موسوعة التفسير

سورةُ غافِرٍ
الآيات (66-68)

ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ

غريب الكلمات:

نُطْفَةٍ: النُّطفةُ: الماءُ الصَّافي، ويُعَبَّرُ بها عن ماءِ الرَّجُلِ والمرأةِ، وأصلُ (نطف): يدُلُّ على نَدوةٍ وبَلَلٍ [1010] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/440)، ((المفردات)) للراغب (ص: 811)، ((تفسير القرطبي)) (12/6)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 300). .
عَلَقَةٍ: العَلَقةُ: الدَّمُ الجامِدُ، وأصلُ (علق): يدُلُّ على تعلُّقِ شَيءٍ بشَيءٍ [1011] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/21)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (4/125)، ((تفسير القرطبي)) (12/6)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 300). .
لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ: بُلوغُ الأشُدِّ، أي: بُلوغُ مُنْتهَى الشَّبابِ والقُوَّةِ، أو: اشتِدادُ الجِسْمِ وقوَّتُه، والبُلوغُ والبَلاغُ: الانتِهاءُ إلى أقصَى المَقصدِ والمُنتهَى، والأشُدُّ قيل: جمْعٌ لا واحدَ له، وقيل: مُفردُه شَدٌّ، وأصلُ (بلغ): الوُصولُ إلى الشَّيءِ، وأصلُ (شدد): يدُلُّ على قوَّةٍ في الشَّيءِ [1012] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 215، 254، 277)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 64)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/301) و (3/179)، ((المفردات)) للراغب (ص: 144، 447)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 326)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 121). .

المعنى الإجمالي:

يقولُ تعالى آمرًا نبيَّه صلَّى الله عليه وسلَّم أنْ يُصرِّحَ للمشركينَ بأنَّه مَنْهيٌّ عن عبادةِ غيرِ الله: قُلْ -يا مُحمَّدُ- لِمُشرِكي قَومِك: إنِّي نُهِيتُ أن أعبُدَ ما تَدْعُونَه مِن دُونِ اللهِ لَمَّا جاءَتْني الآياتُ الواضِحاتُ مِن رَبِّي، وأُمِرتُ أن أستَسلِمَ بالطَّاعةِ لِرَبِّ العالَمينَ.
ثمَّ يُبيِّنُ الله تعالى بعضَ مَظاهرِ قُدرتِه، وأنَّه لا يَستحِقُّ العبادةَ أحدٌ سِواه، فيقولُ: اللهُ وَحْدَه الَّذي خلَقَ أباكم آدَمَ مِن تُرابٍ، ثمَّ خَلَقَكم مِن مَنِيٍّ، ثمَّ مِن قِطعةِ دَمٍ جامِدةٍ تَعلَقُ برَحِمِ المرأةِ، ثمَّ يُخرِجُكم اللهُ مِن بُطونِ أُمَّهاتِكم أطفالًا، ثمَّ لِتَبلُغوا تمامَ قُوَّتِكم، ثمَّ لِتَكونوا كِبارًا في السِّنِّ، ومِنكم مَن يموتُ قبْلَ ذلك، ولِتَبلُغوا أجَلًا مُحَدَّدًا تَموتونَ فيه، ولعَلَّكم تَعقِلونَ آياتِ اللهِ. وهو وَحْدَه الَّذي يُحيي ويُميتُ، فإذا قَضى سُبحانَه شَيئًا فإنَّما يقولُ له: كُنْ، فيَكونُ.

تفسير الآيات:

قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَمَّا جَاءَنِيَ الْبَيِّنَاتُ مِنْ رَبِّي وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (66).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا بَيَّنَ صِفاتِ الجَلالِ والعَظَمةِ؛ قال: قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ، فأورَدَ ذلك على المُشرِكينَ بأليَنِ قَولٍ؛ لِيَصرِفَهم عن عبادةِ الأوثانِ، وبَيَّنَ أنَّ وَجْهَ النَّهيِ في ذلك ما جاءه مِنَ البَيِّناتِ [1013] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (27/530). .
وأيضًا لَمَّا ذكَرَ الأمرَ بإخلاصِ العبادةِ لله وَحْدَه، وذكَرَ الأدِلَّةَ على ذلك والبَيِّناتِ؛ صرَّحَ بالنَّهيِ عن عِبادةِ ما سِواه [1014] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 742). .
قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَمَّا جَاءَنِيَ الْبَيِّنَاتُ مِنْ رَبِّي.
أي: قُلْ -يا مُحمَّدُ- لِمُشرِكي قَومِك: إنِّي نُهيتُ أن أعبُدَ الآلِهةَ الَّتي تَدْعُونَها مِن دُونِ اللهِ لَمَّا جاءَتْني الآياتُ الواضِحاتُ مِن عندِ رَبِّي دالَّةً على تَوحيدِه وصِفاتِ كَمالِه [1015] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/358)، ((تفسير القرطبي)) (15/329)، ((تفسير ابن كثير)) (7/156)، ((تفسير السعدي)) (ص: 742)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة غافر)) (ص: 455-458). .
وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ.
أي: وأُمِرْتُ أن أنقادَ وأستَسلِمَ وأذِلَّ وأخضَعَ بالطَّاعةِ لخالِقِ كُلِّ شَيءٍ ومالِكِه ومُدَبِّرِه [1016] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/358)، ((تفسير ابن عطية)) (4/568)، ((تفسير السعدي)) (ص: 742)، ((تفسير ابن عاشور)) (24/197). .
هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (67).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا أخبَر اللهُ تعالى أنَّ نبيَّه نُهِيَ عن عِبادةِ الأوثانِ، وأنَّه أُمِر بالاستِسلامِ لِلَّهِ تعالَى؛ بَيَّن أمْرَ الوحدانِيَّةِ والألوهِيَّةِ الَّتي أصنامُهم عاريةٌ عن شَيءٍ منهما، بالاعتِبارِ في تدريجِ ابنِ آدَمَ بأنْ ذَكَر مَبدأَه الأوَّلَ، وهو مِن تُرابٍ، ثُمَّ أشارَ إلى التَّناسُلِ بخَلْقِه مِن نطفةٍ [1017] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (9/270). .
هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ.
أي: اللهُ وَحْدَه الَّذي خَلَق أباكم آدَمَ -أيُّها النَّاسُ- مِن تُرابٍ، ثمَّ خَلَقَكم مِن مَنِيٍّ، ثمَّ مِن قِطعةِ دَمٍ جامِدةٍ تَعلَقُ برَحِمِ المرأةِ [1018] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/359)، ((تفسير السمعاني)) (5/30)، ((تفسير ابن كثير)) (7/157)، ((تفسير السعدي)) (ص: 742). قيل: المرادُ بذِكرِ ابتِداءِ الخَلقِ هنا الدَّلالةُ على توحيدِ اللهِ تعالى، وأنَّه لا يَستَحِقُّ العِبادةَ سِواه. وممَّن قال بهذا المعنى: ابنُ جرير، وابن كثير، والسعدي. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/359)، ((تفسير ابن كثير)) (7/157)، ((تفسير السعدي)) (ص: 742). وقيل: للدَّلالةِ على البَعثِ. وممَّن ذهب إلى هذا المعنى: مقاتلُ بنُ سُلَيمانَ. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (3/720). .
كما قالَ اللهَ تباركَ وتعالى: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آَخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ [المؤمنون: 12 - 14] .
وعن عبدِ اللهِ بنِ مَسعودٍ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: حَدَّثَنا رَسولُ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم وهو الصَّادِقُ المَصدوقُ، قال: ((إنَّ أحَدَكم يُجمَعُ خَلْقُه في بَطنِ أُمِّه أربَعينَ يَومًا، ثمَّ يَكونُ عَلَقةً مِثلَ ذلك، ثمَّ يَكونُ مُضْغةً مِثلَ ذلك، ثمَّ يَبعَثُ اللهُ مَلَكًا فيُؤمَرُ بأربَعِ كَلِماتٍ، ويُقالُ له: اكتُبْ عَمَلَه، ورِزْقَه، وأجَلَه، وشَقيٌّ أو سَعيدٌ، ثمَّ يُنفَخُ فيه الرُّوحُ )) [1019] رواه البخاري (3208) واللَّفظُ له، ومسلم (2643). .
ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا.
أي: ثُمَّ يُخرِجُكم اللهُ مِن بُطونِ أُمَّهاتِكم أطفالًا صِغارًا [1020] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/359)، ((تفسير ابن كثير)) (7/157)، ((تفسير الشوكاني)) (4/573). قال الشَّوكاني: (ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا أي: أطفالًا، وأفرَدَه لِكَونِه اسمَ جِنسٍ، أو على معنى: يُخرِجُ كُلَّ واحِدٍ مِنكم طِفلًا). ((تفسير الشوكاني)) (4/573). ويُنظر: ((تفسير القرطبي)) (15/330)، ((تفسير ابن عاشور)) (24/197)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة غافر)) (ص: 464). .
ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ.
أي: ثمَّ لِتَبلُغوا بالتَّدريجِ تَمامَ قُوَّتِكم وعُقولِكم [1021] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/359)، ((تفسير القرطبي)) (15/330)، ((تفسير ابن كثير)) (7/157)، ((تفسير السعدي)) (ص: 742). قيل: اللَّامُ في قَولِه تعالى: لِتَبْلُغُوا مُتعَلِّقةٌ بفِعلٍ مَحذوفٍ تَقديرُه: يُبقيكم، أي: يُبقيكم لِتَبلُغوا أشُدَّكم. وممَّن ذهب إلى هذا: الزمخشريُّ، والبيضاوي، والنسفي، والعُلَيمي. يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/177)، ((تفسير البيضاوي)) (5/63)، ((تفسير النسفي)) (3/220)، ((تفسير العليمي)) (6/133). قال البِقاعي: (ثمَّ يُدَرِّجُكم في مَدارجِ التَّربيةِ، صاعِدينَ بالقوَّةِ في أَوْجِ الكمالِ طَورًا بعد طَورٍ، وحالًا بعدَ حالٍ؛ لِتَبلُغوا أشُدَّكم). ((نظم الدرر)) (17/109). .
ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا.
أي: ثمَّ لِتَكونوا كِبارًا في السِّنِّ ضُعَفاءَ [1022] يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (3/720)، ((تفسير السمرقندي)) (3/213)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (17/110). واللَّامُ في قولِه: ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا مُتعلِّقةٌ بمحذوفٍ تقديرُه: ثمَّ يُبقيكم، أي: يُبقيكم لِتَكونوا شيوخًا. ويجوزُ عَطْفُه على لِتَبْلُغُوا. يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (5/63). قال ابنُ سِيْدَه: (الشَّيخُ: الَّذي استبانت فيه السِّنُّ، وظهَر عليه الشَّيبُ). ((المحكم)) (5/243). وذهب النَّحَّاسُ وتَبِعَه القُرطبيُّ إلى أنَّ الشَّيخَ مَن جاوز أربعينَ سَنةً. يُنظر: ((إعراب القرآن)) للنحاس (4/31)، ((تفسير القرطبي)) (15/330). وذهب السَّمينُ الحلبيُّ وابنُ عاشور إلى أنَّ الشَّيخَ مَن بلَغ سِنَّ الخمسينَ إلى الثَّمانينَ. يُنظر: ((عمدة الحفاظ)) للسمين (2/309)، ((تفسير ابن عاشور)) (24/198). .
كما قال تعالى: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ [الروم: 54] .
وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ.
أي: ومِنكم مَن يموتُ قَبْلَ ذلك [1023] يُنظر: ((تفسير ابن عطية)) (4/568)، ((تفسير القرطبي)) (15/330)، ((تفسير ابن كثير)) (7/157)، ((تفسير ابن عاشور)) (24/198). قيل: المرادُ بقَولِه تعالى: مِنْ قَبْلُ: مِن قَبلِ بُلوغِ الشَّيخوخةِ. وممَّن قال بذلك: مقاتلُ بنُ سُلَيمانَ، وابنُ جرير، والثعلبي، والسمعاني، والشوكاني، والقاسمي. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (3/720)، ((تفسير ابن جرير)) (20/359)، ((تفسير الثعلبي)) (8/281)، ((تفسير السمعاني)) (5/30)، ((تفسير الشوكاني)) (4/574)، ((تفسير القاسمي)) (8/319). وقيل: مِن قَبلِ بُلوغِ الأشُدِّ. ومِمَّن قال بهذا: السمرقنديُّ، وابن الجوزي، والسعدي. يُنظر: ((تفسير السمرقندي)) (3/213)، ((تفسير ابن الجوزي)) (3/224)، ((تفسير السعدي)) (ص: 742). وقيل: مِن قبْلِ الشَّيخوخةِ بعدَ بُلوغِ الأشُدِّ أو قبْلَه أيضًا. وممَّن اختاره: أبو السعود، والألوسي. يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (7/283)، ((تفسير الألوسي)) (12/336). ويُنظر أيضًا: ((نظم الدرر)) للبقاعي (17/108). وقيل: مِن قَبلِ هذه الأحوالِ؛ فمِنَ النَّاسِ مَن يَموتُ قبْلَ أن يُخرَجَ طِفلًا، وآخَرونَ قبْلَ الأشُدِّ، وآخَرونَ قبْلَ الشَّيخوخةِ. وممَّن قال بهذا المعنى: ابنُ عطية، وابن كثير، وابن عاشور. يُنظر: ((تفسير ابن عطية)) (4/568)، ((تفسير ابن كثير)) (7/157)، ((تفسير ابن عاشور)) (24/198). قال ابنُ عطيَّة: (قوله تعالى: وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ عبارةٌ تتردَّدُ في الأدراجِ المذكورةِ كلِّها؛ فمِنَ النَّاسِ مَن يموتُ قبْلَ أن يخرجَ طفلًا، وآخَرونَ قبلَ الأشدِّ، وآخَرونَ قبْلَ الشَّيخوخةِ). ((تفسير ابن عطية)) (4/568). .
كما قال تعالى: وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى [الحج: 5] .
وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُسَمًّى.
أي: ولِتَبلُغوا زَمَنًا مُحَدَّدًا تَموتونَ فيه، لا تتَجاوَزونَه، ولا تَتقَدَّمونَ عليه [1024] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/359)، ((تفسير القرطبي)) (15/330)، ((تفسير السعدي)) (ص: 742)، ((تفسير ابن عاشور)) (24/198). قال السَّعدي: (وَلِتَبْلُغُوا بهذه الأطوارِ المقَدَّرةِ أَجَلًا مُسَمًّى تَنتهي عندَه أعمارُكم). ((تفسير السعدي)) (ص: 742). وقال ابن عاشور: (قَولُه: وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُسَمًّى عَطفٌ على لِتَكُونُوا شُيُوخًا، أي: للشَّيخوخةِ غايةٌ -وهي الأجَلُ المُسمَّى، أي: الموتُ- فلا طَورَ بعدَ الشَّيخوخةِ). ((تفسير ابن عاشور)) (24/198). .
وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ.
أي: ولِتَعقِلوا حُجَجَ اللهِ وآياتِه، فتُوَحِّدوه وتَعلَموا كَمالَ قُدرتِه وحِكمتِه، وغيرَ ذلك مِن صِفاتِ كَمالِه [1025] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/359)، ((الوسيط)) للواحدي (4/20)، ((تفسير ابن كثير)) (7/157)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (17/110، 111)، ((تفسير السعدي)) (ص: 742)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة غافر)) (ص: 465). قال البقاعي: (وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ أي: فتَعلَموا بالمُفاوَتةِ بيْنَ النَّاسِ فيها ببَراهينِ المُشاهَدةِ بالتَّقليبِ في أطوارِ الخِلقةِ وأدوارِ الأسنانِ، وإرجاعِ أواخِرِ الأحكامِ على أوائِلِها: أنَّ فاعِلَ ذلك قادِرٌ مُختارٌ، حَكيمٌ قَهَّارٌ، لا يُشبِهُ شَيئًا، ولا يُشبِهُه شَيءٌ!). ((نظم الدرر)) (17/110، 111). وقال السعدي: (وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ أحوالَكم، فتَعلمونَ أنَّ المُطَوِّرَ لكم في هذه الأطوارِ كاملُ الاقتِدارِ، وأنَّه الَّذي لا تنبغي العبادةُ إلَّا له، وأنَّكم ناقِصونَ مِن كلِّ وجهٍ). ((تفسير السعدي)) (ص: 742). .
هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (68).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا ذَكَر اللهُ تعالى انتِقالَ الإنسانِ مِن كَونِه تُرابًا إلى كَونِه نُطفةً، ثمَّ إلى كَونِه عَلَقةً، ثمَّ إلى كَونِه طِفلًا، ثمَّ إلى بُلوغِ الأَشُدِّ، ثمَّ إلى الشَّيخوخةِ، واستَدَلَّ بهذه التَّغَيُّراتِ على وُجودِ الإلهِ القادِرِ؛ قال بعدَه: هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ، يعني: كما أنَّ الانتِقالَ مِن صِفةٍ إلى صِفةٍ أُخرى مِن الصِّفاتِ الَّتي تقَدَّمَ ذِكرُها يدُلُّ على الإلهِ القادِرِ، فكذلك الانتِقالُ مِن الحياةِ إلى المَوتِ وبالعَكسِ يدُلُّ على الإلهِ القادِرِ [1026] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (27/531). .
وأيضًا لَمَّا ذكَرَ اللهُ تعالى رُتَبَ الإيجادِ، ذكَرَ أنَّه المتَّصِفُ بالإحياءِ والإماتةِ، وأنَّه متى تعَلَّقَت إرادتُه بإيجادِ شَيءٍ، أوْجَدَه مِن غيرِ تأخُّرٍ [1027] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (9/271). .
هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ.
أي: اللهُ هو المُنفَرِدُ بالإحياءِ والإماتةِ؛ فلا يَقدِرُ على ذلك أحَدٌ سِواه [1028] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/360)، ((تفسير القرطبي)) (15/331)، ((تفسير ابن كثير)) (7/157)، ((تفسير السعدي)) (ص: 742). .
كما قال تعالى: هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [يونس: 56] .
فَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ.
أي: فإذا أراد اللهُ شَيئًا فإنَّما يقولُ له مَرَّةً واحِدةً: كُنْ، فيَكونُ ما أرادَه [1029] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/360)، ((التوحيد)) لابن خزيمة (1/391)، ((تفسير ابن جزي)) (1/95)، ((تفسير ابن كثير)) (7/157)، ((تفسير القنوجي)) (1/264)، ((تفسير السعدي)) (ص: 742). .
كما قال تعالى: إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [النحل: 40] .
وقال سُبحانَه: إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [يس: 82] .

الفوائد التربوية:

قَولُ الله تعالى: وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ أي: بقَلبي ولِساني وجوارِحي، بحيثُ تكونُ مُنقادةً لِطاعتِه، مُستَسلِمةً لأمْرِه، وهذا أعظَمُ مَأمورٍ به على الإطلاقِ، كما أنَّ النَّهيَ عن عبادةِ ما سِواه أعظَمُ مَنهيٍّ عنه على الإطلاقِ [1030] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 742). .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- قَولُه تعالى: قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَمَّا جَاءَنِيَ الْبَيِّنَاتُ مِنْ رَبِّي وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ فيه إشارةٌ إلى أنَّه لا بُدَّ للقلبِ مِن حركةٍ؛ فإمَّا إلى باطلٍ، وإمَّا إلى حقٍّ؛ فقولُه: نُهِيتُ تفريغٌ، وهذا الفراغُ لا بُدَّ أنْ يكونَ له ما يَمْلَؤُه، فالباطلُ لا بُدَّ أن يَخْلُفَه حقٌّ؛ لذا قال تعالى بعدَها: وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ [1031] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة غافر)) (ص: 461). .
2- الإشارةُ إلى القاعدةِ المشهورةِ؛ وهي أنَّ التَّخليةَ قبْلَ التَّحليةِ، التَّحليةُ يعني: التَّزيينَ، فقولُه: نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ هذه تخليةٌ، وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ هذه تحليةٌ، وهكذا كلمةُ الإخلاصِ «لا إلهَ» نفْيٌ «إلَّا اللهُ» إثباتٌ، الأوَّلُ تخليةٌ، والثَّاني تحليةٌ [1032] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة غافر)) (ص: 460). .
3- في قَولِه تعالى: وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُسَمًّى حُجَّةٌ على المُعتَزِلةِ والقَدَريَّةِ فيما يَزعُمون أنَّ المقتولَ مَيِّتٌ بغيرِ أجَلِه، ومَقطوعٌ عليه حَياتُه [1033] يُنظر: ((النكت الدالة على البيان)) للقصاب (4/61). !
4- في قَولِه تعالى: هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ بيانُ كمالِ قُدرةِ اللهِ عزَّ وجلَّ، ولهذا قال إبراهيمُ عليه السَّلامُ للَّذي حاجَّه في ربِّه: رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ [البقرة: 258] ، فلا يُمكِنُ أنْ يُحييَ أحدٌ مَيِّتًا، ولا أنْ يُمِيتَ حيًّا، فإنْ قيلَ: أليس عيسى ابنُ مريمَ عليه السَّلامُ كان يُحيي الموتَى؟! قُلْنا: بلى، ولكنْ بإذنِ اللهِ؛ بنَفْسِ الآيةِ: وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ [آل عمران: 49] ، فإنْ قيلَ: أليسَ الرَّجُلُ يَقتُلُ الآخَرَ -وهو حيٌّ- فيَموتُ؟! قُلْنا: بلى، ولكنْ ما فَعَلَه هو سببُ الموتِ وليس هو الإماتةَ! وكثيرًا ما تُقْطَعُ أوداجُ الإنسانِ؛ ويُشَقُّ بطْنُه؛ ثمَّ يَبقَى حيًّا ويَحيا، فالحاصلُ أنَّ الإحياءَ والإماتةَ بيدِ اللهِ عزَّ وجلَّ [1034] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة غافر)) (ص: 470). .
5- قولُ البعضِ: «سُبحانَ مَن أَمْرُه بيْنَ الكافِ والنُّونِ» قولٌ غيرُ صحيحٍ؛ لأنَّه سُبحانَه أَمْرُه بعدَ الكافِ والنُّونِ كُنْ، فإنَّ الأمْرَ هنا بمعنى المأمورِ، أما إنْ كان الأمرُ الَّذي هو فِعْلُه -يعني: أَمْرَه- فهو قبْلَ الكافِ والنُّونِ [1035] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة غافر)) (ص: 473). .
6- في قَولِه تعالى: فَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ أنَّ قولَ اللهِ بحروفٍ؛ لقولِه تعالى: كُنْ؛ وهي كلمةٌ بحرفَينِ، ويكونُ قولُه بصوتٍ مَسموعٍ [1036] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- الفاتحة والبقرة)) (2/21). .
7- في قَولِه تعالى: فَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ أنَّه ليس بيْنَ أمْرِ اللهِ بالتَّكوينِ وتكَوُّنِه تَراخٍ؛ بل يكونُ على الفَوريَّةِ؛ وذلك لقولِه تعالى: فَيَكُونُ [1037] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- الفاتحة والبقرة)) (2/22). ، فالفاءُ للتَّعقيبِ تدُلُّ على أنَّه يكونُ عَقِبَ قولِه: (كُنْ) سواء لا يَتأخَّرُ عنه [1038] يُنظر: ((الصواعق المرسلة)) لابن القيم (4/1226). .
8- احتجَّ كثيرٌ مِن السَّلَفِ على أنَّ القُرآنَ غيرُ مَخلوقٍ بقَولِه تعالى: إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ، فلو كان كُنْ مَخلوقةً لَزِمَ ألَّا يُوجَدَ شَيءٌ مِن المَخلوقاتِ؛ لأنَّ كُنْ تكونُ مَخلوقةً بـ كُنْ أُخرى، وهَلُمَّ جَرًّا، فلا يُوجَدُ شَيءٌ [1039] يُنظر: ((الصفدية)) لابن تيمية (2/68). !

بلاغة الآيات:

1- قولُه تعالَى: قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَمَّا جَاءَنِيَ الْبَيِّنَاتُ مِنْ رَبِّي وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ
- جُملةُ قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ... مُعترِضةٌ بيْنَ أدلَّةِ الوَحدانيَّةِ بدَلالةِ الآياتِ الكَونيَّةِ والنَّفْسيَّةِ؛ لِيَجْرُوا على مُقْتَضاها في أنفُسِهم بأنْ يَعبُدوا اللهَ وحْدَه، فانتُقِلَ إلى تَقريرِ دَليلِ الوَحدانيَّةِ بخبَرِ الوحْيِ الإلهيِّ بإبطالِ عِبادةِ غَيرِ اللهِ على لِسانِ رَسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ لِيَعمَلَ بذلك في نفْسِه، ويُبلِّغَ ذلك إليهم، فيَعلَموا أنَّه حُكْمُ اللهِ فيهم، وأنَّهم لا عُذْرَ لهمْ في الغَفْلةِ عنها، أو عَدَمِ إتقانِ النَّظرِ فيها، أو قُصورِ الاستِنتاجِ منها بعْدَ أنْ جاءَهُم رسولٌ مِن اللهِ يُبيِّنُ لهم أنواعًا بمُختلَفِ البَيانِ مِن أدلَّةٍ بُرهانيَّةٍ وتَقريبيَّةٍ إقناعيَّةٍ؛ فكان قولُه: قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَمَّا جَاءَنِيَ الْبَيِّنَاتُ مِنْ رَبِّي إبطالًا لِعِبادةِ غَيرِ اللهِ بالقولِ الدَّالِّ على التَّحذيرِ والتَّخويفِ بعْدَ أنْ أُبطِلَ ذلك بدَلالةِ الحُجَّةِ على المقصودِ، وهذه دَلالةٌ كِنائيَّةٌ؛ لأنَّ النَّهيَ يَستلزِمُ التَّحذيرَ [1040] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/195). .
- ومعنى الدُّعاءِ في قولِه: الَّذِينَ تَدْعُونَ يجوزُ أنْ يكونَ على ظاهرِ الدُّعاءِ، وهو القولُ الَّذي تُسألُ به حاجةٌ، ويجوزُ أنْ يكونَ بمعنى تَعبُدون؛ فيَكونَ العُدولُ عن أنْ يَقولَ: (أنْ أعبُدَ الَّذين تَعبُدون) تَفنُّنًا [1041] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/196). .
- قولُه: قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَمَّا جَاءَنِيَ الْبَيِّنَاتُ مِنْ رَبِّي ذِكرُ مَجيءِ البَيِّناتِ في أثناءِ هذا الخبَرِ إشارةٌ إلى طُرقٍ أُخرى مِن الأدِلَّةِ على تَفرُّدِ اللهِ بالإلهيَّةِ تَكرَّرتْ قبْلَ نُزولِ هذه الآيةِ. وكان تَقديمُ المسنَدِ إليه -وهو ضَميرُ إِنِّي- على الخبَرِ الفِعليِّ؛ لِتَقويةِ الحُكْمِ، نحوُ: هو يُعْطي الجزيلَ [1042] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/195، 196). .
- والمقصودُ مِن إسنادِ المنْهيَّةِ إلى الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: التَّعريضُ بنَهْيِ المشركينَ؛ فإنَّ الأمْرَ بأنْ يقولَ ذلك لا قصْدَ منه إلَّا التَّبليغُ لهم، وإلَّا فلا فائدةَ لهم في الإخبارِ بأنَّ الرَّسولَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ مَنْهيٌّ عن أنْ يَعبُدَ الَّذين يَدْعُون مِن دونِ اللهِ، يعني: فإذا كنتُ أنا مَنهيًّا عن ذلك، فتَأمَّلوا في شأْنِكم، واستَعْمِلوا أنْظارَكم فيه؛ لِيَسوقَهم إلى النَّظرِ في الأدِلَّةِ سَوقًا ليِّنًا خَفيًّا؛ لاتِّباعِه فيما نَهى عنه [1043] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/177)، ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (13/541)، ((تفسير ابن عاشور)) (24/196). .
- وبُنِيَ الفِعلُ نُهِيتُ للنَّائبِ؛ لِظُهورِ أنَّ النَّاهيَ هو اللهُ تعالى، بقَرينةِ مَقامِ التَّبليغِ والرِّسالةِ [1044] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/196). .
- وفي قولِه: لَمَّا جَاءَنِيَ الْبَيِّنَاتُ مِنْ رَبِّي جُعِلَ المجرورُ بحرْفِ (مِن) وَصْفَ (رب) مُضافًا إلى ضَميرِ المتكلِّمِ دونَ أنْ يُجعَلَ مَجرورُها ضَميرًا يَعودُ على اسمِ الجلالةِ إظهارًا في مَقامِ الإضمارِ على خِلافِ مُقْتضى الظَّاهرِ؛ لِتَرْبيةِ المهابةِ في نُفوسِ المُعرَّضِ بهم؛ لِيَعلَموا أنَّ هذا النَّهيَ ومَجِيءَ البَيِّناتِ هو مِن جانبِ سيِّدِه وسَيِّدِهم، فما يَسَعُهم إلَّا أنْ يُطِيعوه؛ ولذلك عزَّزَه بإضافةِ الرَّبِّ إلى الجميعِ في قولِه: وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ، أي: ربِّكم وربِّ غَيرِكم، فلا مُنصرَفَ لكمْ عن طاعتِه [1045] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/196، 197). .
- وقال هنا: أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ، ولم يقُلْ: أنْ أُسلِمَ للهِ؛ لِيَكونَ ذلك دليلًا على وَجهِ الإسلامِ، كأنَّه قِيل: لماذا أسلمْتَ؟ فقال: لأنَّ اللهَ ربُّ العالَمينَ، وربُّ العالَمينَ أحَقُّ أن يُسلَمَ له، وأنْ يُتعبَّدَ له عزَّ وجلَّ؛ فهو كالدَّليلِ للحُكْمِ السَّابقِ الَّذي هو الإسلامُ [1046] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة غافر)) (ص: 459). .
2- قولُه تعالَى: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ
- قولُه: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ... استِئنافٌ مَسوقٌ لِبَيانِ كيفيَّةِ تَكوُّنِ البدَنِ، وهو استِئنافٌ رابعٌ بعْدَ استئنافِ جُملةِ هُوَ الْحَيُّ [غافر: 65] وما تَفرَّعَ عليها، وكلُّها ناشئٌ بعضُه عنْ بَعضٍ، وهذا الامتِنانُ بنِعمةِ الإيجادِ، وهو نِعمةٌ؛ لأنَّ الموجودَ شَرَفٌ، والمعدومُ لا عِنايةَ به، وأُدمِجَ فيه الاستِدلالُ على الإبداعِ [1047] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/197)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (8/514). .
وقيل: قولُه: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ مِن تَتمَّةِ قولِه: وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ [غافر: 64] ؛ ولذلك اكتُفِيَ بالضَّميرِ دونَ الاسمِ الجامعِ، ولم يُؤتَ باسمِ الإشارةِ أو بما يَقومُ مَقامَه مِن الضَّميرِ؛ لانْبِناءِ التَّوحيدِ عليه، لكنْ فيه اعتناءٌ بدَليلِ الأنفُسِ؛ لِذِكْرِه أوَّلًا مُجمَلًا، ثمَّ مُفصَّلًا ثانيًا [1048] يُنظر: ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (13/539). .
- واللَّاماتُ في قولِه: ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وما عُطِفَ عليه بـ (ثمَّ) مُتعلِّقاتٌ بمَحذوفٍ تَقديرُه: ثم يُبْقِيكم، أو ثمَّ يُنشِئُكم لِتَبْلُغوا أشُدَّكم، وهي لاماتُ التَّعليلِ مُستعمَلةٌ في مَعنى (إلى)؛ لأنَّ الغايةَ المقدَّرةَ مِن اللهِ تُشبِهُ العلَّةَ فيما يُفْضي إليها [1049] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/197، 198). .
- قولُه: وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ عطْفٌ على وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُسَمًّى، أي: إنَّ مِن جُملةِ ما أرادهُ اللهُ مِن خلْقِ الإنسانِ على الحالةِ المبيَّنةِ أنْ تكونَ في تلك الخِلْقةِ دَلالةٌ لآحادِه على وُجودِ هذا الخالقِ البديعِ، وعلى انفرادِه بالإلهيَّةِ، وعلى أنَّ ما عداهُ لا يَستحِقُّ وصْفَ الإلهيَّةِ، فمَن عقَلَ ذلك مِن النَّاسِ فقدِ اهْتَدى إلى ما أُرِيدَ منه، ومَن لم يَعقِلْ ذلك فهو بمَنزلةِ عَديمِ العقْلِ، ولأجْلِ هذه النُّكتةِ لم يُؤتَ لِفِعلِ تَعْقِلُونَ بمَفعولٍ، ولا بمَجرورٍ؛ لأنَّه نُزِّلَ مَنزِلةَ اللَّازمِ، أي: رَجاءَ أنْ يكونَ لكم عُقولٌ؛ فهو مُرادٌ للهِ مِن ذلك الخلْقِ، فمِن حِكمتِه أنْ جعَلَ ذلك الخلْقَ العجيبَ عِلَّةً لأُمورٍ كثيرةٍ [1050] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/198، 199). .
3- قولُه تعالَى: هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ استِئنافٌ خامِسٌ، ومُناسَبةُ مَوقعِه مِن قولِه: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ إلى قولِه: ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا إلى وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ [غافر: 67] ؛ فإنَّ مِن أوَّلِ ما يُرْجَى أنْ يَعقِلوه هو ذلك التَّصرُّفُ البديعُ بخلْقِ الحياةِ في الإنسانِ عندَ تَكوينِه بعْدَ أنْ كان جُثَّةً لا حَياةَ فيها، وخلْقِ الموتِ فيه عِندَ انتِهاءِ أجَلِه بعْدَ أنْ كان حيًّا مُتصرِّفًا بقُوَّتِه وتَدبيرِه [1051] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/199). .
- قولُه: هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ المقصودُ منه الامتِنانُ بالحياةِ تَبَعًا لقولِه قبْلَ هذا: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ. وفُرِّعَ على هذا الخبرِ إخبارٌ بأنَّه إذا أراد أمْرًا مِن أُمورِ التَّكوينِ مِن إحياءٍ، أو إماتةٍ، أو غيرِهما؛ فإنَّه يَقدِرُ على فِعلِه دونَ تَردُّدٍ ولا مُعالَجةٍ، فالفاءُ مِن قولِه: فَإِذَا قَضَى فاءُ تَفريعِ الإخبارِ بما بعْدَها على الإخبارِ بما قبْلَها [1052] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (5/63)، ((تفسير ابن عاشور)) (24/199). .