موسوعة التفسير

سورة الشُّورى
الآيات (7-9)

ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ

غريب الكلمات:

أُمَّ الْقُرَى: أي: مكَّةَ، وسُمِّيَت مَكَّةُ أُمَّ القُرى؛ لأنَّها أقدَمُ القُرى وأشهَرُها، وما تقَرَّت القُرى في بلادِ العَرَبِ إلَّا بَعدَها، وأصلُ (أمم): يدُلُّ على الأصلِ والمَرجِعِ، وأصلُ (قري): يدُلُّ على جَمعٍ واجتِماعٍ [79] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 156)، ((تفسير ابن جرير)) (9/403)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 95)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/21) و (5/78)، ((المفردات)) للراغب (ص: 85)، ((تفسير ابن عاشور)) (7/372). .
لَا رَيْبَ فِيهِ: أي: لا شكَّ فيه، والرَّيبُ: الشَّكُّ، أو هو الشَّكُّ معَ الخَوفِ، ومعَ تُهمةِ المشكوكِ فيه، وتوهُّمُ أمْرٍ ما بالشَّيءِ، وهو مصدرُ (رابَني الشَّيءُ): إذا حصَل فيه الرِّيبةُ، وحقيقةُ الرِّيبةِ: قلَقُ النَّفْسِ واضطِرابُها [80] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/463)، ((المفردات)) للراغب (ص: 368)، ((تفسير الزمخشري)) (1/34)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 47). .
السَّعِيرِ: هو اسْمٌ مِن أسماءِ جهنَّمَ، والسَّعْرُ: التِهابُ النَّارِ، يُقالُ: سعَّرتُ النَّارَ، إذا ألهَبْتَها، وأصلُ (سعر): اشتِعالُ الشَّيءِ واتِّقادُه وارتِفاعُه [81] يُنظر: ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 259)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3 /75)، ((المفردات)) للراغب (ص: 411)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 136)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 521). .
وَلِيٍّ: كلُّ مَن وَلِيَ أمْرَ آخَرَ فهو وَلِيُّه، وأصلُ (ولي): يدُلُّ على قُربٍ [82] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/591)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (6/141)، ((المفردات)) للراغب (ص: 885)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 89)، ((تفسير العليمي)) (5/320). .

المعنى الإجمالي:

يقولُ تعالى مُبينًا الحكمةَ مِن إنزالِ هذا القرآنِ على رسولِه صلَّى الله عليه وسلَّم: ومِثْلَ ذلك الإيحاءِ أوحَيْنا إليك -يا مُحمَّدُ- قُرآنًا عَربيًّا لِيَعقِلَ النَّاسُ ما فيه؛ لِتُنذِرَ به أهلَ مَكَّةَ ومَن حَوْلَها في جَميعِ الأرضِ عذابًا شَديدًا إنْ لم يُؤمِنوا، وتُنذِرَ النَّاسَ يومَ القيامةِ الآتيَ لا مَحالةَ؛ فمِنهم فَريقٌ في الجنَّةِ، ومِنهم فَريقٌ في النَّارِ.
ثمَّ يُبيِّنُ سبحانَه كمالَ قدرتِه، فيقولُ: ولو شاء اللهُ تعالى لجَمَع النَّاسَ كُلَّهم على دينٍ واحِدٍ، ولكِنَّ اللهَ يُدخِلُ مَن يَشاءُ مِن عِبادِه في رَحمتِه، والظَّالِمونَ ليس لهم وَليٌّ يَتولَّاهم، ولا نَصيرٌ يَنصُرُهم.
 ثمَّ يقولُ تعالى منكِرًا على كلِّ مَن تَولَّى غيرَه: أمِ اتَّخَذ أولئك الظَّالِمونَ أَولياءَ يَتولَّونَهم بطاعتِهم مِن دُونِ الله تعالى؟! فاللهُ هو الوَليُّ، يَتولَّى شؤونَ جميعِ عِبادِه، وهو يُحيي الموتَى بقُدرتِه سُبحانَه، وهو على كُلِّ شَيءٍ قَديرٌ.

تفسير الآيات:

وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ (7).
وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا.
أي: ومِثْلَ ذلك الإيحاءِ [83] يُنظر: ((تفسير الجلالين)) (ص: 639)، ((تفسير العليمي)) (6/173)، ((تفسير الشوكاني)) (4/603)، ((تفسير ابن عاشور)) (25/35)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الشورى)) (ص: 54). ممَّن اختار المعنى المذكورَ: جلالُ الدِّين المحلِّي، والعُلَيمي، والشوكاني، وابن عاشور، وابن عثيمين. يُنظر المصادر السابقة. قال ابن عاشور: (والقولُ في وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا كالقولِ في كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ). ((تفسير ابن عاشور)) (25/35). وقيل: المعنى: ومِثلَ ذلك أوْحَيْنا إليكَ، و«ذلك» إشارةٌ إلى معنى الآيةِ قبْلَها: مِن أنَّ اللهَ تعالى هو الرَّقيبُ عليهم، وما أنت برقيبٍ عليهم، ولكنْ نذيرٌ لهم؛ لأنَّ هذا المعنى كرَّره اللهُ تعالى في كتابه في مواضعَ جمَّةٍ. ومِمَّن ذهب إلى هذا المعنى في الجملةِ: الزمخشريُّ، والرازي، وأبو حيَّان. يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/210)، ((تفسير الرازي)) (27/580)، ((تفسير أبي حيان)) (9/324). قال الرازي: (اعلَمْ أنَّ كلمةَ «ذلك» للإشارةِ إلى شَيءٍ سبَق ذِكرُه، فقولُه: وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا يَقتضي تشبيهَ وحْيِ اللهِ بالقرآنِ بشَيءٍ هاهنا قد سبَق ذِكرُه، وليس هاهنا شَيءٌ سبَق ذِكرُه يُمكِنُ تشبيهُ وحْيِ القرآنِ به إلَّا قولَه وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَولِيَاءَ اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ [الشورى: 6] ). ((تفسير الرازي)) (27/580). قال القرطبي: (قَولُه تعالى: وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا أي: وكما أوحَيْنا إليك وإلى مَن قَبْلَك هذه المعانيَ فكذلك أوحَيْنا إليك قُرآنًا عَربيًّا بَيَّنَّاه بلُغةِ العَرَبِ. وقيل: أي: أنزَلْنا عليك قرآنًا عربيًّا بلِسانِ قَومِك كما أرسَلْنا كُلَّ رسولٍ بلِسانِ قَومِه. والمعنى واحِدٌ). ((تفسير القرطبي)) (16/6). أوحَيْنا إليك -يا مُحمَّدُ- قُرآنًا بلِسانٍ عَرَبيٍّ؛ ليَفْهَموا ما فيه، فالَّذين أرسلْتُكَ إليهم قومٌ عَرَبٌ [84] يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (3/764)، ((تفسير ابن جرير)) (20/469)، ((تفسير السعدي)) (ص: 753). وذكَر ابنُ عثيمين أنَّ قُرْآَنًا مَصدَرٌ يجوزُ أن يكونَ بمعنى اسمِ الفاعِلِ، ويجوزُ أن يكونَ بمعنى اسمِ المفعولِ؛ فأمَّا الأوَّلُ فيكونُ بمعنى قارئٍ، أي: جامِعٍ لجميعِ الكَمالاتِ، وجامِعٍ لعُلومِ الأوَّلينَ والآخِرينَ، ولكُلِّ عِلمٍ نافِعٍ وعَمَلٍ صالحٍ، وأمَّا الثَّاني فلأنَّه مَقروءٌ ومَتْلوٌّ، ولا مُنافاةَ بيْنَ المعنَيَينِ؛ فيُحمَلُ عليهما جميعًا. يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الشورى)) (ص: 54- 56). .
لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا.
أي: أوحَيْنا إليك قُرآنًا عَربيًّا؛ لِتُنذِرَ به أهلَ مَكَّةَ ومَن حَوْلَها مِن سائِرِ النَّاسِ في جَميعِ الأرضِ عذابًا شَديدًا إنْ لم يُؤمِنوا [85] يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (3/764)، ((تفسير ابن جرير)) (20/469)، ((الوسيط)) للواحدي (4/43)، ((تفسير البغوي)) (4/138)، ((تفسير ابن عطية)) (2/322)، ((تفسير القرطبي)) (16/6)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (17/249)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/45). وممَّن اختار أنَّ المرادَ بقَولِه تعالى: وَمَنْ حَوْلَهَا سائِرُ النَّاسِ مِن كُلِّ القُرى في جميعِ الأرضِ: مقاتلُ بنُ سُلَيمانَ، وابنُ جرير، والواحديُّ، والبغوي، وابنُ عطية، والقرطبي، والبِقاعي، والشنقيطي. يُنظر: المصادر السابقة. وقيل: المرادُ: مَن حَوْلَها مِن العَرَبِ. وممَّن ذهب إلى هذا المعنى في الجملةِ: الزمخشريُّ، والبيضاوي، والسعدي، وابن عاشور، وابن عثيمين. يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/210)، ((تفسير البيضاوي)) (5/77)، ((تفسير السعدي)) (ص: 753)، ((تفسير ابن عاشور)) (25/36)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الشورى)) (ص: 57، 58). قال الشنقيطي: (قولُه: وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى يقولُ بعضُ العلماءِ: المُعَلَّلُ محذوفٌ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا أَنْزَلْنا إليكَ هذا الكتابَ. وبعضُ العلماءِ يقولُ: هو معطوفٌ على معنى ما قبْلَه. والمعنَى: كتابٌ أنزَلْناه إليكَ لأجْلِ البَرَكاتِ المشتملِ عليها؛ ولتصديقِ الَّذي بيْنَ يَدَيه؛ ولِتُنذِرَ أُمَّ القرَى. وأكثرُ العلماءِ على أن المُعَلَّلَ محذوفٌ، والمعنَى: ولِتُنذِرَ أُمَّ القرى أنزَلْناه إليكَ). ((العذب النمير)) (1/506). وقال الرَّسْعَني: (لِتُنْذِرَ يُقالُ: أنذَرْتُه كذا، وأنذَرْتُه بكذا، وقد عَدَّى الأوَّلَ -أعني: لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى- إلى المفعولِ الأوَّلِ، والثَّانيَ -وهو قَولُه تعالى: وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ- إلى المفعولِ الثَّاني). ((تفسير الرسعني)) (7/55). ويُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/210). وقال ابن عثيمين: (فتَجِدُ الآيةَ الكريمةَ الجُملةُ الأُولى حُذِفَ منها مفعولٌ، والثَّانيةُ حُذِفَ منها مفعولٌ، لكِنِ الجُملةُ الأُولى حُذِفَ مَفعولُها الثَّاني، والجُملةُ الثَّانيةُ حُذِفَ مَفعولُها الأوَّلُ، وهذا مِن بلاغةِ القُرآنِ). ((تفسير ابن عثيمين- سورة الشورى)) (ص: 58). وقال الشوكاني: (لِتُنذِرَ أمَّ القُرى... والمفعولُ الثَّاني محذوفٌ، أي: لِتُنْذِرَهم العذابَ). ((تفسير الشوكاني)) (4/603). .
كما قال تعالى: وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا [الأنعام: 92] .
وقال سُبحانَه: فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا [مريم: 97] .
وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ.
أي: ولِتُنذِرَ النَّاسَ بالقُرآنِ -يا مُحمَّدُ- فتُخَوِّفَهم وتُحذِّرَهم مِن يومِ القيامةِ الآتي لا مَحالةَ [86] يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (3/764)، ((تفسير ابن جرير)) (20/469)، ((تفسير القرطبي)) (16/6)، ((تفسير ابن كثير)) (7/191)، ((تفسير السعدي)) (ص: 753)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/45). قال الرازي: (وفي تسميَتِه بيومِ الجَمعِ وُجوهٌ: الأوَّلُ: أنَّ الخلائقَ يُجْمَعونَ فِيه، قال تعالى: يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ [التَّغَابُنِ: 9]، فيَجتمِعُ فيه أهلُ السَّمواتِ وأهلُ الأرضِ. الثَّانِي: أنَّه يجمعُ بيْنَ الأرواحِ والأجسادِ. الثَّالثُ: يجمعُ بيْنَ كُلِّ عامِلٍ وعمَلِه. الرَّابعُ: يجمعُ بيْنَ الظَّالمِ والمظلومِ). ((تفسير الرازي)) (27/580). وقيل: لاجتِماعِ بني آدَمَ للعَرضِ. يُنظر: ((تفسير ابن عطية)) (5/27). .
كما قال تعالى: اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا [النساء: 87] .
وقال سُبحانَه: قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ [الجاثية: 26] .
وقال تعالى: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الْآَخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ [هود: 103] .
وقال الله عزَّ وجلَّ: قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآَخِرِينَ * لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ [الواقعة: 49، 50].
وقال تبارك وتعالى: يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ [التغابن: 9].
فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ.
أي: مِنهم جماعةٌ في الجنَّةِ، وهم المؤمِنونَ باللهِ المتَّبِعونَ لِرَسولِه، ومنهم جماعةٌ في النَّارِ المُلتَهِبةِ المُوقَدةِ، وهم الكافِرونَ باللهِ المُخالِفونَ لِرَسولِه [87] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/470)، ((المفردات)) للراغب الأصفهاني (ص: 633)، ((تفسير السعدي)) (ص: 753). .
وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (8).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّ المرادَ تَقريرُ قَولِه: وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَولِيَاءَ اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ [الشورى: 6] ، أي: ليس في قُدرتِك أن تَحمِلَهم على الإيمانِ، فلو شاء اللهُ ذلك لَفَعلَه؛ لأنَّه أقدَرُ منك، ولَكِنَّه جَعَل البَعضَ مُؤمِنًا والبَعضَ كافِرًا [88] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (27/580). .
وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً.
أي: ولو شاء اللهُ أن يَجمَعَ كُلَّ النَّاسِ على دينٍ واحِدٍ لَفَعلَ [89] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/472)، ((تفسير السعدي)) (ص: 753)، ((تفسير ابن عاشور)) (25/38). قيل: المرادُ أمَّةٌ واحِدةٌ، سواءٌ اجتَمَعوا جميعًا على الهدايةِ، أو اجتَمَعوا على الضَّلالةِ. ومِمَّن ذهب إلى هذا المعنى: البيضاوي، وابن كثير، والبِقاعي، وابن عثيمين. يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (5/77)، ((تفسير ابن كثير)) (7/193)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (17/252)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الشورى)) (ص: 66). وممَّن قال بنحوِ هذا القولِ مِن السَّلفِ: ابنُ عبَّاسٍ، فقال: على دينٍ واحدٍ. يُنظر: ((تفسير البغوي)) (4/140). وقيل: المرادُ: أمَّةٌ واحِدةٌ مُجتَمِعةٌ على الهُدى، أي: مِلَّةِ الإسلامِ. وممَّن ذهب إلى هذا المعنى في الجملةِ: مقاتلُ بنُ سُلَيمانَ، والسمرقنديُّ، والسعدي، وابن عاشور. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (3/764)، ((تفسير السمرقندي)) (3/237)، ((تفسير السعدي)) (ص: 753)، ((تفسير ابن عاشور)) (25/38). .
كما قال تعالى: وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آَتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ [المائدة: 48] .
وقال سُبحانَه: وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى [الأنعام: 35] .
وقال الله تبارك وتعالى: وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآَمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا [يونس: 99] .
وقال عزَّ وجلَّ: وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ [النحل: 9] .
وَلَكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ.
أي: ولكِنَّ اللهَ شاء مَشيئةً أُخرى تَجري على وَفْقِ حِكمتِه، فيُدخِلُ بَعضَ عِبادِه في دينِه، ويَتوَلَّاهم ويَنصُرُهم، ويُدخِلُهم في الآخرةِ في جَنَّتِه [90] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/472)، ((تفسير السمرقندي)) (3/237)، ((تفسير الرازي)) (27/581)، ((تفسير السعدي)) (ص: 753)، ((تفسير ابن عاشور)) (25/39)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الشورى)) (ص: 66، 67). قيل: المرادُ برَحمةِ الله تعالى هنا: دينُ الإسلامِ. وممَّن قال بهذا: مقاتلُ بنُ سُلَيمانَ، وابنُ جرير، والسمعاني، والبغوي، والشوكاني. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (3/764)، ((تفسير ابن جرير)) (20/472)، ((تفسير السمعاني)) (5/65)، ((تفسير البغوي)) (4/140)، ((تفسير الشوكاني)) (4/604). وقيل: المرادُ بها: الجنَّةُ. وهو اختيارُ ابنِ عاشور، وابنِ عثيمين. يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/39)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الشورى)) (ص: 67). قال السمرقندي: (وَلَكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ يعني: يُكرِمُ بدينِه مَن يَشاءُ، مَن كان أهلًا لذلك، ويُدخِلُه في الآخرةِ في رحمتِه، أي: في جنَّتِه). ((تفسير السمرقندي)) (3/237). .
وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ.
أي: وأمَّا الظَّالِمونَ فليس لهم -بسَبَبِ ظُلمِهم- أيُّ وَليٍّ يَتولَّاهم، وليس لهم أيُّ نَصيرٍ يَنصُرُهم، فهم مَحرومونَ مِن الدُّخولِ في رَحمةِ الله تعالى [91] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/472، 473)، ((تفسير الرازي)) (27/581)، ((تفسير الشوكاني)) (4/604)، ((تفسير السعدي)) (ص: 753). .
كما قال اللهُ سبحانه وتعالى: يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا [الإنسان: 31] .
أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (9).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّ اللهَ تعالى حكَى عن المُشرِكينَ أوَّلًا أنَّهم اتَّخَذوا مِن دُونِه أولياءَ، ثمَّ قال بَعدَه لمحمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: لَسْتَ عليهم رَقيبًا ولا حافِظًا، ولا يَجِبُ عليك أن تَحمِلَهم على الإيمانِ شاؤوا أم أبَوْا؛ فإنَّ هذا المعنى لو كان واجِبًا لَفعَلَه اللهُ؛ لأنَّه أقدَرُ منك، ثمَّ إنَّه تعالى أعاد بَعدَه ذلك الكلامَ على سَبيلِ الاستِنكارِ، فقال تعالى [92] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (27/581). :
أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ.
أي: أمِ اتَّخَذ الظَّالِمونَ أولياءَ يَتولَّونَهم بطاعتِهم مِن دونِ اللهِ [93] يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (3/764)، ((تفسير ابن جرير)) (20/473)، ((تفسير القاسمي)) (8/352، 353)، ((تفسير السعدي)) (ص: 753). قال ابنُ عطية: (قَولُه: أَمِ اتَّخَذُوا كلامٌ مُنقَطِعٌ مِمَّا قَبْلَه، وليست مُعادِلةً، ولكِنَّ الكلامَ: كأنَّه أضرَبَ عن حُجَّةٍ لهم أو مقالةٍ مُقَرَّرةٍ، فقال: «بَلِ اتَّخَذوا»، هذا مَشهورُ قَولِ النَّحْويِّينَ في مِثلِ هذا. وذَهَب بعضُهم إلى أنَّ (أَمْ) هذه هي بمنزلةِ ألِفِ الاستِفهامِ دونَ تقديرِ إضرابٍ). ((تفسير ابن عطية)) (5/27). وقيل: (أم) للإضرابِ الانتِقاليِّ، وتُقَدَّرُ بعد (أم) همزةُ استِفهامٍ إنكاريٍّ. فالمعنى: بل أَتَّخَذُوا مِن دُونِه أولياءَ؟! ومِمَّن قال بذلك: أبو حيَّان، والشوكاني، وابن عاشور، وابن عثيمين. يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (9/324، 325)، ((تفسير الشوكاني)) (4/604)، ((تفسير ابن عاشور)) (25/39)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الشورى)) (ص: 78). ؟!
فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ.
أي: فاللهُ هو الوَليُّ الحَقُّ، يَتولَّى شؤونَ جميعِ عبادِه عامَّةً، ويَتولَّى عبادَه المؤمنينَ خاصَّةً بتربيتِهم، وإعانتِهم في جميعِ أمورِهم، ونصرِهم وتأييدِهم، فلْيَتَّخِذوه وَلِيًّا بعبادتِه وطاعتِه، لا ما لا يملِكُ لهم ضَرًّا ولا نفعًا [94] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/473)، ((تفسير الزمخشري)) (4/211)، ((تفسير ابن كثير)) (7/193)، ((تفسير السعدي)) (ص: 753)، ((تفسير ابن عاشور)) (25/40). .
كما قال الله تبارك وتعالى: إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ [الأعراف: 196] .
وَهُوَ يُحْيِي الْمَوْتَى.
أي: واللهُ يُحيي الموتى بقُدرتِه سُبحانَه [95] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/473)، ((تفسير القرطبي)) (16/7)، ((تفسير ابن كثير)) (7/ 193)، ((تفسير ابن عاشور)) (25/40، 41). .
وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.
أي: واللهُ وحْدَه هو البالِغُ القُدرةِ على فِعلِ كُلِّ شَيءٍ، كإحياءِ المَوتى وغَيرِه، لا يَقدِرُ على ذلك سِواه [96] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/473)، ((تفسير القرطبي)) (16/7)، ((تفسير السعدي)) (ص: 753). .

الفوائد التربوية:

قولُه تعالى: وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ فيه حَثُّ الإنسانِ على أنْ يَدعوَ اللهَ بكلِّ ما أراد -ما لم يَعْتَدِ في الدُّعاءِ-، وهذه فائدةٌ تربويَّةٌ: أنْ تَدْعوَ اللهَ بكلِّ شَيءٍ إلَّا ما حَرَّمَ اللهُ عليك الدُّعاءَ به؛ وهذا يَفتحُ للإنسانِ بابَ الرَّجاءِ وبابَ دعاءِ اللهِ واللُّجوءِ إليه، لو كان عندَك مريضٌ مُزْمِنٌ أَيِسْتَ منه؛ فادعُ اللهَ، ولو أنَّ إنسانًا تقطَّعتْ به الأسبابُ؛ طَلَبَ الرِّزقَ في البَيعِ والشِّراءِ فخَسِرَ؛ تقدَّم لوظيفةٍ فلم يَنْجَحْ؛ فلْيَدْعُ اللهَ؛ فاللهُ عزَّ وجلَّ على كلِّ شيءٍ قديرٌ [97] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الشورى)) (ص: 83). .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- قولُه تعالى: لِتُنْذِرَ فيه إثباتُ حكمةِ اللهِ؛ لأنَّ اللَّامَ هنا للتَّعليلِ، وكلَّما وُجِدت لامُ التَّعليلِ في القرآنِ فإنَّ فيها إثباتَ حكمةِ اللهِ عزَّ وجلَّ، وحينَئذٍ نَعلَمُ أنَّ جميعَ ما يَفعَلُه اللهُ عزَّ وجلَّ أو ما يشرعُه فهو لحكمةٍ [98] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الشورى)) (ص: 64). .
2- قَولُ الله تعالى: وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا فيه سُؤالٌ: ظاهِرُ اللَّفظِ يَقتَضي أنَّ اللهَ تعالى إنَّما أوحى إلى النَّبيِّ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ؛ لِيُنذِرَ أهلَ مَكَّةَ وأهلَ القُرى المحيطةِ بمكَّةَ، وهذا يَقتَضي أن يكونَ رَسولًا إليهم فقط، وألَّا يكونَ رسولًا إلى كُلِّ العالَمينَ!
الجَوابُ مِن وُجوهٍ:
الوَجهُ الأوَّلُ: أنَّ المرادَ بقَولِه: وَمَنْ حَوْلَهَا شامِلٌ لجَميعِ الأرضِ، وهو مَرويٌّ عن ابنِ عبَّاسٍ رضيَ الله عنهما [99] يُنظر ما أخرجه ابن جرير في ((تفسيره)) (9/403)، وابنُ أبي حاتم في في ((تفسيره)) (7614، 7618)، والبيهقي في ((الأسماء والصفات)) (594). .
الوَجهُ الثَّاني: أنَّ التَّخصيصَ بالذِّكرِ لا يدُلُّ على نَفيِ الحُكمِ عمَّا سِواه؛ فهذه الآيةُ على فَرْضِ كَوْنِها تدُلُّ على كَونِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ رَسولًا إلى هؤلاء خاصَّةً، وأنَّ قَولَه: وَمَنْ حَوْلَهَا لا يَتناوَلُ إلَّا القريبَ مِن مكَّةَ المكَرَّمةِ، كجَزيرةِ العَرَبِ مَثَلًا؛ فإنَّ الآياتِ الأُخَرَ نَصَّت على العُمومِ، كقَولِه تعالى: لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا [الفرقان:1] ، وقولِه تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ [سبأ: 28] ، فهذا يدُلُّ على كَونِه رَسولًا إلى كُلِّ العالَمينَ. وذِكرُ بَعضِ أفرادِ العامِّ بحُكمِ العامِّ لا يُخَصِّصُه عندَ عامَّةِ العُلَماءِ [100] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (27/580)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/45). .
الوَجهُ الثَّالثُ: لَمَّا ثَبَت كَونُه رَسولًا إلى أهلِ مكَّةَ وَجَب كَونُه صادِقًا، ثمَّ إنَّه نُقِلَ إلينا بالتَّواتُرِ أنَّه كان صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يُخبِرُ أنَّه رَسولٌ إلى كُلِّ العالَمينَ [101] وفي الحديثِ قال النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم: ((... وكان النَّبيُّ يُبعَثُ إلى قَومِه خاصَّةً، وبُعِثْتُ إلى النَّاسِ عامَّةً)). أخرجه البخاري (335)، ومسلم (521) من حديث جابر بن عبد الله رضيَ الله عنهما. ، والصَّادِقُ إذا أخبَرَ عن شَيءٍ وَجَب تصديقُه فيه؛ فثَبَت أنَّه رَسولٌ إلى كُلِّ العالَمينَ [102] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (27/580). .
الوَجهُ الرَّابعُ: أنَّ الاقتِصارَ على إنذارِ أمِّ القُرى ومَن حَولَها لا يَقتَضي تخصيصَ إنذارِ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بأهلِ مكَّةَ ومَن حوْلَها؛ لأنَّ تَعليلَ الفِعلِ بعِلَّةِ باعِثِه لا يَقتضي أنَّ الفِعلَ المُعلَّلَ مُخَصَّصٌ بتلك العِلَّةِ ولا بمُتعَلَّقاتِها؛ إذ قد يكونُ للفِعلِ الواحِدِ عِلَلٌ باعِثةٌ؛ فإنَّ الرَّسولَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بُعِثَ للنَّاسِ كافَّةً، كما قال تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا [سبأ: 28] ، والاقتِصارُ هنا على إنذارِ أهلِ مكَّةَ ومَن حَولَها؛ لأنَّهم المقصودُ بالرَّدِّ عليهم؛ لإنكارِهم رسالةَ محمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم [103] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/36). .
3- قال تعالى: وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ إنْ قِيل: كيف يَكونونَ مَجموعينَ مُتفرِّقينَ في حالةٍ واحدةٍ؟
فالجواب: أنَّهم مَجموعونَ في ذلك اليومِ، مع افتراقِهم في دارَيِ البؤسِ والنَّعيمِ، كما يَجتمِعُ الناسُ يومَ الجُمعةِ مُتفرِّقينَ في مَسجدَينِ، وإنْ أُريدَ بالجمْعِ جمْعُهم في الموقفِ، فالتَّفرُّقُ على معنى مُشارَفتِهم للتَّفرُّقِ [104] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/210)، ((تفسير البيضاوي)) (5/77)، ((تفسير أبي السعود)) (8/23). .
4- في قَولِه تعالى: وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ رَدٌّ على المُعتَزلةِ والقَدَريَّةِ المُنْكِرينَ أنَّ الهِدايةَ والإضلالَ بيَدِ اللهِ تعالى؛ إذْ في قَولِه: وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً دَليلٌ على أنَّه لم يَجعَلْهم، وخَصَّ بالرَّحمةِ مَن شاء منهم، والرَّحمةُ لا محالةَ سَبَبُ الهِدايةِ، ومَنعُ الرَّحمةِ سَبَبُ الضَّلالةِ، لولا ذلك ما كان في الكَلامِ فائدةٌ عندَ مَن تَدَبَّرَه [105] يُنظر: ((النكت الدالة على البيان)) للقصاب (4/88). !

بلاغة الآيات:

1- قولُه تعالى: وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ
- قولُه: وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا عَطْفٌ على جُملةِ كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ ... إلخ [الشورى: 3] ، باعتبارِ المُغايَرةِ بيْنَ المعطوفةِ والمعطوفِ عليها؛ بما في المعطوفةِ مِن كَونِ الموحَى به قُرآنًا عربيًّا، وما في المعطوفِ عليها مِن كَونِه مِن نوعِ ما أُوحِيَ به إلى الَّذين مِن قبْلِه. وإنَّما أُعيدَ وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا؛ ليُبنى عليه قولُه: قُرْآَنًا عَرَبِيًّا؛ لِما حجَزَ بيْنَهما مِن الفَصْلِ، وأصلُ النَّظمِ: كذلك يُوحِي إليك اللهُ العزيزُ الحكيمُ قُرآنًا عربيًّا، معَ ما حصَلَ بتلك الإعادةِ مِن التَّأكيدِ؛ لتقريرِ ذلك المعنى أفضلَ تقريرٍ [106] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/35). .
- قولُه: وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ الآيةَ، قيل: مُعترِضةٌ لِتَوكيدِ مَضمونِ الآيتَينِ: وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَولِيَاءَ اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ [الشورى: 6] ، ووَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ [107] يُنظر: ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (14/15). [الشورى: 8] .
- والعُدولُ عن ضَميرِ الغائبِ في اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ [الشورى: 6] إلى ضَميرِ العظَمةِ أَوْحَيْنَا الْتفاتٌ [108] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/35). .
- قولُه: قُرْآَنًا القُرآنُ مَصدرُ: قرَأَ، وأُطلِقَ هنا على المقروءِ؛ مُبالَغةً في الاتِّصافِ بالمَقروئيَّةِ؛ لكثرةِ ما يَقرَؤُه القارِئونَ، وذلك لِحُسنِه وفائدتِه؛ فقد تَضمَّنَ هذا الاسمُ معنى الكمالِ بيْن المَقروآتِ [109] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/35). .
- وقولُه: لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا تَعليلٌ لقولِه: أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا؛ لأنَّ كَونَه عربيًّا يَليقُ بحالِ المُنذَرينَ به، وهم أهلُ مكَّةَ ومَن حوْلَها؛ فأولئك هم المخاطَبونَ بالدِّينِ ابتداءً؛ لِما اقتضَتْه الحِكمةُ الإلهيَّةُ مِن اختيارِ الأُمَّةِ العربيَّةِ لتكونَ أوَّلَ مَن يَتلقَّى الإسلامَ، ويَنشُرُه بيْنَ الأُمَمِ، ولو رُوعِيَ فيه جميعُ الأُممِ المخاطَبينَ بدعوةِ الإسلامِ، لَاقتَضى أنْ يَنزِلَ بلُغاتٍ لا تُحصَى؛ فلا جَرَمَ اختارَ اللهُ له أفضَلَ اللُّغاتِ، واختارَ إنزالَه على أفضَلِ البَشَرِ [110] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/36). .
- واقتصَر على أحدِ موضوعَيِ الرِّسالةِ وهو الإنذارُ، فقال: لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا، ولم يَذْكُرِ البِشارةَ! معَ أنَّ اللهَ تعالى في مواضعَ كثيرةٍ يَذكُرُهما، كقولِه: لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا [مريم: 97] ؛ وذلك لأنَّ السياقَ معَ قريشٍ -وقريشٌ عُتَاةٌ مُعْتَدونَ-؛ فناسَبَ ذِكْرُ الإنذارِ دونَ ذِكْرِ البِشارةِ [111] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الشورى)) (ص: 64). .
- وانتصَبَ أُمَّ الْقُرَى على المفعولِ به لفِعلِ (تُنذِرَ)؛ بتَنزيلِ الفِعلِ منزلةَ المُعدَّى إلى مَفعولٍ واحدٍ؛ إذ لم يُذكَرْ معه المنذَرُ منه، وهو الَّذي يكونُ مَفعولًا ثانيًا لِفِعلِ الإنذارِ؛ لأنَّ (أنذَرَ) يَتعدَّى إلى مفعولَينِ؛ فالمعنى: لِتُنذِرَ أُمَّ القُرَى ومَن حوْلَها ما يُنذَرونَه مِن العذابِ في الدُّنيا والآخِرةِ [112] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/37). .
- وقولُه: لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا عامٌّ في الإنذارِ بأحوالِ الدُّنيا والآخِرةِ، ثمَّ خُصَّ بقولِه: وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ، وأُعيدَ فِعلُ (تُنذِر)؛ لِزِيادةِ تَهويلِ أمْرِ يَومِ الجَمْعِ؛ لأنَّ تَخصيصَه بالذِّكرِ بعْدَ عُمومِ الإنذارِ يَقتضي تَهويلَه، ولأنَّ تَعديةَ فِعلِ وَتُنْذِرَ إلى يَوْمَ الْجَمْعِ تَعديةٌ مُخالِفةٌ لإنذارِ أُمِّ القُرى؛ لأنَّ يَوْمَ الْجَمْعِ مَفعولٌ ثانٍ لِفِعلِ وَتُنْذِرَ، أي: وتُنذِرَ النَّاسَ يومَ الجمْعِ، فمَفعولُ وَتُنْذِرَ الثَّاني هو المُنذَرُ به، ومَفعولُ (لِتُنْذِرَ) الأوَّلُ هو المُنذَرُ، وانتصَبَ يَوْمَ الْجَمْعِ على أنَّه مَفعولٌ ثانٍ لفِعلِ وَتُنْذِرَ، وحُذِفَ مَفعولُه الأوَّلُ؛ لِدَلالةِ ما تَقدَّمَ عليه، أي: وتُنذِرَهم [113] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (5/77)، ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (14/13)، ((تفسير أبي السعود)) (8/23)، ((تفسير ابن عاشور)) (25/37). .
- وقيل: في الآيةِ احتِباكٌ [114] الاحتِباكُ: هو الحذفُ مِن الأوائلِ لدَلالةِ الأواخِرِ، والحذفُ مِن الأواخرِ لدَلالةِ الأوائلِ، إذا اجتمَع الحَذفانِ معًا، وله في القرآنِ نظائرُ، وهو مِن إبداعاتِ القرآنِ وعناصرِ إعجازِه، وهو مِن ألطفِ الأنواعِ. يُنظر: ((الإتقان)) للسيوطي (3/204)، ((البلاغة العربية)) لعبد الرحمن حَبَنَّكَة الميداني (1/347). ؛ فذِكرُ المُنذَرينَ أوَّلًا دَلالةٌ على إرادتِها ثانيًا، وذِكرُ المُنذَرِ به -وهو يومُ الجَمعِ- ثانيًا دَلالةٌ على المُنذَرِ به مِن عَذابِ الأُمَمِ أوَّلًا؛ لِيَذهَبَ به الوَهمُ في المحذوفِ كلَّ مَذهَبٍ، فيَكونَ أهْوَلَ، وذِكرُ هذا المذكورِ أفخَمُ وأوجَلُ [115] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (17/250). .
- وجُملةُ لَا رَيْبَ فِيهِ مُعترِضةٌ بيْن البيانِ والمبيَّنِ، مُقرِّرةٌ لِما قبْلَها، ومعنى لَا رَيْبَ فِيهِ أنَّ دلائلَه تَنفي الشَّكَّ في أنَّه سيقعُ، فنُزِّلَ رَيْبُ المُرتابينَ فيه مَنزِلةَ العَدَمِ؛ لأنَّ مُوجِباتِ اليقينِ بوقوعِه بَيِّنةٌ [116] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/210)، ((تفسير أبي السعود)) (8/23)، ((تفسير ابن عاشور)) (25/38). .
- وظرفيَّةُ الرَّيبِ المنفيِّ في ضَميرِ اليومِ في قولِه: لَا رَيْبَ فِيهِ مِن بابِ إيقاعِ الفِعلِ ونحوِه على اسمِ الذَّاتِ، والمرادُ إيقاعُه على بَعضِ أحوالِها الَّتي يدُلُّ عليها المَقامُ؛ مِثلُ: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ [المائدة: 3] ، أي: أكْلُها، أي: لا ريبَ في وُقوعِه [117] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/38). .
- وجُملةُ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ مُستأنَفةٌ استِئنافًا بيانيًّا، وعُطِفتْ عليها جُملةُ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ؛ فكان الجُملتانِ جَوابًا لسؤالِ سائلٍ عن شأْنِ هذا الجَمْعِ إنْ كان بمَعنى المصدَرِ، فقيل: فريقٌ في الجنَّةِ وفريقٌ في السَّعيرِ، أي: فَريقٌ مِن المجموعينَ بهذا الجمْعِ في الجنَّةِ، وفَريقٌ في السَّعيرِ. أو لِسُؤالِ سائلٍ عن حالِ هذا الجمْعِ إنْ كان الجمْعُ بمعنى المجموعينَ، والتَّقديرُ: فريقٌ منهم في الجنَّةِ، وفريقٌ منهم في السَّعيرِ [118] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/37). .
- وجُملةُ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ ... إلخ مُعترِضةٌ، وفَرِيقٌ خَبرُ مبتدأٍ مَحذوفٍ على طريقةِ الحذْفِ المُتابَعِ فيه الاستِعمالُ، أي: هم فريقٌ في الجنَّةِ... إلخ [119] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/38). .
2- قولُه تعالى: وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ
- قولُه: وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً عطفٌ على جُملةِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ [الشورى: 7] ، والغرضُ مِن هذا العطْفِ إفادةُ أنَّ كونَهم فَريقينِ أمْرٌ شاءَ اللهُ تَقديرَه، وهذا مَسوقٌ لِتَسليةِ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ والمؤمنينَ على تَمنِّيهم أنْ يكونَ النَّاسُ كلُّهم مُهتدينَ، ويكونَ جميعُهم في الجنَّةِ [120] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (9/324)، ((تفسير ابن عاشور)) (25/38). لكنْ قال أبو السعود: (وأنت خبيرٌ بأنَّ فَرْضَ جعلِ الكلِّ مؤمنينَ يأباهُ تصديرُ الاستدراكِ بإدخالِ بعضِهم في رحمتِه؛ إذِ الكُلُّ حينَئذٍ داخلونَ فيها، فكانَ المناسِبُ حينَئذٍ تصديرَه بإخراجِ بعضِهم مِنْ بَيْنِهم وإدخالِهم في عذابِه، فالَّذي يَقتضيهِ سياقُ النَّظمِ الكريمِ وسِباقُه أنْ يُرادَ الاتِّحادُ في الكُفرِ... فالمعنى: وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً مُتَّفِقةً على الكُفرِ، بألَّا يُرسِلَ إليهم رسولًا لِيُنذِرَهُم ما ذُكِرَ مِن يومِ الجَمعِ وما فيه مِن ألوانِ الأهوالِ؛ فيَبقَوا على ما هم عليه مِن الكُفرِ، وَلَكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ). ((تفسير أبي السعود)) (8/23). .
- قولُه: وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ نفْيُ النَّصيرِ كِنايةٌ عن كَونِهم في بُؤسٍ وضُرٍّ ومَغلوبيَّةٍ، بحيثُ يَحتاجونَ إلى نَصيرٍ لو كان لهم نَصيرٌ؛ فيَدخُلُ في (الظَّالِمُونَ) مُشرِكو أهلِ مكَّةَ دُخولًا أوَّليًّا؛ لأنَّهم سببُ وُرودِ هذا العمومِ، وأصلُ النَّظمِ: (ويُدخِلُ مَن يَشاءُ في غَضَبِه)؛ فعُدِلَ عنه إلى ما في الآيةِ وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ؛ للدَّلالةِ على أنَّ سَببَ إدخالِهم في غَضَبِه هو ظُلمُهم، أي: شِركُهم؛ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان: 13] ، مع إفادةِ أنَّهم لا يَجِدونَ وليًّا يَدفَعُ عنهم غضَبَه، ولا نَصيرًا يَثأرُ لهم. وقيل: لَعلَّ تَغييرَ المُقابَلةِ؛ للمُبالَغةِ في الوعيدِ؛ إذ الكلامُ في الإنذارِ [121] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (5/77)، ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (14/14)، ((تفسير أبي السعود)) (8/23)، ((تفسير ابن عاشور)) (25/39)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (9/13). .
- قَولُ الله تعالى: وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ مِن الاحتِباكِ [122] الاحتِباكُ: هو الحذفُ مِن الأوائلِ لدَلالةِ الأواخِرِ، والحذفُ مِن الأواخرِ لدَلالةِ الأوائلِ، إذا اجتمَع الحَذفانِ معًا، وله في القرآنِ نظائرُ، وهو مِن إبداعاتِ القرآنِ وعناصرِ إعجازِه، وهو مِن ألطفِ الأنواعِ. يُنظر: ((الإتقان)) للسيوطي (3/204)، ((البلاغة العربية)) لعبد الرحمن حَبَنَّكَة الميداني (1/347). ؛ ذَكَر الرَّحمةَ أوَّلًا دَليلًا على اللَّعنةِ ثانًيا، والظُّلْمَ وما معه ثانيًا دَليلًا على أضْدادِه أوَّلًا، وسِرُّه أنَّه ذَكَر السَّبَبَ الحقيقيَّ في أهلِ السَّعادةِ؛ لِيَحمِلَهم على مَزيدِ الشُّكرِ، والسَّبَبَ الظَّاهِريَّ في أهلِ الشَّقاوةِ؛ لِيَنْهاهم عن الكُفرِ [123] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (17/253). .
3- قولُه تعالى: أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
- قولُه: أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ جُملةٌ مُستأنَفةٌ مُقرِّرةٌ لِما قبْلَها مِن انتفاءِ أنْ يكونَ للظَّالِمينَ وليٌّ أو نَصيرٌ [124] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (8/24). .
- و(أمْ) مُنقطِعةٌ، وما فيها مِن مَعنى (بل)؛ للانتقالِ مِن بَيانِ ما قبْلَها إلى بَيانِ ما بعْدَها، والهمْزةُ لإنكارِ الوُقوعِ ونفْيِه على أبلَغِ وجْهٍ وآكَدِه، لا لإنكارِ الواقعِ واستِقباحِه كما قِيل؛ إذ المرادُ بَيانُ أنَّ ما فَعَلوا ليس مِن اتِّخاذِ الأولياءِ في شَيءٍ؛ لأنَّ ذلك فرْعُ كَونِ الأصنامِ أولياءَ، وهو أظهَرُ المُمتنِعاتِ، أي: بلْ أتَّخَذوا مُتجاوِزينَ اللهَ أولياءَ مِن الأصنامِ وغيرِها؟ هَيهاتَ [125] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/211)، ((تفسير أبي حيان)) (9/325)، ((تفسير أبي السعود)) (8/24)، ((تفسير ابن عاشور)) (25/39). .
- وقيل: الفاءُ في قولِه: فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ جَوابُ شَرْطٍ مقدَّرٍ [126] لكن قال أبو حيَّان: (ولا حاجةَ إلى تقديرِ شرطٍ محذوفٍ، والكلامُ يَتِمُّ بدونِه). ((تفسير أبي حيان)) (9/325). ؛ كأنَّه قِيل بعدَ إنكارِ كلِّ وليٍّ سِواهُ: إنْ أرادُوا وليًّا بحقٍّ، فاللهُ هو الوليُّ بالحقِّ، لا وليَّ سِواه؛ لأنَّ إنكارَ ذلك يَقتضي أنَّ أولياءَهم ليستْ جَديرةً بالوَلايةِ، وأنَّهم ضَلُّوا في وَلايتِهم إيَّاها [127] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/211)، ((تفسير البيضاوي)) (5/77)، ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (14/16)، ((تفسير أبي حيان)) (9/325)، ((تفسير أبي السعود)) (8/24)، ((تفسير ابن عاشور)) (25/40). .
- وأفاد تَعريفُ المُسنَدِ في قولِه: فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ قَصْرَ جِنسِ الوليِّ بهذا الوصْفِ على الله، وإذ قد عبَدوا غيرَ اللهِ تَعيَّنَ أنَّ المرادَ قصْرُ الولايةِ الحقِّ عليه تعالى، وأفاد ضَميرُ هُوَ تأْكيدَ القَصرِ وتَحقيقَه، وأنَّه لا مُبالَغةَ فيه؛ تَذْكيرًا بأنَّ الوَلايةَ الحقَّ في هذا الشَّأنِ مُختصَّةٌ باللهِ تعالى، وهذا كلُّه مَسوقٌ إلى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ والمؤمنينَ تَسليةً وتثبيتًا، وتَعريضًا بالمشرِكينَ؛ فإنَّهم لا يَخْلُونَ مِن أنْ يَسمَعوه [128] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/40). .
- وعطْفُ وَهُوَ يُحْيِي الْمَوْتَى على جُملةِ فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ إدماجٌ [129] الإدماجُ: أنْ يُدمِجَ المُتكلِّمُ غرَضًا في غرَضٍ، أو بديعًا في بديعٍ، بحَيثُ لا يَظهرُ في الكلامِ إلَّا أحدُ الغرَضينِ أو أحدُ البَديعَينِ، بمعنى: أن يَجعلَ المتكلِّمُ الكلامَ الَّذي سِيق لمعنًى -مِن مَدحٍ أو غيرِه- مُتضمنًا معنًى آخَرَ، كقولِه تعالى: لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآَخِرَةِ [القصص: 70] ؛ فهذا مِن إدماجِ غرَضٍ في غَرَضٍ؛ فإنَّ الغرَضَ منها تَفرُّدُه تعالى بوصْفِ الحَمدِ، وأُدمِجَ فيه الإشارةُ إلى البعثِ والجزاءِ. وقيل: أُدمِجتِ المُبالَغةُ في المُطابَقةِ؛ لأنَّ انفِرادَه بالحمدِ في الآخِرةِ -وهي الوقتُ الَّذي لا يُحمَدُ فيه سِواهُ- مُبالَغةٌ في الوَصفِ بالانفِرادِ بالحمدِ. يُنظر: ((التبيان في البيان)) للطِّيبي (ص: 225)، ((الإتقان)) للسيوطي (3/298)، ((علوم البلاغة البيان المعاني البديع)) للمراغي (ص: 344)، ((البلاغة العربية)) لعبد الرحمن حَبَنَّكَة الميداني (2/427). لإعادةِ إثباتِ البعثِ؛ تَرْسيخًا لعِلمِ المسلمينَ، وإبلاغًا لمَسامِعِ المُنكِرينَ؛ لأنَّهم أنكَروا ذلك في ضِمنِ اتِّخاذِهم أولياءَ مِن دُونِ اللهِ، فلمَّا أبْطَلَ مُعتقدَهم إلهيَّةَ غيرِ اللهِ، أردَفَ بإبطالِ ما هو مِن عَلائقِ شِركِهم، وهو نفْيُ البَعثِ، وليس ذلك استدلالًا عليهم لإبطالِ إلهيَّةِ آلهتِهم؛ لأنَّ وُقوعَ البعثِ مَجحودٌ عِندَهم [130] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/40). .
- وعطْفُ جُملةِ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ لإثباتِ هذه الصِّفةِ للهِ تعالى؛ تَذكيرًا بانفرادِه بتَمامِ القُدرةِ، ويُفيدُ الاستِدلالَ على إمكانِ البعثِ، ويُفيدُ الاستدلالَ على نفْيِ الإلهيَّةِ عن أصنامِهم؛ لأنَّ مَن لا يَقدِرُ على كلِّ شَيءٍ لا يَصلُحُ للإلهيَّةِ، والغرَضُ مِن هذا تَعريضٌ بإبلاغِه إلى مَسامِعِ المشرِكِين. ولَمَّا كان المقصودُ إثباتَ القُدرةِ للهِ تعالى عُطِفَتِ الجُملةُ على الَّتي قبْلَها؛ لأنَّها مِثلُها في إفادةِ الحُكمِ، وكانتْ إفادةُ التَّعليلِ بها حاصلةً مِن مَوقعِها عَقِبَها، ولو أُريدَ التَّعليلُ ابتداءً لَفُصِلَتِ الجُملةُ ولم تُعطَفْ [131] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/40، 41). .