موسوعة التفسير

سُورةُ الهُمَزَةِ
الآيات (1-9)

ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ

غريب الكلمات:

وَيْلٌ: أي: عَذابٌ وهَلاكٌ. وقيلَ: وَيلٌ: وادٍ في جَهنَّمَ [4] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (2/163)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 478)، ((المفردات)) للراغب (ص: 888). قال الرَّاغبُ: (ومَن قال: وَيْلٌ: وادٍ في جهنَّمَ، فإنَّه لم يُرِدْ أنَّ «ويلًا» في اللُّغةِ هو موضوعٌ لهذا، وإنَّما أراد: مَن قال اللهُ تعالى ذلك فيه فقد استحقَّ مقرًّا مِن النَّارِ، وثبَت ذلك له). ((المفردات)) (ص: 888). .
هُمَزَةٍ: أي: عيَّابٍ مُغتابٍ للنَّاسِ، وهَمْزُ الإنسانِ: اغتيابُه والطَّعنُ في عِرْضِه، وأصلُ (همز): يدُلُّ على ضَغطٍ وعَصرٍ [5] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/159)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 496)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (6/65)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 475). .
لُمَزَةٍ: أي: عَيَّابٍ، واللَّمْزُ: الاغتيابُ وتَتبُّعُ المَعايبِ، وأصلُه الإشارةُ بالعَينِ ونَحوِها. وقيل: الهُمَزةُ: الَّذي يَعِيبُك في الغَيْبِ، واللُّمَزةُ: الَّذي يَعيبُك في الوَجْهِ. وقيل العَكسُ. وأصلُه اللَّمزُ، وهو العَيبُ [6] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (11/505)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 496)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/209)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 475). .
لَيُنْبَذَنَّ: أي: لَيُطرَحَنَّ ويُقذَفَنَّ، وأصلُ (نبذ): يدُلُّ على طَرحٍ وإلقاءٍ [7] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 539)، ((تفسير ابن جرير)) (24/621)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/380)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 468)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 991). .
الْحُطَمَةِ: أي: النَّارِ؛ سُمِّيَت بذلك لأنَّها تَحطِمُ كُلَّ شَيءٍ وتَكسِرُه، وأصلُ (حطم): يدُلُّ على كَسرِ الشَّيءِ [8] يُنظر: ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 201)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/78)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 468)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 475). .
الْأَفْئِدَةِ: جمْعُ فؤادٍ، وهو القلبُ؛ سمِّيَ بذلك لحرارَتِه، أو لتَوقُّدِه، وأصلُ (فأد): يدُلُّ على حُمَّى وشِدَّةِ حرارةٍ [9] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (4/469)، ((المفردات)) للراغب (ص: 646). .
مُؤْصَدَةٌ: أي: مُطبَقةٌ مُغلَقةٌ، وأصلُ (وصد): يدُلُّ على ضَمِّ شَيءٍ إلى شَيءٍ [10] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (6/117)، ((البسيط)) للواحدي (24/313)، ((المفردات)) للراغب (ص: 872)، ((تفسير البغوي)) (5/304). .
مُمَدَّدَةٍ: أي: مَمدودةٍ مُطَوَّلةٍ، وأصلُ (مدد): يدُلُّ على اتِّصالِ شَيءٍ بشَيءٍ في استِطالةٍ [11] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/269)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 468)، ((تفسير الخازن)) (4/469)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 660). .

المعنى الإجمالي:

افتَتَح اللهُ تعالى هذه السُّورةَ الكريمةَ بوعيدِ طائفةٍ مِنَ النَّاسِ، فقال تعالى: عَذابٌ وهلاكٌ يومَ القيامةِ لكُلِّ طعَّانٍ عيَّابٍ للنَّاسِ، الَّذي جمَعَ مالًا كثيرًا وأحصى عدَدَه، يَظُنُّ أنَّ ذلك سيُخَلِّدُه في الدُّنيا!
ثمَّ زجر اللهُ سُبحانَه هذا المَغرورَ، وبَيَّن سُوءَ عاقِبَتِه، فقال: ليس الأمرُ كما يَظُنُّ هذا الإنسانُ! أُقسِمُ لَيُطرَحَنَّ يومَ القيامةِ في النَّارِ الَّتي تَحطِمُ وتَكسِرُ ما يُلقَى فيها!
ثمَّ قال تعالى مُهَوِّلًا أمْرَها، ومُبَيِّنًا بعضَ صِفاتِها: وما الَّذي أعلَمَك -يا محمَّدُ- أيُّ شَيءٍ تلك الحُطَمةُ؟! هي نارُ اللهِ الشَّديدةُ التَّوَقُّدِ بالنَّاسِ والحِجارةِ، الَّتي تَبلُغُ مِن شِدَّتِها قلوبَ الكافِرينَ، وتَنفُذُ إليها، إنَّ تلك النَّارَ مُطبَقةٌ عليهم ومَسدودةٌ بأعمِدةٍ ممدودةٍ في النَّارِ.

تفسير الآيات:

وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ (1).
أي: عَذابٌ شديدٌ وهلاكٌ يومَ القيامةِ لكُلِّ طعَّانٍ عيَّابٍ للنَّاسِ [12] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/616، 620)، ((تفسير ابن عطية)) (5/521)، ((تفسير الرازي)) (32/284)، ((تفسير القرطبي)) (20/181)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (16/ 521)، ((عمدة الحفاظ)) للسمين الحلبي (4/259). قال ابنُ جُزَي: (وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ هو -على الجُملةِ- الَّذي يَعيبُ النَّاسَ ويأكُلُ أعراضَهم). ((تفسير ابن جزي)) (2/512). ويُنظر: ((تفسير الرازي)) (32/284). واختلَف المفسِّرون في الفَرْقِ بيْن الهُمَزةِ واللُّمَزةِ على أقوالٍ: فقيل: الهُمَزَةُ: الَّذي يَعيبُ النَّاسَ مِن خَلْفِهم، واللُّمَزةُ: مَن يَعيبُهم مُواجَهةً. وممَّن ذهب إلى هذا المعنى: مقاتِلُ بنُ سُلَيمانَ، والكرْمانيُّ، والنَّسَفيُّ. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/837)، ((تفسير الكرماني)) (2/1387)، ((تفسير النسفي)) (3/678). وممَّن قال بنَحْوِ هذا القَولِ مِنَ السَّلَفِ: سَعيدُ بنُ جُبَيرٍ، وقَتادةُ، ومجاهِدٌ في روايةٍ عنه. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/618)، ((تفسير الثعلبي)) (10/285). وقيل بعَكسِ ذلك؛ فالهُمَزةُ: الَّذي يَطعُنُ في وَجهِ الرَّجُلِ، واللُّمَزةُ: الَّذي يَغتابُه مِن خَلْفِه إذا غاب. يُنظر: ((إعراب القرآن)) للنحاس (5/180)، ((تفسير القرطبي)) (20/181، 182). وممَّن قال بنَحْوِ هذا القَولِ مِنَ السَّلَفِ: أبو العاليةِ، والحَسَنُ، وعطاءُ بنُ أبي رَباحٍ، ومجاهِدٌ في روايةٍ عنه. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/617)، ((تفسير الثعلبي)) (10/285)، ((تفسير البغوي)) (5/303)، ((تفسير ابن الجوزي)) (4/488). وقيل: الهَمَّازُ: بالقَولِ، واللَّمَّازُ: بالفِعلِ. وممَّن ذهب إلى هذا القَولِ: ابنُ كثيرٍ. يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (8/481). وقيل بعَكسِ ذلك؛ فالهَمَّازُ: الَّذي يَعيبُ النَّاسِ ويَطعُنُ عليهم بالإشارةِ والفِعلِ. واللَّمَّازُ: الَّذي يَعيبُهم بقَولِه. وممَّن قال بهذا: أبو القاسِمِ النَّيْسابوريُّ، والسعديُّ، وابنُ عُثَيمين. يُنظر: ((إيجاز البيان)) لأبي القاسم النيسابوري (2/890)، ((تفسير السعدي)) (ص: 934)، ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 315). وممَّن قال بنَحْوِ هذا القَولِ مِنَ السَّلَفِ: مجاهِدٌ في روايةٍ عنه، وابنُ زَيدٍ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/618)، ((تفسير الثعلبي)) (10/285)، ((تفسير البغوي)) (5/303). قال ابنُ عاشور: (هُمَزةٌ: وَصفٌ مُشتَقٌّ مِنَ الهَمزِ، وهو: أن يَعيبَ أحدٌ أحدًا بالإشارةِ بالعَينِ أو بالشِّدقِ أو بالرَّأسِ، بحَضْرتِه أو عندَ توَلِّيه... ولُمَزةٌ: وَصفٌ مُشتَقٌّ مِنَ اللَّمزِ، وهو المواجَهةُ بالعَيبِ). ((تفسير ابن عاشور)) (30/537). وذكر الزَّمَخْشريُّ أنَّ المرادَ: الكَسْرُ مِن أعراضِ النَّاسِ، والغَضُّ منهم، واغتيابُهم، والطَّعنُ فيهم، وتَبِعَه: البَيضاويُّ، وأبو السُّعودِ، والألوسيُّ. يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/794)، ((تفسير البيضاوي)) (5/337)، ((تفسير أبي السعود)) (9/198)، ((تفسير الألوسي)) (15/460). وقال الفَرَّاءُ وأبو عُبَيدةَ والزَّجَّاجُ والشَّوكانيُّ: الهُمَزَةُ اللُمَزَةُ: الَّذي يغتابُ النَّاسَ ويَغُضُّهم، والظَّاهِرُ عَدَمُ تَفريقِهم بيْنَهما. يُنظر: ((معاني القرآن)) للفراء (3/289)، ((مجاز القرآن)) لأبي عبيدة (2/311)، ((معاني القرآن وإعرابه)) للزجاج (5/361)، ((تفسير الشوكاني)) (5/602). ويُنظر أيضًا: ((الوسيط)) للواحدي (4/552). وقيل: الهُمَزةُ اللُّمَزةُ: العيَّابُ الطعَّانُ، وكِلاهما بمعنًى واحِدٍ. وممَّن اختاره: ابنُ السِّكِّيت، والبِقاعيُّ، والعُليميُّ. يُنظر: ((إصلاح المنطق)) لابن السِّكِّيت (ص: 304)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (22/244)، ((تفسير العليمي)) (7/430). وقال ابنُ أبي زَمَنِينَ: (هو الَّذي يَطعُنُ على النَّاسِ). ((تفسير ابن أبي زمنين)) (5/162). وقال النَّحَّاسُ: (يُقالُ: لَمَزه يَلمِزُه: إذا عابه، ومنه: فُلانٌ هُمَزةٌ لُمَزةٌ، أي: عَيَّابٌ للنَّاسِ، ويقالُ: اللُّمَزةُ هو الَّذي يَعيبُ في سِرٍّ، وإنَّ الهُمَزةَ هو الَّذي يُشيرُ بعَيْنَيه، وهذا كُلُّه يَرجِعُ إلى أنَّه يَعيبُ). ((معاني القرآن)) (3/220). وقيل غيرُ ذلك. يُنظر: ((تفسير الماوردي)) (6/335)، ((تفسير ابن الجوزي)) (4/488). قال الرَّازيُّ بعْدَ أن ذكَرَ الخِلافَ: (واعلَمْ أنَّ جميعَ هذه الوُجوهِ مُتَقارِبةٌ راجِعةٌ إلى أصلٍ واحدٍ، وهو الطَّعْنُ وإظهارُ العَيبِ). ((تفسير الرازي)) (32/284). ويُنظر: ((تفسير الخازن)) (4/468). قيل: نزَلَت هذه السُّورةُ في الأخنَسِ بنِ شَرِيقٍ؛ لأنَّه كان كثيرَ الوَقيعةِ في النَّاسِ، وقيل: في أُمَيَّةَ بنِ خَلَفٍ، وقيل: في الوَليدِ بنِ المُغِيرةِ. قال ابنُ جُزَي: (ولَفْظُها مع ذلك على العُمومِ في كُلِّ مَنِ اتَّصَف بهذه الصِّفاتِ). ((تفسير ابن جزي)) (2/512). وقال الرَّسْعَنيُّ: (ولا مُنافاةَ بيْنَ الأقوالِ، وأن يكونَ نَزَلت بسَبَبِ المذكورينَ، ولَفْظُها عامٌّ يَشملُ مَن نزَلَت فيه وغَيرَه). ((تفسير الرسعني)) (8/728). .
كما قال تعالى: الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ [التوبة: 79] .
وقال سُبحانَه: هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ [القلم: 11] .
الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ (2).
أي: الَّذي جمَعَ مالًا كثيرًا وأحصى عدَدَه، فهو حريصٌ على حِفْظِه وعَدَمِ نَقْصِه، وألَّا يُنفِقَ منه في سَبيلِ اللهِ [13] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/620)، ((تفسير ابن عطية)) (5/521)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (16/522)، ((تفسير ابن كثير)) (8/481)، ((تفسير السعدي)) (ص: 934)، ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 315). .
كما قال تبارك وتعالى: إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا * الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ [النساء: 36، 37].
وقال سُبحانَه: وَجَمَعَ فَأَوْعَى [المعارج: 18].
يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ (3).
أي: يَظُنُّ هذا الحَريصُ على مالِه البَخيلُ به أنَّ ذلك سيُخَلِّدُه في الدُّنيا [14] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/621)، ((الوسيط)) للواحدي (4/553)، ((تفسير القرطبي)) (20/184)، ((تفسير السعدي)) (ص: 934). قال الزَّمخشريُّ: (أي: طوَّلَ المالُ أمَلَه، ومَنَّاه الأمانيَّ البعيدةَ، حتَّى أصبح لفَرطِ غَفلتِه وطُولِ أمَلِه يحسَبُ أنَّ المالَ تَرَكه خالِدًا في الدُّنيا لا يموتُ! أو يَعمَلُ مِن تَشييدِ البُنيانِ المُوثَقِ بالصَّخرِ والآجُرِّ وغَرْسِ الأشجارِ وعِمارةِ الأرضِ عَمَلَ مَن يَظُنُّ أنَّ مالَه أبقاه حيًّا، أو هو تعريضٌ بالعمَلِ الصَّالحِ، وأنَّه هو الَّذي أخلَدَ صاحِبَه في النَّعيمِ، فأمَّا المالُ فما أخلَدَ أحدًا فيه). ((تفسير الزمخشري)) (4/795). وقال البِقاعيُّ: (يجوزُ أن يكونَ ذلك كنايةً عن أنَّه عَمِلَ بانهماكِه في المعاصي، والإعراضِ عن اللهِ عزَّ وجَلَّ، والإقبالِ على التَّوسُّعِ في الشَّهواتِ والأعراضِ الزَّائلاتِ؛ عَمَلَ مَن يظُنُّ أنَّه لا يموتُ!). ((نظم الدرر)) (22/245). وقال السعدي: (يَحْسَبُ بجَهْلِه أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ في الدُّنيا؛ فلذلك كان كَدُّه وسَعْيُه كُلُّه في تنميةِ مالِه الَّذي يظُنُّ أنَّه ينَمِّي عُمُرَه، ولم يَدْرِ أنَّ البُخلَ يَقصِفُ الأعمارَ، ويُخرِبُ الدِّيارَ، وأنَّ البِرَّ يَزيدُ في العُمُرِ). ((تفسير السعدي)) (ص: 934). وقال ابنُ عُثَيمين: (يعني: يظُنُّ هذا الرَّجُلُ أنَّ مالَه سيُخَلِّدُه ويُبْقيه؛ إمَّا بجِسْمِه، وإمَّا بذِكْرِه... أي: أخلَدَ ذِكْرَه، أو أطالَ عُمُرَه). ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 316). !
كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ (4).
أي: ليس الأمرُ كما يَظُنُّ هذا الإنسانُ؛ فلْيَرتَدِعْ عن ذلك! وأُقسِمُ لَيُطرَحَنَّ يومَ القيامةِ في النَّارِ الَّتي تَحطِمُ وتَكسِرُ ما يُلقَى فيها [15] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/621)، ((الوسيط)) للواحدي (4/553)، ((تفسير القرطبي)) (20/184)، ((تفسير ابن كثير)) (8/481)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/539، 540). !
وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ (5).
أي: وما الَّذي أعلَمَك -يا محمَّدُ- أيُّ شَيءٍ تلك الحُطَمةُ العظيمةُ الشَّأنِ [16] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/622)، ((تفسير القرطبي)) (20/184)، ((تفسير الجلالين)) (ص: 821)، ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 316). ؟!
نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ (6).
أي: هي نارُ اللهِ المُسَعَّرةُ الَّتي تتوقَّدُ بالنَّاسِ والحِجارةِ [17] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/622)، ((تفسير السعدي)) (ص: 934)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/540)، ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 317). .
كما قال تعالى: فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ [البقرة: 24] .
الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ (7).
أي: الَّتي تبلُغُ مِن شِدَّتِها قُلوبَ الكافِرينَ وتَنفُذُ إليها [18] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/622)، ((التخويف من النار)) لابن رجب (ص: 186)، ((تفسير السعدي)) (ص: 934)، ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 317). قال ابنُ عطيَّة: (يحتَمِلُ أن يكونَ المعنى: أنَّها لا يَتجاوَزُها أحدٌ حتَّى تأخُذَه بواجِبِ عقيدةِ قَلْبِه ونيَّتِه، فكأنَّها مُطَّلِعةٌ على القُلوبِ بإطْلاعِ اللهِ تعالى إيَّاها). ((تفسير ابن عطية)) (5/522). ويُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/541). !
إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ (8).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا كان الاطِّلاعُ على الفُؤادِ مَظِنَّةَ الموتِ، وفي الموتِ راحةٌ مِنَ العذابِ؛ أشار إلى خُلودِهم فيها، وأنَّهم لا يموتونَ ولا ينقَطِعُ عنهم العذابُ؛ فقال [19] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (22/248). :
إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ (8).
أي: إنَّ تلك النَّارَ مُطبَقةٌ على أولئك الَّذين تقدَّمَ ذِكرُ صِفاتِهم، ومُغلَقةٌ أبوابُها عليهم [20] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/622)، ((الوسيط)) للواحدي (4/553)، ((تفسير ابن عطية)) (5/522)، ((حادي الأرواح)) لابن القيم (ص: 53)، ((تفسير السعدي)) (ص: 934)، ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 317). .
فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ (9).
أي: مُطبَقةٌ ومَسدودةٌ بأعمِدةٍ ممدودةٍ في النَّارِ [21] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/796)، ((حادي الأرواح)) لابن القيم (ص: 53)، ((تفسير السعدي)) (ص: 934). وممَّن قال في الجُملةِ بأنَّ معنى ذلك: أنَّ الأبوابَ مُوصَدةٌ بعَمَدٍ: الزمخشريُّ، وابنُ القيِّمِ، والسعديُّ. يُنظر: المصادر السَّابقة. قال الزمخشري: (والمعنى: أنَّه يُؤكِّدُ يَأسَهُم مِن الخُروجِ وتَيَقُّنَهم بحَبسِ الأبَدِ، فتُؤصَدُ عليهم الأبوابُ، وتُمدَّدُ على الأبوابِ العُمُدُ؛ استِيثاقًا في استِيثاقٍ). ((تفسير الزمخشري)) (4/796). ويُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/837). وقال السمعاني: (أَولى الأقاويلِ هو أنَّها مُطبَقةٌ بعَمَدٍ، يعني: مسدودةً). ((تفسير السمعاني)) (6/281). وقال ابنُ عثيمين: (مُمَدَّدَةٍ أي: ممدودةٍ على جميعِ النَّواحي والزَّوايا؛ حتَّى لا يتمكَّنَ أحدٌ مِن فَتْحِها أو الخروجِ منها). ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 318). وقال الواحديُّ في المُرادِ بالعَمَدِ: (الَّذي عليه الأكثرُ: أنَّها أوتادُ الأَطباقِ الَّتي تُطبَقُ على أهلِ النَّارِ). ((البسيط)) (24/315). وقال ابنُ عاشور: (قوله: فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ حالٌ: إمَّا مِن ضَميرٍ «عليهم» أي: في حالِ كَونِهم في عَمَدٍ، أي: مَوثُوقِينَ في عَمَدٍ... وإمَّا حالٌ مِن ضَميرِ «إنَّها»، أي: أنَّ النَّارَ المُوقَدةَ في عَمَدٍ، أي: مُتوسِّطةٌ عَمدًا كما تكونُ نارُ الشِّواءِ إذ تُوضَعُ عَمَدٌ وتُجعَلُ النَّارُ تَحتَها). ((تفسير ابن عاشور)) (30/541، 542). وممَّن قال في الجملةِ بأنَّ المرادَ أنَّهم مُوثَقونَ في عَمَدٍ: البيضاويُّ، والبِقاعيُّ. يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (5/338)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (22/248). وقيل: المعنى: أنَّهم يُعذَّبونَ بعَمَدٍ في النَّارِ، واللهُ أعلَمُ بصفةِ تعذيبِهم بها. وممَّن ذهب إلى هذا: ابنُ جرير. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/626). .

الفوائد التربوية:

1- في قَولِه تعالى: وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ إلى آخِرِ السُّورةِ: حكى اللهُ سُبحانَه وتعالى ذلك علينا، وبيَّنَه لنا في هذه السُّورةِ لا لمجرَّدِ أنْ نتلوَه بألسِنَتِنا، أو نَعرِفَ معناه بأفهامِنا، لكنَّ المرادَ أنْ نَحذَرَ مِن هذه الأوصافِ الذَّميمةِ: عَيبِ النَّاسِ بالقَولِ، وعَيبِ النَّاسِ بالفِعلِ، والحِرْصِ على المالِ، حتَّى كأنَّ الإنسانَ إنَّما خُلِقَ للمالِ لِيَخلُدَ له، أو يَخلُدَ المالُ له [22] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 318). !
2- قَولُ اللهِ تعالى: وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ هذانِ الوَصفانِ مِن مُعاملةِ أهلِ الشِّركِ للمُؤمِنينَ يومَئذٍ، ومَن عامَلَ مِنَ المسلمينَ أحدًا مِن أهلِ دينِه بمِثلِ ذلك، كان له نصيبٌ مِن هذا الوَعيدِ [23] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/537). .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- قَولُ اللهِ تعالى: كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ ذكَرَه بلَفْظِ (النَّبذِ) الدَّالِّ على الإهانةِ؛ لأنَّ الكافِرَ كان يَعتقِدُ أنَّه مِن أهلِ الكَرامةِ [24] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (32/285). .
2- قَولُ اللهِ تعالى: كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ الفائِدةُ في ذِكْرِ جَهنَّمَ بهذا الاسمِ هاهنا مِن وُجوهٍ:
الوَجهُ الأوَّلُ: الاتِّحادُ في الصُّورةِ، كأنَّه تعالى يقولُ: إنْ كُنتَ هُمَزةً لُمَزةً، فوراءَك الحُطَمةُ.
الوَجهُ الثَّاني: أنَّ الهامِزَ بكَسْرِ عَينٍ لِيَضعَ قَدْرَه فيُلقيَه في الحضيضِ، فيقولُ تعالى: وراءَك الحُطَمةُ، وفي الحَطْمِ كَسرٌ، فالحُطَمةُ تَكسِرُك وتُلْقيك في حَضيضِ جَهنَّمَ، لكِنَّ الهُمَزةَ ليس إلَّا الكَسرَ بالحاجِبِ، أمَّا الحُطَمةُ فإنَّها تكسِرُ كَسرًا لا تُبْقي ولا تَذَرُ!
الوَجهُ الثَّالِثُ: أنَّ الهمَّازَ اللَّمَّازَ يأكُلُ لحمَ النَّاسِ، والحُطَمةَ أيضًا اسمٌ للنَّارِ؛ مِن حيثُ إنَّها تأكُلُ الجِلدَ واللَّحمَ [25] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (32/285). .
3- تأمَّلْ قولَه تعالى: الْحُطَمَةِ مع فِعْلِ هذا الفاعلِ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ، فـ «حُطَمَةٌ» «هُمَزَةٌ لُمَزَةٌ» على وزنٍ واحدٍ؛ لِيكونَ الجزاءُ مُطابقًا للعَمَلِ حتَّى في اللَّفظِ [26] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 317). !
4- قال تعالى: نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ، ووَصْفُ نارٍ بـ (مُوقَدة) يُفيدُ أنَّها لا تَزالُ تَلتهِبُ ولا يَزولُ لَهِيبُها؛ فليس الوصْفُ بالمُوقَدةِ هنا تَأكيدًا [27] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/540). .
5- قَولُ اللهِ تعالى: إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ يُفيدُ المبالغةَ في العَذابِ مِن وُجوهٍ:
الوَجهُ الأوَّلُ: أنَّ قَولَه: لَيُنْبَذَنَّ يَقتضي أنَّه موضِعٌ له قَعرٌ عَميقٌ جِدًّا كالبئرِ.
الوَجهُ الثَّاني: أنَّه لو شاء يجعَلُ ذلك الموضِعَ بحيثُ لا يكونُ له بابٌ، لكِنَّه بالبابِ يُذَكِّرُهم الخروجَ؛ فيَزيدُ في حَسْرتِهم.
الوَجهُ الثَّالِثُ: أنَّه قال: عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ، ولم يقُلْ: (مُؤصَدةٌ عليهم)؛ لأنَّ قَولَه: عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ يُفيدُ أنَّ المقصودَ أوَّلًا كونُهم بهذه الحالةِ، وقَولَه: (مُؤصَدةٌ عليهم) لا يفيدُ هذا المعنى بالقَصْدِ الأوَّلِ [28] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (32/286). .

بلاغة الآيات:

1- قولُه تعالَى: وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ
- يَجوزُ أنْ يكونَ السَّببُ في نُزولِها خاصًّا والوعيدُ عامًّا؛ ليَتناوَلَ كلَّ مَن باشَرَ ذلك القَبيحَ، وليَكونَ جارِيًا مَجرى التَّعريضِ بالواردِ فيه؛ فإنَّ ذلك أزجَرُ له وأنْكى فيه، فإذا كان الواردُ فيه الأخنَسَ أو أُميَّةَ أو الوليدَ، ويُجاءُ باللَّفظِ على العُمومِ تَعريضًا، كان أزجَرَ له وأنْكى فيه؛ إذ لم يُصرَّحْ باسْمِه حتَّى يَلبَسَ لِمَن كافَحَه به جِلدَ النَّمِرِ، بلْ يَبعَثُه على الفِكرِ في أحوالِ نفْسِه، وأنَّه هلْ دَخَلَ في هذا العامِّ أوَّلَ النَّاسِ بما اغتابَ به خَيرَ البَريَّةِ ونقَصَ مِن حقِّه [29] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/795)، ((حاشية الطِّيبي على الكشاف)) (16/571)، ((تفسير أبي حيان)) (10/540)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (10/581). ؟
- كَلمةُ (وَيْلٌ له) دُعاءٌ على المَجرورِ اسمُه باللَّامِ بأنْ يَنالَه الوَيلُ، وهو سُوءُ الحالِ، والدُّعاءُ هنا مُستعمَلٌ في الوعيدِ بالعِقابِ [30] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/536). .
- وفيه مُناسَبةٌ حسَنةٌ، حيثُ قال هنا: وَيْلٌ لِكُلِّ ...، وقال في سُورةِ (الأنبياءِ): وَلَكُمُ الْوَيْلُ [الأنبياء: 18] ؛ لأنَّ ثَمَّةَ قالوا: يَاوَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ [الأنبياء: 14] ، فقال: وَلَكُمُ الْوَيْلُ، وهاهنا نكَّرَ؛ لأنَّه لا يَعلَمُ كُنْهَه إلَّا اللهُ [31] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (32/283). .
- وكَلمةُ (كلّ) تُشعِرُ بأنَّ المُهدَّدينَ بهذا الوعيدِ جَماعةٌ، وهم الَّذين اتَّخَذوا هَمْزَ المسلِمينَ ولَمْزَهم دَيدنًا لهم، فعَمَّ حُكمُها الَّذين نَزَلَتْ فيهم السُّورةُ ومَن كان على شاكِلتِهم مِن المشركينَ ولم تُذكَرْ أسْماؤهمْ [32] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/535، 536). .
- قولُه: هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ بِناءُ (فُعَلَة) مِن أبْنيةِ المُبالَغةِ، يدُلُّ على كَثرةِ صُدورِ الفِعلِ المُصاغِ منه، وعلى تَمكُّنِ الوصْفِ مِن الموصوفِ، وأنَّ ذلك صار عادةً لِصاحِبِه [33] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/795)، ((تفسير البيضاوي)) (5/337)، ((تفسير أبي حيان)) (10/541)، ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص: 627)، ((تفسير أبي السعود)) (9/198)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/536، 537). .
- وقَعَ قولُه: هُمَزَةٍ وَصْفًا لمَحذوفٍ تَقديرُه: وَيلٌ لكلِّ شَخصٍ هُمَزةٍ، فلمَّا حُذِفَ مَوصوفُه صار الوصْفُ قائمًا مَقامَه، فأُضِيفَ إليه (كلّ) [34] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/537). .
2- قولُه تعالَى: الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ أُتبِعَ قولُه: هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ بقولِه: الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ؛ لزِيادةِ تَشنيعِ صِفتَيْه الذَّميمتَينِ بصِفةِ الحِرصِ على المالِ، وإنَّما يَنشَأُ ذلك عن بُخلِ النَّفْسِ، والتَّخوُّفِ مِن الفقْرِ، والمَقصودُ مِن ذلك دُخولُ أولئك الَّذين عُرِفوا بهَمْزِ المسلمينَ ولَمْزِهم الَّذين قِيل: إنَّهم سَببُ نُزولِ السُّورةِ؛ لتَعيينِهم في هذا الوعيدِ [35] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/537). .
- وتَنكيرُ مَالًا؛ للتَّفخيمِ والتَّكثيرِ المُوافقِ لقَولِه تعالَى: وَعَدَّدَهُ [36] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (9/198). .
- قولُه: جَمَعَ مَالًا قُرِئَ جَمَّعَ بالتَّشديدِ [37] قرأ أبو جعفرٍ وابنُ عامرٍ وحَمزةُ والكِسائيُّ وخلَفٌ ورَوحٌ بتَشديدِ الميمِ، وقرأ الباقونَ بتَخفيفِها. يُنظر: ((النشر في القراءات العشر)) لابن الجزري (2/403). ؛ مُزاوِجًا لقولِه: (عَدَّدَهُ)، وهو مُبالَغةٌ في (جَمَعَ)، وعلى قِراءةِ التَّخفيفِ دلَّ تَضعيفُ (عَدَّدَهُ) على معْنى تَكلُّفِ جَمْعِه بطَريقِ الكِنايةِ؛ لأنَّه لا يُكرِّرُ عدَّه إلَّا ليَزيدَ جَمْعَه [38] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/795)، ((تفسير البيضاوي)) (5/337)، ((تفسير أبي السعود)) (9/198)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/538)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (10/576). .
- ومعْنى (عَدَّدَهُ): أكثَرَ مِن عَدِّه، أي: حِسابِه؛ لشِدَّةِ وَلَعِه بجَمْعِه؛ فالتَّضعيفُ للمُبالَغةِ في (عدَّ) ومُعاوَدتِه [39] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/538). .
3- قولُه تعالَى: يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ يَجوزُ أنْ تكونَ هذِه الجُملةُ حالًا مِن هُمَزَةٍ؛ فيكونَ مُستعمَلًا في التَّهكُّمِ عليه في حِرصِه على جمْعِ المالِ وتَعديدِه؛ لأنَّه لا يُوجَدُ مَن يَحسَبُ أنَّ مالَه يُخلِدُه، فيكونَ الكلامُ مِن قَبيلِ التَّمثيلِ، أو تكونَ الحالُ مُرادًا بها التَّشبيهُ، وهو تَشبيهٌ بَليغٌ. ويَجوزُ أنْ تكونَ الجُملةُ مُستأنَفةً، والخبَرُ مُستعمَلًا في الإنكارِ، أو على تَقديرِ هَمزةِ استفهامٍ مَحذوفةٍ مُستعمَلًا في التَّهكُّمِ أو التَّعجيبِ. ويَجوزُ أنْ تكونَ مُستأنَفةً استئنافًا بَيانيًّا واقعًا في سُؤالٍ، كأنَّه قِيل: ما بالُه يَجمَعُ المالَ ويَهتَمُّ به [40] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/795)، ((تفسير البيضاوي)) (5/337)، ((تفسير أبي السعود)) (9/198)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/538، 539)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (10/579). ؟
- وإظهارُ قولِه: مَالًا في مَوقعِ الإضمارِ؛ لزِيادةِ التَّقريرِ [41] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (9/198). .
- وجِيءَ بصِيغةِ المُضيِّ في أَخْلَدَهُ لتَنزيلِ المُستقبَلِ مَنزلةَ الماضي؛ لتَحقُّقِه عندَه، وذلك زِيادةٌ في التَّهكُّمِ به بأنَّه مُوقِنٌ بأنَّ مالَه يُخلِدُه حتَّى كأنَّه حَصَل إخلادُه وثَبَت [42] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/539). .
4- قولُه تعالَى: كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ * نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ * الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ
- كَلَّا إبطالٌ لأنَ يكونَ المالُ مُخْلِدًا لهم، وزجْرٌ عن التَّلبُّسِ بالحالةِ الشَّنيعةِ الَّتي جَعَلَتْهم في حالِ مَن يَحسَبُ أنَّ المالَ يُخلِدُ صاحِبَه، أو إبطالٌ للحِرصِ في جمْعِ المالِ جمْعًا يَمنَعُ به حُقوقَ اللهِ في المالِ مِن نَفَقاتٍ وزَكاةٍ [43] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/796)، ((تفسير البيضاوي)) (5/337)، ((تفسير أبي حيان)) (10/541)، ((تفسير أبي السعود)) (9/198، 199)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/539)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (10/579). .
- قولُه تعالى: لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ استِئنافٌ بَيانيٌّ ناشئٌ عمَّا تَضمَّنَتْه جُملةُ يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ مِن التَّهكُّمِ والإنكارِ، وما أفادَه حرْفُ الزَّجرِ مِن معْنى التَّوعُّدِ، واللَّامُ جَوابُ قسَمٍ مَحذوفٍ. وهذا الاستئنافُ مُبيِّنٌ لعِلَّةِ الرَّدعِ، أيْ: واللهِ لَيُطرَحَنَّ -بسَببِ تَعاطيِه للأفعالِ المَذكورةِ- في الحُطَمةِ [44] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (9/198)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/539). .
- وفي قولِه: لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ بعْدَ وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ مُقابَلةٌ لَفظيَّةٌ رائعةُ البلاغةِ؛ فإنَّه لَمَّا وَسَمَه بهذه السِّمةِ بصِيغةٍ دلَّت على أنَّها راسخةٌ فيه ومُتمكِّنةٌ منه، أتْبَعَ المُبالَغةَ المُتكرِّرةَ في الهُمَزةِ واللُّمَزةِ بوَعيدِه بالنَّارِ الَّتي سمَّاها الحُطَمةَ؛ لِما يُكابِدُ فيها مِن هَولٍ، ويَلقى فيها مِن عَذابٍ، واختارَ في تَعيينِها صِيغةَ مُبالَغةٍ على وَزْنِ الصِّيغةِ الَّتي ضمَّنَها الذَّنْبَ المُقترَفَ حتَّى يَحصُلَ التَّعادُلُ بيْن الذَّنْبِ والجزاءِ، فهذا الَّذي ضَرِيَ بالذَّنْبِ [45] ضَرِيَ بالشَّيءِ: أي: اعتادَه ولَهِجَ به. يُنظر: ((النهاية في غريب الحديث والأثر)) لابن الأثير (3/86)، ((مختار الصحاح)) للرازي (ص: 184). جَزاؤه هذه الحُطَمةُ الَّتي هي ضاريةٌ أيضًا تَحطِمُ كلَّ ما يُلْقى فيها [46] يُنظر: ((تفسير الزمخشري- حاشية ابن المُنَيِّر)) (4/795)، ((حاشية الطِّيبي على الكشاف)) (16/569)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (10/580، 581). .
- والظَّاهرُ أنَّ اللَّامَ في الْحُطَمَةُ لتَعريفِ العهْدِ؛ لأنَّه اعتُبِرَ الوصْفُ عَلَمًا بالغَلَبةِ على شَيءٍ يَحطِمُ، وأُرِيدَ بذلك جَهنَّمُ، وأنَّ إطلاقَ هذا الوصْفِ على جهنَّمَ مِن مُصطَلحاتِ القرآنِ، وليس في كَلامِ العرَبِ إطلاقُ هذا الوصْفِ على النَّارِ [47] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/540). .
- وجُملةُ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ في موضعِ الحالِ مِن قولِه: الْحُطَمَةُ، والرَّابطُ إعادةُ لَفظِ الحُطَمةِ، وذلك إظهارٌ في مَقامِ الإضمارِ للتَّهويلِ. وأيضًا ما فيها مِن الاستفهامِ، وفِعلِ الدِّرايةِ يُفيدُ تَهويلَ الحُطَمةِ، ببَيانِ أنَّها ليستْ منِ الأُمورِ الَّتي تَنالُها عُقولُ الخلْقِ [48] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (9/199)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/540). .
- وجُملةُ نَارُ اللَّهِ جَوابٌ عن جُملةِ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ، مُفيدٌ مَجموعُهما بَيانَ الحُطَمةِ ما هيَ، ومَوقعُ الجُملةِ مَوقعُ الاستئنافِ البَيانيِّ، والتَّقديرُ هي -أي: الحُطَمةُ- نارُ اللهِ، فحُذِفَ المُبتدَأُ مِن الجُملةِ جَرْيًا على طَريقةِ استعمالِ أمثالِه مِن كلِّ إخبارٍ عن شَيءٍ بعْدَ تَقدُّمِ حَديثٍ عنه وأوصافٍ له [49] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (9/199)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/540). والمقصود بأنَّه جرى على طَريقةِ استعمالِ أمثالِه هو ما يُسمَّى بمُتابَعةِ الاستعمالِ؛ وذلك أنَّ العرَبَ إذا أجْرَوا حَديثًا على شَيءٍ، ثمَّ أخبَروا عنه، الْتَزَموا حَذفَ ضَميرِه الَّذي هو مُسنَدٌ إليه؛ إشارةً إلى التَّنويهِ به كأنَّه لا يَخْفى. يُنظر: ((مفتاح العلوم)) للسكاكي (ص: 176)، ((تفسير ابن عاشور)) (22/347). .
- وإضافةُ نَارُ إلى اسمِ الجَلالةِ اللَّهِ للتَّرويعِ بها بأنَّها نارٌ خَلَقَها القادرُ على خلْقِ الأُمورِ العَظيمةِ؛ ففي إضافتِها إليهِ سُبحانَه، ووَصْفِها بالإيقادِ مِن تَهويلِ أمْرِها ما لا مَزيدَ عليهِ [50] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (9/199)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/540). .
- وكذلِك وُصِفَت نَارُ اللَّهِ وَصْفًا ثانيًا بـ الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ، والاطِّلاعُ يَجوزُ أنْ يكونَ بمعْنى الإتيانِ مُبالَغةً في (طَلَعَ)، أي: الإتيانُ السَّريعُ بقوَّةٍ واستيلاءٍ؛ فالمعْنى: الَّتي تَنفُذُ إلى الأفئدةِ فتُحرِقُها في وَقتِ حَرْقِ ظاهرِ الجسَدِ [51] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/541). .
- وتَخصيصُ الأفئدةِ بالذِّكرِ؛ لأنَّ الفُؤادَ ألْطَفُ ما في البدَنِ وأشدُّه تَألُّمًا بأدْنى أذًى يَمَسُّه، فكيف إذا اطَّلَعَت عليه نارُ جَهنَّمَ واستَولَتْ عليه؟! أو لأنَّها مَواطنُ الكفْرِ، والعَقائدِ الفاسِدةِ، والنِّيَّاتِ الخبيثةِ، ومَنشأُ الأعمالِ القَبيحةِ [52] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/796)، ((تفسير البيضاوي)) (5/337)، ((تفسير أبي حيان)) (10/541، 542)، ((تفسير أبي السعود)) (9/199). .
5- قولُه تعالَى: إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ * فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ هذه الجُملةُ يَجوزُ أنْ تكونَ صِفةً ثالثةً لـ نَارُ اللَّهِ [الهمزة: 6] بدونِ عاطفٍ. ويَجوزُ أنْ تكونَ مُستأنَفةً استئنافًا ابتدائيًّا، وتَأكيدُها بـ(إنَّ)؛ لتَهويلِ الوعيدِ [53] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/541). والتَّأكيدُ أيضًا لأنَّهم يُكذِّبونَ بها [54] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (22/248). .
- قولُه: فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ المُمدَّدةُ: المَجعولةُ طَويلةً جدًّا، وهو اسمُ مَفعولٍ مِن (مدَّدَه)، إذا بالَغَ في مَدِّه، أي: الزِّيادةِ فيه [55] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/542). .