موسوعة التفسير

سورةُ القَلَمِ
الآيات (1-7)

ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ

غريب الكلمات:

يَسْطُرُونَ: أي: يَكتُبونَ ويَخُطُّونَ، والسَّطرُ: الصَّفُّ مِن الكِتابةِ، وأصلُ (سطر): يدُلُّ على اصطِفافِ شَيءٍ [8] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 477)، ((تفسير ابن جرير)) (23/148)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 525)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/72)، ((المفردات)) للراغب (ص: 409)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 409)، ((تفسير القرطبي)) (18/225)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 420). .
مَمْنُونٍ : أي: مَقطوعٍ مَنقوصٍ، وأصلُ (منن): يدُلُّ على قَطعٍ [9] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 477)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 428)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/267)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 420). .
الْمَفْتُونُ: أي: الَّذي فُتِنَ بالجُنونِ، وقيل: مَفتونٌ: بمعنى فِتنةٍ، كما يُقالُ: ليس له معقولٌ، أي: عقلٌ، وأصلُ (فتن): يدُلُّ على اختبارٍ وامتحانٍ [10] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/153)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 428)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (4/472)، ((البسيط)) للواحدي (22/77)، ((المفردات)) للراغب (ص: 624). .

مشكل الإعراب:

1- قَولُه تعالى: مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ
قَولُه تعالى: بِنِعْمَةِ رَبِّكَ: في تعَلُّقِه أوجُهٌ؛ أحَدُها: أَنْ تكونَ الباءُ سَببيَّةً، وتتعلَّقُ حينَئذٍ بمَضمونِ الجُملةِ المنفيَّةِ، والمعنى: انتفَى عنك الجُنونُ؛ بسَبَبِ نِعمةِ اللهِ عليك. الثَّاني: أنَّ الباءَ للمُلابَسةِ، تتعَلَّقُ بمحذوفٍ في مَوضِعِ نَصبٍ على الحالِ اللَّازِمةِ، والتَّقديرُ: ما أنت مجنونًا مُتلبِّسًا بنِعمةِ ربِّك الَّتي هي النُّبوَّةُ. الثَّالثُ: أنَّه مُقْسَمٌ به متوسِّطٌ بيْن اسمِ (ما) وخبَرِها، وجَوابُ القَسَمِ مَحذوفٌ لِدَلالةِ هذا المذكورِ عليه، والتَّقديرُ: ونِعمةِ ربِّك ما أنتَ بمجنونٍ [11] يُنظر: ((التبيان في إعراب القرآن)) للعكبري (2/1184)، ((تفسير أبي حيان)) (10/235)، ((الدر المصون)) للسمين الحلبي (10/75، 399)، ((الجدول في إعراب القرآن)) لمحمود صافي (29/33). .
2- قوله تعالى: فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ * بِأَيِّيكُمُ الْمَفْتُونُ
فيه أوجُهٌ مِنَ الإعرابِ: الأوَّلُ: بِأَيِّيكُمُ: شِبهُ جُملةٍ مُتعَلِّقٌ بمحذوفٍ خَبَرٌ مقدَّمٌ. الْمَفْتُونُ: مبتدَأٌ مُؤخَّرٌ. والباءُ: ظَرفيَّةٌ بمعنى «في»، والمعنى: في أيِّ فِرقةٍ وطائفةٍ منكم المفتونُ، والمَفْتونُ: مصدرٌ جاء على مَفْعولٍ، بمعنى الفِتنةِ، أي: بأيِّكم الفِتنةُ والفَسادُ. الثَّاني: بِأَيِّيكُمُ: الباءُ: حرفُ جَرٍّ زائدٌ. و«أَيِّكُم»: مبتدأٌ مجرورٌ لَفظًا مرفوعٌ محَلًّا. الْمَفْتُونُ: خبَرٌ مرفوعٌ، والمعنى: أيُّكم المفتونُ. وزِيدَت الباءُ في المُبتدَأِ كما زِيدَت في قَولِه: «بحَسْبِك دِرهَمٌ». والجملةُ كلُّها في محلِّ نَصبٍ مَفعولٌ لـ «يُبْصِرُون»، ولا يُوقَفُ على (يُبْصِرونَ). أو الكَلامُ تمَّ عندَ «يُبْصِرُونَ»، ثمَّ استأنفَ: بِأَيِّيكُمُ. والجُملةُ استئنافيَّةٌ لا محَلَّ لها مِن الإعرابِ. الثَّالثُ: أن تكونَ «أيُّكم» مَوصولةً لا استِفهاميَّةً، وتكونَ مَفعولًا به للفِعلِ قَبْلَها، والباءُ زائِدةٌ في المفعولِ، وصدرُ الصِّلةِ محذوفٌ، والتَّقديرُ: فستُبصِرُ ويُبصِرونَ الَّذي هو المفتونُ منكم [12] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (10/237)، ((التذييل والتكميل في شرح كتاب التسهيل)) لأبي حيان (6/89)، ((الدر المصون)) للسمين الحلبي (10/401)، ((مغني اللبيب)) لابن هشام (ص: 148). .

المعنى الإجمالي:

افتَتَح اللهُ تعالى هذه السُّورةَ الكريمةَ بأحَدِ الحُروفِ المُقَطَّعةِ ن، ثمَّ أقسَمَ اللهُ سبحانَه بالقَلَمِ وما يَكتُبونَ على نَفيِ الجُنونِ عن نَبيِّه محمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ لتَلَبُّسِه بنِعمةِ رَبِّه عليه مِنَ الهُدى والوَحيِ، ثمَّ أخبَر نَبيَّه محمَّدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بأنَّ له ثَوابًا عظيمًا غيرَ مَقطوعٍ أو مَنقوصٍ، وأثنَى عليه بأجمَلِ ثَناءٍ وأطْيَبِه بأنَّه على خُلُقٍ كَريمٍ، وأدَبٍ عَظيمٍ.
ثمَّ خاطَبَه تعالى قائلًا: فستَرى وتَعلَمُ -يا محمَّدُ- ويَرى كُفَّارُ قُرَيشٍ ويَعلَمونَ: أيُّكم المَفتونُ بالجُنونِ، والضَّلالِ عن الحَقِّ؟! إنَّ رَبَّك -يا مُحمَّدُ- هو أعلَمُ بمَن ضَلَّ عن طريقِ الحَقِّ، وهو أعلَمُ بالمهتَدينَ.

تفسير الآيات:

ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ (1).
ن.
افتُتِحَت هذه السُّورةُ بهَذا الحرْفِ مِن الحُروفِ المقطَّعةِ التي تُستفتَحُ بها كَثيرٌ مِن سُوَرِ القرآنِ؛ لبَيانِ إعجازِه، حيث تُظهِرُ عجْزَ الخَلْقِ عن مُعارَضتِه بمِثلِه، مع أنَّه مركَّبٌ مِن هذه الحُروفِ العربيَّةِ التي يَتحدَّثونَ بها [13] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (1/160)، ((تفسير ابن عاشور)) (1/206)، ((تفسير ابن عُثيمين- الفاتحة والبقرة)) (1/24). قال ابنُ عطية: (ن حرفٌ مُقَطَّعٌ في قولِ الجُمهورِ مِن المفَسِّرينَ). ((تفسير ابن عطية)) (5/345). وقال ابنُ القيِّمِ: (الصَّحيحُ أنَّ «ن» و«ق» و«ص» مِن حروف الهجاءِ الَّتي يَفتتِحُ بها الرَّبُّ سُبحانَه بعضَ السُّوَرِ). ((التبيان في أقسام القرآن)) (ص: 203). ويُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (8/184). .
وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ.
أي: أُقسِمُ بالقَلَمِ وما يَكتُبونَ [14] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/145-148)، ((الوسيط)) للواحدي (4/333)، ((تفسير ابن عطية)) (5/346)، ((تفسير القرطبي)) (18/224، 225)، ((التبيان في أقسام القرآن)) لابن القيم (ص: 206-212)، ((تفسير ابن كثير)) (8/187)، ((تفسير السعدي)) (ص: 878)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/60). والقَلَمُ المذكورُ هنا: قيل: هو الَّذي خلَقَه اللهُ تعالى فأمَرَه فجرى بكتابةِ جميعِ ما هو كائِنٌ إلى يومِ القيامةِ. وممَّن ذهب إلى هذا المعنى: ابنُ جرير. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/145). قال الواحديُّ: (... جميع المفسِّرينَ قالوا: هو القلمُ الَّذي كُتِب به اللَّوحُ المحفوظُ). ((البسيط)) (22/73). وقيل: المرادُ: جِنسُ القلمِ الَّذي يُكتَبُ به، فهو عامٌّ في كُلِّ قَلَمٍ مِمَّا يَكتُبُ به مَن في السَّماءِ ومَن في الأرضِ. وممَّن ذهب إلى هذا المعنى في الجملةِ: القرطبيُّ، وابنُ القيِّم، وابنُ كثير. يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (18/224)، ((التبيان في أقسام القرآن)) لابن القيم (ص: 206)، ((تفسير ابن كثير)) (8/187). قال الماوَرْدي: (أمَّا وَالْقَلَمِ ففيه وَجهانِ؛ أحَدُهما: أنَّه القَلَمُ الَّذي يَكتُبونَ به؛ لأنَّه نِعمةٌ عليهم، ومَنفعةٌ لهم، فأقسَمَ بما أنعَمَ. قاله ابنُ بحر. الثَّاني: أنَّه القَلَمُ الَّذي يُكتَبُ به الذِّكرُ على اللَّوحِ المحفوظِ). ((تفسير الماوردي)) (6/60). وقيل: المرادُ بقولِه: وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ: ما تَكتُبُ الملائكةُ الحَفَظةُ مِن أعمالِ بني آدمَ. وممَّن ذهب إلى هذا: مقاتلُ بنُ سُلَيمانَ، والواحديُّ. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/403)، ((الوسيط)) للواحدي (4/333). .
قال تعالى: الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ [العلق: 4، 5].
مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (2).
أي: لستَ -يا محمَّدُ- بسَبَبِ ما أنعَمَ اللهُ به عليك مِنَ الهُدى والوَحيِ والنُّبوَّةِ؛ بمَجنونٍ كما يَزعُمُ المُشرِكونَ [15] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/149)، ((التبيان في أقسام القرآن)) لابن القيم (ص: 213-216)، ((تفسير ابن كثير)) (8/188)، ((تفسير ابن عرفة)) (4/268)، ((تفسير الجلالين)) (ص: 758)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/287)، ((تفسير السعدي)) (ص: 878). قال الواحديُّ: (هذا جوابٌ لِقَولِهم: وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ [الحِجر: 6]، فأقسَمَ اللهُ بنُون، وبالقَلَمِ، وبأعمالِ بني آدمَ، فقال: ما أنت -يا محمَّدُ- بنِعمةِ رَبِّك، أي: بإنعامِه عليك بالإيمانِ والنُّبُوَّةِ؛ بمَجنونٍ). ((الوسيط)) (4/333). ويُنظر: ((تفسير الماوردي)) (6/61). وقال ابنُ القيِّم: (المُقسَمُ عليه بالقَلَمِ والكتابةِ في هذه السُّورةِ تنزيهُ نَبيِّه ورَسولِه عمَّا يقولُ فيه أعداؤُه، وهو قَولُه تعالى: مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ، وأنت إذا طابَقْتَ بيْنَ هذا القسَمِ والمقسَمِ به وجَدْتَه دالًّا عليه أظهَرَ دَلالةٍ وأبْيَنَها؛ فإنَّ ما سَطَر الكاتِبُ بالقلَمِ مِن أنواعِ العُلومِ الَّتي يتلقَّاها البشَرُ بَعضُهم عن بعضٍ لا تَصدُرُ مِن مجنونٍ، ولا تَصدُرُ إلَّا مِن عَقلٍ وافرٍ، فكيف يَصدُرُ ما جاء به الرَّسولُ مِن هذا الكتابِ الَّذي هو في أعلى دَرَجاتِ العُلومِ، بل العلومُ الَّتي تضمَّنَها ليس في قُوى البشَرِ الإتيانُ بها، ولا سيَّما مِن أُمِّيٍّ لا يقرأُ كِتابًا ولا يخُطُّ بيَمينِه؟! مع كَونِه في أعلى أنواعِ الفصاحةِ، سليمًا مِن الاختلافِ، بَرِيًّا مِن التَّناقُضِ، يَستحيلُ مِن العقلاءِ كلِّهم لوِ اجتمَعوا في صعيدٍ واحدٍ أنْ يأتوا بمِثْلِه ولو كانوا في عَقلِ رجُلٍ واحدٍ منهم، فكيف يَتأَتَّى ذلك مِن مجنونٍ لا عَقْلَ له يُمَيِّزُ به ما عسى كثيرٌ مِن الحيوانِ أنْ يُمَيِّزَه؟! وهل هذا إلَّا مِن أقْبَحِ البُهتانِ، وأظْهَرِ الإفكِ). ((التبيان في أقسام القرآن)) (ص: 213). !
كما قال تعالى: فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلَا مَجْنُونٍ [الطور: 29].
وقال سُبحانَه: وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ [التكوير: 22] .
وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ (3).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا ثبَّتَ اللهُ رسولَه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فدفَعَ بُهتانَ أعدائِه؛ أعقَبَه بإكرامِه بأجْرٍ عظيمٍ على ما لَقِيَه مِن المشرِكينَ مِن أذًى بقولِه [16] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/62). :
وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ (3).
أي: وإنَّ لك -يا محمَّدُ- لَثَوابًا عظيمًا غيرَ مَقطوعٍ أو مَنقوصٍ [17] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/149)، ((الوسيط)) للواحدي (4/333)، ((تفسير القرطبي)) (18/226)، ((التبيان في أقسام القرآن)) لابن القيم (ص: 216)، ((تفسير ابن كثير)) (8/ 188)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/291)، ((تفسير السعدي)) (ص: 879). قال الشوكاني: (غَيْرُ مَمْنُونٍ أي: غيرَ مَقطوعٍ، يُقالُ: مَنَنْتُ الحبْلَ: إذا قطَعْتَه. وقال مجاهدٌ: غَيْرُ مَمْنُونٍ: غيرَ محسوبٍ. وقال الحسَنُ: غَيْرُ مَمْنُونٍ: غيرَ مُكَدَّرٍ بالمَنِّ. وقال الضَّحَّاكُ: أجرًا بغيرِ عمَلٍ. وقيل: غيرَ مُقَدَّرٍ. وقيل: غيرَ مَمنونٍ به عليك مِن جِهةِ النَّاسِ). ((تفسير الشوكاني)) (5/319). .
وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّ هذا كالتَّفسيرِ لِما تَقدَّمَ مِن قولِه: بِنِعْمَةِ رَبِّكَ [القلم: 2] ، وتَعريفٌ لِمَن رماهُ بالجنونِ بأنَّ ذلك كذِبٌ وخطأٌ؛ وذلك لأنَّ الأخلاقَ الحميدةَ، والأفعالَ المَرْضيَّةَ كانت ظاهرةً منه، ومَن كان موصوفًا بتلك الأخلاقِ والأفعالِ لم يَجُزْ إضافةُ الجنونِ إليه؛ لأنَّ أخلاقَ المجانينِ سيِّئةٌ [18] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (30/601). .
فبَعْدَ أنْ آنَسَ اللهُ سُبحانَه نفْسَ رسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بالوعْدِ، عاد إلى تَسفيهِ قولِ الأعداءِ، فحقَّقَ أنَّه مُتلبِّسٌ بخُلقٍ عَظيمٍ، وذلك ضِدُّ الجُنونِ [19] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/63). .
وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4).
أي: وإنَّك -يا محمَّدُ- لَعلى طَبعٍ كَريمٍ، وأدَبٍ عَظيمٍ بهذا الدِّينِ القويمِ، والقُرآنِ الكَريمِ [20] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/150)، ((تفسير السمرقندي)) (3/481)، ((تفسير الماوردي)) (6/61)، ((تفسير ابن عطية)) (5/346)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (16/61). قال ابن جرير: (يقولُ تعالى ذِكْرُه لنبيِّه محمَّدٍ صلَّى الله عليه وسلَّم: وإنَّك يا محمَّدُ لَعلَى أدبٍ عظيمٍ، وذلك أدبُ القرآنِ الَّذي أدَّبه اللهُ به، وهو الإسلامُ وشرائعُه). ((تفسير ابن جرير)) (23/ 150). قال الشوكاني: (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ قيل: هو الإسلامُ والدِّينُ، حكى هذا الواحديُّ عن الأكثَرينَ. وقيل: هو القرآنُ، رُويَ هذا عن الحسَنِ والعَوْفيِّ. وقال قَتادةُ: هو ما كان يأتَمِرُ به مِن أمرِ اللهِ، ويَنْتَهي عنه مِن نَهيِ اللهِ. قال الزَّجَّاجُ: المعنَى: إنَّك على الخُلُقِ الَّذي أمَرَكَ اللهُ به في القُرآنِ. وقيل: هو رِفْقُه بأُمَّتِه، وإكرامُه إيَّاهم. وقيل: المعنَى: إنَّك على طبعٍ كريمٍ. قال الماوَرْديُّ: وهذا هو الظَّاهرُ). ((تفسير الشوكاني)) (5/319). ويُنظر: ((معاني القرآن وإعرابه)) للزجاج (5/204)، ((تفسير الماوردي)) (6/61)، ((الوسيط)) للواحدي (4/334). قال الرَّسْعَني: (أقوالُ المفسِّرينَ فيه [أي: الخُلُقِ] تَرجِعُ إلى معنًى واحدٍ، وهو: الأخْذُ بما أُمِر به). ((تفسير الرسعني)) (8/218). وقال الماوَرْدي: (حقيقةُ الخُلُقِ في اللُّغةِ هو ما يأخُذُ به الإنسانُ نفْسَه مِن الآدابِ، سُمِّيَ خُلُقًا؛ لأنَّه يَصيرُ كالخِلقةِ فيه). ((تفسير الماوردي)) (6/61). .
كما قال تعالى: فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ [آل عمران: 159].
وقال سُبحانَه: لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ [التوبة: 128] .
وعن سَعدِ بنِ هِشامِ بنِ عامِرٍ، أنَّه قال لعائشةَ رضيَ الله عنها: ((يا أمَّ المؤمنينَ، أنبئِيني عن خُلُقِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم. قالت: ألَسْتَ تَقرَأُ القُرآنَ؟ قُلتُ: بلى. قالت: فإنَّ خُلُقَ نَبيِّ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كان القُرآنَ )) [21] أخرجه مسلم (746). .
وعن أنَسِ بنِ مالِكٍ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: ((خدَمْتُ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عَشْرَ سِنينَ، واللهِ ما قال لي أُفًّا قَطُّ، ولا قال لي لشَيءٍ: لِمَ فَعَلْتَ كذا؟ وهلَّا فعَلْتَ كذا! )) [22] رواه البخاري (2768)، ومسلم (2309) واللَّفظُ له. .
وعن عائِشةَ رَضِيَ اللهُ عنها، قالت: ((ما ضرَبَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم شيئًا قَطُّ بيَدِه، ولا امرأةً، ولا خادِمًا، إلَّا أن يُجاهِدَ في سَبيلِ اللهِ )) [23] أخرجه مسلم (2328). .
وعن عبدِ اللهِ بنِ عَمرٍو رَضِيَ اللهُ عنهما، قال: ((لم يكُنْ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فاحِشًا ولا مُتفَحِّشًا، وإنَّه كان يقولُ: إنَّ خيارَكم أحاسِنُكم أخلاقًا )) [24] رواه البخاري (6035) واللَّفظُ له، ومسلم (2321). .
فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ (5) بِأَيِّيكُمُ الْمَفْتُونُ (6).
أي: فستَرى وتَعلَمُ -يا محمَّدُ-، ويرى كُفَّارُ قُرَيشٍ ويَعلَمونَ يَقينًا: مَن مِنكم المفتونُ بالجُنونِ، والضَّلالِ عن الحَقِّ [25] يُنظر: ((روضة المحبين)) لابن القيم (ص: 43)، ((التبيان في أقسام القرآن)) لابن القيم (ص: 219)، ((تفسير ابن كثير)) (8/190)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/295)، ((تفسير السعدي)) (ص: 879)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/65-67). قال الرَّسْعَني: (بِأَيِّيكُمُ الْمَفْتُونُ قال الحسَنُ: المفتونُ: الضَّالُّ. وقال مجاهدٌ: الشَّيطانُ. وقال الضَّحَّاكُ: المجنونُ. والباءُ زائدةٌ في قول أبي [عُبَيدةَ] وابنِ قُتَيْبةَ... وأصليَّةٌ في قولِ الفرَّاءِ والزَّجَّاجِ، وقولِ الضَّحَّاكِ... فإن قُلْنا: الباءُ زائدةٌ، فيكونُ التَّقديرُ: أيُّكم المجنونُ، سُمِّيَ بذلك؛ لأنَّه مُجِنَ بالجنونِ، أو لِكَونِه مِن تخييلِ الجِنِّ، وهم الفُتَّانُ. وإن قُلْنا: الباءُ أصليَّةٌ، كان «المَفْتونُ» مصدرًا، [كمَعْقُودٍ] ومَعْقُولٍ... فيكونُ التَّقديرُ: بأيِّكم الفُتُونُ، أي: الجنونُ. وقيل: الباءُ بمعنى «في»، تقديرُه: في أيِّكم، أي: في [أيِّ] الفريقَينِ المجنونُ؛ في [فريقِك]، أو في فريقِهم؟ ومَن يَستحِقُّ هذا الاسمَ، أنتم أم هم؟). ((تفسير الرسعني)) (8/219). ويُنظر: ((تفسير الثعلبي)) (10/11)، ((تفسير الرازي)) (30/602). ممَّن اختار أنَّ الباءَ زائدةٌ: أبو عُبَيْدةَ، والأخفشُ، وابنُ قُتَيْبةَ، والواحديُّ -ونسَبَه إلى أكثَرِ المفسِّرينَ وأهلِ المعاني-، وابنُ الجوزي، والقرطبيُّ. يُنظر: ((مجاز القرآن)) لأبي عبيدة (2/264)، ((معانى القرآن)) للأخفش (2/547)، ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 477)، ((الوسيط)) للواحدي (4/335)، ((البسيط)) للواحدي (22/77)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 409)، ((تفسير القرطبي)) (18/229). وممَّن اختار أنَّ الباءَ ليست زائدةً وأنَّها أصليَّةٌ: الفرَّاءُ، وابنُ جرير، والزَّجَّاجُ. يُنظر: ((معاني القرآن)) للفراء (3/173)، ((تفسير ابن جرير)) (23/155)، ((معاني القرآن وإعرابه)) للزجاج (5/204). وقيل: في الكلامِ تقديرُ حذفِ مضافٍ، والمعنى: بأيِّكم فتنةُ المفتونِ. وقيل: فيه تقديرُ حذفِ فعلٍ، والمعنى: بأيِّكم فُتِن المفتونُ. يُنظر: ((التحصيل)) للمهدوي (6/451). وممَّن اختار أنَّ المرادَ بالمَفْتونِ المجنونُ: مقاتلُ بنُ سُلَيمانَ، والسمرقنديُّ. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/403)، ((تفسير السمرقندي)) (3/481). وممَّن اختار أنَّ المفتونَ مصدرٌ، أي الجنونُ: الفرَّاءُ، وابنُ جرير، وجلال الدين المحلِّي، والعُلَيمي. ((معاني القرآن)) للفراء (3/173)، ((تفسير ابن جرير)) (23/155)، ((تفسير الجلالين)) (ص: 758)، ((تفسير العليمي)) (7/124). وقال ابن كثير: (معنى المَفْتونِ ظاهرٌ، أي: الَّذي قد افتُتِنَ عن الحقِّ وضلَّ عنه، وإنَّما دخلَتِ الباءُ في قولِه: بِأَيِّيكُمُ الْمَفْتُونُ لتدُلَّ على تضمينِ الفعلِ في قولِه: فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ، وتقديرُه: فسَتَعلَمُ ويَعلَمونَ، أو: فسَتُخبَرُ ويُخبَرونَ بأيِّكم المَفْتونُ. واللهُ أعلَمُ). ((تفسير ابن كثير)) (8/190). وقال ابنُ عاشور: (المفتونُ: ... يجوزُ أن يرادَ بها هنا الجنونُ...، ويجوزُ أن يرادَ ما يَصدُقُ على المضطربِ في أمرِه، المفتونِ في عَقْلِه حَيرةً وتقلقلًا). ((تفسير ابن عاشور)) (29/66). وقال البِقاعي: (الْمَفْتُونُ أي: بالضَّلالِ والجُنونِ، حتَّى صدَّ عن الهُدى ودينِ الحقِّ، أو بأيِّكم الفِتنةُ بالجُنونِ وغيرِه). ((نظم الدرر)) (20/295). ؟!
إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (7).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا كان قولُه تعالى: بِأَيِّيكُمُ الْمَفْتُونُ إخبارًا بجُنونِهم المُستلزِمِ لضَلالِهم على هذا الوجْهِ المتَّصفِ، وكان مِثلُ هذا قدْ يَقَعُ في مُحاوَراتِ النَّاسِ بضَرْبٍ مِن الظَّنِّ؛ استأنَفَ تعالَى ما هو كالتَّعليلِ لِما أفادَه السِّياقُ مِن هذا الحُكمِ عليهم، إعلامًا بأنَّه ناشئٌ عن عِلمٍ قَطعيٍّ لا مِرْيَةَ فيه بوَجْهٍ، فقال مُؤكِّدًا مِن أجْلِ إنكارِهم لأنْ يكونَ الأمْرُ على ما أفادَهَ ما تَقدَّمَ [26] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/295، 296). :
إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ.
أي: إنَّ رَبَّك -يا مُحمَّدُ- هو أعلَمُ بمَن ضَلَّ عن طريقِ الحَقِّ، فلم يتَّبِعْ دِينَ اللهِ تعالى [27] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/155)، ((تفسير الزمخشري)) (4/586)، ((تفسير القرطبي)) (18/230)، ((تفسير ابن كثير)) (8/190). .
وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ.
أي: واللهُ أعلَمُ بالَّذين اهتَدَوا، فأقَرُّوا بالحَقِّ واتَّبَعوه [28] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/155)، ((تفسير الزمخشري)) (4/586)، ((تفسير القرطبي)) (18/230)، ((تفسير ابن كثير)) (8/190). قال الزمخشري: (إنَّ رَبَّك هو أعلَمُ بالمجانينِ على الحقيقةِ، وهم الَّذين ضلُّوا عن سبيلِه، وهو أعلَمُ بالعُقلاءِ، وهم المهتَدونَ). ((تفسير الزمخشري)) (4/586). .

الفوائد التربوية:

1- قال الله تعالى: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ قد أُمِرْنا بالتَّأسِّي بالنَّبيِّ صَلَواتُ اللهِ وسَلامُه عليه، فكان مِن أهَمِّ ما يجِبُ على الأُمَّةِ مَعرفةُ تَفصيلِ إجمالِ هذه الآيةِ؛ ليَتِمَّ التَّأسِّي المطلوبُ [29] يُنظر: ((تتمة أضواء البيان)) لعطية سالم (8/248). .
2- حُسنُ الخُلُقِ قد يُرادُ به التَّخَلُّقُ بأخلاقِ الشَّريعةِ، والتَّأدُّبُ بآدابِ اللهِ الَّتي أدَّبَ بها عبادَه في كتابِه، كما قال تعالى لِرَسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ، وقالت عائِشةُ رضيَ الله عنها: ((كان خُلُقُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم القُرآنَ )) [30] أخرجه مسلم (746). ، يعني: أنَّه يتأدَّبُ بآدابِه، فيَفعَلُ أوامِرَه، ويتجَنَّبُ نواهيَه، فصار العَمَلُ بالقرآنِ له خُلُقًا كالجِبِلَّةِ والطَّبيعةِ لا يُفارِقُه، وهذا أحسَنُ الأخلاقِ وأشرَفُها وأجمَلُها. وقد قيل: إنَّ الدِّينَ كُلَّه خُلُقٌ [31] يُنظر: ((جامع العلوم والحكم)) لابن رجب (2/99). .
3- ينبغي لطالبِ العِلمِ أن يحرِصَ كلَّ الحرصِ على حُسنِ الخُلقِ، وأن يتخلَّقَ بالأخلاقِ الفاضلةِ؛ لأنَّه لا فائدةَ للعلمِ إلَّا أنْ يعمَلَ به، ولهذا قال الله عزَّ وجلَّ: ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ، وهذا العلم: مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ * وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ * وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ [32] يُنظر: ((اللقاء الشهري)) لابن عثيمين (رقم اللقاء: 67). .
4- حُسنُ الخُلقِ لا تخفَى في الدِّين فضيلتُه، وهو الذي مدَح الله سبحانَه به نبيَّه عليه السَّلامُ، إذ قال: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ [33] يُنظر: ((إحياء علوم الدين)) للغزالي (2/157). . والله لا يمدحُ إلَّا على الشيءِ العظيمِ [34] يُنظر: ((مفتاح الأفكار للتأهب لدار القرار)) لعبد العزيز السلمان (2/65). .
5- قَولُ اللهِ تعالى: هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ فيه تهديدٌ للضَّالِّينَ، ووعدٌ للمُهتَدينَ، وبيانٌ لحِكمةِ اللهِ تعالى؛ حيثُ كان يَهدي مَن يَصلُحُ للهِدايةِ دونَ غَيرِه [35] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 878). .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- في قَولِه تعالى: ن وغيرِها مِن حروفِ الهجاءِ الَّتي يَفتَتِحُ بها الرَّبُّ سُبحانَه بعضَ السُّوَرِ: تنبيهٌ على شَرَفِ هذه الحُروفِ، وعِظَمِ قَدْرِها وجلالتِها؛ إذْ هي مباني كلامِه وكُتُبِه الَّتي تَكَلَّمَ سُبحانَه بها، وأنزَلَها على رُسُلِه، وهَدَى بها عبادَه، وعَرَّفَهم بواسِطتِها نفْسَه، وأسماءَه وصِفاتِه، وأفعالَه، وأَمْرَه ونهيَه، ووعيدَه ووعْدَه، وعَرَّفَهم بها الخيرَ والشَّرَّ، والحَسَنَ والقَبيحَ، وأقْدَرَهم على التَّكلُّمِ بها بحيثُ يَبلُغونَ بها أقصى ما في أنفُسِهم بأسهَلِ طريقٍ، وقِلَّةِ كُلْفَةٍ ومَشَقَّةٍ، وأوصَلِه إلى المقصودِ، وأدَلِّه عليه، وهذا مِن أعظَمِ نِعَمِه عليهم، كما هو مِن أعظَمِ آياتِه؛ ولهذا عاب سُبحانَه على مَن عَبَدَ إلهًا لا يَتكلَّمُ، وامْتَنَّ على عبادِه بأنْ أقدَرَهم على البيانِ بها بالتَّكَلُّمِ، فكان في ذِكْرِ هذه الحُروفِ التَّنبيهُ على كَمالِ ربوبيَّتِه، وكمالِ إحسانِه وإنعامِه، وهي دالَّةٌ أظْهَرَ دَلالةٍ على وحدانيَّتِه وقُدرتِه، وحِكمتِه وكَمالِه، وكَلامِه وصِدْقِ رُسُلِه [36] يُنظر: ((التبيان في أقسام القرآن)) لابن القيم (ص: 203). .
2- قَولُ اللهِ تعالى: ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ مِن فوائدِ هذا القَسَمِ أنَّ هذا القُرآنَ كِتابُ الإسلامِ، وأنَّه سيكونُ مَكتوبًا مقروءًا بيْنَ المسلمينَ؛ ولهذا كان رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يأمُرُ أصحابَه بكتابةِ ما يُوحَى به إليه [37] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/60). .
3- قَولُ اللهِ تعالى: ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ أُوثِرَ القَسَمُ بالقَلَمِ والكتابةِ؛ للإيماءِ إلى أنَّ باعِثَ الطَّاعنينَ على الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، واللَّامِزينَ له بالمجنونِ: إنَّما هو ما أتاهم به مِن الكتابِ [38] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/61). !
4- حُروفُ الهِجاءِ الَّتي يَفتَتِحُ بها الرَّبُّ سُبحانه بعضَ السُّوَرِ، وهي أُحاديَّةٌ وثُنائيَّةٌ، وثُلاثيَّةٌ ورُباعيَّةٌ، وخُماسيَّةٌ، ولم تُجاوِزِ الخَمْسةَ، ولم تُذكَرُ قَطُّ في أوَّلِ سُورةٍ إلَّا وعقَّبَها بذِكرِ القرآنِ؛ إمَّا مُقسَمًا به، وإمَّا مُخبَرًا عنه، ما خَلا سُورتَينِ: سُورةَ (مريم) و(القلم) [39] يُنظر: ((التبيان في أقسام القرآن)) لابن القيم (ص: 203). ، أمَّا غيرُ ذلك فلا تُذكَرُ الحروفُ المقطَّعةُ إلَّا ذُكِرَ بعْدَها التَّنويهُ بشَأنِ القُرآنِ، والرَّفعُ مِن أمْرِه؛ قال في (البقرةِ): الم فأتْبَعَه بقولِه: ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ [البقرة: 1، 2]، وقال في (آل عِمران): الم * اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ فأتْبَعَه بقولِه: نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ الآيةَ [آل عمران: 1 - 3]، وقال في الأعرافِ: المص ثمَّ أتْبَعَه بقولِه: كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ [الأعراف: 1، 2]، وقال في سُورةِ (يُونَس): الر، ثمَّ أتْبَعَه بقولِه: تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ [يونس: 1]، وقال في سُورةِ (يُوسف): الر ثمَّ قال: تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ [يوسف: 1] ، وقال في (الرَّعد): المر ثمَّ قال: تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ الآيةَ [الرعد: 1] ، وقال في سُورةِ (إبراهيم): الر ثمَّ قال: كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ [إبراهيم: 1] ، وقال في سُورةِ (الحِجْر): الر ثمَّ قال: تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآَنٍ مُبِينٍ [الحجر: 1] ، وهكذا في سائرِ القُرآنِ، إلَّا في سُورةِ (مَريمَ) و(القَلَمِ)، حيث أُتبِعَ الحروفُ المقطَّعةُ في سُورةِ (مريم) في قولِه: كهيعص بقولِه: ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا [مريم: 1، 2]، وقال في (القَلَمِ): ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ، مع أنَّ هذه يَحتمِلُ أنَّ المرادَ بـ وَمَا يَسْطُرُونَ هو هذا القرآنُ العظيمُ؛ لأنَّه أعظَمُ ما يُسطَرُ، فيكونُ في (مَريم) فقطْ [40] يُنظر: ((العذب النمير)) للشنقيطي (3/7، 8). .
5- قال تعالى: وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ، فأقسَمَ بالقلمِ في كتابِه المنزَّلِ، على نبيِّه المرسَلِ، ووضَعه في المكانِ الرَّفيعِ، ونوَّه بذكرِه في المنصبِ الشَّريفِ، أقسَم بالقلمِ كما أقسَم بما يخطُّ بالقلمِ، وقد ذكَر الله عزَّ وجلَّ في كتابِه مِن فضيلةِ الخطِّ والإنعامِ بمنافعِ الكتابِ، ومِن ذلك قولُه لنبيِّه عليه السَّلامُ: اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ [العلق: 3 - 5] ولذلك قالوا: القلمُ أحدُ اللسانين. وقالوا: القلمُ أبقَى أثرًا، واللِّسانُ أكثرُ هذرًا [41] يُنظر: ((البيان والتبين)) للجاحظ (1/85)، ((الحيوان)) للجاحظ (1/37). . وذلك على قولٍ في التَّفسيرِ.
6- قَولُ اللهِ تعالى: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ فيه تنزيهُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مِن رذائِلِ المُشرِكينَ ونقائِصِهم، وبيانُ الفَرقِ والبَونِ الشَّاسِعِ بيْنَه وبيْنَهم؛ ففي الوَقتِ الَّذي وصَفَه بأنَّه على خُلُقٍ عَظيمٍ، وصَفَهم بعكسِ ذلك؛ مِن كَذِبٍ، ومُداهَنةٍ، وكَثرةِ حَلِفٍ ومَهانةٍ، وهَمزٍ، ومَشْيٍ بنَميمةٍ، ومَنعٍ للخَيرِ، وعَتْلٍ، وتجبُّرٍ، واعتداءٍ وظُلمٍ، وانقِطاعِ زَنيمٍ؛ عَشرُ خِصالٍ ذَميمةٌ [42] يُنظر: ((تتمة أضواء البيان)) لعطية سالم (8/253). !
7- في قَولِه تعالى: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ سُؤالٌ: أنَّه إذا كان النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم على خُلُقٍ عظيمٍ، فما الفائِدةُ مِن قَولِه في الحَديثِ الشَّريفِ: ((اهْدِني لأحسَنِ الأخلاقِ)) [43] أخرجه مسلم (771) مطوَّلًا من حديث عليِّ بنِ أبي طالبٍ رضيَ الله عنه. ؟
الجوابُ مِن وجهَينِ:
أوَّلًا: أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في هذا الحَديثِ دعا إلى ما هو أكمَلُ ممَّا أخْبَر اللهُ به عنه: «لأحسَنِ الأخلاقِ».
ثانيًا: أنَّ الدُّعاءَ قد يكونُ المرادُ به الثَّباتَ على أحسَنِ الأخلاقِ، وإنْ كان في الدَّاعي أصْلُ الخُلُقِ الحَسَنِ، لكنْ يَسأَلُ اللهَ أنْ يُثبِّتَه [44] يُنظر: ((فتح ذي الجلال والإكرام)) لابن عثيمين (2/38). .
8- في قَولِه تعالى: إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى إثباتُ صيغةِ «أفضَل» في عِلْمِ اللهِ تعالى، ومِن الخطأِ تفسيرُ بعضِهم لـ «أعلَم» في القرآنِ بـ «عالِم». والرَّدُّ عليهم مِن جهتَينِ:
الجهةُ الأُولى: أنَّ هذا إبطالٌ لِمَا دلَّ عليه القرآنُ، والقرآنُ نزَلَ باللُّغةِ العربيَّةِ، واللُّغةُ العربيَّةُ تُفَرِّقُ بيْن «أعلَم» و «عالِم».
الجهةُ الثَّانيةُ: أنَّك إذا جاءتك آيةٌ بمعنى «عالِم» فقد أثْبَتَّ العِلمَ للهِ ولغيرِه على حدٍّ سواءٍ؛ لأنَّ اللهَ عالِمٌ، ونحن أيضًا عالِمون؛ قال اللهُ تعالى: وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ [العنكبوت: 43] ، لكنْ إذا قلتَ: اللهُ أعلَمُ، فحينَئذٍ تَمَيَّزَ الخالِقُ مِن المخلوقِ، وأنَّه أعلَمُ -عزَّ وجلَّ- وهذا هو الأكمَلُ؛ قال اللهُ تعالى: وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى [النحل: 60] ؛ ولهذا نقولُ: اللهُ أعلَمُ وأقدَرُ وأبصَرُ وأقوى... إلى آخِرِه في الصِّفاتِ الَّتي يَشترِكُ في أصْلِها الخالِقُ والمخلوقُ، فله منها أكمَلُها وأعلاها. هذه قاعِدةٌ معروفةٌ عندَ الَّذين يَتكلَّمونَ في أسماءِ اللهِ وصِفاتِه [45] يُنظر: ((فتح ذي الجلال والإكرام)) لابن عثيمين (6/510). .

بلاغة الآيات:

1- قولُه تعالَى: ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ جاء في هذه السُّورةِ الإيماءُ بالحَرفِ الَّذي في أوَّلِها إلى تَحدِّي المُعانِدينَ بالتَّعجيزِ عن الإتيانِ بمِثلِ سُوَرِ القرآنِ، وهذا أوَّلُ التَّحدِّي الواقعِ في القُرآنِ نُزولًا؛ إذ ليس في سُورةِ (العلَقِ)، ولا في (المُزَّمِّلِ)، ولا في (المُدَّثِّرِ) إشارةٌ إلى التَّحدِّي ولا تَصريحٌ [46] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/58). .
- وقدْ أقسَمَ اللهُ تعالَى بالقلَمِ تَعظيمًا له؛ لِما في خلْقِه وتَسويتِه مِن الدَّلالةِ على الحِكمةِ العظيمةِ، ولِما فيه مِن المنافعِ والفوائدِ الَّتي لا يُحيطُ بها الوصْفُ [47] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/584)، ((تفسير البيضاوي)) (5/233)، ((تفسير أبي السعود)) (9/11)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (10/164). .
- قولُه: وَمَا يَسْطُرُونَ الضَّميرُ لأصحابِ القَلمِ المدلولِ عليهم بذِكرِه. وقيل: للقلَمِ على أنَّ المُرادَ به أصحابُه، كأنَّه قيلَ: وأصحابِ القلَمِ ومَسْطوراتِهم، على أنَّ (ما) مَوصولةٌ، أو وسَطْرِهم، على أنَّها مَصدريَّةٌ. وقيل: للقَلَمِ نفْسِه بإسنادِ الفعلِ إلى الآلةِ، وإجرائِه مُجْرَى العُقلاءِ؛ لإقامتِه مُقامَهم. وقيل: المُرادُ بالقلَمِ ما خَطَّ اللَّوحَ خاصَّةً، والجمْعُ للتَّعظيمِ [48] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/584)، ((تفسير البيضاوي)) (5/233)، ((تفسير أبي حيان)) (10/235)، ((تفسير أبي السعود)) (9/11)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/61). .
2- قولُه تعالَى: مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ أُجِيبَ قولُهم وتأْكيدُهم ذلك بحرْفِ (إنَّ) ولامِ الابتداءِ؛ إذ قالوا: إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ [القلم: 51] ؛ بمُؤكِّداتٍ أقْوى ممَّا في كَلامِهم؛ إذ أُقسِمَ عليه، وجِيءَ بعْدَ النَّفيِ بالباءِ الَّتي تُزادُ بعْدَ النَّفيِ لتَأكيدِه، وبالجُملةِ الاسميَّةِ مَنفيَّةً؛ لدَلالةِ الجُملةِ الاسميَّةِ على ثَباتِ الخبَرِ، أي: تَحقُّقِه، فهذه ثلاثةُ مُؤكِّداتٍ [49] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/62). .
- قولُه: بِنِعْمَةِ رَبِّكَ قيل: هو قسَمٌ اعتُرِضَ به بيْن المحكومِ عليه والحُكْمِ على سَبيلِ التَّوكيدِ والتَّشديدِ والمُبالَغةِ في انتفاءِ الوصْفِ الذَّميمِ عنه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم [50] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (10/235). .
- والتَّعرُّضُ لوصْفِ الرُّبوبيَّةِ المُنبئةِ عن التَّبليغِ إلى مَعارجِ الكَمالِ، مع الإضافةِ إلى ضَميرِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ لتَشريفِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، والإيذانِ بأنَّه تعالَى يُتِمُّ نِعمتَه عليه، ويُبلِّغُه مِن العُلوِّ إلى غايةٍ لا غايةَ وَراءَها [51] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (9/11). .
- والمُقسَمُ عليه نفْيُ أنْ يكونَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مَجنونًا، والخِطابُ له بهذا تَسليةٌ له؛ لئلَّا يَحزُنَه قولُ المشرِكين لَمَّا دَعاهم إلى الإسلامِ: هو مَجنونٌ، وذلك ما شافَهُوا به النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وحَكاهُ اللهُ عنهم في آخِرِ السُّورةِ: وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ [القلم: 51] ، وهكذا كلُّ ما ورَدَ فيه نفْيُ صِفةِ الجُنونِ عنه، فإنَّما هو ردٌّ على أقوالِ المشرِكين، كقولِه: وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ [التكوير: 22] ، والمقصودُ مِن نفْيِ الجُنونِ عنه إثباتُ ما قصَدَ المشرِكون نفْيَه؛ وهو أنْ يكونَ رسولًا مِن اللهِ؛ لأنَّهم لَمَّا نَفَوا عنه صِفةَ الرِّسالةِ وَضَعوا مَوضعَها صِفةَ الجنونِ، فإذا نُفِيَ ما زَعَموه فقدْ ثَبَتَ ما ادَّعاهُ [52] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/61، 62). .
3- قولُه تعالَى: وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ
- أكَّد ذلك بحرْفِ (إنَّ)، وبلامِ الابتِداءِ، وبتَقديم المجرورِ، وهو في قولِه: لَكَ [53] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/62). .
- قولُه: مَمْنُونٍ يَجوزُ أنْ يكونَ مُشتقًّا مِن: مَنِّ المُعطِي على المُعطَى: إذا عَدَّ عليه عَطاءَه وذكَرَه له، أو افتَخَرَ عليه به؛ فإنَّ ذلك يَسوءُ المُعطَى. ويَجوزُ أنْ يكونَ مَمْنُونٍ مُشتقًّا مِن قولِهم: مَنَّ الحبْلَ؛ إذا قَطَعَه، أي: أجْرًا غيرَ مَقطوعٍ عنك، وهو الثَّوابُ المُتزايدُ كلَّ يومٍ، أو أجْرًا أبدِيًّا في الآخرةِ، ولهذا كان لإيثارِ كَلمةِ مَمْنُونٍ هنا مِن الإيجازِ بجمْعِ مَعنيينِ، بخِلافِ قولِه: عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ في سُورةِ (هودٍ) [108]؛ لأنَّ ما هنا تَكرِمةٌ للرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم [54] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/63). .
- في قولِه: ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ إلى قولِه: غَيْرَ مَمْنُونٍ فَنُّ المُناسَبةِ اللَّفظيَّةِ، وهي عبارةٌ عن الإتيانِ بلَفظاتٍ مُتَّزِناتٍ مُقفَّاتٍ [55] يُنظر: ((نهاية الأرب في فنون الأدب)) للنويري (7/159)، ((خزانة الأدب)) لابن حجة الحموي (1/370)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (10/165). .
4- قولُه تعالَى: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ
- أكَّد ذلك بثَلاثةِ مُؤكِّداتٍ -القَسَم، و(إنَّ)، واللَّام- مِثلَ ما في الجُملةِ قبْلَه [56] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/63). .
- و(على) للاستعلاءِ المُرادِ به التَّمكُّنُ، فالرَّسولُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مُتمكِّنٌ منه الخُلقُ العظيمُ في نفْسِه، ومُتمكِّنٌ منه في دَعوتِه الدِّينيَّةِ [57] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/63، 64). .
5- قولُه تعالَى: فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ * بِأَيِّيكُمُ الْمَفْتُونُ
- قولُه: فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ الفاءُ للتَّفريعِ على قولِه: مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ [القلم: 2] باعتبارِ ما اقتَضاهُ قولُه: بِنِعْمَةِ رَبِّكَ [القلم: 2] مِن إبطالِ مَقالةٍ قِيلَت في شأْنِه قالَها أعداؤُه في الدِّينِ؛ ابتَدَأَ بإبطالِ بُهتانِهم، وفرَّعَ عليه أنَّهم إذا نَظَروا الدَّلائلَ، وتَوسَّموا الشَّمائلَ، عَلِموا أيُّ الفريقَينِ المَفْتونُ؛ أهمْ مَفْتونون بالانصِرافِ عن الحقِّ والرُّشدِ، أمْ هو باختلالِ العقْلِ كما اختَلَقوا! والمقصودُ هو ما في قولِه: وَيُبْصِرُونَ، ولكنْ أُدمِجَ فيه قولُه: فَسَتُبْصِرُ؛ ليَتأتَّى بذِكرِ الجانبَينِ إيقاعُ كَلامٍ مُنصِفٍ -أي: داعٍ إلى الإنصافِ- على طَريقةِ قولِه: وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ [سبأ: 24] ؛ لأنَّ القرآنَ يَبلُغُ مَسامِعَهم، ويُتْلَى عليهم [58] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/65). .
- إنْ كان البصَرُ هنا بمعْنى العِلمِ، فالسِّينُ في قولِه: فَسَتُبْصِرُ للتَّأكيدِ، وأمَّا المشرِكون فسَيَرَوْن ذلك، أي: يَعلَمون آثارَ فُتونِهم، وذلك فيما يَرَونَه يومَ بدْرٍ ويومَ الفتحِ، وإنْ كان بمعْنى البصَرِ الحسِّيِّ، فالسِّينُ والتَّاءُ في كِلا الفِعلينِ للاستِقبالِ [59] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/65). .
- وضَميرُ وَيُبْصِرُونَ عائدٌ إلى مَعلومٍ مُقدَّرٍ عندَ السَّامعِ، وهم المشرِكون القائلون: هو مَجْنونٌ [60] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/65). .
- قيل: تمَّ الكلامُ في قولِه: وَيُبْصِرُونَ، ثمَّ استأْنَفَ قوله: بِأَيِّيكُمُ الْمَفْتُونُ، فالاستفهامُ في قولِه: بِأَيِّيكُمُ الْمَفْتُونُ استفهامٌ يُرادُ به التَّردادُ بيْنَ أمْرَينِ، ومَعلومٌ نفْيُ الحكْمِ عن أحَدِهما، ويُعيِّنُه الوجودُ، وهو المؤمنُ، ليس بمَفتونٍ ولا به فُتونٌ [61] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (10/237). .
- والمفتونُ: اسمُ مَفعولٍ، وهو الَّذي أصابَتْه فِتنةٌ، فيَجوزُ أنْ يُرادَ بها هنا الجنونُ؛ فإنَّ الجُنونَ يُعَدُّ في كَلامِ العربِ مِن قَبيلِ الفِتنةِ؛ يَقولونَ للمَجنونِ: فتَنَتْه الجِنُّ، ويَجوزُ أنْ يُرادَ ما يَصدُقُ على المُضطربِ في أمْرِه المَفتونِ في عَقْلِه حَيرةً وتَقلقلًا، وإيثارُ هذا اللَّفظِ دونَ لَفظِ (المَجنونِ) مِن الكلامِ المُوجَّهِ (الصالح لاحتمال معنيين) أو التَّوريةِ؛ ليَصِحَّ فَرْضُه للجانبَينِ، فإنْ لم يكُنْ بَعضُ المشرِكينَ بمَنزلةِ المجانينِ الَّذين يَندفِعون إلى مُقاوَمةِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بدُونِ تَبصُّرٍ يَكُنْ في فِتنةِ واضطرابِ أقوالِه وأفعالِه، كأبي جَهلٍ والوليدِ بنِ المُغيرةِ وأضْرابِهما الَّذين أغْرَوُا العامَّةَ بالطَّعنِ في النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بأقوالٍ مُختلِفةٍ. والباءُ على هذا الوجْهِ مَزيدةٌ لتَأكيدِ تَعلُّقِ الفِعلِ بمَفعولِه، والأصلُ: أيُّكم المفتونُ. ويَجوزُ أنْ تكونَ الباءُ للظَّرفيَّةِ، والمعْنى: في أيِّ الفريقينِ منكم يُوجَدُ المَجنونُ، أي: مَن يَصدُقُ عليه هذا الوصفُ؟ فيَكونَ تَعريضًا بأبي جَهلِ بنِ هشامٍ والوليدِ بنِ المُغيرةِ وأضرابِهما مِن مُدَبِّري السُّوءِ على دَهْماءِ قُريشٍ بهذه الأقوالِ الشَّبيهةِ بأقوالِ المجانينِ؛ ذلك أنَّهم وَصَفوا رجُلًا مَعروفًا بيْن العقلاءِ، مَذكورًا برَجاحةِ العقلِ والأمانةِ في الجاهليَّةِ، فوَصَفُوه بأنَّه مَجنونٌ، فكانوا كمَن زعَمَ أنَّ النَّهارَ لَيلٌ، ومَن وصَفَ اليومَ الشَّديدَ البرْدِ بالحرارةِ، فهذا أشبهُ بالمجنونِ، ولذلك يُجعَلُ المَفتونُ في الآيةِ وصْفًا ادِّعائيًّا على طَريقةِ التَّشبيهِ البليغِ. ويجوزُ أنْ يكونَ الْمَفْتُونُ مَصدرًا على وزْنِ المفعولِ، مِثل المعقولِ بمعْنى العقلِ، والمَجلودِ بمعْنى الجَلْدِ، والميسورِ لليُسْرِ، والمعسورِ لضِدِّه، وفي المَثَلِ (خُذْ مِن مَيسورِه، ودَعْ مَعسورَه). والباءُ على هذا للمُلابَسةِ في مَحلِّ خبَرٍ مُقدَّمٍ على الْمَفْتُونُ، وهو مُبتدَأٌ. ويُضمَّنُ فِعلُ (تُبصِر ويُبصِرون) معْنى: تُوقِنُ ويُوقِنونَ، على طَريقِ الكِنايةِ بفِعلِ الإبصارِ عن التَّحقُّقِ؛ لأنَّ أقْوى طُرقِ الحِسِّ البصَرُ، ويكون الإتيانُ بالباءِ للإشارةِ إلى هذا التَّضمينِ، والمعْنى: فسَتعلَمُ يَقينًا ويَعلَمون يَقينًا بأيِّكم المفتونُ، فالباءُ على أصْلِها مِن التَّعديةِ مُتعلِّقةٌ بـ (تُبصِر ويُبصِرون) [62] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/585، 586)، ((تفسير البيضاوي)) (5/233)، ((تفسير أبي حيان)) (10/237)، ((تفسير أبي السعود)) (9/12)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/66، 67)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (10/165). .
6- قولُه تعالَى: إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ
- تَعليلٌ لجُملةِ فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ * بِأَيِّيكُمُ الْمَفْتُونُ [القلم: 5، 6]، باعتبارِ ما تَضمَّنَتْه مِن التَّعريضِ بأنَّ الجانبَ المفتونَ هو الجانبُ القائلُ له: إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ [الحجر: 6]، وأنَّ ضِدَّه بضِدِّه هو الرَّاجحُ العقلِ، أي: الَّذي أخْبَرَك بما كنَّى عنه قولُه: فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ [القلم: 5] مِن أنَّهم المجانينُ، هو الأعلَمُ بالفريقَينِ، وهو الَّذي أنْبَأَك بأنْ سيَتَّضِحُ الحقُّ لأبصارِهم، فتَعيَّنَ أنَّ المفتونَ هو الفريقُ الَّذين وَسَمُوا النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بأنَّه مَجنونٌ، المَردودُ عليهم بقولِه تعالَى: مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ [القلم: 2] ؛ إذ همُ الضَّالُّون عن سَبيلِ ربِّ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لا مَحالةَ، ويَنتظِمُ بالتَّدرُّجِ مِن أوَّلِ السُّورةِ إلى هنا أقْيِسةُ مُساواةٍ مُندرِجٌ بَعضُها في بَعضٍ، تَقْتضي مُساواةَ حَقيقةِ مَن ضلَّ عن سبيلِ ربِّ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بحَقيقةِ المَفتونِ، ومُساواةَ حَقيقةِ المَفتونِ بحَقيقةِ المَجنونِ، فتُنتِجُ أنَّ فَريقَ المشرِكين هم المتَّصِفون بالجُنونِ، بقاعدةِ قِياسِ المُساواةِ: أنَّ مُساويَ المُساوي لشَيءٍ مُساوٍ لذلك الشَّيءِ. وهذا الانتقالُ تَضمَّنَ وعْدًا ووَعيدًا؛ بإضافةِ السَّبيلِ إلى اللهِ، ومُقابَلةِ مَن ضلَّ عنه بالمُهتدِينَ [63] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/67، 68). .
- وقولُه: أَعْلَمُ قيل: هو كِنايةٌ عن جَزاءِ الفريقَينِ [64] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/586)، ((تفسير أبي حيان)) (10/237). .
- وإعادةُ هُوَ أَعْلَمُ لزِيادةِ التَّقريرِ [65] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (9/12). .
- وعُمومُ (مَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ) وعُمومُ (الْمُهْتَدِينَ) يَجعَلُ هذه الجُملةَ مع كَونِها كالدَّليلِ هي أيضًا مِن التَّذييلِ، وهو بعْدَ هذا كلِّه تَمهيدٌ وتَوطئةٌ لقولِه: فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ [66] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/68). [القلم: 8] .