موسوعة التفسير

سورةُ القَلَمِ
الآيات (8-16)

ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ

غريب الكلمات:

وَدُّوا: أي: تَمَنَّوا، وأصلُ (ودد): يدُلُّ على محبَّةِ الشَّيءِ، وتمنِّي كَونِه [67] يُنظر: ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 478)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (6/75)، ((المفردات)) للراغب (ص: 860)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 86). .
تُدْهِنُ: أي: تَلينُ لهم، وتوافِقُهم، وتُصانِعُهم على باطِلِهم، والإدهانُ: اللِّينُ والمُصانَعةُ. والمُداهَنةُ: عِبارةٌ عن المُداراةِ والمُلايَنةِ، مَأخوذةٌ مِنَ الدُّهنِ؛ لِلِينِه وإملاسِه، وأصلُ (دهن): يدُلُّ على لِينٍ وسُهولةٍ [68] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 478)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 166، 451)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/308)، ((البسيط)) للواحدي (22/79). .
هَمَّازٍ: أي: عَيَّابٍ، مُغتابٍ للنَّاسِ، وهمزُ الإنسانِ: اغتيابُه، وأصلُ (همز): يدُلُّ على ضَغطٍ وعَصرٍ [69] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 478)، ((تفسير ابن جرير)) (23/159)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 494)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (6/65)، ((المفردات)) للراغب (ص: 846)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 409). .
مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ: أي: كثيرِ المَشيِ بالنَّميمةِ، نقَّالٍ للحَديثِ على وَجهِ الإفسادِ، والنَّمُّ: إظهارُ الحَديثِ بالوِشايةِ، ونميمٌ ونميمةٌ بمعنًى واحدٍ، وقيل: النَّميمُ جمعُ نميمةٍ، وأصلُ (مشي) هنا: يدُلُّ على حركةِ الإنسانِ وغيرِه، وأصلُ (نمم): يدُلُّ على الهَمسِ والحَركةِ الخفيفةِ [70] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/159)، ((المفردات)) للراغب (ص: 825)، ((تفسير ابن جزي)) (2/399)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 882). .
أَثِيمٍ: أي: فاجرٍ كثيرِ الإثمِ، وأصلُ (أثم): يدُلُّ على البُطءِ والتَّأخُّرِ، واشتُقَّ الإثمُ مِن ذلك؛ لأنَّ ذا الإثمِ بطيءٌ عن الخَيرِ، مُتأخِّرٌ عنه [71] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 403)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/60)، ((المفردات)) للراغب (ص: 63)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 140، 377)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 40). .
عُتُلٍّ: أي: فَظٍّ، غليظٍ، جافي الخُلُقِ، وأصلُ (عتل): يدُلُّ على شِدَّةٍ وقُوَّةٍ في شَيءٍ [72] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/161)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 344)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (4/223)، ((المفردات)) للراغب (ص: 546). .
زَنِيمٍ: أي: دَعِيٍّ مُلصَقٍ بالقَومِ، وليس منهم، وأصلُ (زنم): يدُلُّ على تعليقِ شَيءٍ بشَيءٍ [73] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/164)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 254)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/29)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 409)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 421). .
أَسَاطِيرُ: أي: أباطيلُ، جمعُ أُسطُورةٍ، وهي: ما سُطِرَ مِن أخبارِ الأوَّلِينَ وكَذِبِهم، وأصلُ (سطر): يدُلُّ على اصطِفافِ الشَّيءِ [74] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 37)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 57)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/72)، ((المفردات)) للراغب (ص: 409). .
سَنَسِمُهُ: أي: نُعَلِّمُه بعَلامةٍ يُعرَفُ بها، وأصلُ (وسم): يدُلُّ على أثَرٍ ومَعْلَمٍ [75] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/171)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 270)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (6/110)، ((المفردات)) للراغب (ص: 871)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 421). .
الْخُرْطُومِ: أي: الأنْفِ. والرَّاءُ فيه زائِدةٌ، والأصلُ فيه الخَطْمُ، وأصلُ (خطم): يدُلُّ على تقَدُّمِ شَيءٍ في نُتُوٍّ يكونُ فيه [76] يُنظر: ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 270)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/198، 251)، ((المفردات)) للراغب (ص: 279)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 410). .

 مشكل الإعراب:

أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ * إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آَيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ
 في المصدَرِ المؤَوَّلِ أَنْ كَانَ أوجُهٌ:
أحَدُها: أنَّه مَفعولٌ مِن أجْلِه مجرورٌ بلامٍ مُقَدَّرةٍ، واللَّامُ متعلِّقةٌ بفِعلِ النَّهيِ: وَلَا تُطِعْ في الآياتِ السَّابِقةِ، أي: ولا تُطِعْ مَنْ هذه صِفاتُه؛ لأَنْ كان ذا مالٍ وبَنينَ.
الثَّاني: أنَّها مُتعَلِّقةٌ بـ عُتُلٍّ.
الثَّالِثُ: أنَّها مُتعَلِّقةٌ بـ زَنِيمٍ.
الرَّابعُ: أنَّها مُتعَلِّقةٌ بمحذوفٍ يدُلُّ عليه ما بعْدَه مِنَ الجُملةِ الشَّرطيَّةِ الدَّالَّةِ على معنى التَّكذيبِ، تقديرُه: لِكَونِه مُتمَوِّلًا مُستَظْهِرًا بالبنينَ كَذَّبَ بآياتِنا [77] يُنظر: ((التبيان في إعراب القرآن)) للعكبري (2/1234)، ((الدر المصون)) للسمين الحلبي (10/406)، ((تفسير الألوسي)) (15/32). قال الألوسي: (ولم يُجوَّزْ تعَلُّقُه بـ قَالَ المذكورِ بَعْدُ؛ لأنَّ ما بعْدَ الشَّرطِ لا يَعمَلُ فيما قَبْلَه، ولعَلَّ مَن يقولُ باطِّرادِ التَّوَسُّعِ في الظَّرفِ يُجَوِّزُ ذلك، وكذا مَن يَجعَلُ إِذَا هنا ظَرفيَّةً). ((تفسير الألوسي)) (15/32). .

المعنى الإجمالي:

يحذِّرُ الله تعالى نبيَّه صلَّى الله عليه وسلَّم مِن طاعةِ المشركينَ، مبيِّنًا بعضَ صِفاتِهم القبيحةِ، فيقولُ: فلا تُطِعِ المكذِّبينَ -يا محمَّدُ- لقد تَمَنَّوا لو تَلينُ لهم في الدِّينِ وتُوافِقُهم وتُصانِعُهم على باطِلِهم، فيَلِينونَ لك، ويُصانِعونَك، ولا تُطِعْ -يا مُحمَّدُ- كلَّ حلَّافٍ ضَعيفٍ حَقيرٍ، عيَّابٍ للنَّاسِ طَعَّانٍ فيهم، نقَّالٍ للكَلامِ السَّيِّئِ للإفسادِ بيْنَ النَّاسِ، مَنَّاعٍ لكلِّ خَيرٍ وللمالِ عن إنفاقِه في الخَيرِ، مُتَجاوزٍ للحَدِّ، كَثيرِ الإثمِ، فَظٍّ، غَليظٍ في خَلقِه وخُلُقِه، جافٍ شَديدٍ، بعْدَ ذلك الَّذي وصَفْناه به، دَعِيٍّ مُلصَقٍ في قَومٍ ليس منهم، مِن أجْلِ أنَّه كان صاحِبَ مالٍ كثيرٍ وأبناءٍ، إذا تُتلَى عليه آياتُ القُرآنِ قال مُكذِّبًا: تلك أكاذيبُ الأوَّلينَ وخُرافاتُهم!
ثمَّ توعَّد الله تعالى مَن هذه صِفاتُه، فقال: سنَجعَلُ له على أنْفِه علامةً يُعرَفُ بها بيْنَ النَّاسِ!

تفسير الآيات:

فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ (8).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّ اللهَ تعالى لَمَّا ذكَرَ ما عليه الكفَّارُ في أمرِ الرَّسولِ، ونِسبته إلى الجنونِ، مع الَّذي أنعَمَ الله به عليه مِن الكمالِ في أمرِ الدِّينِ والخُلقِ؛ أتْبَعه بما يَدْعوه إلى التَّشدُّدِ مع قَومِه، وقوَّى قلبَه بذلك، مع قلَّةِ العددِ، وكثرةِ الكفَّارِ، وذلك أنَّهم دَعَوْه إلى دينِ آبائِه، فنَهاه الله أن يُطيعَهم، وهذا مِن الله إلهابٌ وتهييجٌ للتَّشدُّدِ في مُخالَفَتِهم [78] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (30/603). .
فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ (8).
أي: فكما أنعَمْنا عليك -يا مُحمَّدُ- بالدِّينِ المستقيمِ والخُلُقِ العَظيمِ، لا تُطِعِ المكذِّبينَ بالحَقِّ؛ فليسُوا أهلًا لأن يُطاعوا؛ إذ لا يَأمُرونَ إلَّا بما يُوافِقُ أهواءَهم، ولا يُريدونَ سِوى الباطِلِ [79] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/156)، ((الوسيط)) للواحدي (4/335)، ((تفسير القرطبي)) (18/230)، ((تفسير ابن كثير)) (8/190)، ((تفسير السعدي)) (ص: 879). قال القرطبي: (نَهاه عن مُمايَلةِ المشرِكينَ، وكانوا يَدْعونَه إلى أن يَكُفَّ عنهم لِيَكُفُّوا عنه، فبَيَّن اللهُ تعالى أنَّ مُمايلتَهم كُفرٌ!). ((تفسير القرطبي)) (18/230). .
كما قال الله تعالى: فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا [الفرقان: 52] .
وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ (9).
أي: أحَبَّ مُشرِكو قُرَيشٍ -يا مُحمَّدُ- وتَمَنَّوا لو تَلينُ لهم في الدِّينِ وتُوافِقُهم وتُصانِعُهم على باطِلِهم؛ كتَرْكِ النَّهيِ عن الشِّركِ، أو السُّكوتِ عن عَيبِ آلهتِهم، وتَسفيهِ آبائِهم، أو الرُّكونِ إلى آلهتِهم، فيَلِينونَ لك أيضًا، ويُصانِعونَك فيما تَدْعوهم إليه مِنَ الحَقِّ؛ كتَركِ الطَّعنِ فيه، أو موافقَتِه، وامتِثالِ بَعْضِه [80] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/157)، ((البسيط)) للواحدي (22/79، 80)، ((تفسير ابن عطية)) (5/347)، ((تفسير القرطبي)) (18/231)، ((تفسير البيضاوي)) (5/234)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/297، 298)، ((تفسير السعدي)) (ص: 879)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/69). قال ابنُ جرير: (شبَّه التَّليينَ في القَولِ بتَليينِ الدُّهنِ). ((تفسير ابن جرير)) (23/157). وقال الواحديُّ: (قال الكلبيُّ: لو تُصانِعُهم في الدِّينِ فيُصانِعونَك. والمعنى: تَترُكُ بعضَ ما أنت عليه ممَّا لا يَرضَونَه؛ مُصانَعةً لهم، فيَفعَلوا مِثلَ ذلك، ويَترُكوا بعضَ ما لا تَرضى، فتَلينُ لهم ويَلينونَ. وهذا قولُ مجاهدٍ: تَركَنُ إليهم وتَترُكُ ما أنت عليه مِن الحَقِّ، فيُمالِئونَك. وهذا قولُ أكثَرِ المفَسِّرينَ، ومعنى روايةِ الوالبي عن ابنِ عبَّاسٍ). ((البسيط)) (22/80). وقال البِقاعي: (قال ابن بَرَّجان: «والإِدهانُ: مُلايَنةٌ وانجِرارٌ بالباطِلِ، وإغماضٌ عن الحَقِّ مع المعرفةِ بذلك»). ((نظم الدرر)) (20/298). .
كما قال الله تبارك وتعالى: وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا [الإسراء: 74] .
وقال سُبحانَه: أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ [الواقعة: 81] .
وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ (10).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا نهَى اللهُ تعالى رَسولَه عن طاعةِ المكَذِّبِ وعَلَّلَه، وكان مِن النَّاسِ مَن يُخفي تكذيبَه؛ أظهَر علاماتِ المكَذِّبِ، فقال تعالى [81] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/299). :
وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ (10).
أي: ولا تُطِعْ -يا مُحمَّدُ- كلَّ مُكثِرٍ للحَلِفِ، ضَعيفٍ حَقيرٍ، خَسيسِ النَّفْسِ، ناقِصِ الهِمَّةِ [82] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/157)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (16/66)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/299)، ((تفسير السعدي)) (ص: 879)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/ 72). قال ابن جرير: (ولا تُطِعْ -يا محمَّدُ- كُلَّ ذي إكثارٍ للحَلِفِ بالباطِلِ). ((تفسير ابن جرير)) (23/ 157). وقال الزمخشري: (حَلَّافٍ كثيرِ الحَلِفِ في الحَقِّ والباطِلِ). ((تفسير الزمخشري)) (4/586). وقال ابنُ تيميَّةَ: (مَن كان كثيرَ الحَلِفِ كان كثيرَ الكَذِبِ في العَهدِ، مُحتاجًا إلى النَّاسِ؛ فهو مِن أذَلِّ النَّاسِ). ((مجموع الفتاوى)) (16/66). وقال ابن عاشور: (قال جمْعٌ مِن المفسِّرينَ: المرادُ بالحلَّافِ المَهينِ: الوليدُ بنُ المُغيرةِ. وقال بعضُهم: الأخنسُ بنُ شَرِيقٍ. وقال آخَرونَ: الأسودُ بنُ عبدِ يَغوثَ. ومِن المفسِّرينَ مَن قال: المرادُ: أبو جهلٍ. وإنَّما عَنَوْا أنَّ المرادَ التَّعريضُ بواحدٍ مِن هؤلاءِ، وإلَّا فإنَّ لفظَ كُلَّ المفيدَ للعمومِ لا يَسمَحُ بأنْ يُرادَ النَّهيُ عن واحدٍ مُعَيَّنٍ، أمَّا هؤلاء فلعلَّ أربعتَهم اشترَكوا في مُعظَمِ هذه الأوصافِ، فهم ممَّن أُريدَ بالنَّهيِ عن إطاعتِه، ومَن كان على شاكلتِهم مِن أمثالِهم). ((تفسير ابن عاشور)) (29/71). ويُنظر: ((تفسير الألوسي)) (15/32). .
هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (11).
هَمَّازٍ.
أي: كَثيرِ العَيبِ للنَّاسِ، والطَّعنِ فيهم حالَ غَيبتِهم [83] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/159)، ((معاني القرآن)) للزجاج (5/205)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (16/67)، ((تفسير ابن كثير)) (8/191)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/ 300)، ((تفسير السعدي)) (ص: 879). .
كما قال تعالى: وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ * الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ * يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ [الهمزة: 1 - 3] .
مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ.
أي: نقَّالٍ للكَلامِ السَّيِّئِ مِن بَعضِ النَّاسِ إلى بَعضٍ، بغَرَضِ الإفسادِ بيْنَهم [84] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/160)، ((تفسير الزمخشري)) (4/586)، ((تفسير ابن الجوزي)) (4/321)، ((تفسير القرطبي)) (18/232)، ((تفسير ابن كثير)) (8/191)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/300)، ((تفسير السعدي)) (ص: 879). .
عن حُذَيفةَ بنِ اليَمانِ رَضِيَ اللهُ عنهما، قال: سَمِعتُ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقولُ: ((لا يَدخُلُ الجنَّةَ نمَّامٌ)) [85] رواه البخاري (6056)، ومسلم (105) واللَّفظُ له. .
وعن ابنِ عبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما، قال: ((مرَّ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بحائطٍ [86] بحائطٍ: أي: بُستانٍ مِن النَّخلِ عليه جِدارٌ. يُنظر: ((إرشاد الساري)) للقسطلاني (1/286). مِن حيطانِ المدينةِ أو مكَّةَ، فسَمِعَ صَوتَ إنسانَينِ يُعذَّبانِ في قُبورِهما، فقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: يُعَذَّبانِ، وما يُعذَّبانِ في كبيرٍ! ثمَّ قال: بلى؛ كان أحدُهما لا يَستَتِرُ مِن بَولِه، وكان الآخَرُ يمشي بالنَّميمةِ. ثمَّ دعا بجَريدةٍ، فكسَرَها كِسرَتينِ، فوضَعَ على كُلِّ قبرٍ منهما كِسْرةً، فقيل له: يا رَسولَ اللهِ، لِمَ فَعلْتَ هذا؟ قال: لعَلَّه أن يُخَفَّفَ عنهما ما لم تَيْبَسا، أو إلى أن يَيْبَسا )) [87] رواه البخاري (216) واللَّفظُ له، ومسلم (292). .
مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12).
مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ.
أي: شَديدِ المَنعِ لكلِّ خَيرٍ، بخيلٍ بالمالِ عن إنفاقِه في وُجوهِه المطلوبةِ [88] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/160)، ((تفسير القرطبي)) (18/232)، ((تفسير ابن كثير)) (8/192)، ((تفسير السعدي)) (ص: 879)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/73). قال الرَّازيُّ في قولِه تعالى: مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ: (فيه قَولانِ؛ أحدُهما: أنَّ المرادَ أنَّه بخيلٌ، والخَيرُ المالُ. والثَّاني: كان يَمنعُ أهْلَه مِن الخَيرِ، وهو الإسلامُ). ((تفسير الرازي)) (30/604). ممَّن اختار القولَ الأوَّلَ -أنَّ المرادَ: بخيلٌ بالمالِ-: ابنُ قُتَيْبةَ، وابنُ جرير، والسمرقنديُّ، والواحدي، والسمعاني، والبغوي، والقرطبي، والخازن، وابنُ جُزَي، وجلال الدين المحلي، والشوكاني، والسعدي. يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 478)، ((تفسير ابن جرير)) (23/160)، ((تفسير السمرقندي)) (3/481)، ((الوسيط)) للواحدي (4/335)، ((الوجيز)) للواحدي (ص: 1121)، ((تفسير السمعاني)) (6/21)، ((تفسير البغوي)) (5/136)، ((تفسير القرطبي)) (18/232)، ((تفسير الخازن)) (4/325)، ((تفسير ابن جزي)) (2/399)، ((تفسير الجلالين)) (ص: 758)، ((تفسير الشوكاني)) (5/320)، ((تفسير السعدي)) (ص: 879). وممَّن اختار القولَ الثَّانيَ -أي: أنَّه كان يَمنعُ أهْلَه مِن الخَيرِ وهو الإسلامُ-: مقاتلُ بنُ سُلَيمانَ، والزَّجَّاجُ. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/404)، ((معاني القرآن وإعرابه)) للزجاج (5/205). وقال البيضاوي: (مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ يَمنَعُ النَّاسَ عن الخَيرِ مِن الإيمانِ والإيقانِ والعمَلِ الصَّالحِ). ((تفسير البيضاوي)) (5/234). وقال ابن عطيَّة: (وقال آخَرون: بل هو على عُمومِه في المالِ والأفعالِ الصَّالحةِ، ومَن يَمنع إيمانَه وطاعتَه لله تعالى فقد منَع الخيرَ). ((تفسير ابن عطية)) (5/347). وقال العُلَيمي: (مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ شَحيحٍ بالمالِ، والأفعالِ الصَّالحةِ). ((تفسير العليمي)) (7/126). وممَّن جمَع بيْن المعاني السَّابقةِ: البِقاعي، وابنُ عثيمين. يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/ 301)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 100). قال البِقاعي: (مَنَّاعٍ أي: كثيرِ المَنْعِ شَديدِه لِلْخَيْرِ أي: كلِّ خَيرٍ؛ مِن المالِ والإيمانِ وغيرِهما، مِن نفْسِه ومِن غيرِه، مِن الدِّينِ والدُّنيا، إلى غيرِ ذلك). ((نظم الدرر)) (20/301). وذكر ابنُ عثيمين في نظيرِ هذه الآيةِ مِن سورةِ (ق) الآية (25) أنَّ قولَه: لِلْخَيْرِ لفظٌ يَشملَ كلَّ خيرٍ؛ فيَمنعُ الدَّعوةَ إلى الله، ويمنعُ بَذْلَ أموالِه فيما يُرضي اللهَ، ويَمنعُ كلَّ خَيرٍ، وكأنَّه يَلتَمِسُ كلَّ خيرٍ فيَمْنَعُه. يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 100). .
كما قال تعالى: إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا [المعارج: 19 - 21] .
مُعْتَدٍ أَثِيمٍ.
أي: مُتَجاوزٍ للحُدودِ [89] مِن المفسِّرينَ مَن قال: مُعْتَدٍ: أي: مُتجاوِزٍ في الظُّلْمِ. ومنهم: الزَّجَّاجُ، والسَّمْعانيُّ، والشَّوكاني. يُنظر: ((معاني القرآن وإعرابه)) للزجاج (5/205)، ((تفسير السمعاني)) (6/21)، ((تفسير الشوكاني)) (5/321). ومنهم مَن قال: المعتدي: المُتجاوِزُ لحدودِ الأشياءِ. ومنهم: ابنُ عطيَّة، والعُلَيمي. يُنظر: ((تفسير ابن عطية)) (5/347)، ((تفسير العليمي)) (7/126). ومنهم مَن قال: المرادُ: مُعتَدٍ على النَّاسِ. وممَّن ذهب إلى هذا المعنى: ابنُ جرير، والقرطبيُّ، والسعدي. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/160)، ((تفسير القرطبي)) (18/232)، ((تفسير السعدي)) (ص: 879). ، كثيرِ الإثمِ والذُّنوبِ [90] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/160)، ((تفسير القرطبي)) (18/232)، ((تفسير ابن كثير)) (8/192)، ((تفسير الشوكاني)) (5/321)، ((تفسير السعدي)) (ص: 879). ممَّن قال: إنَّ معنى الأثيمِ: كثير الإثمِ: السَّمْعانيُّ، والرَّسْعَني، والشوكاني، وابنُ عاشور. يُنظر: ((تفسير السمعاني)) (6/21)، ((تفسير الرسعني)) (8/223)، ((تفسير الشوكاني)) (5/321)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/74). وقريبٌ مِن القولِ السَّابقِ قولُ مَن قال مِن المفسِّرينَ: إنَّ الأثيمَ: الفاجرُ. وممَّن قال بهذا: السمرقنديُّ، والبغوي، والخازن. يُنظر: ((تفسير السمرقندي)) (3/481)، ((تفسير البغوي)) (5/136)، ((تفسير الخازن)) (4/325). وقال ابن كثير: (مُعْتَدٍ في تَناوُلِ ما أحلَّ اللهُ له، يَتجاوَزُ فيه الحدَّ المشروعَ. أَثِيمٍ: يَتناوَلُ المُحرَّماتِ). ((تفسير ابن كثير)) (8/192). .
عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ (13).
عُتُلٍّ.
أي: فَظٍّ غَليظٍ في خَلقِه وخُلُقِه، شديدِ الخصومةِ، جافٍ شَديدٍ [91] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/161)، ((معاني القرآن وإعرابه)) للزجاج (5/206)، ((تفسير الزمخشري)) (4/587)، ((تفسير القرطبي)) (18/232)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (16/67)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/302)، ((تفسير السعدي)) (ص: 879)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/74). قال الرازي: (الصِّفةُ الثَّامِنةُ: العُتُلُّ. وأقوالُ المفسِّرينَ فيه كثيرةٌ، وهي محصورةٌ في أمْرَينِ: أحدُهما: أنَّه ذمٌّ في الخَلْقِ. والثَّاني: أنَّه ذَمٌّ في الخُلُقِ، وهو مأخوذٌ مِن قَولِك: عتَلَه: إذا قاده بعُنفٍ وغِلظةٍ، ومنه قَولُه تعالى: فَاعْتِلُوهُ [الدخان: 47] . أمَّا الَّذين حَمَلوه على ذَمِّ الخَلْقِ، فقال ابنُ عبَّاسٍ في روايةِ عَطاءٍ: يُريدُ: قَوِيٌّ ضَخمٌ. وقال مقاتِلٌ: واسِعُ البَطنِ، وثيقُ الحلقِ. وقال الحسَنُ: الفاحِشُ الخَلْقِ، اللَّئيمُ النَّفْسِ. وقال عُبَيْدُ بنُ عُمَيرٍ: هو الأكولُ الشَّروبُ، القَويُّ الشَّديدُ. وقال الزَّجَّاج: هو الغليظُ الجافي. أمَّا الَّذين حمَلوه على ذمِّ الأخلاقِ، فقالوا: إنَّه الشَّديدُ الخُصومةِ، الفَظُّ العَنيفُ). ((تفسير الرازي)) (30/604). ويُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/404)، ((البسيط)) للواحدي (22/84). قال الواحدي: (المفسِّرون يقولونَ: هو الشَّديدُ الخَلْقِ، الفاحِشُ الخُلُقِ). ((الوسيط)) (4/335). وممَّن ذهب في الجملةِ إلى أنَّ قوله: عُتُلٍّ أي: جافٍ غليظٌ قاسٍ سيِّئُ الخُلقِ: الزمخشريُّ، والرَّسْعَني، والبيضاوي، والعُلَيمي، والقاسمي، والسعدي. يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/587)، ((تفسير الرسعني)) (8/223)، ((تفسير البيضاوي)) (5/234)، ((تفسير العليمي)) (7/126)، ((تفسير القاسمي)) (9/298)، ((تفسير السعدي)) (ص: 879). قال ابنُ تيمية: (أمَّا العُتُلُّ...: فهو الجبَّارُ الفَظُّ الغليظُ، الَّذي قد صار مِن شِدَّةِ تجَبُّرِه وغِلظِه معروفًا بالشَّرِّ، مَشهورًا به). ((مجموع الفتاوى)) (16/67). وذهب ابنُ جريرٍ والقرطبيُّ إلى أنَّه هو الجافي الشَّديدُ في كُفرِه. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/ 161)، ((تفسير القرطبي)) (18/232). قال الزَّجاجُ: (جاء في التَّفسيرِ أنَّ العُتُلَّ هاهنا الشَّديدُ الخُصومةِ، وجاء في التَّفسيرِ أنَّه الجافي الخُلقِ اللَّئيمُ الضَّريبةِ، وهو في اللُّغةِ الغَليظُ الجافي). ((معاني القرآن وإعرابه)) (5/206). وقال البِقاعي: (عُتُلٍّ أي: أَكُولٍ، شديدِ الخُصومةِ، جافٍ غليظٍ في خَلْقِه وخُلُقِه، ثقيلٍ مرٍّ، كأنَّه قِطعةُ جبَلٍ قد انقطَع عن سائرِه، لا يَنجَرُّ إلى خيرٍ إلا بعُسرٍ وصُعوبةٍ وعُنفٍ، مِن عَتَلَه: إذا قاده بغِلظةٍ، فهو في غايةِ ما يكونُ مِن يبسِ الطِّباعِ، وعدَمِ الطَّواعيةِ في الخيرِ والانطباعِ). ((نظم الدرر)) (20/302). وقال ابنُ عطيَّةَ: (العُتلُّ: القَويُّ البِنيةِ، الغليظُ الأعضاءِ، المُصَحَّحُ، القاسي القلْبِ، البَعيدُ الفَهمِ، الأَكُولُ الشَّروبُ، الَّذي هو باللَّيلِ جِيفةٌ، وبالنَّهارِ حِمارٌ؛ فكلُّ ما عبَّر به المفسِّرون عنه مِن خِلالِ النَّقصِ، فعنْ هذه الَّتي ذَكَرْتُ تَصدُرُ، وقد ذكَرَ النَّقَّاشُ أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فسَّر العُتُلَّ بنحْوِ هذا، وهذه الصِّفاتُ كثيرةُ التَّلازُمِ). ((تفسير ابن عطية)) (5/347). .
عن حارِثةَ بنِ وَهبٍ الخُزاعيِّ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: سَمِعتُ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقولُ: ((ألَا أُخبِرُكم بأهلِ النَّارِ؟ كُلُّ عُتُلٍّ جَوَّاظٍ [92] الجَوَّاظُ: قيل: هو الكثيرُ اللَّحمِ المختالُ في مَشْيِه. وقيل: هو الأكولُ. وقيل: الفاجرُ. وقيل: الجَوَّاظُ: الفَظُّ الغليظُ. يُنظر: ((فتح الباري)) لابن حجر (8/663). مُسْتَكْبِرٍ)) [93] رواه البخاري (4918)، ومسلم (2853). .
وعن عبدِ اللهِ بنِ عَمرِو بنِ العاصِ رَضِيَ اللهُ عنهما، أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال عندَ ذِكرِ أهلِ النَّارِ: ((كُلُّ جَعْظَرِيٍّ [94] الجَعْظريُّ: قيل: هو الفَظُّ الغليظُ. وقيل: الذي لا يَمرَضُ. وقيل: الذي يُتمدَحُ بما ليس فيه أو عندَه. يُنظر: ((فتح الباري)) لابن حجر (8/663). جَوَّاظٍ، مُستَكْبِرٍ، جَمَّاعٍ مَنَّاعٍ)) [95] أخرجه أحمد (6580) واللَّفظُ له، والحاكمُ (3844)، والبَيْهَقيُّ في ((شعب الإيمان)) (8172). صحَّحه الحاكمُ، وقال: (على شرطِ مُسلمٍ). وصحَّح إسنادَه ابنُ القيِّم في ((حادي الأرواح)) (112)، وأحمد شاكر في تخريج ((مسند أحمد)) (10/86)، والألبانيُّ في ((سلسلة الأحاديث الصحيحة)) (4/321). .
بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ.
أي: بعدَ ذلك الَّذي وصَفْناه به: دَعِيٍّ، مُلصَقٍ في قَومٍ ليس منهم [96] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/164)، ((معاني القرآن وإعرابه)) للزجاج (5/206)، ((تفسير الزمخشري)) (4/587)، ((تفسير القرطبي)) (18/234)، ((تفسير السعدي)) (ص: 879، 880)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/75). قيل: معنى بَعْدَ ذَلِكَ أي: مع ذلك. وممن اختاره: مقاتلُ بنُ سُلَيمانَ، وابنُ جرير، والثعلبيُّ، والواحديُّ. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/404)، ((تفسير ابن جرير)) (23/164)، ((تفسير الثعلبي)) (10/12)، ((الوسيط)) للواحدي (4/335). وقيل: المعنى: بعْدَ ما عُدَّ له مِن المَعايبِ والنَّقائصِ. وممَّن اختاره: الزمخشريُّ، والرَّسْعَني، والبيضاوي، والنَّسَفي، والشوكاني. يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/587)، ((تفسير الرسعني)) (8/224)، ((تفسير البيضاوي)) (5/234)، ((تفسير النسفي)) (3/520)، ((تفسير الشوكاني)) (5/321). قال الشوكاني: (بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ أي: هو بعدَ ما عُدَّ مِن معايبِه زَنِيم). ((تفسير الشوكاني)) (5/321). وقال الكوراني: (بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ بعدَ ما ذُكر مِن المثالبِ دعيٌّ، لا نسبَ له، وهذا كما إذا عدَّدتَ مثالبَ إنسانٍ، ثمَّ تقولُ: وبعدَ ذلك لا يحبُّ أبا بكرٍ وعمرَ رضِي اللَّه عنهما). ((تفسير الكوراني (ص: 208). وقال الرازي: (قول: بَعْدَ ذَلِكَ معناه: أنَّه بعْدَ ما عدَّ له مِن المَثالِبِ والنَّقائصِ فهو عُتُلٌّ زَنيمٌ). ((تفسير الرازي)) (30/605). ويُنظر: ((تفسير الماوردي)) (6/64). وممَّن قال بالمعنى المذكور للزَّنيمِ في الجُملةِ: الفرَّاءُ، والزمخشريُّ، والقرطبي، والبيضاوي، وأبو حيَّان، والشوكاني، والقاسمي، والسعدي، وابن عاشور. يُنظر: ((معاني القرآن)) للفراء (3/173)، ((تفسير الزمخشري)) (4/587)، ((تفسير القرطبي)) (18/234)، ((تفسير البيضاوي)) (5/234)، ((تفسير أبي حيان)) (10/239)، ((تفسير الشوكاني)) (5/321)، ((تفسير القاسمي)) (9/298)، ((تفسير السعدي)) (ص: 879، 880)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/75). وممَّن قال بهذا القولِ مِن السَّلفِ: عليُّ بنُ أبي طالبٍ في روايةٍ عنه، وابنُ عبَّاسٍ في روايةٍ عنه، وعِكْرِمةُ في روايةٍ عنه، وسعيدُ بنُ المُسَيِّبِ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/164)، ((تفسير الثعلبي)) (10/13). قال ابنُ تيميَّةَ: (له زَنَمةٌ مِن الشرِّ أي: علامةٌ يُعرفُ بها). ((الجواب الصحيح)) (6/486). وقال ابنُ كثير: (الزَّنيمُ هو: المشهورُ بالشَّرِّ، الَّذي يُعرَفُ به مِن بيْنِ النَّاسِ، وغالِبًا يكونُ دَعِيًّا ولَدَ زِنًا؛ فإنَّه في الغالبِ يَتسَلَّطُ الشَّيطانُ عليه ما لا يتسَلَّطُ على غيرِه). ((تفسير ابن كثير)) (8/194). وقال البِقاعيُّ: (زَنِيمٍ أي: صارتْ له عَلامةُ سُوءٍ وشَرٍّ، وثَناءٌ قَبيحٌ، ولَأْمةٌ بيِّنةٌ، ومَعرِفةٌ يُعرَفُ بها كما تُعرَفُ الشَّاةُ بزَنَمتِها -وهي الجِلدةُ الَّتي تكونُ تحتَ حَلْقِها مُدلاةً تَنوسُ [أي: تتحرَّكُ]-، والعبدُ بمَعايبِه وسَفسافِ أخْلاقِه). ((نظم الدرر)) (20/302، 303). وقال القرطبي: (مُعظَمُ المفسِّرينَ على أنَّ هذا نزل في الوليدِ بنِ المُغيرةِ). ((تفسير القرطبي)) (18/235). وقال ابنُ عاشور: (قيل: أُريدَ بالزَّنيمِ الوَليدُ بنُ المغيرةِ؛ لأنَّه ادَّعاه أبوه بعدَ ثمانِي عَشْرةَ سَنةً مِن مَولِدِه. وقيل: أُريدَ الأخنَسُ بنُ شَريقٍ؛ لأنَّه كان مِن ثَقيفٍ، فحالَف قُرَيشًا وحَلَّ بيْنَهم). ((تفسير ابن عاشور)) (29/75). .
أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ (14).
أي: مِن أجْلِ أنَّه صاحِبُ مالٍ كثيرٍ وأبناءٍ، فيَتقَوَّى بهم ويتجَبَّرُ ويتكَبَّرُ [97] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/169)، ((الهداية)) لمكي بن أبي طالب (12/7631)، ((الوسيط)) للواحدي (4/336)، ((تفسير الألوسي)) (15/32)، ((تفسير السعدي)) (ص: 880). قال ابنُ جُزَي: (أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ في موضِعِ مَفعولٍ مِن أجْلِه يتعَلَّقُ بقَولِه: وَلَا تُطِعْ، أي: لا تُطِعْه بسَبَبِ كَثرةِ مالِه وبَنِيه. ويجوزُ أن يتعَلَّقَ بما بَعْدَه، والمعنى على هذا أنَّه قال في القرآنِ: أساطيرُ الأوَّلينَ؛ لأنَّه ذو مالٍ وبَنينَ، يتكبَّرُ بمالِه وبَنِيه... والأوَّلُ أظهَرُ). ((تفسير ابن جزي)) (2/399، 400). وممَّن ذهب إلى المعنى الأوَّلِ في الجملةِ: ابنُ جرير، والواحديُّ، والألوسي. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/169)، ((الوسيط)) للواحدي (4/336)، ((تفسير الألوسي)) (15/32). وممَّن ذهب إلى المعنى الثَّاني: الزَّجَّاجُ، والسعديُّ، وابنُ عاشور. يُنظر: ((معاني القرآن وإعرابه)) للزجاج (5/206)، ((تفسير السعدي)) (ص: 880)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/76، 79). قال السعدي: (هذه الآياتُ وإن كانت نزَلَت في بعضِ المشرِكينَ، كالوليدِ بنِ المُغيرةِ أو غيرِه؛ لِقَولِه عنه: أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ * إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آَيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ أي: لأجْلِ كَثرةِ مالِه ووَلَدِه، طغى واستكبَرَ عن الحَقِّ، ودفَعَه حين جاءَه، وجعَلَه مِن جملةِ أساطيرِ الأوَّلينَ- فإنَّها عامَّةٌ في كُلِّ مَنِ اتَّصَف بهذا الوَصفِ). ((تفسير السعدي)) (ص: 880). وقال ابنُ عطية: (العامِلُ في أَنْ كَانَ فِعلٌ مُضمَرٌ تَقديرُه: كفَرَ أو جَحَد أو عَنَدَ، وتفسيرُ هذا الفِعلِ قولُه: إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ ... الآيةَ). ((تفسير ابن عطية)) (5/348). وقال القرطبي: (قال ابنُ الأنباري: ومَن قرَأَ بلا استِفهامٍ لم يحسُنْ أن يَقِفَ على زَنِيمٍ؛ لأنَّ المعنى: لِأَنْ كان وبأنْ كان، فـ أَنْ مُتعَلِّقةٌ بما قَبْلَها. قال غيرُه: يجوزُ أن يتعلَّقَ بقَولِه: مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ، والتَّقديرُ: يَمشي بنَميمٍ لأنْ كان ذا مالٍ وبنينَ). ((تفسير القرطبي)) (18/236). ويُنظر: ((إيضاح الوقف والابتداء)) لابن الأنباري (2/944). وقولُه أَنْ قرأَه بهمزةٍ واحدةٍ على الخبرِ نافعٌ، وابنُ كثيرٍ وأبو عمرٍو والكِسائِيُّ وخَلَفٌ، وحفصٌ، وقرأه الباقونَ (ابنُ عامِرٍ وحمزةُ وأبو جَعفرٍ، ويعقوبُ، وأبو بكرٍ) بهمزتيْنِ على الاستفهامِ. يُنظر: ((النشر في القراءات العشر)) لابن الجزري (1/367). !
كما قال تعالى: ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا * وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا * وَبَنِينَ شُهُودًا * وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا * ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ * كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآَيَاتِنَا عَنِيدًا [المدثر: 11 - 16].
إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آَيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (15).
أي: إذا تُتلَى على هذا الكافِرِ آياتُ القُرآنِ قال مُكذِّبًا: تلك أكاذيبُ الأوَّلينَ وخُرافاتُهم الَّتي سَطَروها في كُتُبِهم [98] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/169)، ((تفسير القرطبي)) (18/236)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/304)، ((تفسير ابن عجيبة)) (7/109). .
سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ (16).
لَمَّا ذَكَر قَبائحَ أفعالِه وأقوالِه؛ ذَكَر ما يُفعَلُ به على سَبيلِ التَّوعُّدِ، فقال [99] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (10/240)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (10/172). :
سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ (16).
أي: سنَجعَلُ له على أنْفِه علامةً يُعرَفُ بها بيْن النَّاسِ [100] يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/405)، ((تفسير ابن جرير)) (23/170، 171)، ((معاني القرآن وإعرابه)) للزجاج (5/207)، ((الوسيط)) للواحدي (4/336)، ((الوجيز)) للواحدي (ص: 1121)، ((تفسير أبي حيان)) (10/240)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/ 305، 306). قال أبو السعود: (سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ بالْكَيِّ على أكرمِ مَواضِعِه؛ لغايةِ إهانتِه وإذلالِه، قيلَ: أصابَ أنْفَ الوليدِ جراحةٌ يومَ بدرٍ فبقيتْ علامتُها، وقيلَ: معناهُ: سنعلِّمُه يومَ القيامةِ بعلامةٍ مشوِّهةٍ يُعلَمُ بها عن سائرِ الكفرةِ). ((تفسير أبي السعود)) (9/14)، ويُنظر: ((تفسير الشوكاني)) (5/321). قيل: المراد: نُسَوِّدُّ وجْهَه يومَ القيامةِ، فعبَّر عن الوجهِ بالأنفِ؛ لأنَّه منه. وممَّن قال بهذا في الجملة: مقاتلُ بنُ سُلَيمانَ، والزَّجَّاجُ، والسمعاني، والخازن، ونسَبَه الواحديُّ إلى الأكثَرينَ. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/405)، ((معاني القرآن وإعرابه)) للزَّجَّاج (5/207)، ((تفسير السمعاني)) (6/22)، ((تفسير الخازن)) (4/325)، ((الوسيط)) للواحدي (4/336). وممَّن قال بهذا القولِ مِن السَّلفِ: أبو العاليةِ، ومجاهدٌ. يُنظر: ((تفسير الثعلبي)) (10/15)، ((تفسير البغوي)) (5/137). قال السمرقندي: (سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ يعني: سنَضرِبُه على الوجهِ). ((تفسير السمرقندي)) (3/ 482). وقيل: سنَجعَلُ على أنفِه علامةً باقيةً في الدُّنيا بأن نَخطِمَ أنْفَه بالسَّيفِ يومَ بَدرٍ. وممَّن ذهب إلى هذا القولِ: الواحديُّ، وجلال الدين المحلي. يُنظر: ((الوجيز)) للواحدي (ص: 1121)، ((تفسير الجلالين)) (ص: 758). ويُنظر أيضًا: ((تفسير الشربيني)) (4/357). وممَّن قال بهذا القولِ مِن السَّلفِ: ابنُ عبَّاسٍ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/170). وقال ابن قُتَيْبةَ: (أُلحِقُ به عارًا لا يُفارِقُه في الدُّنيا ولا في الآخرةِ؛ كالوسمِ على الخُرطومِ، وأبْيَنُ ما يكونُ الوَسمُ في الوجهِ). ((تأويل مُشْكِل القرآن)) (ص: 102)، ويُنظر: ((تفسير القاسمي)) (9/298). وقال ابن جرير: (معنى ذلك: سنُبَيِّنُ أمْرَه بيانًا واضِحًا حتَّى يَعرِفوه، فلا يَخفى عليهم، كما لا تَخفى السِّمةُ على الخُرطومِ). ((تفسير ابن جرير)) (23/170، 171). وقال ابنُ عاشور: (الوَسْمُ للإبلِ ونَحوِها: جَعلُ سِمةٍ لها أنهَّا مِن مملوكاتِ القَبيلةِ أو المالِكِ المعَيَّنِ؛ فالمعنى: سنُعامِلُه مُعامَلةً يُعرَفُ بها أنَّه عَبدُنا، وأنَّه لا يُغْني عنه مالُه وولدُه مِنَّا شَيئًا). ((تفسير ابن عاشور)) (29/77). وقال البِقاعي: (لَمَّا كان هذا المذكورُ قد أغرَقَ في الشَّرِّ، فتَوقَّعَ السَّامعُ جَزاءَه؛ قال مُعلِمًا أنَّه يَجعَلُ له مِن الخزْيِ والفضائحِ ما يَصيرُ به شُهرةً بيْنَ الخلائقِ في الدُّنيا والآخرةِ: سَنَسِمُهُ، أي: نَجعَلُ ما يَلحَقُ به مِن العارِ في الدَّارَينِ كالوسْمِ الَّذي لا يَنْمحي أثَرُه... وَسْمًا مُستعليًا عليه بوُضوحٍ جدًّا؛ لِيَكونَ هُتْكةً بيْنَ النَّاسِ، وفَضيحةً لقَومِه وذُلًّا وعارًا، وكذا كان -لَعَمْري- له بهذا الذِّكرِ الشَّنيعِ والذَّنْبِ القبيحِ مِن الكفْرِ وما معه، وسيَكونُ له يومَ الجَمْعِ الأعظَمِ ما هو أشنَعُ مِن هذا، على أنَّه قد حُقِّقَ في الدُّنيا هذا الخَطْمُ حِسًّا بأنَّه ضُرِبَ يومَ بدْرٍ ضَربةً خَطَمَتْ أنْفَه). ((نظم الدرر)) (20/305، 306). وقال ابن تيمية: (وقولُه: سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ فيه إطلاقٌ يتضمَّنُ الوسمَ في الآخرةِ وفي الدُّنيا أيضًا). ((مجموع الفتاوى)) (16/68). !

الفوائد التربوية:

1- في قَولِه تعالى: وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ أنَّه لا يجوزُ للمُؤمنِ أنْ يُدَاهِنَ، والمُدَاهَنةُ في الحقيقةِ أشْبَهُ ما تكونُ في وقتِنا الحاضرِ بما يُسمُّونَه بالعَلمَنةِ؛ فإنَّ العَلمانيِّينَ يقولونَ: دَعْ كلَّ إنسانٍ وشأنَه؛ الدَّولةُ دولةٌ، والدِّينُ دِينٌ؛ فالدَّولةُ لا بُدَّ أنْ تَتَّحِدَ، وأمَّا الدِّينُ فلكُلٍّ دِينُه، فلا تُنْكِرْ على الكافرِ ولا على الفاسِقِ! دَعْ كلَّ إنسانٍ يَعْمَلُ ما شاء! وهذه الآيةُ صريحةٌ في وُجوبِ الإنكارِ على الكافِرينَ كُفْرَهم، وألَّا نُداهِنَهم [101] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة فصلت)) (ص: 58). قال ابن القيِّم: (المُداراةُ صِفةُ مدحٍ، والمُداهَنةُ صِفةُ ذمٍّ، والفرقُ بيْنَهما أنَّ المُداريَ يَتلطَّفُ بصاحِبِه حتَّى يَستَخرِجَ منه الحقَّ، أو يَرُدَّه عن الباطِلِ، والمُداهِنَ يَتلطَّفُ به لِيُقِرَّه على باطِلِه، ويَترُكَه على هَواه، فالمُداراةُ لأهل الإيمانِ، والمُداهَنةُ لأهلِ النِّفاقِ، وقد ضُرِب لذلك مثَلٌ مُطابِقٌ، وهو حالُ رجُلٍ به قَرْحةٌ قد آلَمَتْه، فجاءه الطَّبيبُ المداوي الرَّفيقُ فتَعرَّفَ حالَها، ثمَّ أخَذ في تليينِها، حتَّى إذا نَضِجَتْ أخَذ في بَطِّها بِرِفْقٍ وسُهولةٍ حتَّى أخرَج ما فيها، ثمَّ وضع على مكانِها مِن الدَّواءِ والمرهمِ ما يَمنَعُ فَسادَها، ويَقطَعُ مادَّتَها، ثمَّ تابَع عليها بالمراهِمِ الَّتي تُنبِتُ اللَّحمَ، ثمَّ يَذُرُّ عليها بعْدَ نباتِ اللَّحمِ ما يُنشفُ رُطوبتَها، ثمَّ يَشُدُّ عليها الرِّباطَ، ولم يَزَلْ يُتابِعُ ذلك حتَّى صلَحَتْ. والمُداهنُ قال لصاحِبِها: لا بأْسَ عليك منها، وهذه لا شيء، فاستُرْها عن العُيوبِ بخِرقةٍ ثمَّ الْهُ عنها، فلا تَزالُ مِدَّتُها تَقْوى وتَستَحْكِمُ حتَّى عَظُمَ فَسادُها). ((الروح)) (ص: 231). .
2- قَولُ اللهِ تعالى: وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ الحَلَّافُ مَن كان كثيرَ الحَلِفِ في الحَقِّ والباطِلِ -على قولٍ-، وكفى به مَزجَرةً لِمَن اعتاد الحَلِفَ [102] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (30/603، 604). !
3- في قَولِه تعالى: وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ أنَّ مَن أكثَرَ الأيْمانَ، هان على الرَّحمنِ، واتَّضَعتْ مرتبتُه عندَ النَّاسِ [103] يُنظر: ((النكت الدالة على البيان)) للقصاب (4/380). . فلا يَنبغي للإنسانِ أنْ يُكثِرَ مِن الأيْمانِ؛ فإنَّ اللهَ ذَكَر الإكثارَ مِن الأيْمانِ بصيغةِ الذَّمِّ [104] يُنظر: ((لقاء الباب المفتوح)) لابن عثيمين (اللقاء رقْم: 115). .
4- قَولُ اللهِ تعالى: وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ * هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ * مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ * عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ حاصِلُه أنَّ اللهَ تعالى نهى عن طاعةِ كُلِّ حَلَّافٍ كَذَّابٍ، خَسيسِ النَّفْسِ، سَيِّئِ الأخلاقِ، خُصوصًا الأخلاقَ المُتضَمِّنةَ للإعجابِ بالنَّفْسِ، والتَّكبُّرِ على الحَقِّ وعلى الخَلْقِ، والاحتِقارِ للنَّاسِ؛ كالغِيبةِ والنَّميمةِ، والطَّعنِ فيهم، وكثرةِ المعاصي، وهذه الآياتُ وإن كانت نزَلَت في بعضِ المُشرِكينَ فإنَّها عامَّةٌ في كُلِّ مَنِ اتَّصَف بهذا الوَصفِ [105] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 879). .
5- في قَولِه تعالى: وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ * هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ التَّحذيرُ مِن النَّمَّامِ وإنْ حَلَفَ [106] يُنظر: ((شرح رياض الصالحين)) لابن عثيمين (6/680). .
6- في قَولِه تعالى: فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ، وقَولِه: وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ نَهاه عن طاعةِ هذَينِ الضَّربينِ، فكان فيه فوائِدُ:
منها: أنَّ النَّهيَ عن طاعةِ المرءِ نهيٌ عنِ التَّشَبُّهِ به بالأَولى، فلا يُطاعُ المُكَذِّبُ والحَلَّافُ، ولا يُعْمَلُ بمِثْلِ عَمَلِهما، كقَولِه: وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ [الأحزاب: 1] وأمثالِه؛ فإنَّ النَّهيَ عن قَبولِ قولِ مَن يأمُرُ بالخُلُقِ النَّاقِصِ أبلَغُ في الزَّجرِ مِن النَّهيِ عن التَّخَلُّقِ به.
ومنها: أنَّ ذلك أبلغُ في الإكرامِ والاحترامِ؛ فإنَّ قولَه: «لا تَكْذِبْ، ولا تَحْلِفْ، ولا تَشْتِمْ، ولا تَهْمِزْ» ليس هو مِثلَ قَولِه: «لا تُطِعْ مَن يكونُ مُتَلَبِّسًا بهذه الأخلاقِ»؛ لِمَا فيه مِن تشريفِه وبراءتِه.
ومنها: أنَّ الأخلاقَ مُكتَسَبةٌ بالمعاشَرةِ؛ ففيه تحذيرٌ عنِ اكتسابِ شيءٍ مِن أخلاقِهم بالمُخالَطةِ لهم، فلْيأخُذْ حِذْرَه؛ فإنَّه مُحتاجٌ إلى مُخالَطَتِهم مِن أجْلِ دَعوتِهم إلى اللهِ تعالى.
ومنها: أنَّهم يُبدونَ مَصالحَ فيما يأمُرونَ به؛ فلا تُطِعْ مَن كان هكذا ولو أَبْداها؛ فإنَّ الباعثَ لهم على ما يأمُرونَ به هو ما في نُفوسِهم مِن الجَهلِ والظُّلمِ، وإذا كان الأصلُ المقتضي للأمرِ فاسِدًا لم يُقبَلْ مِن الآمِرِ؛ فإنَّ الأمرَ مَدَارُه على العِلمِ بالمصلحةِ وإرادتِها، فإذا كان جاهِلًا لم يَعلَمِ المصلحةَ، وإذا كان الخُلُقُ فاسِدًا لم يُرِدْها، وهذا مَعنًى بليغٌ [107] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (16/63). .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- قَولُ اللهِ تعالى: عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ، أي: بعَدْ ما عُدَّ له مِن المَثالِبِ والنَّقائِصِ؛ فهو عُتُلٌّ زَنيمٌ -على قولٍ-، وهذا يدُلُّ على أنَّ هذَينِ الوصفَينِ -وهو كَونُه عُتُلًّا زَنيمًا- أشَدُّ مَعايبِه؛ لأنَّه إذا كان جافيًا غليظَ الطَّبعِ، قَسا قَلْبُه، واجترَأَ على كُلِّ مَعصيةٍ، ولأنَّ الغالبَ أنَّ النُّطفةَ إذا خبُثَتْ خبُثَ الولدُ [108] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (30/605). .
2- في قَولِه تعالى: سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ أنَّه سبحانَه لا بُدَّ أنْ يَسِمَ صاحِبَ هذه الأخلاقِ الخَبيثةِ على خُرطومِه -وهو أنْفُه الَّذي هو عُضوه البارِزُ الَّذي يَسبِقُ البصرُ إليه عندَ مُشاهَدتِه-؛ لِتَكونَ السِّيما ظاهِرةً مِن أوَّلِ ما يُرَى، وهذا ظاهِرٌ في الفَجَرةِ الظَّلَمةِ الَّذين وَدَعَهم النَّاسُ اتِّقاءَ شَرِّهم وفُحْشِهم؛ فإنَّ لهم سِيما مِن شَرٍّ يُعرَفونَ بها، وكذلك الفَسَقةُ وأهلُ الرَّيبِ [109] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (16/69). .
3- قال الله تعالى: سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ لَمَّا كان الوَسمُ مُنكِئًا، وكان جَعْلُه في موضِعٍ لا يُستَرُ أنكَأَ، وكان الوَجهُ أشرَفَ ما في الإنسانِ، وكان أظهَرُ ما فيه وأكرَمُه الأنفَ؛ ولذلك جَعَلوه مكانَ العِزِّ والحَمِيَّةِ، واشتَقُّوا منه الأَنَفةَ- قال: عَلَى الْخُرْطُومِ [110] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/305). .
4- قَولُ اللهِ تعالى: سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ الخُرْطومُ: الأنفُ، وإنَّما ذُكِرَ هذا اللَّفظُ على سَبيلِ الاستِخفافِ به؛ لأنَّ التَّعبيرَ عن أعضاءِ النَّاسِ بالأسماءِ الموضوعةِ لأشباهِ تلك الأعضاءِ مِن الحيواناتِ: يكونُ استِخفافًا! كما يُعبَّرُ عن شِفاه النَّاسِ بالمشافِرِ، وعن أيديهم وأرجُلِهم بالأظلافِ والحوافِرِ [111] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (30/606). .
5- قَولُ اللهِ تعالى: وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ * هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ * مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ * عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ، استُدِلَّ به على ضَعفِ القَولِ بـ (واوِ الثَّمانيةِ)، فقد وصَفَه بأوصافٍ تِسعةٍ، ولم يُدخِلْ بيْنَها واوَ العَطفِ، ولا بعْدَ السَّابعِ [112] يُنظر: ((أسرار التكرار في القرآن)) للكرماني (ص: 239). ويُنظر أيضًا: ((مغني اللبيب عن كتب الأعاريب)) لابن هشام (ص: 474-477)، ((تفسير ابن عاشور)) (11/42) و(28/362-364). .
6- قال اللهُ تعالَى: وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ * هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ * مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ * عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ فذكَرَ أرْبَعَ آياتٍ، كُلُّ آيَتيْنِ جَمَعَت نَوعًا مِن الأخْلاقِ الفاسِدةِ المَذمُومةِ، وجَمَعَ في كُلِّ آيةٍ بيْنَ النَّوعِ المُتَشابِه خَبرًا وطَلبًا؛ فالحَلَّافُ مَقْرونٌ بالمَهينِ؛ لأنَّ الحَلَّافَ هو كثيرُ الحَلِفِ، وإنَّما يكونُ على الخَبَرِ أو الطَّلَبِ، فهو إمَّا تَصْديقٌ أو تَكْذيبٌ، أو حَضٌّ أو مَنْعٌ، وإنَّما يُكثِرُ الرَّجلُ ذلك في خَبَرِه إذا احتاج أنْ يُصَدَّقَ ويُوثَقَ بخَبَرِه. ومَن كان كثيرَ الحَلِفِ كان كثيرَ الكذِبِ في العَهدِ مُحتاجًا إلى النَّاسِ؛ فهو مِن أذَلِّ النَّاسِ حَلَّافٍ مَهِينٍ؛ حَلَّافٌ في أقْوالِه، مَهِينٌ في أفْعالِه. وأمَّا الهَمَّازُ المَشَّاءُ بِنَمِيمٍ: فالهَمْزُ أقْوَى مِن اللَّمْزِ وأشدُّ -سَواءٌ كان هَمْزَ الصَّوتِ أو هَمْزَ حَرَكةٍ-. فالهَمَّازُ المُبالِغُ في العَيبِ نَوعًا وقَدْرًا. والمَشَّاءُ بِنَمِيمٍ هو مِن العَيبِ، ولكنَّه عَيبٌ في القَفَا، فهو عَيبُ الضَّعِيفِ العاجِزِ؛ فذَكَر العَيَّابَ بالقُوَّةِ، والعَيَّابَ بالضَّعْفِ، والعَيَّابَ في مَشهَدٍ، والعَيَّابَ في مَغِيبٍ.
وأمَّا مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ فإنَّ الظُّلْمَ نَوعانِ: تَرْكُ الواجِبِ، وهو مَنْعُ الخَيرِ وتَعَدٍّ على الغَيرِ، وهو المُعْتَدِي. وأمَّا الأَثيمُ مع المُعْتَدِي فكقَولِه: وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ [المائدة: 2] .
وأمَّا العُتُلُّ الزَّنِيمُ: فهو الجَبَّارُ الفَظُّ الغَلِيظُ الَّذي قدْ صار مِن شِدَّةِ تجَبُّرِه وغِلَظِهِ مَعْروفًا بالشَّرِّ مَشهُورًا به لهُ زَنَمةٌ كزَنَمةِ الشَّاةِ. ويُشْبِهُ -واللهُ أعلَمُ- أنْ يكونَ الحَلَّافُ المَهِينُ الهَمَّازُ المَشَّاءُ بِنَمِيمٍ مِن جِنْسٍ واحدٍ، وهو في الأقوالِ وما يَتْبَعُها مِن الأفْعالِ، والمَنَّاعُ المُعْتَدِي الأثِيمُ العُتُلُّ الزَّنِيمُ مِن جِنْسٍ، وهو في الأفعالِ وما يَتبَعُها مِن الأقوالِ. فالأوَّلُ الغالِبُ على جانِبِ الأعْراضِ، والثَّاني الغالِبُ على جانِبِ الحُقُوقِ في الأحوالِ والمَنافِعِ، ونَحوِ ذلك. ووَصَفَه بالظُّلْمِ والبُخلِ والكِبْرِ كما في قَولِه: إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا الَّذِينَ يَبْخَلُونَ الآيةَ [113] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (16/66). [النساء: 36، 37].

بلاغة الآيات:

1- قولُه تعالَى: فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ * وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ
- الفاءُ في قولِه: فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ لتَرتيبِ النَّهْيِ على جَميعِ ما فُصِّلَ مِن أوَّلِ السُّورةِ، أو على ما يُنبِئُ عنه ما قبْلَه مِن اهتدائِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وضَلالِهم [114] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (9/12). . فهو تَفريعٌ على جُملةِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ [القلم: 7] إلى آخِرِها، باعتبارِ ما تَضمَّنَتْه مِن أنَّه على الهُدى، وأنَّ الجانبَ الآخَرَ في ضَلالِ السَّبيلِ؛ فإنَّ ذلك يَقْتضي المُشادَّةَ معهم، وألَّا يَلينَ لهم في شَيءٍ؛ فإنَّ أذاهُم إيَّاه آلَ إلى مُحارَبةِ الحقِّ والهُدى، وتَصلُّبٍ فيما همْ عليه مِن الضَّلالِ عن سَبيلِ اللهِ، فلا يَستأهِلونَ به لِينًا، ولكنْ يَستأهِلون إغلاظًا، وليس المرادُ أنَّهم وَدُّوا ذلك في نُفوسِهم فأطْلَعَ اللهُ عليه رسولَه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ لعدَمِ مُناسَبتِه لقولِه: فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ، وقد ورَدَ أنَّ المشركينَ تقدَّموا للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بمِثلِ هذا العرْضِ، ووسَّطوا في ذلك عمَّه أبا طالبٍ وعُتبةَ بنَ رَبيعةَ، فيَنتظِمُ مِن هذا أنَّ قولَه: فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ نهْيٌ عن إجابتِهم إلى شَيءٍ عَرَضُوه عليه عندَ ما قَرَعَهم بأوَّلِ هذه السُّورةِ، وبخاصَّةٍ مِن وقْعِ معْنى التَّعريضِ البديعِ المَمزوجِ بالوعيدِ بسُوءِ المُستقبَلِ مِن قولِه: فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ * بِأَيِّيكُمُ الْمَفْتُونُ إلى قولِه: بِالْمُهْتَدِينَ [115] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/68). [القلم: 5- 7] .
- وهو تَهييجٌ وإلهابٌ للتَّصميمِ على مُعاصاتِهم، أيْ: دُمْ على ما أنت عليه مِن عدَمِ طاعتِهم وتَصلَّبْ في ذلك، أو نهْيٌ عن مُداهنَتِهم ومُداراتِهم بإظهارِ خِلافِ ما في ضَميرِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم استجلابًا لقُلوبِهم لا عن طاعتِهم، كما يُنبِئُ عنه قولُه تعالَى: وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ؛ فإنَّه تَعليلٌ للنَّهيِ أو الانتهاءِ، وإنَّما عبَّر عنها بالطَّاعةِ؛ للمُبالَغةِ في الزَّجرِ والتَّنفيرِ، أيْ: أحَبُّوا لو تُلاينُهم وتُسامِحُهم في بَعضِ الأمورِ فيُدهِنون [116] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/586)، ((تفسير البيضاوي)) (5/234)، ((تفسير أبي حيان)) (10/238)، ((تفسير أبي السعود)) (9/12، 13)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (10/170). .
- ووُقوعُ فِعلِ تُطِعِ في حيِّزِ النَّهيِ يَقْتضي النَّهيَ عن جِنسِ الطَّاعةِ لهم، فيَعُمُّ كلَّ إجابةٍ لطَلَبٍ منهم [117] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/69). .
- واختِيرَ تَعريفُهم بوصْفِ الْمُكَذِّبِينَ دونَ غيرِه مِن طُرقِ التَّعريفِ؛ لأنَّه بمَنزلةِ الموصولِ في الإيماءِ إلى وجْهِ بِناءِ الحُكمِ، وهو حُكمُ النَّهيِ عن طاعتِهم؛ فإنَّ النَّهيَ عن طاعتِهم لأنَّهم كذَّبوا رِسالتَه، ومِن هنا يتَّضِحُ أنَّ جُملةَ وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ بَيانٌ لمُتعلَّقِ الطَّاعةِ المَنهيِّ عنها؛ ولذلك فُصِلَت ولم تُعطَفْ [118] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/69). .
- وحرْفُ (لو) يَحتمِلُ أنْ يكونَ شَرطيًّا، ومَفعولُ (وَدَّ) مَحذوفًا، ويكونَ فِعلُ تُدْهِنُ شَرْطًا، وأنْ يكونَ جَوابُ الشَّرطِ مَحذوفًا، ويكونَ التَّقديرُ: ودُّوا إدْهانَكَ، لو تُدهِنُ لحَصَل لهم ما يَوَدُّون، أو لَسُرُّوا بذلك. ويَحتمِلُ أنْ يكونَ (لوْ) حَرفًا مَصدريًّا مِثلَ (أنْ)، فيكونَ التَّقديرُ: وَدُّوا إدهانَك، فهم الآنَ يُدهِنونَ لطمعِهم في إدهانِك [119] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (10/237، 238)، ((تفسير الكوراني)) (ص: 207)، ((تفسير أبي السعود)) (9/13)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/69، 70)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (10/171). .
- والفاءُ في فَيُدْهِنُونَ للعطْفِ والتَّسبُّبِ عن جُملةِ لَوْ تُدْهِنُ جَوابًا لمعْنى التَّمنِّي المدلولِ عليه بفِعلِ وَدُّوا، لقَصدِ بَيانِ سَببِ وَدادتِهم ذلك، فلذلك لم يُنصَبِ الفعلُ بعْدَ الفاءِ بإضمارِ (أنْ)؛ لأنَّ فاءَ السَّببيَّةِ كافيةٌ في إفادةِ ذلك، فالكلامُ بتَقديرِ مُبتدأٍ مَحذوفٍ، تَقديرُه: فهمْ يُدهِنونَ، وسُلِكَ هذا الأسلوبُ ليَكونَ الاسمُ المقدَّرُ مُقدَّمًا على الخبرِ الفِعليِّ، فيُفيدَ معْنى الاختصاصِ، أي: فالإدهانُ منهم لا منك، أي: فاتْرُكِ الإدهانَ لهم، ولا تَتخلَّقْ أنت به، وهذه طَريقةٌ في الاستِعمالِ إذا أُرِيدَ بالتَّرتُّباتِ أنَّه ليس تَعليقَ جَوابٍ، وقدْ يُفيدُ مَوقعُ الفاءِ تَعليلًا لمَودَّتِهم منه أنْ يُدهِنَ، أي: وَدُّوا ذلك منك لأنَّهم مُدهِنون، وصاحبُ النِّيَّةِ السَّيِّئةِ يَوَدُّ أنْ يكونَ النَّاسُ مِثلَه [120] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/586)، ((تفسير البيضاوي)) (5/234)، ((تفسير أبي حيان)) (10/238)، ((تفسير أبي السعود)) (9/13)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/69، 70)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (10/171). .
2- قولُه تعالَى: وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ * هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ * مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ * عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ
- قولُه: وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ إعادةُ فِعلِ النَّهيِ عن الطَّاعةِ لِمَن هذه صِفاتُهم؛ للاهتمامِ بهذا الأدَبِ، فلم يُكتَفَ بدُخولِ أصحابِ هذه الأوصافِ في عُمومِ المكذِّبين، ولا بتَخصيصِهم بالذِّكرِ بمُجرَّدِ عطْفِ الخاصِّ على العامِّ، بأنْ يُقالَ: ولا كلَّ حلَّافٍ، بل جِيءَ في جانبِهم بصِيغةِ نهْيٍ أُخرى مُماثِلةٍ للأُولى، وليُفيدَ تَسليطَ الوعيدِ الخاصِّ -وهو في مَضمونِ قولِه: سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ [القلم: 16] - على أصحابِ هذه الصِّفاتِ الخاصَّةِ زِيادةً على وَعيدِ المُكذِّبين [121] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/70). .
- وكَلمةُ (كُلّ) مَوضوعةٌ لإفادةِ الشُّمولِ والإحاطةِ لأفرادِ الاسمِ الَّذي تُضافُ هي إليه، فهي هنا تُفيدُ النَّهيَ العامَّ عن طاعةِ كلِّ فرْدٍ مِن أفرادِ أصحابِ هذه الصِّفاتِ الَّتي أُضِيفَ إليها (كُلّ) بالمباشَرةِ وبالنُّعوتِ [122] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/70). .
- قولُه: وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ تَقديمُ هذا الوصْفِ على سائرِ الأوصافِ الزَّاجرةِ عن الطاعةِ؛ لِكَونِه أدخلَ في الزَّجرِ [123] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (9/13). ، وكَفى بكَثرةِ الحلِفِ سُوءَ خُلقٍ وعَيبًا أنَّه قدَّمَه على جَميعِ العيوبِ، وفيه تَعظيمٌ للحَلِفِ، وبيانُ أنَّها أقبَحُ مَعايِبِه وأعظَمُها [124] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/586)، ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (15/574). .
- وقيل: أُرِيدَ بقولِه: كُلَّ حَلَّافٍ الكِنايةُ عن عَدَمِ المُبالاةِ بالكذِبِ وبالأيْمانِ الفاجرةِ، فجُعِلَت صِيغةُ المُبالَغةِ كِنايةً عن تَعمُّدِ الحِنثِ، وإلَّا لم يكُنْ ذَمُّه بهذه المَثابةِ [125] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/72). .
- والهمَّازُ كثيرُ الهمْزِ. وصِيغةُ المُبالَغةِ راجعةٌ إلى قوَّةِ الصِّفةِ، فإذا كان أذًى شَديدًا فصاحِبُه همَّازٌ، وإذا تَكرَّرَ الأذى فصاحِبُه همَّازٌ [126] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/72). .
- المشَّاءُ بالنَّميمِ: الَّذي يَنُمُّ بيْن النَّاسِ، ووَصْفُه بالمشَّاءِ للمُبالَغةِ [127] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/72). .
- وذِكرُ المشْيِ لتَشويهِ حالِه بأنَّه يَتجشَّمُ المَشقَّةَ مِن أجْلِ النَّميمةِ، مِثلُ ذِكرِ السَّعيِ في قولِه تعالَى: وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا [المائدة: 64] ؛ ذلك أنَّ أسماءَ الأشياءِ المحسوسةِ أشدُّ وقْعًا في تَصوُّرِ السَّامعِ مِن أسماءِ المعقولاتِ، فذِكرُ المشْيِ بالنَّميمةِ فيه تَصويرٌ لحالِ النَّمَّامِ [128] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/73). .
- قولُه: مُعْتَدٍ أَثِيمٍ مَذمَّتانِ قُرِنَ بيْنَهما لمُناسَبةِ الخُصوصِ والعُمومِ. والاعتِداءُ: مُبالَغةٌ في العُدوانِ، فالافتِعالُ فيه للدَّلالةِ على الشِّدَّةِ، والأثيمُ: كثيرُ الإثمِ، وهو فَعيلٌ مِن أمثلةِ المُبالَغةِ [129] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/73، 74). .
- على تَفسيرِ العُتُلِّ بالشَّديدِ الخِلقةِ والرَّحيبِ الجَوفِ، يكونُ وجْهُ ذِكرِه أنَّ قَباحةَ ذاتِه مُكمِّلةٌ لِمَعايبِه؛ لأنَّ العَيبَ المُشاهَدَ أجلَبُ إلى الاشمئزازِ، وأوغَلُ في النَّفرةِ مِن صاحِبِه [130] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/74، 75). .
- ومَوقعُ بَعْدَ ذَلِكَ مَوقعُ الجُملةِ المُعترِضةِ، والظَّرفُ خبَرٌ لمَحذوفٍ تَقديرُه: هو بعْدَ ذلك. ويجوزُ اتِّصالُ بَعْدَ ذَلِكَ بقولِه: زَنِيمٍ، على أنَّه حالٌ مِن زَنِيمٍ [131] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/75). .
- وقيل: قولُه: بَعْدَ ذَلِكَ، أي: عِلاوةً على ما عُدِّدَ له مِن الأوصافِ هو سَيِّئُ الخِلقةِ، سَيِّئُ المُعامَلةِ، فالبَعديَّةُ هنا بَعديَّةٌ في الارتقاءِ في دَرَجاتِ التَّوصيفِ المذكورِ، فمُفادُها مُفادُ التَّراخي الرُّتبيِّ [132] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/586)، ((تفسير أبي السعود)) (9/13)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/74)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (10/171). .
- والزَّنيمُ: اللَّصيقُ، وهو مَن يكونُ دَعيًّا في قَومِه ليس مِن صَريحِ نَسَبِهم: إمَّا بمَغمزٍ في نَسَبِه، وإمَّا بكونِه حليفًا في قومٍ أو مَولًى، وأيًّا ما كان المرادُ به فإنَّ المرادَ به خاصٌّ، فدُخولُه في المعطوفِ على ما أُضِيفَ إليه كُلَّ إنَّما هو على فرْضِ وُجودِ أمثالِ هذا الخاصِّ، وهو ضرْبٌ مِن الرَّمزِ، كما يُقالُ: ما بالُ أقوامٍ يَعمَلونَ كذا، ويُرادُ واحدٌ مُعيَّنٌ [133] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/75). .
- قولُه: وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ * هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ * مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ * عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ في مَجيءِ هذه الصِّفاتِ مَسرودةً على نَمَطٍ عَجيبٍ خلَّابٍ فنُّ المُناسَبةِ؛ فجاء حَلَّافٍ وبعْدَه مَهِينٍ؛ لأنَّ النُّونَ فيها مع الميمِ تَراخٍ، ثمَّ جاء هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ بصِفتَي المُبالَغةِ، ثمَّ جاء مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ، وبعْدَ ما عَدَّ له مِن المَثالبِ والنَّقائصِ أتى بصِفتَينِ مِن أشدِّ مَعايِبِه، وقد جاءتِ البَعديَّةُ لتَدُلَّ على ذلك [134] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (10/238)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/74)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (10/172). . وذلك على قولٍ.
3- قولُه تعالَى: أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ * إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آَيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ
- قولُه: أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ المرادُ: كلُّ مَن كان ذا مالٍ وبَنينَ مِن كُبراءِ المشرِكين، كقولِه تعالَى: وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ [المزمل: 11] . وقيل: أُريدَ به الوليدُ بنُ المغيرةِ؛ إذ هو الَّذي اختَلَقَ أنْ يقولَ في القرآنِ: أساطيرُ الأوَّلينَ. والوجهُ ألَّا يَختَصَّ هذا الوصْفُ به، وأنْ يكونَ تَعريضًا به [135] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/76). .
- قولُه: إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آَيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ استِئنافٌ جارٍ مَجْرَى التَّعليلِ للنَّهي، وقيلَ: مُتعلِّقٌ بما دلَّ عليهِ الجُملةُ الشَّرطيَّةُ مِن معْنى الجُحودِ والتَّكذيبِ لا بجَوابِ الشَّرطِ، كأنَّه قيلَ: لِكَونِه مُستظهِرًا بالمالِ والبنينَ كذَّبَ بآياتِنا، وفيه أنَّه يدُلُّ أنَّ مَدارَ تَكذيبِه كونُه ذا مالٍ وبَنينَ، مِن غيرِ أنْ يكونَ لسائرِ قَبائِحِه دخْلٌ في ذلك [136] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (9/14). .
- قولُه: إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آَيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ خُتِمَت الأوصافُ المُحذَّرُ عن إطاعةِ أصحابِها بوصْفِ التَّكذيبِ؛ ليَرجِعَ إلى صِفةِ التَّكذيبِ الَّتي انتَقَلَ الأُسلوبُ منها مِن قولِه: فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ [137] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/76). [القلم: 8] .
4- قولُه تعالَى: سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ استِئنافٌ بَيانيٌّ جَوابًا لسُؤالٍ يَنشَأُ عن الصِّفاتِ الذَّميمةِ الَّتي وُصِفوا بها، أنْ يَسأَلَ السَّامعُ: ما جَزاءُ أصحابِ هذه الأوصافِ مِن اللهِ على ما أَتَوه مِن القبائحِ، والاجتراءِ على ربِّهم [138] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/76). ؟
- والوسْمُ: كِنايةٌ عن التَّمكُّنِ منه وتَمامِ الغَلَبةِ، وإظهارِ عَجْزِه عن المُقاوَمةِ، وذِكرُ الخُرطومِ والتَّعبيرُ به عن الأنفِ فيه جمْعٌ بيْن التَّشويهِ والإهانةِ؛ فإنَّ الوسْمَ يَقْتضي التَّمكُّنَ، وكَونُه في الوجْهِ إذلالٌ وإهانةٌ، وكونُه على الأنْفِ أشدُّ إذلالًا؛ لأنَّ الأنْفَ أبرَزُ ما في الوجْهِ، وهو مَجرى النَّفَسِ، ولذلك غَلَبَ ذِكرُ الأنفِ في التَّعبيرِ عن إظهارِ العِزَّةِ في قولِهم: شَمَخَ بأنْفِه، وهو أشَمُّ الأنْفِ، وهم شُمُّ العَرانِينِ، وعُبِّرَ عن ظُهورِ الذِّلَّةِ والاستكانةِ بكسْرِ الأنْفِ، وجَدْعِه، ووُقوعِه في التُّرابِ في قولِهم: رَغِمَ أنْفُه، وعلى رَغْمِ أنْفِه [139] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/588)، ((تفسير البيضاوي)) (5/234)، ((تفسير أبي حيان)) (10/240، 241)، ((تفسير أبي السعود)) (9/14)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/77، 78)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (10/172). ، وذلك على قولٍ في التَّفسيرِ.
- قيل: هذا وَعيدٌ بتَشويِه أنْفِه يومَ القيامةِ، مِثل قولِه: يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ [آل عمران: 106] ، وجُعِلَ تَشويهُه يومَئذٍ في أنْفِه؛ لأنَّه إنَّما بالَغَ في عَداوةِ الرَّسولِ والطَّعنِ في الدِّينِ بسَبَبِ الأنَفةِ والكِبرياءِ، وقد كان الأنْفُ مَظهَرَ الكِبرِ، فجُعِلَت شَوهَتُه في مَظهَرِ آثارِ كِبريائِه [140] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (30/606)، ((تفسير أبي حيان)) (10/241)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/78). .
- وفي قولِه تعالَى: وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ إلى قولِه: سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ مُناسَبةٌ حَسنةٌ، حيثُ قال في سُورةِ (المُطفِّفينَ): وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ * الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ * وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ * إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آَيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ * كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ * كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ * ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ [المطففين: 10 - 16] ، فانقَطَعَت الآيةُ الأُولى إلى الجَزاءِ في الدُّنيا -وذلك على قولٍ- والآيةُ الثَّانيةُ إلى الجزاءِ في الآخِرةِ؛ ووجْهُ ذلك: أنَّ الموصوفَ في الآيةِ الأُولى مَوصوفٌ بجامعةٍ لخِصالِ الذَّمِّ، فاضحةٍ، وهي الحَلِفُ بالكذِبِ، والنَّميمةُ، والبُخلُ، والاعتداءُ؛ فلمَّا وَصَفَه بهذه الأشياءِ الظَّاهِرةِ القُبحِ، جَعَلَ في مُقابلتِها نَكالًا ظاهرًا يَبِينُ على الوجْهِ، فقال: سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ، أي: نُشهِّرُه بعلامةٍ تُنبِئُ عن قَبائحِه وفَضائحِه. وأمَّا الآيةُ الأخيرةُ في (المُطفِّفين) فإنَّ قبْلَها: الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ * وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ * إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آَيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ [المطففين: 11-13] ، فأخبَر عنهم أنَّهم لا يُؤمِنونَ بالبَعثِ، وأنَّ الذُّنوبَ الَّتي قارَفوها غَلَبَت على قُلوبِهم، حتَّى كأنَّها تَنكَّرَت لها؛ فلمَّا لم يَنعَتْهم إلَّا بالكُفْرِ، أخبَر عن جَزائِهم في الآخِرةِ؛ فأتْبَعَ كُلًّا مِن المكانَينِ ما لاقَ به، وصَلَحَ في مُقابِلِه ما تَقدَّمَ عليه [141] يُنظر: ((درة التنزيل وغرة التأويل)) للإسكافي (ص: 1290-1293). .
وفيه وجْهٌ آخَرُ: أنَّ آيةَ (القلَمِ) نَزَلَتْ في شَخصٍ بعَينِه، قيل: هو الأخنسُ بنُ شَرِيقٍ، وقيل: الوليدُ بنُ المُغيرةِ، وكان مُظهِرًا لعَداوةِ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وهو القائلُ: سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ [الأنعام: 93] ، وكان مِن أكثَرِ قريشٍ مالًا ووَلدًا، فلهذا قِيل فيه: أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ [القلم: 14] ؛ ففي هذا نَزَلَت الآيةُ مِن قولِه: وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ * هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ * مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ [القلم: 10-12] إلى آخِرِها، فأغْنى استيفاءُ صِفاتِه المذمومةِ عن تَعيينِ اسمِه بقولهِ سُبحانَه: سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ، إخبارٌ منه تعالَى بأوَّلِ عِقابٍ يَنزِلُ بعدُوِّ اللهِ المذكورِ، فهذا وَعيدٌ لخاصٍّ مُعيَّنٍ أُنزِلَ به مُعجَّلًا، ولَعذابُ الآخِرةِ أكبَرُ. وأمَّا آيةُ (المُطفِّفينَ) فليستْ في مُعيَّنينَ بغيرِ مُرتكباتِهم؛ فقال تعالَى: كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [المطففين: 14] ، أي: إنَّ المانعَ لهم مِن فَهمِ الوحْيِ بأنَّه مُنزَّلٌ مِن عندِ اللهِ ما غطَّى قُلوبَهم مِن الرَّينِ، وهو ما يَغشى القلبَ، ويَمنَعُه مِن الوصولِ إلى ما يَنفَعُه، وأعاد الضَّميرَ في قُلُوبِهِمْ على المعْنى مِن حيثُ إنَّ المرادَ هنا جَميعُ مَن وَقَعَ عليهم (كلّ)، بخِلافِ آيةِ (القلَمِ)؛ فإنَّ (كلّ) فيها واقعةٌ على مُفرَدٍ، وعُبِّرَ بـ (كلّ) ليَعُمَّ المقصودُ بذلك المرادَ، ومَن كان على صِفتِه إبلاغًا في ذَمِّه، والضَّميرُ في سَنَسِمُهُ لمُفرَدٍ، ولَفظُ (كلّ) مُطابِقٌ بمعناه [142] يُنظر: ((ملاك التأويل)) للغرناطي (2/480، 481). .