مَدخَلَ لكم فيه [376] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (28/113). ؟!
13- تَعليقُ الشَّرفِ في الدِّينِ بمُجرَّدِ النَّسبِ هو حكْمٌ مِن أحكامِ الجاهليَّةِ الَّذين اتَّبَعَتْهم عليه الرَّافضةُ وأشباهُهُم مِن أهلِ الجهْلِ؛ فإنَّ اللهَ تعالى قال: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ، ولهذا ليس في كِتابِ اللهِ آيةٌ واحدةٌ يَمدَحُ فيها أحدًا بنَسَبِه، ولا يَذُمُّ أحَدًا بنَسَبِه؛ وإنَّما يَمدَحُ بالإيمانِ والتَّقوى، ويَذُمُّ بالكفْرِ والفُسوقِ والعِصيانِ [377] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (35/230). .
14- أنَّ ثَوابَ اللهِ عزَّ وجلَّ لا يَنْبني على حَسَبٍ ولا نَسَبٍ، وإنَّما يَنْبني على الإيمانِ والعملِ الصَّالحِ، كما قال اللهُ تعالى: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ [378] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (2/170). .
15- قولُ اللهِ تعالى: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ فيه إثباتُ كَونِ التَّقوى مُتقدِّمةً على كلِّ فَضيلةٍ [379] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (28/114). .
16- قولُ اللهِ تعالى: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ يدُلُّ على أنَّ الفضْلَ والكرَمَ إنَّما هو بتَقْوى اللهِ، لا بغيرِه مِن الانتِسابِ إلى القَبائلِ [380] يُنظر: ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/417). ، وأنَّ كلَّ مَن كان أتْقى فهو أكرَمُ عندَ اللهِ، وأرفَعُ مَنزِلةً [381] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الأحزاب)) (ص: 530). .
17- رُبَّ مَن يَحقِرُه النَّاسُ لضَعْفِه، وقِلَّةِ حظِّه مِن الدُّنيا، وهو أعظَمُ قدْرًا عندَ اللهِ تعالى ممَّن له قدْرٌ في الدُّنيا؛ فإنَّما النَّاسُ يَتفاوَتون بحسَبِ التَّقْوى، كما قال اللهُ تعالى: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ [382] يُنظر: ((جامع العلوم والحكم)) لابن رجب (2/275). [الحجرات: 13] .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- قال اللهُ تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ، ولم يقُلْ: (نفْسٌ مِن نفْسٍ)؛ لأنَّ هذا فيه إشارةٌ إلى منْعِ التَّكبُّرِ، والمتكبِّرُ في أكثَرِ الأمْرِ يُري جَبروتَه على رُؤوسِ الأشهادِ، وإذا اجتمَعَ في الخَلَواتِ مع مَن لا يَلتفِتُ إليه في الجامعِ، يَجعَلُ نفْسَه مُتواضِعًا، فذكَرَهم بلَفظِ القومِ؛ منْعًا لهم عمَّا يَفعَلونه [383] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (28/108، 109). .
2- قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ هذه الآيةُ تَقْتضي اختِصاصَ القَومِ بالذُّكْرانِ، وقد يكونُ مع الذُّكْرانِ نِساءٌ فيُقالُ لهم: قومٌ، على تَغليبِ حالِ الذُّكورِ [384] يُنظر: ((تفسير ابن عطية)) (5/149). .
3- قولُ اللهِ تعالى: وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ سُمِّيَ الأخُ المؤمنُ نفْسًا لأخيهِ؛ لأنَّ المؤمنينَ يَنْبغي أنْ يكونَ هكذا حالُهم كالجسَدِ الواحدِ، ولأنَّه إذا همَزَ غيرَه أوجَبَ للغَيرِ أنْ يَهمِزَه، فيكونُ هو المتسبِّبَ لذلك [385] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 801). .
4- قولُ اللهِ تعالى: وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ، لم يقُلْ: (لا تَنْبِزوا)؛ وذلك لأنَّ اللَّمَّازَ إذا لمَزَ، فالملْموزُ قد لا يَجِدُ فيه في الحالِ عَيبًا يَلمِزُه به، وإنَّما يَبحَثُ ويَتتبَّعُه؛ لِيَطَّلِعَ منه على عَيبٍ، فيُوجَدُ اللَّمزُ مِن جانبٍ. وأمَّا (النَّبزُ) فلا يَعجِزُ كلُّ واحدٍ عن الإتيانِ به؛ فإنَّ مَن نبَزَ غيرَه بالحِمارِ، وهو يَنبِزُه بالثَّورِ وغيرِه، فالظَّاهرُ أنَّ النَّبْزَ يُفْضي في الحالِ إلى التَّنابُزِ، ولا كذلك اللَّمزُ [386] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (28/109). .
5- قولُ اللهِ تعالى: وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ، اللَّقبُ إنْ دلَّ على ما يَكرَهُه المدْعوُّ به كان مَنهيًّا عنه، وأمَّا إذا كان حَسنًا فلا يُنْهَى عنه. وما زالت الألقابُ الحَسَنةُ في الأُمَمِ كلِّها مِن العرَبِ والعجَمِ، تَجْري في مُخاطَباتِهم ومُكاتَباتِهم مِن غيرِ نَكيرٍ [387] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (9/518). .
6- قولُ اللهِ تعالى: وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ، خُصِّصَ النَّهيُ في الآيةِ بالألقابِ الَّتي لم يَتقادَمْ عَهْدُها حتَّى صارتْ كالأسماءِ لأصحابِها، وتُنوسِيَ منها قصْدُ الذَّمِّ والسَّبِّ، كما وقَعَ في كثيرٍ مِن الأحاديثِ؛ كقولِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((أصدَقَ ذُو اليدَينِ؟ )) [388] أخرجه البخاري (714)، ومسلم (573) من حديث أبي هريرةَ رضي الله عنه. ، وقولِه لأبي هُريرةَ: ((يا أبا هِرٍّ)) [389] يُنظر ما أخرجه البخاري (285) و (5375) و(6452) من حديث أبي هريرةَ رضي الله عنه. . وكقولِ المحدِّثينَ: (الأعرَجُ) لعبْدِ الرَّحمنِ بنِ هُرْمُزَ، و(الأعمشُ) لِسُلَيمانَ بنِ مِهْرانَ [390] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/249). .
7- قال عزَّ وجلَّ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ قولُ اللهِ تعالى: اجْتَنِبُوا كَثِيرًا، وقولُه تعالى: إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ إشارةٌ إلى الأخْذِ بالأحوطِ، كما أنَّ الطَّريقَ المَخُوفةَ لا يتَّفِقُ كلَّ مرَّةٍ فيها قاطعُ طَريقٍ، لكنَّك لا تَسلُكُ لاتِّفاقِ ذلك فيها مرَّةً ومرَّتينِ، إلَّا إذا تعيَّن فتَسلُكُها مع رُفقةٍ، كذلك الظَّنُّ يَنْبغي بعْدَ اجتهادٍ تامٍّ، ووُثوقٍ بالغٍ [391] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (28/110). .
8- قولُ اللهِ تعالى: اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إخراجٌ للظُّنونِ الَّتي عليها تُبْنى الخَيراتُ، وبالجُملةِ كلُّ أمْرٍ لا يكونُ بِناؤُه على اليقينِ فالظَّنُّ فيه غيرُ مُجتنَبٍ، مِثالُه: حكْمُ الحاكمِ على قَول الشُّهودِ، وبَراءةُ الذِّمَّةِ عندَ عدَمِ الشُّهودِ، إلى غيرِ ذلك [392] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (28/110). .
9- قولُ اللهِ تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ، أفاد قولُه: كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ، وتَبْيينُه بأنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ؛ أنَّ بَعضًا مِن الظَّنِّ ليس إثمًا، وأنَّا لم نُؤمَرْ باجتنابِ الظَّنِّ الَّذي ليس بإثمٍ؛ لأنَّ كَثِيرًا وصْفٌ، فمَفهومُ المُخالَفةِ منه يدُلُّ على أنَّ كَثيرًا مِن الظَّنِّ لم نُؤمَرْ باجتنابِه، وهو الَّذي يُبيِّنُه إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ، أي: إنَّ بَعضَ الظَّنِّ ليس إثمًا، فعلى المسلمِ أنْ يكونَ مِعيارُه في تَمْييزِ أحدِ الظَّنَّينِ مِن الآخَرِ أنْ يَعرِضَه على ما بيَّنَتْه الشَّريعةُ في تَضاعيفِ أحكامِها مِن الكتابِ والسُّنَّةِ، وما أجمَعَت عليه عُلماءُ الأُمَّةِ، وما أفادهُ الاجتهادُ الصَّحيحُ، وتَتبُّعُ مَقاصِدِ الشَّريعةِ، فمنْه ظنٌّ يجِبُ اتِّباعُه؛ كالحَذَرِ مِن مَكايدِ العدُوِّ في الحرْبِ، وكالظَّنِّ المستنِدِ إلى الدَّليلِ الحاصلِ مِن دَلالةِ الأدِلَّةِ الشَّرعيَّةِ؛ فإنَّ أكثَرَ التَّفريعاتِ الشَّرعيَّةِ حاصِلةٌ مِن الظَّنِّ المستنِدِ إلى الأدِلَّةِ [393] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/253). .
10- قال اللهُ تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ الظَّنُّ على أربعةِ أضرُبٍ: مَحظورٍ، ومأْمورٍ به، ومُباحٍ، ومَندوبٍ إليه؛ فأمَّا المحظورُ فهو سُوءُ الظَّنِّ باللهِ تعالى، والواجبُ حُسْنُ الظَّنِّ باللهِ، وكذلك سُوءُ الظَّنِّ بالمسلمينَ الَّذين ظاهِرُهم العدالةُ مَحظورٌ، وأمَّا الظَّنُّ المأمورُ به فهو ما لم يُنصَبْ عليه دليلٌ يُوصِلُ إلى العِلمِ به، وقد تُعُبِّدْنا بتَنفيذِ الحكْمِ فيه، والاقتِصارِ على غالبِ الظَّنِّ، وإجراءُ الحكْمِ عليه واجبٌ، وذلك نحْوُ ما تُعبِّدْنا به مِن قَبولِ شَهادةِ العُدولِ، وتَحرِّي القِبلةِ، وتَقويمِ المستهَلكاتِ، وأُروشِ الجِناياتِ الَّتي لم يَرِدْ بمَقاديرِها تَوقيفٌ، فهذا وما كان مِن نَظائرِه قد تُعبِّدْنا فيه بأحكامِ غالبِ الظُّنونِ. فأمَّا الظَّنُّ المباحُ فكالشَّاكِّ في الصَّلاةِ إذا كان إمامًا، أمَرَه النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بالتَّحرِّي والعمَلِ على ما يَغلِبُ في ظَنِّه، وإنْ فَعَلَه كان مُباحًا، وإنْ عدَلَ عنه إلى البِناءِ على اليقينِ كان جائزًا [394] هذه الفائدةُ مِن كلامِ أبي يَعلى نسَبَها إليه ابنُ الجوزي. يُنظر: ((تفسير ابن الجوزي)) (4/151). .
11- قال اللهُ تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ أنكَرَت جماعةٌ مِن المبتدِعةِ التَّعبُّدَ لله تعالى بالظَّنِّ، وجوازَ العمَلِ به؛ تَحكُّمًا في الدِّينِ، ودَعوى في المعقولِ! وليس في ذلك أصلٌ يُعوَّلٌ عليه؛ فإنَّ البارئَ تعالى لم يَذُمَّ جَميعَه، وإنَّما أورَدَ الذَّمَّ في بَعضِه. ورُبَّما تَعلَّقوا بحديثِ أبي هُريرةَ: ((إيَّاكم والظَّنَّ)) [395] أخرجه البخاري (5143)، ومسلم (2563) مطوَّلًا. ، فإنَّ هذا لا حُجَّةَ فيه؛ لأنَّ الظَّنَّ في الشَّريعةِ قِسمانِ: مَحمودٌ، ومَذمومٌ؛ فالمحمودُ منه ما سَلِمَ معه دِينُ الظَّانِّ والمظنونِ به عندَ بُلوغِه. والمذمومُ ضِدُّه؛ بدَلالِة قولِه تعالى: إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ [396] يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (16/332). .
12- قال اللهُ تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ، للظَّنِّ حالتانِ: حالةٌ تُعرَفُ وتَقْوَى بوجْهٍ مِن وُجوهِ الأدِلَّةِ، فيَجوزُ الحكْمُ بها، وأكثَرُ أحكامِ الشَّريعةِ مَبْنيَّةٌ على غَلَبةِ الظَّنِّ؛ كالقِياسِ، وخبَرِ الواحدِ، وغيرِ ذلك مِن قِيَمِ المتْلَفاتِ، وأُروشِ الجِناياتِ. والحالةُ الثَّانيةُ: أنْ يقَعَ في النَّفْسِ شَيءٌ مِن غيرِ دَلالةٍ، فلا يكونُ ذلك أَولى مِن ضِدِّه، فهذا هو الشَّكُّ، فلا يَجوزُ الحكْمُ به، وهو المنْهيُّ عنه [397] يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (16/332). .
13- قال اللهُ تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ ما نجَمَت العقائدُ الضَّالَّةُ والمذاهبُ الباطلةُ إلَّا مِن الظُّنونِ الكاذبةِ [398] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/251). .
14- قال اللهُ تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ الَّذي يُميِّزُ الظُّنونَ الَّتي يجِبُ اجتِنابُها عمَّا سِواها: أنَّ كلَّ ما لم تُعرَفْ له أَمارةٌ صَحيحةٌ وسبَبٌ ظاهرٌ؛ كان حَرامًا واجبَ الاجتنابِ؛ وذلك إذا كان المظنونُ به ممَّن شُوهِدَ منه السَّترُ والصَّلاحُ، وأُونِسَت منه الأمانةُ في الظَّاهرِ، فظَنُّ الفسادِ والخيانةِ به مُحرَّمٌ، بخِلافِ مَن اشتهرَ بيْنَ النَّاسِ بتَعاطي الرِّيَبِ والمُجاهَرةِ بالخَبائثِ [399] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/371، 372)، ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (14/498). ، كمَنْ يَدخُلُ ويَخرُجُ إلى حاناتِ الخمْرِ، فمِثلُ هذا يَقْوى الظَّنُّ فيه أنَّه ليس مِن أهلِ الصَّلاحِ -ولا إثمَ في هذا الظَّنِّ- وإنْ كنَّا لا نَراه يَشرَبُ الخمْرَ، بخِلافِ مَن ظاهِرُه الصَّلاحُ، فلا يُظَنُّ به السُّوءُ فهذا هو المنْهيُّ عنه، ويجِبُ أنْ يُزِيلَه [400] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (9/519). .
15- قولُ اللهِ تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ، لم يقُلْ: (اجتَنِبوا تَقولوا أمرًا على خِلافِ ما تَعلَمونه)، ولا قال: (اجتَنِبوا الشَّكَّ)، بلْ أوَّلُ ما نَهى عنه هو القولُ بالظَّنِّ؛ وذلك لأنَّ القولَ على خِلافِ العِلمِ كذِبٌ وافتراءٌ، والقولَ بالشَّكِّ والرَّجمَ بالغَيبِ سَفَهٌ وهُزْءٌ، وهما في غايةِ القبْحِ، فلمْ يَنْهَ عنه اكتِفاءً بقولِه تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا؛ لأنَّ وصْفَهم بالإيمانِ يَمنَعُهم مِن الافتراءِ والارتيابِ الَّذي هو دأْبُ الكافرِ، وإنَّما منَعَهم عمَّا يَكثُرُ وُجودُه في المسلمينَ؛ لذلك قال في الآيةِ: لَا يَسْخَرْ [401] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (28/111). .
16- قولُ اللهِ تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ، أمَرَ تعالى باجتنابِ الظَّنِّ؛ لئلَّا يَجترِئَ أحدٌ على ظنٍّ إلَّا بعْدَ نظَرٍ وتأمُّلٍ وتَمييزٍ بيْن حقِّه وباطِلِه [402] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (9/519). .
17- قولُ اللهِ تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ، لَمَّا جاء الأمْرُ في هذه الآيةِ باجتنابِ كثيرٍ مِن الظَّنِّ، عُلِمَ أنَّ الظُّنونَ الآثمةَ غيرُ قليلةٍ، فوجَبَ التَّمحيصُ والفحْصُ؛ لتَمييزِ الظَّنِّ الباطلِ مِن الظَّنِّ الصَّادقِ [403] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/251). .
18- مَنَع اللهُ تعالى مِنَ الظَّنِّ في ثلاثةِ مواضِعَ، وفي جميعِ تلك المواضِعِ كان المَنعُ عَقِيبَ التَّسميةِ والدُّعاءِ باسمٍ؛ مَوضِعانِ منها في سورةِ (النَّجمِ)، أحَدُهما: قَولُه تعالى: إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ [النجم: 23] ، والثَّاني: قَولُه تعالى: إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلَائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثَى * وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا [النجم: 27، 28]، والثَّالِثُ: في (الحُجُراتِ)، قال الله تعالى: وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ عَقِيبَ الدُّعاءِ باللَّقَبِ، وكُلُّ ذلك دليلٌ على أنَّ حِفظَ اللِّسانِ أَولى مِن حِفظِ غَيرِه مِنَ الأركانِ، وأنَّ الكَذِبَ أقبَحُ مِنَ السَّيِّئاتِ الظَّاهِرةِ مِن الأيدي والأرجُلِ، وهذه المواضِعُ الثَّلاثةُ أحَدُها: مَدحُ مَن لا يَستَحِقُّ المدحَ، كاللَّاتِ والعُزَّى مِنَ العِزِّ. وثانيها: ذَمُّ مَن لا يَستَحِقُّ الذَّمَّ، وهم الملائِكةُ الَّذين هم عِبادُ الرَّحمنِ، يُسَمُّونَهم تَسميةَ الأُنثى. وثالِثُها: ذَمُّ مَن لم يُعلَمْ حالُه، وأمَّا مَدحُ مَن حالُه لا يُعلَمُ فلم يَقُلْ فيه: لا يتَّبِعونَ إلَّا الظَّنَّ، بل الظَّنُّ فيه مُعتَبَرٌ، والأخذُ بظاهِرِ حالِ العاقِلِ واجِبٌ [404] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (28/260). .
19- قال اللهُ تعالى: وَلَا تَجَسَّسُوا التَّجسُّسُ غالبًا يُطلَقُ في الشَّرِّ، ومنه الجاسوسُ. وأمَّا التَّحسُّسُ فيكونُ غالبًا في الخيرِ، كما قال تعالى إخبارًا عن يَعقوبَ عليه السَّلامُ أنَّه قال: يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ [يوسف: 87]، وقد يُستعمَلُ كلٌّ منهما في الشَّرِّ، كما ثبَتَ في الصَّحيحِ [405] أخرجه البخاري (5143)، ومسلمٌ (2563) مطوَّلًا من حديث أبي هريرةَ رضي الله عنه. أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((لا تجسَّسوا، ولا تحسَّسوا)) [406] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (7/379). .
20- قولُ اللهِ تعالى: وَلَا تَجَسَّسُوا النَّهيُ عن التَّجسُّسِ مِن فُروعِ النَّهيِ عن الظَّنِّ، فهو مُقيَّدٌ بالتَّجسُّسِ الَّذي هو إثمٌ، أو يُفْضي إلى الإثمِ، فالمنهيُّ عنه هو التَّجسُّسُ الَّذي لا يَنجَرُّ منه نفْعٌ للمُسلمينَ، أو دفْعُ ضُرٍّ عنهم، فلا يَشملُ التَّجسُّسَ على الأعداءِ، ولا تَجسُّسَ الشُّرَطِ على الجُناةِ واللُّصوصِ [407] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/254). .
21- قال اللهُ تعالى: وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا الغِيبةُ مُحرَّمةٌ بالإجماعِ [408] قال النووي: (اعلَمْ أنَّ الغِيبةَ كما يَحرُمُ على المُغتابِ ذِكرُها، يَحرُمُ على السَّامِعِ استِماعُها وإقرارُها، فيَجِبُ على مَن سمِع إنسانًا يَبتدئُ بغِيبةٍ مُحرَّمةٍ أن يَنهاهُ إن لم يَخَفْ ضررًا ظاهرًا، فإنْ خافَه وجَب عليه الإنكارُ بقلبِه ومُفارَقةُ ذلك المَجلِسِ إن تمكَّنَ مِن مُفارَقتِه، فإنْ قدَر على الإنكار بلِسانِه، أو على قطْعِ الغِيبةِ بكلامٍ آخَرَ؛ لَزِمَه ذلك، إن لم يَفعَلْ عصَى). ((الأذكار)) (ص: 339). ، ولا يُسْتثنَى مِن ذلك إلَّا ما رجَحَت مَصلحَتُه، كما في الجرحِ والتَّعديلِ والنَّصيحةِ [409] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (7/380). قال النووي: (اعلَمْ أنَّ الغِيبةَ تُباحُ لِغَرَضٍ صَحيحٍ شَرعيٍّ لا يُمْكِنُ الوُصولُ إليه إلَّا بها، وهو سِتَّةُ أسْبَابٍ) فذكرها، وهي: التَّظَلُّمُ - الاسْتِعانةُ على تَغييرِ المنكَرِ، ورَدِّ العاصي إلى الصَّوابِ - الاسْتِفْتاءُ - تَحذيرُ المسلمينَ مِن الشَّرِّ ونَصيحَتُهم (كجَرْحِ المجروحينَ مِن الرُّواةِ والشُّهودِ- والمُشاوَرةُ في مُصاهَرةِ إنْسانٍ، أو مُشارَكتِه، أو مُعامَلتِه، أو مُجاوَرتِه، وغيرِ ذلك) - أنْ يَكونَ مُجاهِرًا بفِسْقِه أو بِدْعَتِه - التَّعريفُ. ثمَّ قال: (فهذه ستَّةُ أسبابٍ ذَكَرها العُلماءُ، وأكثرُها مُجْمَعٌ عليه، ودَلائِلُها مِن الأحاديثِ الصَّحيحةِ مشهورةٌ). ((رياض الصالحين)) (ص: 432، 433). .
22- قولُ اللهِ تعالى: وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ، فيه دليلٌ على أنَّ الاغتيابَ الممنوعَ اغتيابُ المؤمنِ، لا ذِكرُ الكافرِ؛ وذلك لأنَّه شبَّهَه بأكْلِ لَحمِ الأخِ، وقال مِن قبْلُ: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ [الحجرات: 10] ، فلا أُخُوَّةَ إلَّا بيْنَ المؤمنينَ، ولا منعَ إلَّا مِن شَيءٍ يُشبِهُ أكْلَ لَحمِ الأخِ، ففي هذه الآيةِ نهْيٌ عن اغتيابِ المؤمنِ دونَ الكافرِ [410] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (28/110). أمَّا الحربيُّ فلا تحرمُ غِيبتُه، لكنْ تُكرَهُ إذا اشتملَتْ على تنقيصِ خِلقتِه، وأمَّا الذِّمِّيُّ فكالمسلِمِ فيما يرجعُ إلى المنعِ مِن الإيذاءِ؛ لأنَّ الشَّرعَ عصَم عِرضَه ودمَه ومالَه. يُنظر: ((الزواجر عن اقتراف الكبائر)) للهَيْتَمي (2/27)، ((تفسير الألوسي)) (13/311). .
23- في قولِه تعالى: وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ قِياسٌ مِن أحسَنِ القياسِ التَّمثيليِّ؛ فإنَّه شَبَّهَ تَمزيقَ عِرْضِ الأخِ بتَمزيقِ لحْمِه، ولَمَّا كان المغتابُ يُمَزِّقُ عِرْضَ أخيهِ في غَيبتِه كان بمَنزِلةِ مَن يَقْطَعُ لحْمَه في حالِ غَيبةِ رُوحِه عنه بالموتِ، ولَمَّا كان المُغتابُ عاجزًا عن دَفْعِه عن نفْسِه بكَونِه غائبًا عن ذَمِّه، كان بمَنزلةِ الميِّتِ الَّذي يُقطَعُ لَحْمُه ولا يَستطيعُ أنْ يَدفَعَ عن نفْسِه، ولَمَّا كان مُقْتضى الأُخُوَّةِ: التَّراحُمُ والتَّواصُلُ والتَّناصُرُ، فعَلَّقَ عليها المُغتابُ ضِدَّ مُقتضاها مِن الذَّمِّ والعَيبِ والطَّعْنِ، وكان ذلك نَظيرَ تَقطيعِ لحْمِ أخيهِ، والأُخُوَّةُ تَقْتضي حِفْظَه وصِيانتَه والذَّبَّ عنه، ولَمَّا كان المُغتابُ مُتمتِّعًا بعِرْضِ أخيهِ، مُتَفَكِّهًا بغِيبتِه وذَمِّه، مُتحلِّيًا بذلك؛ شُبِّهَ بآكِلِ لحْمِ أخيهِ بعْدَ تَقطيعِه، ولَمَّا كان المغتابُ مُحِبًّا لذلك مُعجَبًا به؛ شُبِّهَ بمَن يُحِبُّ أكْلَ لحْمِ أخيه مَيْتًا، ومَحبَّتُه لذلك قَدْرٌ زائدٌ على مُجرَّدِ أكْلِه، كما أنَّ أَكْلَه قدْرٌ زائدٌ على تَمزيقِه، فتَأمَّلْ هذا التَّشبيهَ والتَّمثيلَ، وحُسْنَ مَوقعِه، ومُطابَقةَ المعقولِ فيه المحسوسَ، وتأمَّلْ إخبارَه عنهم بكَراهةِ أكْلِ لحْمِ الأخِ مَيتًا، ووَصْفَهم بذلك في آخِرِ الآيةِ، والإنكارَ عليهم في أوَّلِها أنْ يُحِبَّ أحُدُهم ذلك، فكما أنَّ هذا مَكروهٌ في طِباعِهم؛ فكيفَ يُحِبُّونَ ما هو مِثْلُه ونَظيرُه؟! فاحتجَّ عليهم بما كَرِهوه على ما أحَبُّوه، وشَبَّه لهم ما يُحِبُّونَه بما هو أكْرَهُ شَيءٍ إليهم، وهم أشدُّ شَيءٍ نفْرةً عنه؛ فلهذا يُوجِبُ العقلُ والفِطرةُ والحكمةُ أنْ يكونوا أشَدَّ شَيءٍ نفْرةً عمَّا هو نَظيرُه ومُشْبِهُه [411] يُنظر: ((إعلام الموقعين)) لابن القيم (1/130). .
24- قولُ اللهِ تعالى: أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ، فيه سُؤالٌ: ما الحكمةُ في هذا التَّشبيهِ؟
الجوابُ: هو إشارةٌ إلى أنَّ عِرضَ الإنسانِ كدَمِه ولَحْمِه، وهذا مِن بابِ القِياسِ الظَّاهرِ؛ وذلك لأنَّ عِرضَ المرْءِ أشرَفُ مِن لَحْمِه، فإذا لم يَحسُنْ مِن العاقلِ أكْلُ لُحومِ النَّاسِ، لم يَحسُنْ منه قرْضُ عِرْضِهم بالطَّريقِ الأَولى؛ لأنَّ ذلك آلَمُ [412] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (28/110). .
25- في قولِه تعالى: أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا جَعَلَ سُبحانه جِهةَ التَّحريمِ كونَه أخًا أُخُوَّةَ الإيمانِ؛ ولذلك تَغَلَّظَتِ الغِيبةُ بحسَبِ حالِ المؤمنِ، فكلَّما كان أعظَمَ إيمانًا كان اغتيابُه أشدَّ [413] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (28/225). .
26- قولُ اللهِ تعالى: أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ، استُدِلَّ بهذه الآيةِ على أنَّه لا يَجوزُ أكْلُ لحْمِ ابنِ آدَمَ مَيتًا لِمَن اضْطُرَّ إليه؛ لأنَّه تعالى ضرَبَ به المثَلَ في تَحريمِ الغِيبةِ، ولم يَضرِبْ بمَيتةِ سائرِ الحَيوانِ؛ فدلَّ ذلك على أنَّه في التَّحريمِ فَوقَها [414] يُنظر: ((أحكام القرآن)) لابن الفرس (3/500). وتحريمُ أكْلِ الآدميِّ المَيتِ على المُضطَرِّ هو مذهبُ الجمهورِ: الحَنَفيَّةِ، والمالكيَّةِ، والحنابلةِ، وهو مذهبُ الظَّاهريَّةِ. يُنظر: ((حاشية ابن عابدين)) (6/338)، ((التاج والإكليل)) للمَوَّاق (2/254)، ((الإنصاف)) للمَرْداوي (10/283)، ((المحلى)) لابن حزم (6/105)، ((تفسير القرطبي)) (2/229). .
27- قولُ اللهِ تعالى: أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ، كَلمةُ (مَيتًا) إشارةٌ إلى دفْعِ وهْمٍ؛ وهو أنْ يُقالَ: القولُ في الوجْهِ يُؤلِمُ فيَحرُمُ، وأمَّا الاغتيابُ فلا اطلِّاعَ عليه للمُغتابِ، فلا يُؤلِمُ، فقال: أكْلُ لحْمِ الأخِ وهو مَيتٌ أيضًا لا يُؤلِمُ، ومع هذا هو في غايةِ القبْحِ؛ لِما أنَّه لو اطَّلَعَ عليه لَتألَّمَ، كما أنَّ الميتَ لو أحسَّ بأكْلِ لَحمِه لَآلَمَه [415] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (28/110، 111). .
28- قولُ اللهِ تعالى: وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ، فيه معْنًى لَطيفٌ؛ وهو أنَّ الاغتيابَ كأكْلِ لحْمِ الآدميِّ مَيتًا، ولا يَحِلُّ أكْلُه إلَّا للمُضطَرِّ بقدْرِ الحاجةِ -على قولِ مَن أجاز ذلك للضَّرورةِ-، والمضطَرُّ إذا وَجَدَ لحْمَ الشَّاةِ الميتةِ ولحْمَ الآدميِّ الميتِ فلا يَأكُلُ لحْمَ الآدميِّ، فكذلك المغتابُ: إنْ وجَدَ لِحاجَتِه مَدْفعًا غيرَ الغِيبةِ، فلا يُباحُ له الاغتيابُ [416] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (28/111). .
29- قال اللهُ تعالى لَمَّا نَهى عن الغِيبةِ: أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ، فعُلِمَ أنَّ المُغْتابَ له سَبيلٌ إلى التَّوبةِ بكلِّ حالٍ، وإنْ كان الَّذي اغْتِيبَ مَيتًا أو غائبًا [417] يُنظر: ((الصارم المسلول)) لابن تيمية (ص: 493). ويجبُ على مَن وقَع في الغِيبةِ: التَّوبةُ بالإقلاعِ عن الغِيبةِ، والنَّدمِ على فِعلِها، والعزمِ ألَّا يَعودَ إليها، وأن يَستحِلَّ مَنِ اغتابه ويَطلُبَ عفوَه عنها، والإبراءَ منها. ومِن أهلِ العِلمِ مَن فصَّل؛ فقال: إن كان مَنِ اغتابه قد عَلِم بذلك فلا بُدَّ مِن أن يَستحِلَّه، أمَّا إذا لم يَعلَمْ فيَكفي أن يَستغفِرَ له، وأن يُثنيَ عليه في المجالِسِ الَّتي كان يَغتابُه فيها. فإن كان صاحبُ الغِيبةِ مَيتًا أو غائبًا فقد تعذَّر تحصيلُ البراءةِ منها، لكنْ قال العلماءُ: يَنبغي أن يُكثِرَ مِن الاستِغفارِ له والدُّعاءِ، ويُكثِرَ مِن الحسَناتِ. يُنظر: ((الأذكار)) للنووي (ص: 346)، ((المستدرك على مجموع الفتاوى لابن تيمية)) (3/210)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات- الحديد)) (ص: 45). .
30- قال تعالى: وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ، فقسَّمَ العِبادَ إلى تائبٍ وظالمٍ، وما ثَمَّ قِسمٌ ثالثٌ البَتَّةَ، وأوقَعَ اسمَ الظَّالمِ على مَن لم يَتُبْ، ولا أظلَمَ منه؛ لِجَهْلِه بربِّه وبحقِّه، وبعَيبِ نفْسِه وآفاتِ أعمالِه [418] يُنظر: ((مدارج السالكين)) لابن القيم (1/196). .
31- قولُ اللهِ تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى، هذه الآيةُ الكريمةُ تدُلُّ على أنَّ خلْقَ النَّاسِ ابتِداؤُه مِن ذكَرٍ وأُنثى. وقد دلَّت آياتٌ أُخَرُ على خلْقِهم مِن غيرِ ذلك؛ كقولِه تعالى: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ [غافر: 67] ، وقولِه تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ [الحج: 5] ؟
 والجوابُ: هو أنَّ التُّرابَ هو الطَّورُ الأوَّلُ، وقد قال تَعالى: وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا [نوح: 14] ، وقد بيَّنَ اللهُ أطوارَ خلْقِ الإنسانِ مِن مَبدئِه إلى مُنتهاهُ بقولِه تعالى: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ [المؤمنون: 12-13] ، إلى آخِرِه [419] يُنظر: ((دفع إيهام الاضطراب)) للشنقيطي (ص: 219). .
32- مَقولةُ: «إنَّ محمَّدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ خُلِقَ مِن نُورٍ، وإنَّ آدَمَ عليه السَّلامُ خُلِقَ مِن نُورِ محمَّدٍ» مِن أبطَلِ الباطلِ، وهو كذِبٌ مُخالِفٌ للقرآنِ؛ كقولِه تبارك وتعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى، وقولِه تعالى: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ [420] يُنظر: ((فتاوى نور على الدرب)) لابن عثيمين (1/211). [المؤمنون:12، 13].
33- قولُ اللهِ تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ، فيه سُؤالٌ: هذا مَبنيٌّ على عدَمِ اعتبارِ النَّسَبِ، وليس كذلك؛ فإنَّ للنَّسبِ اعتبارًا عُرفًا وشرْعًا.
الجوابُ: إذا جاء الأمرُ العظيمُ، لا يَبْقى الأمرُ الحقيرُ مُعتَبًرا؛ وذلك في الحسِّ والشَّرعِ والعُرفِ؛ أمَّا الحسُّ: فلأنَّ الكواكبَ لا تُرى عندَ طُلوعِ الشَّمسِ، ولِجَناحِ الذُّبابِ دَوِيٌّ، ولا يُسمَعُ عندَما يكونُ رعْدٌ قوِيٌّ. وأمَّا في العُرفِ: فلأنَّ مَن جاء معَ الملِكِ لا يَبقى له اعتبارٌ، ولا إليه التِفاتٌ. إذا عُلِمَ هذا فيهما ففي الشَّرعِ كذلك، إذا جاء الشَّرفُ الدِّينيُّ الإلهيُّ لا يَبْقَى هناك اعتِبارٌ؛ لا لنَسَبٍ ولا لنَشَبٍ [421] النَّشَب: المالُ والعَقارُ. يُنظر: ((مختار الصحاح)) للرازي (ص: 310). ، فالكافرُ وإنْ كان مِن أعلَى النَّاسِ نَسبًا، والمؤمنُ وإنْ كان مِن أدْونِهم نَسبًا؛ لا يُقاسُ أحَدُهما بالآخَرِ، وكذلك ما هو مِن الدِّينِ معَ غيرِه؛ ولهذا يَصلُحُ للمَناصبِ الدِّينيَّةِ -كالقضاءِ والشَّهادةِ- كلُّ شَريفٍ ووَضيعٍ إذا كان دَيِّنًا عالِمًا صالحًا، ولا يَصلُحُ لشَيءٍ منها فاسقٌ وإنْ كان قُرَشيَّ النَّسَبِ، وقارُونيَّ النَّشَبِ، ولكنْ إذا اجتمَعَ في اثنَينِ الدِّينُ المتينُ، وأحَدُهما نَسيبٌ، ترجَّحَ بالنَّسبِ عندَ النَّاسِ لا عندَ اللهِ؛ لأنَّ اللهَ تعالى يقولُ: وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى [النجم: 39]، وشرَفُ النَّسبِ ليس مُكتسَبًا، ولا يَحصُلُ بسَعْيٍ [422] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (28/112، 113). .
34- قولُه تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ استُدِلَّ به على أنَّ النَّسَبَ لا اعتبارَ به في كَفاءةِ النِّكاحِ [423] يُنظر: ((المستدرك على مجموع الفتاوى لابن تيمية)) (4/158). وعدَمُ اشتراطِ الكَفاءةِ في النَّسَبِ هو مذهَبُ المالِكيَّةِ. يُنظر: ((الشرح الكبير)) للدردير (2/249). واختاره ابنُ تيميَّةَ، وابنُ القَيِّمِ، والشَّوكانيُّ، وابنُ باز، وابنُ عثيمينَ، وبه أفتَتِ اللَّجنةُ الدَّائمةُ. يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (19/29)، ((زاد المعاد)) لابن القيم (5/145)، ((السيل الجرار)) للشوكاني (ص: 377)، ((الحلل الإبريزية)) لابن باز (3/68)، ((الشرح الممتع)) لابن عثيمين (12/101)، ((فتاوى اللجنة الدائمة - المجموعة الأولى)) (18/186). .
35- قولُ اللهِ تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ، فيه سُؤالٌ: ما الحكمةُ في اختيارِ النَّسَبِ مِن جُملةِ أسبابِ التَّفاخُرِ، ولم يُذكَرِ المالُ؟
الجوابُ: الأمورُ الَّتي يُفتخَرُ بها في الدُّنيا وإنْ كانت كثيرةً، لكنَّ النَّسبَ أعْلاها؛ لأنَّ المالَ قد يَحصُلُ للفقيرِ، فيَبطُلُ افتخارُ المفتخِرِ به، والحُسْنَ والسِّنَّ وغيرَ ذلك غيرُ ثابتٍ دائمٍ، والنَّسَبُ ثابتٌ مُستمِرٌّ، غيرُ مَقدورِ التَّحصيلِ لِمَن ليس له، فاختارَهُ اللهُ للذِّكْرِ، وأبطَلَ اعتبارَه بالنِّسبةِ إلى التَّقْوى؛ ليُعلَمَ منه بُطلانُ غيرِه بالطَّريقِ الأَولى [424] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (28/113). .
36- في قولِه تعالى: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ أنَّ مَن زَعَمَ أنَّ أحدًا يَنفَعُه قَرابتُه مِن رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بغيرِ طاعةِ اللهِ؛ فقد خالَفَ الكِتابَ والسُّنَّةَ [425] يُنظر: ((النكت الدالة على البيان)) للقصاب (4/103). .
37- قولُ اللهِ تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ، فيه سُؤالٌ: الْخِطَابُ معَ النَّاسِ، والأكْرَمُ يَقْتضي اشتِراكَ الكلَّ في الكرامةِ، ولا كَرامةَ للكافرِ؛ فإنَّه أضَلُّ مِن الأنعامِ، وأذَلُّ مِن الهَوامِّ؟
الجوابُ: ذلك غيرُ لازمٍ، معَ أنَّه حاصلٌ؛ بدليلِ قولِه تعالى: وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ [الإسراء: 70] ؛ لأنَّ كلَّ مَن خُلِقَ فقدِ اعترَفَ بربِّه، كأنَّه تعالى قال: مَنِ استمَرَّ عليه لو زاد، زِيدَ في كَرامتِه، ومَن رجَعَ عنه، أُزِيلَ عنه أثَرُ الكرامةِ [426] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (28/114، 115). .
38- قولُ اللهِ تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا، فيه ذَمُّ التَّفاخُرِ بالأنسابِ [427] يُنظر: ((الإكليل)) للسيوطي (ص: 242). .
39- قولُ اللهِ تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا، فيه أنَّ التَّقيَّ غيرَ النَّسيبِ يُقدَّمُ على النَّسيبِ غيرِ التَّقيِّ، فيُقدَّمُ العدْلُ والأورَعُ في الإمامةِ على النَّسيبِ غيرِهما [428] يُنظر: ((الإكليل)) للسيوطي (ص: 242). .
40- ليس لأحدٍ أنْ يُعلِّقَ الحمْدَ والذَّمَّ، والحُبَّ والبُغضَ، والمُوالاةَ والمُعاداةَ، والصَّلاةَ واللَّعنَ؛ بغيرِ الأسماءِ الَّتي علَّقَ اللهُ بها ذلك، مثلُ أسماءِ القبائلِ، والمدائنِ، والمذاهبِ، والطَّرائقِ المُضافةِ إلى الأئمَّةِ والمشايخِ، ونحْوِ ذلك ممَّا يُراد به التَّعريفُ، كما قال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ، وقال تعالى: أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آَمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ [يونس: 62، 63]، وقال: تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا [مريم: 63]، وقد قال صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((ألَا إنَّ آلَ أبي -يعني فُلانًا- لَيسوا لي بأولياءَ؛ إنَّما وَلِيِّيَ اللهُ وصالِحُ المؤمنينَ)) [429] أخرجه البخاريُّ (5990)، ومسلمٌ (215) واللَّفظُ له مِن حديثِ عَمرِو بنِ العاصِ رضيَ الله عنه. ، وقال: ((إنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ قد أذهَبَ عنكم عُبِّيَّةَ الجاهليَّةِ وفخْرَها بالآباءِ؛ مؤمنٌ تقِيٌّ، وفاجرٌ شقِيٌّ، أنتم بنو آدَمَ، وآدَمُ مِن تُرابٍ)) [430] أخرجه أبو داود (5116)، والترمذي (3955)، وأحمد (10781) واللَّفظُ له. قال الترمذي: (حسَنٌ غريبٌ)، وصحَّح الحديثَ ابنُ تيميَّةَ في ((اقتضاء الصراط المستقيم)) (1/247)، وحسَّنَه الألبانيُّ في ((صحيح سنن أبي داود)) (5116)، وصحَّحه لغيرِه شعيبٌ الأرناؤوط في تخريج ((سنن أبي داود)) (5116)، وحسَّن إسنادَه المُنذِريُّ في ((الترغيب والترهيب)) (4/62). ، وقال: ((ألَا لا فضْلَ لعَربيٍّ على عَجَميٍّ، ولا لعَجَميٍّ على عربيٍّ، ولا أحمرَ على أسْوَدَ، ولا أسودَ على أحمرَ؛ إلَّا بالتَّقْوى)) [431] أخرجه -مِن طُرقٍ- أحمدُ (23489) واللَّفظُ له، وعبدُالله بنُ المبارَكِ في ((المسند)) (239)، والحارث كما في ((بغية الباحث عن زوائد مسند الحارث)) للهيثمي (51) مِن حديثِ رجُلٍ مِن أصحابِ النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم. صحَّح إسنادَه ابنُ تيميَّةَ في ((اقتضاء الصراط المستقيم)) (1/412)، والألبانيُّ في ((سلسلة الأحاديث الصحيحة)) (6/199)، وشعيبٌ الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (38/474)، وقال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (3/268): (رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح). ، فالحمْدُ والذَّمُّ، والحُبُّ والبُغضُ، والموالاةُ والمعاداةُ؛ إنَّما تكونُ بالأشياءِ الَّتي أنزَلَ اللهُ بها سُلطانَه، وسُلطانُه كِتابُه، فمَن كان مؤمنًا وجَبَت مُوالاتُه مِن أيِّ صِنفٍ كان، ومِن كان كافرًا وجَبَت مُعاداتُه مِن أيِّ صِنفٍ كان؛ قال تعالى: إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ * وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ [المائدة: 55، 56]، وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ [المائدة: 51]، وقال تعالى: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ [432] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (28/227، 228). [التوبة: 71] .
41- قولُ اللهِ تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ، يدُلُّ على أنَّ دِينَ الإسلامِ سَماويٌّ صَحيحٌ، لا نظَرَ فيه إلى الألوانِ، ولا إلى العناصرِ، ولا إلى الجِهاتِ، وإنَّما المُعتبَرُ فيه تَقْوى اللهِ جلَّ وعلا وطاعتُه، فأكرَمُ النَّاسِ وأفضَلُهم أتْقاهُم للهِ، ولا كرَمَ ولا فضْلَ لغيرِ المتَّقي، ولو كان رَفيعَ النَّسبِ [433] يُنظر: ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/418). .
42- قولُ اللهِ تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا، فيه دَليلٌ على أنَّ مَعرفةَ الأنسابِ مَطلوبةٌ مَشروعةٌ؛ لأنَّ اللهَ جَعَلهم شُعوبًا وقَبائلَ مِن أجْلِ ذلك [434] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 802). ويُنظر أيضًا: ((الإكليل)) للسيوطي (ص: 242). .

بلاغة الآيات:

1- قولُه تعالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ هذا نِداءٌ رابعٌ أُرِيدَ بما بعْدَه أمْرُ المسلِمينَ بواجِبِ بَعضِ المُجامَلةِ بيْن أفرادِهم [435] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/246). .
- قولُه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ افتُتِحَتْ هذه الآيةُ بإعادةِ النِّداءِ؛ للاهتِمامِ بالغرَضِ، فيَكونُ مُستقلًّا غيرَ تابعٍ [436] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/246). .
- وإنَّما عبَّرَ بالجَمْعِ في قولِه: لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ، ولم يقُلْ: (رجُلٌ مِن رجُلٍ، ولا امرأةٌ مِن امرأةٍ)؛ إيذانًا بإقدامِ غيرِ واحدٍ مِن رجالِهم وغيرِ واحدةٍ مِن نِسائِهم على السُّخريةِ، واستِفظاعًا للشَّأْنِ الَّذي كانوا عليه، ولأنَّ مَشهَدَ السَّاخرِ لا يَكادُ يَخلو ممَّن يَتلهَّى ويَستضْحِكُ على قولِه، ولا يأْتي ما عليه مِن النَّهيِ والإنكارِ؛ فيكونُ شَريكَ السَّاخرِ وتِلْوَه في تحمُّلِ الوِزرِ، وكذلك كلُّ مَن يُطرِقُ سمْعَه فيَستطْيِبُه ويَضحَكُ منه، فيُؤدِّي ذلك -وإنْ أوجَدَه واحدٌ- إلى تَكثيرِ السُّخريةِ وانقلابِ الواحدِ جَماعةً [437] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/367)، ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (14/489)، ((تفسير أبي حيان)) (9/517)، ((تفسير أبي السعود)) (8/121)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (9/270). . أو لأنَّ السُّخريةَ تَغلِبُ في المجامعِ [438] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (5/136). . أو إنَّما أُسنِدَ يَسْخَرْ إلى قَومٌ دونَ أنْ يَقولَ: لا يَسخَرْ بعضُكم مِن بعضٍ، كما قال: وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا [الحجرات: 12] ؛ للنَّهيِ عمَّا كان شائعًا بيْنَ العرَبِ مِن سُخريةِ القبائلِ بعضِها مِن بعضٍ؛ فوُجِّهَ النَّهيُ إلى الأقوامِ، ويُفهَمُ منه النَّهيُ عن أنْ يَسخَرَ أحدٌ مِن أحَدٍ بطَريقِ لَحنِ الخِطابِ [439] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/247). ولحنُ الخِطابِ: هو أنْ يكونَ المَسْكوتُ عَنه مُوافقًا للمَنطوقِ فى الحُكمِ، ويُسمَّى أيضًا فحوى الخطابِ. وقيل: إنْ كان أَوْلى بالحُكمِ مِن المنطوقِ به فيُسَمَّى فَحْوى الخِطابِ، وإن كان مساويًا فيُسَمَّى لحنَ الخطابِ. وقيل: هو مفهومُ المُخالَفةِ. وقيل: هو دَلالةُ الاقتِضاءِ. يُنظر: ((نفائس الأصول)) للقرافي (2/641)، ((المختصر في أصول الفقه)) لابن اللحام (ص: 132)، ((إرشاد الفحول)) للشوكاني (2/37). .
- وتَنكيرُ (قومٍ) و(نِساءٍ) في الموضعَينِ يَحتَمِلُ مَعنيَينِ؛ أنْ يُرادَ: لا يَسْخَرْ بعضُ المؤمنينَ والمؤمناتِ مِن بعضٍ، أو يُقصَدُ إفادةُ العُمومِ؛ لئلَّا يُتوهَّمَ نهْيُ قَومٍ مُعيَّنينَ سَخِروا مِن قومٍ مُعيَّنينَ [440] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/366، 367)، ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (14/489)، ((تفسير أبي السعود)) (8/121)، ((تفسير ابن عاشور)) (26/247)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (9/270). .
- وخَصَّ النِّساءَ بالذِّكرِ مع أنَّ القومَ يَشملُهم بطَريقِ التَّغليبِ العُرْفيِّ في الكلامِ؛ دفْعًا لتَوهُّمِ تَخصيصِ النَّهيِ بسُخريةِ الرِّجالِ؛ إذ كان الاستِسخارُ مُتأصِّلًا في النِّساءِ [441] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/247). .
- وجُملةُ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ تَعليلٌ للنَّهيِ، وهي مُستأنَفةٌ مُعترِضةٌ بيْنَ الجُملتَينِ المُتعاطفتَينِ، تُفيدُ المُبالَغةَ في النَّهيِ عن السُّخريةِ بذِكْرِ حالةٍ يَكثُرُ وُجودُها في المَسخورِ به؛ فتكونُ سُخريةُ السَّاخرِ أفظَعَ، ولأنَّه يُثيرُ انفعالَ الحياءِ في نفْسِ السَّاخرِ بيْنَه وبيْنَ نفْسِه [442] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/368)، ((تفسير البيضاوي)) (5/136)، ((تفسير أبي حيان)) (9/517)، ((تفسير أبي السعود)) (8/121)، ((تفسير ابن عاشور)) (26/247). .
- قولُه: بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ تَذْييلٌ للمَنْهيَّاتِ المتقدِّمةِ، وهو تَعريضٌ قويٌّ بأنَّ ما نُهوا عنه فُسوقٌ وظُلْمٌ؛ إذ لا مُناسَبةَ بيْن مَدلولِ هذه الجُملةِ وبيْن الجُمَلِ الَّتي قبْلَها لولا مَعْنى التَّعريضِ بأنَّ ذلك فُسوقٌ، وذلك مَذمومٌ ومُعاقَبٌ عليه؛ فدلَّ قولُه: بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ على أنَّ ما نُهوا عنه مَذْمومٌ؛ لأنَّه فُسوقٌ يُعاقَبُ عليه، ولا تُزيلُه إلَّا التَّوبةُ، فوقَعَ إيجازٌ بحذْفِ جُملتَينِ في الكلامِ؛ اكتِفاءً بما دلَّ عليه التَّذييلُ، وهذا دالٌّ على أنَّ اللَّمزَ والتَّنابُزَ مَعصيتانِ؛ لأنَّهما فُسوقٌ [443] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/249). .
- وإيثارُ لفْظِ الِاسْمُ هنا مِن الرَّشاقةِ بمكانٍ؛ لأنَّ السِّياقَ تَحذيرٌ مِن ذِكرِ النَّاسِ بالأسماءِ الذَّميمةِ؛ إذ الألقابُ أسماءٌ؛ فكان اختيارُ لفظِ الاسمِ للفُسوقِ مُشاكَلةً مَعنويَّةً [444] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/250). .
- قولُه: وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ لَمَّا كان كلٌّ مِن السُّخريةِ واللَّمْزِ والتَّنابُزِ مَعاصيَ، فقد وجَبَت التَّوبةُ منها، فمَن لم يَتُبْ فهو ظالمٌ؛ لأنَّه ظلَمَ النَّاسَ بالاعتداءِ عليهم، وظلَمَ نفْسَه بأنْ رضِيَ لها عِقابَ الآخِرةِ مع التَّمكُّنِ مِن الإقلاعِ عن ذلك، فكان ظُلمُه شديدًا جدًّا؛ فلذلك جِيءَ له بصِيغةِ قصْرِ الظالِمينَ عليهم، كأنَّه لا ظالمَ غَيرُهم؛ لعَدَمِ الاعتدادِ بالظالِمينَ الآخَرينَ في مُقابَلةِ هؤلاء على سَبيلِ المُبالَغةِ؛ لِيَزدَجِروا [445] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/250). .
- وتَوسيطُ اسمِ الإشارةِ (أُولَئِكَ) لزِيادةِ تَمْييزِهم؛ تَفظيعًا لحالِهم، وللتَّنبيهِ على أنَّهم استحقُّوا قَصْرَ الظُّلمِ عليهم مِن أجْلِ ما ذُكِرَ مِن الأوصافِ قبْلَ اسمِ الإشارةِ [446] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/250). .
2- قولُه تعالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ
- قولُه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ أُعيدَ النِّداءُ خامسَ مرَّةٍ؛ لاختِلافِ الغرَضِ والاهتِمامِ به؛ وذلك أنَّ المَنهيَّاتِ المذكورةَ بعدَ هذا النِّداءِ مِن جِنسِ المُعامَلاتِ السَّيِّئةِ الخفيَّةِ الَّتي لا يَتفطَّنُ لها مَن عُومِلَ بها، فلا يَدْفَعُها، فما يُزيلُها مِن نفْسِ مَن عامَلَه بها؛ ففي قولِه تعالى: اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ تأْديبٌ عظيمٌ يُبطِلُ ما كان فاشيًا في الجاهليَّةِ مِن الظُّنونِ السَّيِّئةِ والتُّهَمِ الباطلةِ، وأنَّ الظُّنونَ السَّيِّئةَ تَنشَأُ عنها الغَيرةُ المُفرِطةُ والمكايدُ والاغتِيالاتُ، والطَّعنُ في الأنسابِ، والمُبادَأةُ بالقِتالِ؛ حذَرًا مِن اعتِداءٍ مَظنونٍ ظنًّا باطلًا، كما قالوا: خُذِ اللِّصَّ قبْلَ أنْ يَأخُذَك [447] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/250، 251). .
- والسِّرُّ في تَنكيرِ قَولِه: كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ وإبهامِه: إفادةُ مَعنى البَعضيَّةِ؛ للإيذانِ بأنَّ في الظُّنونِ ما يجِبُ أنْ يُجتنَبَ مِن غيرِ تَبْيينٍ لذلك ولا تَعْيينٍ؛ لئلَّا يَجترِئَ أحدٌ على ظنٍّ إلَّا بعدَ تأمُّلٍ، وبُعدِ نَظرٍ، وتَمحيصٍ، واستِشعارٍ للتَّقْوى، والحذَرِ مِن أنْ يكونَ الظَّنُّ طائشَ السَّهمِ، بعيدًا عن الإصابةِ، وما أكثَرَ الَّذين تُسَوِّلُ لهم ظُنونُهم ما ليس واقعًا، ولا يَستنِدُ إلى شَيءٍ مِن اليَقينِ [448] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/371)، ((تفسير البيضاوي)) (5/136)، ((تفسير أبي حيان)) (9/519)، ((تفسير أبي السعود)) (8/122)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (9/274، 275). !
- والمُرادُ بالظَّنِّ هنا: الظَّنُّ المُتعلِّقُ بأحوالِ النَّاسِ، وحُذِفَ المُتَعلَّقُ؛ لتَذهَبَ نفْسُ السَّامعِ إلى كلِّ ظنٍّ مُمكنٍ هو إثمٌ [449] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/251). .
- وجُملةُ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ استِئنافٌ بَيانيٌّ؛ لأنَّ قولَه: اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ يَستوقِفُ السَّامعَ ليَتطلَّبَ البيانَ، فأُعلِموا أنَّ بَعضَ الظَّنِّ جُرمٌ، وهذا كِنايةٌ عن وُجوبِ التَّأمُّلِ في آثارِ الظُّنونِ؛ لِيَعرِضوا ما تُفضي إليه الظُّنونُ على ما يَعلَمونَه مِن أحكامِ الشَّريعةِ، وليس هذا البيانُ تَوضيحًا لأنواعِ الكثيرِ مِن الظَّنِّ المأمورِ باجتِنابِه؛ لأنَّها أنواعٌ كثيرةٌ، فنبَّهَ على عاقِبَتِها وترَكَ التَّفصيلَ؛ لأنَّ في إبهامِه بَعثًا على مَزيدِ الاحتِياطِ [450] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/371)، ((تفسير البيضاوي)) (5/136)، ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (14/497، 498)، ((تفسير أبي السعود)) (8/122)، ((تفسير ابن عاشور)) (26/251). .
- وإنَّما قالَ: وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا دونَ أنْ يقولَ: (اجتنِبوا الغِيبةَ)؛ لقَصْدِ التَّوطئةِ للتَّمثيلِ الواردِ في قولِه: أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا؛ لأنَّه لَمَّا كان ذلك التَّمثيلُ مُشتمِلًا على جانبِ فاعلِ الاغتيابِ ومَفعولِه، مهَّدَ له بما يدُلُّ على ذاتَينِ؛ لأنَّ ذلك يَزيدُ التَّمثيلَ وُضوحًا [451] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/254). .
- ومُثِّلَتِ الغِيبةُ بأكْلِ لَحمِ الأخِ المَيتِ، وهو يَستلزِمُ تَمثيلَ المَولوعِ بها بمَحبَّةِ أكْلِ لحمِ الأخِ المَيتِ، والتَّمثيلُ مَقصودٌ منه استِفظاعُ المُمثَّلِ وتَشويهُه؛ لإفادةِ الإغلاظِ على المُغتابِينَ؛ لأنَّ الغِيبةَ مُتفشِّيةٌ في النَّاسِ، وخاصَّةً في أيَّامِ الجاهليَّةِ، فشُبِّهَت حالةُ اغتيابِ المسلمِ مَن هو أَخوه في الإسلامِ وهو غائبٌ، بحالةِ أكْلِ لَحمِ أخيه وهو مَيتٌ، لا يُدافِعُ عن نفْسِه، وهذا التَّمثيلُ للْهيئةِ قابِلٌ للتَّفريقِ؛ بأنْ يُشبَّهَ الَّذي اغتابَ بآكِلِ لَحمٍ، ويُشبَّهَ الَّذي اغتِيبَ بأخٍ، وتُشبَّهَ غِيبتُه بالموتِ [452] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/373)، ((تفسير البيضاوي)) (5/136)، ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (14/502)، ((تفسير أبي حيان)) (9/520)، ((تفسير أبي السعود)) (8/122)، ((تفسير ابن عاشور)) (26/255)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (9/275). .
وفي هذا التَّمثيلِ مُبالَغاتٌ شتَّى؛ منها: الاستِفهامُ التَّقريريُّ الَّذي لا يقَعُ إلَّا على أمْرٍ مُسلَّمٍ عندَ المُخاطَبِ، فجَعْلُك الشَّيءَ في حيِّزِ الاستِفهامِ التَّقريريِّ يَقْتضي أنَّك تدَّعي أنَّه لا يُنكِرُه المُخاطَبُ، وإنَّما لم يَرِدِ الاستِفهامُ على نفْيِ مَحبَّةِ ذلك بأنْ يُقالَ: ألَا يُحِبُّ أحدُكُم -كما هو غالبُ الاستِفهامِ التَّقريريِّ- إشارةً إلى تَحقُّقِ الإقرارِ المُقرَّرِ عليه؛ بحيثُ يُترَكُ للمُقرَّرِ مَجالًا لعدَمِ الإقرارِ، ومع ذلك لا يَسَعُه إلَّا الإقرارُ.
ومنها: جَعْلُ ما هو شَديدُ الكراهةِ للنَّفْسِ مَفعولًا لفِعْلِ المحبَّةِ؛ للإشعارِ بتَفْظيعِ حالةِ ما شُبِّهَ به وحالةِ مَنِ ارْتضاهُ لنفْسِه؛ فلذلك لم يقلْ: أيَتحمَّلُ أحَدُكم أنْ يأكُلَ لَحمَ أخيه مَيتًا؟ بل قالَ: أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ.
ومنها: إسنادُ الفِعلِ إلى (أَحَد)؛ للإشعارِ بأنَّ أحَدًا مِن الأحَدِينَ لا يُحِبُّ ذلك.
ومنها: أنَّه لم يَقتصِرْ على تَمثيلِ الاغتِيابِ بأكْلِ لحمِ الإنسانِ حتَّى جعَلَ الإنسانَ أخًا.
ومنها: أنَّه لم يَقتصِرْ على كَونِ المأكولِ لحمَ الأخِ حتَّى جعَلَ الأخَ مَيْتًا.
ومنها: إخراجُ تَماثُلِها مُخرَجَ أمْرٍ بَيِّنٍ غنِيٍّ عنِ الإخبارِ به [453] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/373)، ((تفسير البيضاوي)) (5/136)، ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (14/502)، ((تفسير أبي حيان)) (9/520)، ((تفسير أبي السعود)) (8/122)، ((تفسير ابن عاشور)) (26/254 - 256)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (9/275). .
- ولَمَّا قرَّرَهم عزَّ وجلَّ بأنَّ أحدًا منهم لا يُحِبُّ أكْلَ جِيفةِ أخيه؛ عقَّبَ ذلك بقولِه تعالى: فَكَرِهْتُمُوهُ، والفاءُ في قَولِه: فَكَرِهْتُمُوهُ فاءُ الفَصيحةِ. وفاءُ الفصيحةِ تُفيدُ الإلزامَ بما بعْدَها، أي: تدُلُّ على أنْ لا مَناصَ للمُواجَهِ بها مِنِ الْتزامِ مَدلولِ جَوابِ شرْطِها المَحذوفِ. والمعْنى: فتَعيَّنَ إقرارُكم بما سُئِلْتم عنه مِن المُمثَّلِ به -إذ لا يُستطاعُ جَحْدُه- وتَحقَّقتْ كَراهتُكم له وتَقذُّرُكم منه، فلْيَتحقَّقْ أنْ تَكرَهوا نَظيرَه المُمثَّلَ، وهو الغِيبةُ، فكأنَّه قِيل: فاكْرَهوا المُمثَّلَ كما كَرِهْتُم المُمثَّلَ به [454] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/373)، ((تفسير البيضاوي)) (5/136)، ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (14/502)، ((تفسير أبي حيان)) (9/520)، ((تفسير ابن عاشور)) (26/255). .
- قولُه: وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ عطْفٌ على جُمَلِ الطَّلبِ السَّابقةِ، ابتِداءً مِن قولِه: اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ، وهذا كالتَّذييلِ لها؛ إذ أمَرَ بالتَّقْوى، وهي جِماعُ الاجتِنابِ والامتثالِ، فمَن كان سالِمًا مِن التَّلبُّسِ بتلك المَنهيَّاتِ، فالأمْرُ بالتَّقْوى يُجنِّبُه التَّلبُّسَ بشَيءٍ منها في المُستقبَلِ، ومَن كان مُتلبِّسًا بها أو ببعضِها، فالأمْرُ بالتَّقْوى يَجمَعُ الأمْرَ بالكفِّ عمَّا هو مُتلبِّسٌ به منها [455] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/257). .
- وجُملةُ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ تَذْييلٌ للتَّذييلِ؛ لأنَّ التَّقْوى تكونُ بالتَّوبةِ بعدَ التَّلبُّسِ بالإثمِ، فقيلَ: إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ، وتكونُ التَّقوى ابتِداءً، فيَرحَمُ اللهُ المُتَّقيَ، فالرَّحيمُ شاملٌ للجميعِ [456] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/257). .
- والمُبالَغةُ في (التوَّاب)؛ للدَّلالةِ على كَثرةِ مَن يَتوبُ عليه مِن عِبادِه، أو لأنَّه ما مِن ذنْبٍ يَقترِفُه المُقترِفُ إلَّا كان مَعفوًّا عنه بالتَّوبةِ، أو لأنَّه بَليغٌ في قَبولِ التَّوبةِ، مُنزِّلٌ صاحبَها مَنزِلةَ مَن لم يُذنِبْ قطُّ؛ لِسَعةِ كَرَمِه [457] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/374)، ((تفسير البيضاوي)) (5/136، 137)، ((تفسير أبي السعود)) (8/122). .
- وما أحسَنَ ما جاء التَّرتيبُ في الآيةِ! حيثُ جاء الأمْرُ أوَّلًا باجتِنابِ الطَّريقِ الَّتي لا تؤدِّي إلى العِلمِ -وهو الظَّنُّ-، ثمَّ نهَى -ثانيًا- عن طلَبِ تَحقُّقِ ذلك الظَّنِّ، فيَصيرُ عِلْمًا بقولِه: وَلَا تَجَسَّسُوا، ثمَّ نهَى -ثالثًا- عن ذِكْرِ ذلك إذا عَلِم، فهذه أُمورٌ ثلاثةٌ مُترتِّبةٌ: ظنٌّ، فعِلمٌ بالتَّجسُّسِ، فاغتِيابٌ [458] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (9/521). ويُنظر أيضًا: ((تفسير الرازي)) (28/111). ؛ لأنَّه إنْ ظَنَّ الإنسانُ بأخيه شَيئًا تجَسَّسَ عليه، فإذا تجَسَّس صار يَغتابُه [459] يُنظر: ((شرح رياض الصالحين)) لابن عثيمين (2/121). .
3- قولُه تعالَى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ أُعِيدَ النِّداءُ للاهتمامِ بهذا الغرَضِ؛ إذ كان إعجابُ كلِّ قَبيلةٍ بفَضائلِها، وتَفضيلُ قَومِها على غيرِهم؛ فاشيًا في الجاهليَّةِ، فجاءتْ هذه الآيةُ لتَأديبِ المؤمنينَ على اجتِنابِ ما كان في الجاهليَّةِ؛ لاقتِلاعِ جُذورِه الباقيةِ في النُّفوسِ بسَببِ اختلاطِ طَبَقاتِ المؤمنينَ بعْدَ سَنةِ الوُفودِ؛ إذ كثُرَ الدَّاخِلون في الإسلامِ [460] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/258). .
- قولُه: يَا أَيُّهَا النَّاسُ نُودُوا بعُنْوانِ النَّاسِ دونَ (المُؤمِنين)؛ رَعْيًا للمُناسَبةِ بيْنَ هذا العُنوانِ وبيْن ما صُدِّرَ به الغرَضُ مِن التَّذكيرِ بأنَّ أصلَهم واحدٌ، أي: إنَّهم في الخِلقةِ سَواءٌ؛ لِيُتوصَّلَ بذلك إلى أنَّ التَّفاضُلَ والتَّفاخُرَ إنَّما يكونُ بالفضائلِ، وإلى أنَّ التَّفاضلَ في الإسلامِ بزِيادةِ التَّقْوى، فقيل: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى [461] يُنظر: ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص: 527)، ((تفسير ابن عاشور)) (26/258). .
- قولُه: وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا اقتُصِرَ على ذِكْرِ الشُّعوبِ والقَبائلِ؛ لأنَّ ما تحتَها داخلٌ بطَريقِ لَحْنِ الخِطابِ [462] ولحنُ الخِطابِ: هو أنْ يكونَ المَسْكوتُ عَنه مُوافقًا للمَنطوقِ فى الحُكمِ، ويُسمَّى أيضًا فحوى الخطابِ. وقيل: إنْ كان أَوْلى بالحُكمِ مِن المنطوقِ به فيُسَمَّى فَحْوى الخِطابِ، وإن كان مساويًا فيُسَمَّى لحنَ الخطابِ. وقيل: هو مفهومُ المُخالَفةِ. وقيل: هو دَلالةُ الاقتِضاءِ. يُنظر: ((نفائس الأصول)) للقرافي (2/641)، ((المختصر في أصول الفقه)) لابن اللحام (ص: 132)، ((إرشاد الفحول)) للشوكاني (2/37). . وتجاوَزَ القرآنُ عن ذِكرِ الأُمَمِ جرْيًا على المُتداوَلِ في كَلامِ العرَبِ في تَقسيمِ طبَقاتِ الأنسابِ؛ إذ لا يُدرِكون إلَّا أنسابَهم [463] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/259). ، وأيضًا لأنَّهما أقْصى ما يَسهُلُ على الآدميِّ مَعرِفتُه، فما دُونَه أَولى [464] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (18/382). .
- والخبَرُ في قولِه: إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى مُستعمَلٌ كِنايةً عن المُساواةِ في أصلِ النَّوعِ الإنسانيِّ؛ ليُتَوصَّلَ مِن ذلك إلى إرادةِ اكتِسابِ الفضائلِ والمَزايا الَّتي تَرفَعُ بعضَ النَّاسِ على بَعضٍ كِنايةً بمَرْتبتَينِ. والمعْنى المَقصودُ مِن ذلك هو مَضمونُ جُملةِ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ؛ فتلك الجُملةُ تَتنزَّلُ مِن جُملةِ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى مَنزِلةَ المَقصدِ مِن المقدِّمةِ، والنَّتيجةِ مِن القياسِ؛ ولذلك فُصِّلَت؛ لأنَّها بمَنزِلةِ البيانِ. وأمَّا جُملةُ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا فهي مُعترِضةٌ بيْن الجُملتَينِ الأُخْرَيَينِ، والمقصودُ مِن اعتِراضِها: إدماجُ تأْديبٍ آخَرَ مِن واجبِ بثِّ التَّعارُفِ والتَّواصُلِ بيْنَ القبائلِ والأمَمِ، وأنَّ ذلك مُرادُ اللهِ منهم [465] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/261). .
- وجُملةُ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْص مُستأنَفةٌ استِئنافًا ابتدائيًّا، وإنَّما أُخِّرتْ في النَّظمِ عن جُملةِ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا؛ لتَكونَ تلك الجُملةُ السَّابِقةُ كالتَّوطئةِ لهذه، وتَتنزَّلَ منها مَنزِلةَ المُقدِّمةِ؛ لأنَّهم لَمَّا تَساوَوْا في أصْلِ الخِلقةِ مِن أبٍ واحدٍ وأمٍّ واحدةٍ، كان الشَّأنُ ألَّا يَفضُلَ بعضُهم بعضًا إلَّا بالكَمالِ النَّفسيِّ، وهو الكمالُ الَّذي يَرْضاه اللهُ لهم، والَّذي جعَلَ التَّقوى وسِيلتَه؛ ولذلك ناطَ التَّفاضُلَ في الكرَمِ بـ عِنْدَ اللَّهِ؛ إذْ لا اعتِدادَ بكرَمٍ لا يَعبَأُ اللهُ به [466] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/262). .
- قولُه: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ تَعليلٌ للنَّهْيِ عنِ التَّفاخُرِ بالأنسابِ المُستفادِ مِن الكلامِ بطَريقِ الاستِئنافِ التَّحقيقيِّ، كأنَّه قيلَ: إنَّ الأكرمَ عندَه تعالَى هو الأتْقَى، فإنْ فاخَرْتُم ففاخِروا بالتَّقْوى [467] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (8/123). .
- وجُملةُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ تَعليلٌ لِمَضمونِ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ، أي: إنَّما كان أكرَمُكم أتْقاكم؛ لأنَّ اللهَ عليمٌ بالكرامةِ الحقِّ الَّتي هي التَّقوى؛ خَبِيرٌ بمِقدارِ حُظوظِ النَّاسِ مِن التَّقْوى، فهي عِندَه حُظوظُ الكرامةِ؛ فلذلك الأكرمُ هو الأتقَى. وهي تَذْييلٌ، وهو كِنايةٌ عن الأمْرِ بتَزْكيةِ نِيَّاتِهم في مُعامَلاتِهم وما يُريدون مِن التَّقوى بأنَّ اللهَ يَعلَمُ ما في نُفوسِهم، ويُحاسِبُهم عليه [468] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/262، 263). .