موسوعة التفسير

سورةُ الفُرقانِ
الآيات (1-3)

ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ

غريب الكلمات:

تَبَارَكَ: أي: تعاظَمَ، وتعالَى، وتقَدَّس، وكثُر خَيرُه، وعمَّ إحسانُه، مِن البَرَكةِ: وهي الزِّيادةُ والنَّماءُ، والكثرةُ والاتِّساعُ، وأصلُ (برك): ثباتُ الشَّيءِ [11] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 310)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/227)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 112)، ((جلاء الأفهام)) لابن القيم (ص: 308)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 25). .
الْفُرْقَانَ: أي: كلامَ اللهِ تعالى؛ لِفَرقِه بينَ الحقِّ والباطِلِ، وأصلُه: يدُلُّ على الفَصلِ بيْن شيئَينِ [12] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (1/95)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (4/493)، ((المفردات)) للراغب (ص: 634)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 262). .
نَذِيرًا: أي: مُنذِرًا مخوِّفًا، وأصلُه: يدُلُّ على التَّخويفِ [13] يُنظر: ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 463)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/414)، ((المفردات)) للراغب (ص: 798)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 347). .
فَقَدَّرَهُ: أي: سَوَّاه وهَيَّأه، وأصلُ (قدر): يدُلُّ على مَبلَغِ الشَّيءِ وكُنهِه ونهايتِه [14] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/396)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/62)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 262). .
نُشُورًا: أي: حياةً بعْدَ المَوتِ. وأصْلُه: يدُلُّ على فَتحِ شَيءٍ وتَشَعُّبِه [15] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 310)، ((تفسير ابن جرير)) (17/397)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/430). .

المعنى الإجمالي:

يقولُ الله تعالى مفتتِحًا السورةَ بالثناءِ على نفْسِه: تعاظَمَ الله، وكَمَلَت أوصافُه، وكثُرتْ خَيراتُه، ودامتْ بَرَكاتُه، فهو الذي نزَّل القرآنَ المفرِّقَ بين الحَقِّ والباطِلِ آياتٍ بعْدَ آياتٍ، وسورةً بعدَ سورةٍ على عَبدِه مُحمَّدٍ؛ ليكونَ مُنذِرًا لجَميعِ الإنسِ والجِنِّ، وهو الذي له وحْدَه مُلكُ السَّمواتِ والأرضِ، ولم يتَّخِذْ لِنَفْسِه ولدًا، ولم يكُنْ له شَريكٌ في سُلطانِه، وأوجَدَ كلَّ شيءٍ، وجعَلَه مُحكَمًا بحِكمتِه وتقديرِه، وهيَّأه لِما يصلُحُ له.
 ثمَّ يُبيِّنُ انحرافَ المشركينَ، فيقول: واتَّخذ المشرِكون مِن دونِ اللهِ آلهةً لا تستطيعُ أن تخلُقَ شيئًا، وهذه الآلهةُ المزعومةُ مَخلوقةٌ لا تستطيعُ أن تدفَعَ عن نَفْسِها ضَرًّا، ولا أن تجلِبَ لِنَفسِها نَفعًا، ولا تستطيعُ أن تُميتَ أحدًا، ولا أن تُحييَه، ولا أن تبعَثَه بعدَ مَوتِه!

تفسير الآيات:

تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا.
تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ.
أي: تعاظَمَ الله، وكَمَلَت أوصافُه، وكثُرتْ خَيراتُه، ودامتْ وثبتت بَرَكاتُه، فهو الذي نزَّل القرآنَ المفرِّقَ ببيانِه بيْن الحَقِّ والباطِلِ، آياتٍ بعْدَ آياتٍ، وسورةً بعدَ سورةٍ على عَبدِه مُحمَّدٍ [16] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/394)، ((تفسير ابن عطية)) (4/199)، ((تفسير القرطبي)) (13/1، 2)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (27/277)، ((تفسير ابن كثير)) (6/92)، ((تفسير السعدي)) (ص: 577)، ((تفسير ابن عاشور)) (18/316)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (6/4). قال ابنُ كثير: (الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ نزَّل: فَعَّل، مِن التكرُّرِ والتكثُّرِ، كما قال: وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ [النساء: 136] ؛ لأنَّ الكتُبَ المتقَدِّمةَ كانت تنزِلُ جُملةً واحدةً، والقرآنُ نَزَل منجَّمًا مفرَّقًا مفصَّلًا آياتٍ بعدَ آياتٍ، وأحكامًا بعدَ أحكامٍ، وسُوَرًا بعدَ سُوَرٍ، وهذا أشدُّ وأبلغُ، وأشدُّ اعتناءً بمن أُنزِل عليه، كما قال في أثناءِ هذه السُّورةِ: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآَنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا * وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا [الفرقان: 32، 33]). ((تفسير ابن كثير)) (6/92). وقال البِقَاعي: (نزَل مفَرَّقًا بحسَبِ المصالحِ؛ فسُمِّيَ لذلك فُرقانًا، ولأنَّه الفارقُ بيْن ملتبِسٍ؛ فلا يدَعُ خفاءً إلَّا بيَّنه، ولا حقًّا إلا أثبته، ولا باطلًا إلَّا نفاه ومحَقَه). ((نظم الدرر)) (13/330). وقال ابن عثيمين: (هذا مِن جملةِ البَرَكةِ التي هي مِن صفةِ الله سبحانه وتعالى: أنَّه نزَّل الفرقانَ على عبدِه محمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم). ((تفسير ابن عثيمين- سورة الفرقان)) (ص: 11). .
كما قال تعالى: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجا [الكهف: 1].
لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا.
أي: لِيَكونَ محمَّدٌ مُنذِرًا لجَميعِ الإنسِ والجِنِّ، يحَذِّرُهم عذابَ اللهِ إن لم يُخلِصوا له العبادةَ [17] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/394)، ((تفسير القرطبي)) (13/2)، ((تفسير ابن عاشور)) (18/317). مِمَّن اختار أنَّ الضَّميرَ في قولِه: لِيَكُونَ عائدٌ على النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّمَ: مقاتلُ بنُ سليمانَ، وابنُ جريرٍ، ومكِّيٌّ، والرازيُّ، والقرطبيُّ، وابنُ جُزيٍّ، والشوكانيُّ، وابنُ عاشور، وابنُ عثيمين. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (3/225)، ((تفسير ابن جرير)) (17/394)، ((الهداية إلى بلوغ النهاية)) لمكِّي (8/5173)، ((تفسير الرازي)) (24/429)، ((تفسير القرطبي)) (13/2)، ((تفسير ابن جزي)) (2/78)، ((تفسير الشوكاني)) (4/71)، ((تفسير ابن عاشور)) (18/317)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الفرقان)) (ص: 16). ونسَبَ ابنُ الجوزيِّ هذا القولَ للجمهورِ. يُنظر: ((تفسير ابن الجوزي)) (3/311). ومِمَّن قال بهذا القولِ مِن السَّلفِ: قَتادةُ، وابنُ زيدٍ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/394)، ((تفسير ابن أبي حاتم)) (8/2660). وممَّن قال: إنَّ الضميرَ يعودُ على القرآنِ، أي: لِيَكونَ القرآنُ نذيرًا: السمرقنديُّ. يُنظر: ((تفسير السمرقندي)) (2/528). قال ابن عطية: (قَولُه: لِلْعَالَمِينَ عامٌّ في كلِّ إنسيٍّ وجِنِّيٍّ عاصَرَه أو جاء بعْدَه). ((تفسير ابن عطية)) (4/199). .
كما قال تعالى: قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا [الأعراف: 158] .
وعن جابرِ بنِ عبدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عنهما، أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((كان النبيُّ يُبعَثُ إلى قَومِه خاصَّةً، وبُعِثتُ إلى النَّاسِ عامَّةً)) [18] رواه البخاري (335) واللفظ له، ومسلم (521). .
الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا.
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
لَمَّا تقَدَّم ذِكرُ مُنَزِّلِ الفُرقانِ سُبحانه، وذِكرُ الفُرقانِ والمنَزَّلِ عليه على طريقِ الإجمالِ؛ أتبَعَ ذلك تفصيلَه على الترتيبِ، فبدأ بوَصفِ المنَزِّلِ سُبحانه بما هو أدَلُّ دَليلٍ على إرادةِ التَّعميمِ في الرِّسالةِ لكُلِّ مَن يريدُ، فقال [19] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (13/335). :
الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ.
أي: وهو اللهُ الذي له وحْدَه سُلطانُ السَّمواتِ والأرضِ، يصَرِّفُ شُؤونَهما ويدبِّرُهما وجميعَ ما فيهما [20] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/395، 396)، ((تفسير أبي السعود)) (6/200، 201)، ((تفسير السعدي)) (ص: 577). .
كما قال تعالى: ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ [فاطر: 13] .
وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا .
أي: ولم يتَّخِذْ لِنَفْسِه وَلدًا؛ لا عيسى، ولا عُزَيرًا، ولا الملائكةَ، ولا غيرَهم مِن خَلقِه [21] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/396)، ((تفسير القرطبي)) (13/2)، ((تفسير السعدي)) (ص: 577). .
كما قال تعالى: لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ [الإخلاص: 3] .
وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ.
أي: ولم يكُنْ لله شريكٌ في مُلكِه وسُلطانِه كما يزعُمُ المُشرِكون [22] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/396)، ((تفسير القرطبي)) (13/2). .
كما قال تعالى: قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ [سبأ: 22] .
وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا.
أي: وأوجَد اللهُ كلَّ شيءٍ مِن المخلوقاتِ الكبيرةِ والصَّغيرةِ، فأتقَنَه وهيَّأه لِما يَصلُحُ له، وجعَلَه مُحْكَمًا، لا تفاوُتَ فيه ولا خَللَ، على ما أراد سُبحانَه بحِكمتِه [23] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/396)، ((تفسير القرطبي)) (13/3)، ((تفسير السعدي)) (ص: 577)، ((تفسير ابن عاشور)) (18/318، 319). قال ابن عطية: (تقديرُ الأشياءِ: هو حَدُّها بالأمكنةِ والأزمانِ والمقاديرِ، والمصلحةِ والإتقانِ). ((تفسير ابن عطية)) (4/199). .
كما قال تعالى: ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ [الأنعام: 102] .
وقال سُبحانه: الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى [طه: 50] .
وقال تبارك وتعالى: صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ [النمل: 88] .
وقال عزَّ وجلَّ: الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ [السجدة: 7] .
وقال جلَّ جلالُه: الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى * وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى [الأعلى: 2، 3].
وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آَلِهَةً لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا.
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
لَمَّا بيَّن كَمالَه وعظَمتَه وكَثرةَ إحسانِه، وكان ذلك مُقتَضيًا لأن يكونَ وحْدَه المحبوبَ المألوهَ المعظَّمَ، المُفرَدَ بالإخلاصِ وحْدَه لا شريكَ له؛ ناسَبَ أن يذكُرَ بُطلانَ عبادةِ ما سِواه، فقال [24] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 577). ويُنظر أيضًا: ((تفسير الرازي)) (24/431)، ((تفسير ابن عثيمين - سورة الفرقان)) (ص: 26). :
وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آَلِهَةً لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ.
أي: واتَّخذ المُشرِكون من دونِ اللهِ معبوداتٍ مِن الأصنامِ وغَيرِها لا تَستطيعُ أن تخلُقَ شيئًا، وهذه الآلهةُ مخلوقةٌ، بل منها ما هو مَصنوعٌ ومنحوتٌ بأيدي المُشرِكين [25] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/397)، ((تفسير القرطبي)) (13/3)، ((تفسير السعدي)) (ص: 577). قال ابنُ عطية: (قَولُه: وَهُمْ يُخْلَقُونَ يحتَمِلُ أن يريدَ: يخلُقُهم اللهُ بالاختراعِ والإيجادِ، ويحتَمِلُ أن يريدَ: يخلُقُهم البشَرُ بالنَّحتِ والنِّجارةِ، وهذا التأويلُ أشَدُّ إبداءً لخَساسةِ الأصنامِ). ((تفسير ابن عطية)) (4/199، 200). ممَّن اختار المعنى الثانيَ: مقاتلُ بن سليمان، ويحيى بن سلام، وابن أبي زمنين، والزمخشري، والبيضاوي، والعليمي. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (3/226)، ((تفسير يحيى بن سلام)) (1/468)، ((تفسير ابن أبي زمنين)) (3/253)، ((تفسير الزمخشري)) (3/263)، ((تفسير البيضاوي)) (4/117)، ((تفسير العليمي)) (5/6). وممَّن جمَع بينَ المعنيينِ السَّابِقَينِ: السعديُّ. يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 577). قال البقاعي: (وَهُمْ يُخْلَقُونَ أي: بما يُشاهَدُ فيهم مِنَ التغَيُّرِ والطَّواعِيَةِ لِمَشيئتِه سُبحانَه، ومِن ذلك أنَّ عَبَدَتَهم افتَعَلوهم بالنَّحتِ والتَّصويرِ). ((نظم الدرر)) (13/337). !
كما قال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ [الحج: 73].
وقال سُبحانَه: قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ * وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ [الصافات: 95، 96].
وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا.
أي: ولا تَستطيعُ المعبوداتُ مِن دونِ اللهِ أن تدفَعَ عن نفْسِها ضَرًّا، ولا أن تجلِبَ لنَفسِها نفعًا [26] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/397)، ((تفسير القرطبي)) (13/3)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (6/11). وممَّن ذهب إلى هذا المعنى المذكورِ: ابنُ جرير، والقرطبي، والشنقيطي. يُنظر: المصادِرُ السابِقةُ. قال ابنُ عثيمين: (قَولُه: وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا... وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا: لو أرادوا أن يَضُرُّوا أنفُسَهم ما ضَرُّوها، ولو أرادوا أن يدْفَعوا عنها ضَرَرًا ما دفَعوا عنها؛ ... قولُه: وَلَا نَفْعًا يعني: لا يَملِكونَ أن يجُرُّوا لأنفُسِهم نَفعًا، ولا يملِكون أيضًا أن يدفَعوه عن أنفُسِهم... وإبقاءُ الآيةِ على العُمومِ أَولى، يعني: لا يَستطيعونَ شَيئًا لأنفُسِهم، وإذا كانوا لا يَستَطيعونَ ذلك لأنفُسِهم، فمِن بابِ أَولَى لا يَستطيعونَه لعابِدِيهم!). ((تفسير ابن عثيمين- سورة الفرقان)) (ص: 28، 29). .
وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا.
أي: ولا تَستطيعُ المعبوداتُ مِن دونِ اللهِ إماتةَ حَيٍّ، ولا إحياءَ مَيِّتٍ، ولا بَعْثَه بعدَ مَوتِه [27] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/397)، ((تفسير القرطبي)) (13/3)، ((تفسير ابن كثير)) (6/93)، ((تفسير ابن عاشور)) (18/321). .

الفوائد التربوية:

1- في قَولِه تعالى: تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ أنَّ هذا الربَّ المُنْعِمَ المتفضِّلَ القُدُّوسَ: هو الذي أَنزلَ هذا الفرقانَ، فإذا أردتَ أن تَرقَى في درجاتِ الكمالِ، وتظفرَ بأنواعِ الإنعامِ، وتُزَكِّيَ نفْسَك الزَّكاءَ التامَّ؛ فعليك بهُدى هذا الفرقانِ، فهو بساطُ القُدُسِ، ومِعراجُ الكمالِ، ومائدةُ الإكرامِ [28] يُنظر: ((تفسير ابن باديس)) (ص: 154). .
2- قال الله تعالى: تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا لَمَّا سمَّى الله كتابَه الفُرقانَ، عَلِمْنا أنَّه به يُفرَقُ بيْنَ الحقِّ والباطلِ، وأهْلِ هذا وذاك. فهو الحَكَمُ العَدلُ، والقَولُ الفَصلُ بيْن كلِّ متنازعينِ يدَّعي كلٌّ منهما أنَّه على الحَقِّ فيما هو عليه مِن عَقدٍ أو قَولٍ أو عمَلٍ، فما تقابَلَ حقٌّ وباطلٌ، وما تعالجت حُجَّةٌ وشُبهةٌ إلَّا وفي هذا الكتابِ الحكيمِ ما يَفرُقُ ما بيْنهما. وإنما يتفاوتُ النَّاسُ في إدراكِ ذلك منه على حسَبِ ما عندَهم مِن قوةِ عِلمٍ، وصِدقِ بصيرةٍ، وحُسنِ إخلاصٍ، فعلينا -إذَنْ- أن يكون أوَّلُ فزَعِنا في الفَرقِ والفَصلِ إليه، وأن يكون أوَّلُ جُهدِنا في استجلاءِ ذلك مِن نصوصِه ومَراميه، مستعينينَ بالسُّنَّةِ القوليَّةِ والعمليَّةِ على استخراجِ لَآليه، فإذا حكَمَ قَبِلْنا وسَلَّمْنا، وكنَّا مع ما حكَمَ له، وفارَقْنا ما حكَم عليه؛ فالله سمَّاه الفرقانَ لِنَعلمَ أنَّه فارِقٌ بنفْسِه، ولِنَعملَ بالفَرقِ به، ولا يَكمُلُ إيمانُنا بأنَّه الفرقانُ إلَّا بالعلمِ والعمَلِ [29] يُنظر: ((تفسير ابن باديس)) (ص: 154). .
3- قال الله تعالى: تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا نستفيدُ مِن النَّاحيةِ المسلكيَّةِ التربويَّةِ: أن تتأكَّدَ وتزدادَ محبَّتُنا لرَسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ حيث كان عبدًا لله، قائِمًا بإبلاغِ الرِّسالةِ، وإنذارِ الخَلقِ [30] يُنظر: ((مجموع فتاوى ورسائل العثيمين)) (8/307). .
4- نَستفيدُ مِن قَولِه تعالى: تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ أنَّ الإنسانَ إذا أراد أنْ تتبينَ له الأمورُ، فلْيَرجِعْ إلى القُرآنِ؛ لأنَّ اللهَ سمَّاه فُرقانًا [31] يُنظر: ((مجموع فتاوى ورسائل العثيمين)) (8/307). ، فكما أنَّه فُرقانٌ بذاتِه يَفرُقُ، فإنَّ مَن كان مِن أهلِه ولازَمَه وعَمِلَ به، أُوتيَ هذه الصِّفةَ، وصار له تَفريقٌ بين الحَقِّ والباطِلِ؛ لِقَولِ اللهِ عَزَّ وجَلَّ:   يَٰٓأَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا [32] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الفرقان)) (ص: 12). [الأنفال: 29] .
5- قال الله تعالى: تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا لَمَّا جَعَلَ تعالى غايةَ تنزيلِ الفُرقانِ أنْ يكونَ عبْدُه نذيرًا، اقتضى ذلك أنَّ نِذارتَه تكونُ بالقُرآنِ؛ لتَقومَ الحُجَّةُ، وتتِمَّ الحِكمةُ، وتحصُلَ الفائدةُ، وتشمَلَ النعمةُ، وقد صُرِّحَ بهذا في قَولِه تعالى: كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ [الأعراف: 2] ، وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآَنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ [الأنعام: 19] ؛ فعلينا -إذَنْ- أن نَعلَمَ أنَّ القرآنَ هو كتابُ النِّذارةِ والهدايةِ، فنستخرجَ أصولَها وفُنونَها مِن آياتِه، وهذا حظُّ العِلمِ؛ وأن يكونَ اهتداؤنا في أنفُسِنا وهديُنا لغيرِنا به، وهذا حظُّ العمَلِ، وهما رُكنا الإيمانِ [33] يُنظر: ((تفسير ابن باديس)) (ص: 155). .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- قال الله تعالى: تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا تَبَارَكَ فِعلٌ مختَصٌّ بالله تعالى لم يُستعمَلْ في غَيرِه [34] يُنظر: ((تفسير ابن عطية)) (4/199). ، فلا يقالُ لغيرِ الله: (تَبارَك) [35] يُنظر: ((أضواء البيان)) للشنقيطي (6/5). .
2- قَولُه تعالى: تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا لمَّا قال تعالى أولًا: تَبَارَكَ ومعناه كثرةُ الخيرِ والبَرَكةِ، ثمَّ ذكَرَ عَقِبَه أمرَ القرآنِ؛ دلَّ ذلك على أنَّ القُرآنَ مَنشأُ الخيراتِ، وأعمُّ البَرَكاتِ [36] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (24/429). . وأيضًا فإسنادُه تَبَارَكَ إلى قولِه: الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ، يدُلُّ على أنَّ إنزالَه الفُرقانَ على عبدِه مِن أعظَمِ البَرَكاتِ والخَيراتِ والنِّعَمِ التي أنعَمَ بها على خَلقِه [37] يُنظر: ((أضواء البيان)) للشنقيطي (6/5). .
3- قَولُه تعالى: تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا تكلَّمَ الله سُبحانَه وتعالى في هذه السُّورةِ في التَّوحيدِ والنبوَّةِ وأحوالِ القيامةِ، ثم خَتَمها بذكرِ صفاتِ العبادِ المُخلِصينَ الموقِنينَ، ولمَّا كان إثباتُ التوحيدِ يجبُ أنْ يكونَ مُقَدَّمًا على الكُلِّ؛ لا جَرَم افتتحَ اللهُ هذه السُّورةَ بذلك [38] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (24/428). .
4- اللهُ سُبحانَه قد أقام الحُجَّةَ على خَلقِه بكتابِه ورُسُلِه، فقال: تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا، وقال: وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآَنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ [الأنعام: 19] ، فكلُّ مَن بلَغَه هذا القرآنُ فقد أُنذِرَ به، وقامت عليه حُجَّةُ اللهِ به [39] يُنظر: ((الصواعق المرسلة)) لابن القيم (2/735). .
5- قال تعالى: تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا فافتتَح هذه السُّورةَ بأنَّه تعالَى مُنَزَّهٌ في صفاتِه عن النَّقائصِ، كثيرُ الخيرِ، ومِن خَيرِه أنَّه نَزَّلَ الفُرقانَ على رسولِه مُنْذِرًا لهم؛ فكانَ في ذلك إطماعٌ في خَيرِه، وتحذيرٌ مِن عِقابِه [40] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (8/79). .
6- قَولُه تعالى: تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا كالتَّنبيهِ على أنَّه لا التفاتَ إلى المنافعِ العاجلةِ؛ وذلك لأنَّه سُبحانَه لَمَّا وَصَفَ نفْسَه بأنه الذي يُعطي الخيراتِ الكثيرةَ لم يَذْكُرْ إلَّا منافعَ الدِّينِ، ولم يَذْكُرِ البتَّةَ شيئًا مِن منافعِ الدُّنيا [41] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (24/429). .
7- قال الله تعالى: تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا، في إيثارِ اسمِ الْفُرْقَانَ بالذِّكْرِ هنا إيماءٌ إلى أنَّ ما سيُذْكَرُ مِن الدَّلائلِ على الوحدانيَّةِ وإنزالِ القرآنِ دلائلُ قيِّمَةٌ تُفَرِّقُ بيْنَ الحقِّ والباطلِ [42] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (18/317). .
8- قوله تعالى: تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا فيه أنَّ القُرآنَ كَلامُ اللهِ؛ لأنَّ اللهَ إذا أضاف إنزالَ شيءٍ إليه، ولم يكُنْ عينًا قائمًا بذاتِه ولا صفةً في عينٍ قائمةٍ بذاتِها؛ لزِم أن يكونَ صفةً مِن صفاتِ الله، فتعيَّن أن يكونَ كلامًا لله تعالى [43] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الفرقان)) (ص: 12، 18). .
9- قال تعالى: تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ، قَولُه تعالى: عَلَى عَبْدِهِ هذه صِفةُ مَدحٍ وثَناءٍ؛ لأنَّ اللهَ أضاف نَبيَّه إلى عُبُوديَّتِه [44] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (6/92). . وقد وَصَف اللهُ تعالى أكرَمَ خَلْقِه عليه، وأعلاهم عِندَه مَنزِلةً بالعُبوديَّةِ في أشرَفِ مَقاماتِه؛ فذَكَره بالعُبوديَّةِ في مَقامِ إنزالِ الكِتابِ عليه، فقال تبارك تعالى: تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ، وقال تعالى: وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا [البقرة: 23] ، وقال: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ [الكهف: 1] ، وذَكَره بالعُبوديَّةِ في مَقامِ التحَدِّي بأن يأتُوا بمِثْلِه في قَولِه: وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا، وذَكَره بالعُبوديَّةِ في مَقامِ الدَّعوةِ إليه، فقال: وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا [الجن: 19] ، وذَكَره بالعُبوديَّةِ في مَقامِ الإسراءِ، فقال: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا [45] يُنظر: ((مدارج السالكين)) لابن القيم (1/122، 123). [الإسراء: 1] .
10- في قَولِه تعالى: تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا إشارةٌ إلى كثرةِ المستحقِّينَ للنِّذارةِ [46] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (13/332). .
11- في قَولِه تعالى: تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا إثباتُ الحكمةِ في أفعالِ اللهِ تعالى؛ لِقَولِه: لِيَكُونَ؛ لأنَّ «اللامَ» في قَولِه: لِيَكُونَ للتَّعليلِ، فإذا كانت للتعليلِ دلَّ هذا على أنَّها تفيدُ الحِكمةَ؛ إِذِ العلَّةُ هي الباعثةُ على الشَّيءِ، أو هي غايةُ الشَّيءِ؛ لأنَّ العلةَ إمَّا غائيَّةٌ أو باعثةٌ، وكلٌّ منها يدُلُّ على الحِكمةِ [47] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الفرقان)) (ص: 18). .
12- في قَولِه تعالى: نَزَّلَ الْفُرْقَانَ دَلالةٌ على أنَّ اللهَ في السَّماءِ، ووجهُ الدَّلالةِ: أنَّ النُّزولَ يكونُ مِن عُلُوٍّ؛ وإذا كان اللهُ نَزَّلَ الفُرقانَ، فإنَّ هذا يدُلُّ على عُلُوِّ اللهِ تبارك وتعالى [48] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الفرقان)) (ص: 18). .
13- في قَولِه تعالى: نَزَّلَ الْفُرْقَانَ أنَّ القُرآنَ كلَّه واضِحٌ صَريحٌ ليس فيه إشكالٌ؛ لأنَّه لا يمكنُ أن يكونَ فُرقانًا إلَّا على هذا الوجهِ، وأمَّا قولُه تعالى: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا [الزمر: 23] فالمرادُ بالتَّشابُهِ فيه ليس اشتباهَ المَعنى، بل هو الموافَقةُ والمُشاكَلةُ في الكَمالِ والحُسنِ [49] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الفرقان)) (ص: 18). .
14- قَولُه تعالى: لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا يدُلُّ على عمومِ رسالتِه صلَّى الله عليه وسلَّم للأسودِ والأحمرِ، والجنِّ والإنسِ؛ لدخولِ الجميعِ في قولِه تعالى: لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا [50] يُنظر: ((أضواء البيان)) للشنقيطي (6/3). ، فهو يتناوَلُ جميعَ المكلَّفِينَ مِن الجِنِّ والإنْسِ [51] أمَّا الملائِكةُ فقد حكى الرازيُّ الإجماعَ على أنَّه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ لم يكُنْ رَسولًا إلى الملائكةِ، وقد قدَح في هذا الإجماعِ البِقَاعيُّ في ((نظم الدرر)) (7/70) و(13/332). ويُنظر تفصيلُ المسألةِ، والخلافُ فيها في رسالةِ: ((تزيين الأرائكِ في إرسالِ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم إلى الملائكِ)) للسيوطيِّ. .
ويَبطُلُ بهذا قولُ مَن قال: إنَّه كان رسولًا إلى بعضِ الناسِ دونَ بعضٍ [52] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (24/429). ، فمَن قال: إنَّه رسولٌ إلى العَرَبِ فقط، فإنَّه كافرٌ به [53] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الفرقان)) (ص: 18). .
15- قال الله تعالى: تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا، دلَّتِ الآيةُ على أنَّه رَسولٌ للخَلْقِ إلى يَومِ القيامةِ؛ فوَجَبَ أنْ يكونَ خاتَمَ الأنبياءِ والرُّسُلِ [54] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (24/429). .
16- في قَولِه تعالى: لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا فضْلُ الرَّسولِ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ، حيثُ كُلِّفَ الرِّسالةَ إلى جميعِ الخَلقِ؛ لأنَّ هذا دَليلٌ على فضْلِه، وأنَّه أهلٌ لهذه المهِمَّةِ العظيمةِ؛ فلو أَرسلتَ إنسانًا لِيُصلحَ بيْن شخصينِ فهذا دليلٌ على فضْلِه، لكنْ لو أرسلتَ إنسانًا لِيُصلِحَ بيْن طائفتينِ أو أُمَّتَينِ فهذه زيادةُ فضلٍ؛ ولذلك لا يُرسَلُ لهذه المهمَّةِ الأخيرةِ إلَّا مَن هو جديرٌ بها، فكَوْنُ الرَّسولِ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ أُرسِلَ لجميعِ الخَلقِ دَليلٌ على فَضلِه؛ حيث حُمِّل الرِّسالةَ إلى جَميعِ الخَلقِ [55] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الفرقان)) (ص: 19). .
17- قال الله تعالى: تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا * الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فذكَرَ الله سُبحانه وتعالى إنزالَ الفُرقانِ، وهو تشريعٌ وتَنظيمٌ، ثمَّ أعقَبَه بقَولِه: الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ؛ إشارةً إلى أنَّه يجِبُ العمَلُ بما جاء في هذا الفرقانِ؛ لأنَّه جاء مِن مالكِ السَّمواتِ والأرضِ، والمالِكُ له حَقُّ التصَرُّفِ في مملوكِه، بأنْ يُشَرِّعَ له ما شاء، ويُنَظِّمَ له ما شاء، وهذه هي الفائدةُ مِن قَولِه: الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ بعْدَ قَولِه: الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ، فأتى بالتَّشريعِ أوَّلًا، أو بدُستورِ التَّشريعِ كما يقولون، ثمَّ أتى بعْدَ ذلك بعُمومِ المُلكِ؛ لأنَّه عزَّ وجَلَّ إذا كان هو المالِكَ العامَّ للسَّمواتِ والأرضِ، لَزِمَ أن يكونَ ما شَرَعه حتمًا على المملوكينَ [56] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الفرقان)) (ص: 20). .
18- قال الله تعالى: الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا أثنى جلَّ وعلا على نفْسِه في هذه الآيةِ الكريمةِ بخَمسةِ أُمورٍ، هي أدِلَّةٌ قاطِعةٌ على عَظَمتِه واستحقاقِه وحْدَه لإخلاصِ العبادةِ له:
الأوَّلُ منها: أنَّه هو الذي له مُلكُ السَّمواتِ والأرضِ.
والثاني: أنَّه لم يتَّخِذْ ولَدًا- سُبحانَه وتعالى عن ذلك عُلُوًّا كَبيرًا.
والثالثُ: أنَّه لا شريكَ له في مُلكِه.
والرابعُ: أنَّه هو خالِقُ كُلِّ شَيءٍ.
والخامسُ: أنَّه قَدَّر كُلَّ شَيءٍ خَلَقه تقديرًا [57] يُنظر: ((أضواء البيان)) للشنقيطي (6/6). .
19- في قَولِه تعالى: الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ إيماءٌ إلى أنَّ الاشتراكَ في المِلكِ ينافي حقيقةَ المِلكِ التامَّةَ التي لا يَليقُ به غيرُها [58] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (18/318). .
20- قَولُه تعالى: وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا فيه ردٌّ على مُشْركي قُريشٍ، وعلى النَّصارى واليهودِ النَّاسبينَ للهِ الولَدَ [59] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (8/80). .
21- في قَولِه تعالى: وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ دَلالةٌ على أنَّه سُبحانَه خالقٌ لأعمالِ العِبادِ، وهذا مِن وجهينِ:
الأول: أنَّ قولَه: وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ يتناوَلُ جميعَ الأشياءِ؛ فيتناولُ أفعالَ العبادِ.
والثاني: أنَّه تعالى بعْدَ أنْ نفَى الشريكَ ذَكَر ذلك، والتقديرُ أنَّه سُبحانَه لَمَّا نفَى الشريكَ كأنَّ قائلًا قال: هاهنا أقوامٌ يَعترفون بنَفيِ الشُّركاءِ والأندادِ، ومع ذلك يقولون: إنَّهم يَخلقون أفعالَ أنفسِهم؛ فذَكَرَ اللهُ تعالى هذه الآيةَ لتكونَ مُعينةً في الرَّدِّ عليهم [60] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (24/430). .
22- قَولُه تعالى: وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا إنْ كان الخلْقُ بمعنى التَّقديرِ، فكيف جاء فَقَدَّرَهُ؛ إذ يَصيرُ المعنى: وقدَّرَ كلَّ شَيءٍ يُقدِّرُه تقديرًا، وكيف جمَعَ بيْنهما؟
الجوابُ: أنَّ الخلْقَ مِن اللهِ هو الإيجادُ؛ فصَحَّ الجمْعُ بيْنه وبيْن التَّقديرِ، والمعنى أنَّه أحدَثَ كلَّ شَيءٍ إحداثًا مُراعًى فيه التَّقديرُ والتَّسويةُ، فقدَّرَه وهيَّأَهُ لِمَا يَصلُحُ له. أو سمَّى إحداثَ اللهِ خلْقًا؛ لأنَّه لا يُحدِثُ شيئًا -لحِكْمتِه- إلَّا على وَجْهِ التَّقديرِ مِن غيرِ تفاوُتٍ، فإذا قِيل: خلَقَ اللهُ كذا، فهو بمَنزلةِ قولِك: أحدَثَ وأوجَدَ، مِن غيرِ نظَرٍ إلى وَجهِ الاشتقاقِ، فكأنَّه قِيل: وأوجَدَ كلَّ شيءٍ، فقدَّرَهُ في إيجادِه لم يُوجِدْه مُتفاوِتًا. وقيل: فجعَلَ له غايةً ومُنتهًى، ومعناهُ: فقدَّرَه للبقاءِ إلى أمدٍ معلومٍ، ولو سُلِّمَ أنَّه التَّقديرُ، فساغ الجمْعُ بيْنهما لاختلافِهما لفظًا [61] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/263)، ((تفسير البيضاوي)) (4/117)، ((تفسير أبي حيان)) (8/80، 81)، ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص: 403). .
23- قَولُه تعالى: لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا يُستدَلُّ به على أنَّ فِعلَ العَبدِ مَخلوقٌ لله تعالى؛ لأنَّه تعالى عابَ هؤلاء الكفَّارَ مِن حيثُ عَبَدوا ما لا يَخلقُ شَيئًا، وذلك يدُلُّ على أنَّ مَن خَلَقَ يَستحقُّ أن يُعبَدَ، فلو كان العبدُ خالِقًا لكان مَعبودًا إلهًا [62] يُنظر: ((تفسير الشربيني)) (2/647). .
24- قال الله تعالى: وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آَلِهَةً لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ لَمَّا اعتَقَد المُشرِكون فيها أنَّها تضُرُّ وتنفَعُ، عبَّر عنها كما يعبَّرُ عمَّا يعقِلُ [63] يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (13/3). .
25- في قَولِه تعالى: وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آَلِهَةً لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ أنَّه ينبغي للإنسانِ أنْ يَسوقَ للخَصمِ ما يُقِرُّ به لُزومًا؛ حتى تقومَ الحُجَّةُ عليه، فهؤلاء الذين جَعَلوها آلهةً لا يمكِنُ أنْ يَدَّعوا أنَّها تخلُقُ، ولا يمكِنُ أنْ يَدَّعوا أنَّها غيرُ مخلوقةٍ [64] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الفرقان)) (ص: 31). .
26- في قَولِه تعالى: وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا حُجَّةٌ على مَن يَرُدُّ مَشيئةَ العبادِ إلى أنفُسِهم؛ إذْ لو كانتِ المشيئةُ إليهم لكانوا مالِكينَ لضَرِّهم ونَفْعِهم، وقد نفاهما اللهُ تعالى عنهم، كما نفَى عنهم الموتَ والحياةَ والنُّشورَ [65] يُنظر: ((النكت الدالة على البيان)) للقصاب (3/503). قال ابنُ تيميَّة: (إنَّ العَبدَ له مَشيئةٌ، وهي تابِعةٌ لِمَشيئةِ اللهِ، كما ذكَرَ اللهُ ذلك في عِدَّةِ مَواضِعَ مِن كتابِه: فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ * وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ [المدثر: 55-56] ، فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا [المزمل: 19] ، وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ [الإنسان: 30] ، لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ * وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ [التكوير: 28 - 29] ). ((مجموع الفتاوى)) (8/374). وقال أيضًا: (له مَشيئةٌ لكُلِّ ما يَفعَلُه باختيارِه مِن خَيرٍ وشَرٍّ، وكُلُّ ذلك إنَّما يكونُ بمَشيئةِ اللهِ وقُدرتِه؛ فلا بُدَّ مِن الإيمانِ بهذا وهذا). ((مجموع الفتاوى)) (8/240). .
27- قَولُ الله تعالى: وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا هذه الآيةُ تدُلُّ على البَعثِ؛ لأنَّه تعالى ذَكَرَ النُّشورَ، ومعناه أنَّ المعبودَ يجبُ أنْ يكونَ قادرًا على إيصالِ الثَّوابِ إلى المُطيعينَ، والعقابَ إلى العُصاةِ، فمَن لا يكونُ كذلك وَجَبَ ألَّا يَصلُحَ للإلهيَّةِ [66] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (24/432). .
28- قَولُه تعالى: وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آَلِهَةً لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا زيَّف الله تعالى فيه مذهَبَ عَبَدةِ الأوثانِ، وبيَّنَ نُقصانَها مِن وجوهٍ:
أحدُها: أنَّها ليستْ خالقةً للأشياءِ؛ والإلهُ يجبُ أنْ يكونَ قادرًا على الخلْقِ والإيجادِ.
وثانيها: أنَّها مخلوقةٌ؛ والمخلوقُ محتاجٌ؛ والإلهُ يجبُ أنْ يكونَ غنيًّا.
وثالثُها: أنَّها لا تَمِلكُ لأنفُسِها ضرًّا ولا نفعًا؛ ومَن كان كذلك فهو لا يملكُ لغيرِه أيضًا نفعًا؛ ومَن كان كذلك فلا فائدةَ في عبادتِه.
ورابعُها: أنَّها لا تملكُ موتًا ولا حياةً ولا نُشورًا، أي: لا تَقدِرُ على الإحياءِ والإماتةِ في زمانِ التكليفِ، وثانيًا في زمانِ المجازاةِ، ومَن كان كذلك كيف يسمَّى إلهًا؟! وكيف يَحْسُنُ عبادتُه مع أنَّ حقَّ مَن يحقُّ له العبادةُ أنْ يُنْعِمَ بهذه النِّعَمِ المخصوصةِ [67] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (24/431). ؟!

بلاغة الآيات:

1- قَولُه تعالى: تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا افتتاحٌ بديعٌ؛ لِنُدرةِ أمثالِه في كَلامِ بُلغاءِ العرَبِ؛ لأنَّ غالبَ فواتحِهم أنْ تكونَ بالأسماءِ مُجرَّدةً أو مُقترِنةً بحرفٍ غيرِ مُنفصِلٍ، أو بأفعالِ المُضارَعةِ ونحوِها، أو بحروفِ التَّأكيدِ أو الاستفهامِ أو التَّنبيهِ، مثْلُ (إنَّ) و(قد) والهمزةِ و(هَلْ). وبهذه النُّدرةِ يكونُ في طالعِ هذه السُّورةِ بَراعةُ المَطلَعِ؛ لأنَّ النُّدرةَ مِن العِزَّةِ، والعِزَّةُ مِن مَحاسنِ الألفاظِ، وضِدُّها الابتذالُ [68] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (18/315، 316). .
- وقولُه: تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ ... على القولِ بأنَّه إخبارٌ عن عَظَمةِ اللهِ، وتوفُّرِ كَمالاتِه؛ فيكونُ المقصودُ به التَّعليمَ والإيقاظَ، ويجوزُ مع ذلك أنْ يكونَ كِنايةً عن إنشاءِ ثَناءٍ على اللهِ تعالى؛ أنشَأَ اللهُ به ثَناءً على نفْسِه كقولِه: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ [الإسراء: 1] ، على طريقةِ الكلامِ العربيِّ في إنشاءِ التَّعجُّبِ مِن صِفاتِ المُتكلِّمِ في مَقامِ الفخرِ والعظَمةِ، أو إظهارِ غرائبَ صدَرَتْ [69] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (18/316). .
- كلمةُ تَبَارَكَ لا تُستعمَلُ إلَّا للهِ بلَفظِ الماضي، وقد ذُكِرَت في هذه السُّورةِ في ثلاثةِ مواضِعَ؛ تَعظيمًا للهِ تعالى، وخُصَّتْ مَواضُعها بذِكْرِها؛ لِعِظَمِ ما بعْدَها:
الأوَّلُ: ذِكْرُ الفُرقانِ، وهو القُرآنُ، المُشتمِلُ على معاني جميعِ كُتبِ اللهِ.
والثَّاني: ذِكْرُ النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، ومُخاطَبةُ اللهِ له فيه.
والثَّالثُ: ذِكْرُ البُروجِ، والشَّمسِ والقمَرِ، واللَّيلِ والنَّهارِ، ولولاها -بعْدَ اللهِ- لَمَا وُجِدَ في الأرضِ حيوانٌ ولا نَباتٌ [70] يُنظر: ((أسرار التكرار في القرآن)) للكرماني (ص: 188)، ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص: 402، 403). .
- قَولُه: تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ فيه إبرازُ تَنزيلِ الفُرقانِ في مَعْرضِ الصِّلةِ الَّتي حَقُّها أنْ تكونَ مَعلومةَ الثُّبوتِ للمَوصولِ عندَ السَّامعِ مع إنكارِ الكَفَرةِ له؛ لإجرائِه مُجْرى المَعلومِ المُسلَّمِ؛ تَنبيهًا على كَمالِ قُوَّةِ دَلائلِه، وكونِه بحيثُ لا يَكادُ يَجْهلُه أحدٌ [71] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (4/117)، ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (11/169)، ((تفسير أبي حيان)) (8/79)، ((تفسير أبي السعود)) (6/200). . والموصولُ الَّذِي نَزَّلَ يُومِئُ إلى عِلَّةِ ما قبْلَه؛ فهو كِنايةٌ عن تَعظيمِ شأْنِ الفُرقانِ وبَرَكتِه على النَّاسِ مِن لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا، فتلك مِنَّةٌ عظيمةٌ تُوجِبُ الثَّناءَ على اللهِ. وهو أيضًا كِنايةٌ عن تَعظيمِ شأْنِ الرَّسولِ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ [72] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (18/316). .
- وقولُه: الْفُرْقَانَ، أي: المُفرَّقَ -على أحدِ القولينِ في التفسيرِ-، وجاء في أثناءِ السُّورةِ بعْدَ آياتٍ: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآَنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً [الفرقان: 32] ، قال اللهُ تعالى: كَذَلِكَ، أي: أنزَلْناهُ مُفرَّقًا، كذلك لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ؛ فيكونُ وصْفُه بالفُرقانِ في أوَّلِ السُّورةِ -واللهُ أعلَمُ- كالمُقدِّمةِ والتَّوطئةِ لِمَا يأْتي بعْدُ [73] يُنظر: ((تفسير الزمخشري – حاشية ابن المنير)) (3/262). .
- ووَصْفُ النَّبيِّ بـ عَبْدِهِ تَقريبٌ له، وتَمهيدٌ لإبطالِ طلَبِهم منه في قولِه: وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ [الفرقان: 7] الآيةَ [74] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (18/317). . وإيرادُه صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أيضًا بذلك العُنوانِ؛ لتَشريفِه، والإيذانِ بكَونِه صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ في أقصى مَراتبِ العُبوديَّةِ، والتَّنبيهِ على أنَّ الرَّسولَ لا يكونُ إلَّا عبْدًا للمُرسِلِ؛ ردًّا على النَّصارى [75] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/200). .
- قَولُه: لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا فيه تَقديمُ الجارِّ والمجرورِ على عامِلِه؛ لمُراعاةِ الفواصلِ [76] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/200). .
- وفي قولِه: لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا مُناسبةٌ حَسنةٌ؛ حيث اقتصَرَ في وصْفِ الرَّسولِ هنا على النَّذيرِ دونَ البشيرِ، كما في قولِه: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا [سبأ: 28] ؛ لأنَّ المقامَ هنا لتَهديدِ المُشركينَ؛ إذ كذَّبوا بالقُرآنِ وبالرَّسولِ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ؛ فكان مُقْتضيًا لذِكْرِ النِّذارةِ دونَ البِشارةِ، وفي ذلك اكتِفاءٌ؛ لأنَّ البِشارةَ تَخطُرُ ببالِ السَّامعِ عندَ ذِكْرِ النِّذارةِ. وسيَجِيءُ: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا في هذه السُّورةِ [الآية: 56] [77] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/200)، ((تفسير ابن عاشور)) (18/317). ؛ ففي اختصاصِ النَّذيرِ دونَ البشيرِ سُلوكُ طريقِ بَراعةِ الاستهلالِ، والإيذانُ بأنَّ هذه السُّورةَ مُشتمِلةٌ على ذِكْرِ المُعانِدينَ المُتَّخِذينَ للهِ ولدًا وشريكًا، الطَّاعنينَ في كُتبِه ورُسلِه واليومِ الآخِرِ [78] يُنظر: ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (11/168). . وقيل: اقتصرَ على النِّذارةِ؛ للإشارةِ إلى البِشارةِ بلفظِ تَبَارَكَ [79] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (13/331). .
2- قَولُه تعالى: الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا
- قَولُه: الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ  ... على القولِ بأنَّ مَحَلَّه الرَّفعُ على أنَّه خبرٌ لمُبتدأٍ مَحذوفٍ؛ فالجُملةُ مُستأنَفةٌ مُقرِّرةٌ لِمَا قبْلَها [80] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/201). . وعلى أنَّ قولَه: الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بدَلٌ مِن قولِه: الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ [الفرقان: 1] ؛ فإعادةُ اسمِ الموصولِ لاختلافِ الغرَضِ مِن الصِّلتينِ؛ لأنَّ الصِّلةَ الأُولى في غرَضِ الامتِنانِ بتَنزيلِ القُرآنِ للهُدى، والصِّلةَ الثَّانيةَ في غرَضِ اتِّصافِ اللهِ تعالى بالوَحدانيَّةِ [81] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (18/318). .
- وقولُه: لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ توطئةٌ وتَمهيدٌ لقولِه: وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ، وأردَفَه بقولِه: وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ؛ لأنَّ كَوْنَه بَديعَ السَّمواتِ والأرضِ، ومُفطِرَهما، ومالِكَهما، مُنافٍ لاتِّخاذِ الولَدِ والشَّريكِ [82] يُنظر: ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (11/168). .
- وقد أُجْرِيَت على اسمِ اللهِ تعالى هذه الصِّفاتُ الأربعُ -الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا- بطريقِ تَعريفِ الموصوليَّةِ؛ لأنَّ بعضَ الصِّلاتِ مَعروفٌ عندَ المُخاطَبينَ اتِّصافُ اللهِ به، وهما الصِّفتانِ الأُولى والرَّابعةُ؛ وإذ قد كانَتَا مَعلومتينِ كانت الصِّلتانِ الأُخْرَيانِ المذْكورتانِ معهما في حُكْمِ المعروفِ؛ لأنَّهما أُجْرِيَتا على مَن عُرِفَ بالصِّلتينِ الأُولى والرَّابعةِ؛ فإنَّ المُشركين ما كانوا يَمتَرُون في أنَّ اللهَ هو مالِكُ السَّمواتِ والأرضِ، ولا في أنَّ اللهَ هو خالِقُ كلِّ شيءٍ، كما في قولِه: قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ الآياتِ [86، 87] مِن سُورةِ (المؤمنون)، ولكنَّهم يُثبِتون للهِ ولدًا وشريكًا في المُلْكِ. ومِن بَديعِ النَّظمِ أنْ جُعِلَ الوَصفانِ المُختلَفُ فيهما معهم مُتوسِّطَينِ بيْنَ الوصفينِ اللَّذينِ لا مِريةَ فيهما؛ حتَّى يكونَ الوَصفانِ المُسلَّمينِ كالدَّليلِ أوَّلًا، والنَّتيجةِ آخِرًا؛ فإنَّ الَّذي له مُلْكُ السَّمواتِ والأرضِ لا يَلِيقُ به أنْ يَتَّخِذَ ولدًا، ولا أنْ يَتَّخِذَ شَريكًا؛ لأنَّ مُلْكَه العظيمَ يَقْتضي غِناهُ المُطْلَقَ، فيَقْتضي أنْ يكونَ اتِّخاذُه ولدًا وشريكًا عبَثًا؛ إذ لا غايةَ له، وإذا كانت أفعالُ العُقلاءِ تُصانُ عن العبَثِ؛ فكيف بأفعالِ أحكَمِ الحُكماءِ تعالى وتقدَّسَ [83] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (18/318). ؟!
- ونظَمَ قولَه: وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا في سِلْكِ الصِّلةِ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ...؛ للإيذانِ بأنَّ مَضمونَه مِن الوُضوحِ والظُّهورِ بحيثُ لا يَكادُ يَجْهَله جاهِلٌ، لا سيَّما بعدَ تَقريرِ ما قبْلَه [84] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/201). .
- قَولُه: وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ تأكيدٌ لقولِه: لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وردٌّ على مَن جعَل لله شريكًا [85] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (8/80). . وتَوسيطُ نفْيِ اتِّخاذِ الولدِ بيْنَهما؛ للتَّنبيهِ على استقلالِه وأصالَتِه، والاحترازِ عن تَوهُّمِ كونِه تَتِمَّةً للأوَّلِ [86] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/201). .
- قَولُه: وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا الجُملةُ جاريةٌ مَجْرى التَّعليلِ لِمَا قبْلَها مِن الجُمَلِ المُنتظِمةِ مِثْلِها في سِلْكِ الصِّلةِ؛ فإنَّ خَلْقَه تعالى لجَميعِ الأشياءِ على ذلك النَّمطِ البديعِ -كما يَقْتضي استقلالَه تعالى باتِّصافِه بصِفاتِ الأُلوهيَّةِ- يَقْتضي انتظامَ كلِّ ما سِواهُ كائنًا ما كان تحت مَلكوتِه القاهرِ، بحيثُ لا يَشِذُّ عنها شَيءٌ مِن ذلك قطْعًا، وما كان كذلك كيف يُتوَّهَمُ كونُه ولدًا له سُبحانه أو شَريكًا في مُلْكِه [87] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/201). ؟!
- وفرَّعَ على (خَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ) قولَه: فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا؛ لأنَّه دليلٌ على إتْقانِ الخلْقِ إتقانًا يدُلُّ على أنَّ الخالقَ مُتَّصِفٌ بصِفاتِ الكَمالِ [88] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (18/318). .
- وقولُه: فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا فيه تأكيدُ الفِعْلِ فَقَدَّرَهُ بالمفعولِ المُطلَقِ تَقْدِيرًا؛ للدَّلالةِ على أنَّه تقديرٌ كاملٌ في نَوعِ التَّقاديرِ [89] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (18/319). .
- وما جاء مِن أوَّلِ السُّورةِ إلى هنا بَراعةُ استهلالٍ بأغراضِها، وهو يَتنزَّلُ مَنزِلةَ خُطبةِ الكِتابِ أو الرِّسالةِ [90] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (18/319). .
3- قَولُه تعالى: وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آَلِهَةً لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا
- قَولُه: وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آَلِهَةً استطرادٌ لانتهازِ الفُرصةِ لوَصفِ ضَلالِ أهْلِ الشِّركِ، وسَفالةِ تَفكيرِهم؛ فهو عطفٌ على جُملةِ: الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ [الفرقان: 2] وما تلاها ممَّا هو استِدلالٌ على انفرادِه تعالى بالإلهيَّةِ، وأُرْدِفَت بقولِه: وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ [الفرقان: 2] الشَّاملِ لِكَونِ ما اتَّخَذوه مِن الآلهةِ مَخلوقاتٍ؛ فكان ما تقدَّمَ مُهيِّئًا للتَّعجيبِ مِن اتِّخاذِ المُشرِكين آلهةً دونَ ذلك الإلهِ المَنعوتِ بصِفاتِ الكَمالِ والجلالِ؛ فالخبَرُ غيرُ مَقصودٍ به الإفادةُ، بلْ هو للتَّعجُّبِ مِن حالِهم: كيف قابَلوا نِعمةَ إنزالِ الفُرقانِ بالجَحدِ والطُّغيانِ، وكيف أشْرَكوا بالَّذي تلك صِفاتُه آلهةً أُخرى، صِفاتُهم على الضِّدِّ مِن صِفاتِ مَن أشْرَكوهم به؟! وإلَّا فإنَّ اتِّخاذَ المُشرِكين آلهةً أمرٌ معلومٌ لهم وللمُؤمِنينَ؛ فلا يُقصَدُ إفادتُهم لحُكْمِ الخبرِ [91] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (18/319). .
- قَولُه: وَاتَّخَذُوا فيه إضمارٌ في مَوضعِ الإظهارِ، والإضمارُ مِن غَيرِ جَرَيانِ ذِكْرِهم؛ للثِّقةِ بدَلالةِ ما قبْلَه مِن نفْيِ الشَّريكِ عليهم [92] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/202)، ((تفسير ابن عاشور)) (18/319، 320). .
- وذكَرَ في هذه الآيةِ مِن أقوالِهم المُقابِلةِ للجُمَلِ الموصوفِ بها اللهُ تعالى؛ اهتمامًا بإبطالِ كُفْرِهم المُتعلِّقِ بصِفاتِ اللهِ؛ لأنَّ ذلك أصْلُ الكُفرِ ومادَّتُه [93] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (18/321). ؛ فجُملةُ: لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا مُقابِلةٌ جُملةَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ [الفرقان: 2] . وجُملةُ: وَهُمْ يُخْلَقُونَ مُقابِلةٌ جُملةَ: وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا [الفرقان: 2] ؛ لأنَّ ولَدَ الخالقِ يجِبُ أنْ يكونَ مُتولَّدًا منه، فلا يكونُ مَخلوقًا. وجُملةُ: وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا مُقابِلةٌ جُملةَ: وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ [الفرقان: 2] ؛ لأنَّ الشَّرِكةَ في المُلْكِ تَقْتضي الشَّرِكةَ في التَّصرُّفِ. وجُملةُ: وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا مُقابِلةٌ جُملةَ: وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا [الفرقان: 2] ؛ لأنَّ أعظَمَ مَظاهِرِ تَقديرِ الخلْقِ هو مَظهَرُ الحياةِ والموتِ، وذلك مِن المُشاهَداتِ. وأمَّا قولُه: وَلَا نُشُورًا فهو تَكميلٌ لِقَرْعِ المُشركينَ نُفاةِ البَعثِ؛ لأنَّ نفْيَ أنْ يكونَ الآلهةُ يَمْلِكون نُشورًا يَقْتضي إثباتَ حَقيقةِ النُّشورِ في نفْسِ الأمْرِ؛ إذ الأكثَرُ في كلامِ العرَبِ أنَّ نَفْيَ الشَّيءِ يَقْتضي تحقُّقَ ماهيَّتِه [94] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (18/319، 320). .
- قَولُه: وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آَلِهَةً لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ فيه وَصْفُ الآلهةِ بانتفاءِ إنشائِهم شيئًا مِن الأشياءِ؛ إشارةً إلى انتفاءِ القُدرةِ بالكُلِّيَّةِ، ثمَّ بأنَّهم مَخلوقونَ للهِ ذاتًا، أو مَصْنوعون بالنَّحتِ والتَّصويرِ على شكْلٍ مَخصوصٍ، وهذا أبلَغُ في الخَساسةِ [95] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (8/81). .
- وفي قولِه: وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آَلِهَةً لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ مُناسبةٌ حَسنةٌ؛ حيثُ قاله هنا بالضَّميرِ: مِنْ دُونِهِ، وقالَه في سُورةِ (مُريمَ) و(يسَ) بلفْظِ ؛ فقال: وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آَلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا [مريم: 81] ، وقال: وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آَلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ [يس: 74] ؛ مُوافَقةً لِمَا قبْلَه في المواضعِ الثَّلاثةِ؛ فآيةُ (الفُرقانِ) تَقَدَّمَ قبْلَها اسمُه سُبحانَه مَكْنِيًّا عنه جلَّ وعلا في قولِه: تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا * الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا؛ فوَرَدَ اسمُه سُبحانه مَكْنِيًّا عنه ثمانِيَ مرَّاتٍ: أوَّلُها الموصولُ، وهو الَّذي مِن قولِه: تَبَارَكَ الَّذِي، وفاعلُ نَزَّلَ المُضْمَرُ، والضَّميرُ في عَبْدِهِ، والموصولُ الثَّاني، والضَّميرُ المجرورُ باللَّامِ، والضَّميرُ الفاعلُ في وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا، والضَّميرُ في لَهُ المجرورُ، والضَّميرُ الفاعلُ في وَخَلَقَ؛ فلمَّا تكرَّرَ اسمُه مَكْنِيًّا عنه ثمانِيَ مرَّاتٍ جَرى بعْدَ ذلك في قولِه: وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ مُضْمَرًا على حُكْمِ ما تقدَّمَ، فما فى هذه السُّورةِ وافَق ما قبْلَه، أمَّا فى السُّورتينِ فلو جاءَ (مِن دونِه) لخالَف ما قبلَه؛ لأَنَّ ما قبْلَه فى السُّورتينِ بلفظِ الجَمعِ؛ تعظيمًا، فصرَّح؛ فجاء كلٌّ مِن الآيتينِ على ما يجِبُ ويُناسِبُ [96] يُنظر: ((ملاك التأويل)) لأبي جعفر الغرناطي (2/374)، ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص: 403)، ((بصائر ذوي التمييز)) للفيروزابادي (1/342). .
- والتَّنصيصُ على قولِه: وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا؛ لبَيانِ عجْزِهم عمَّا هو أهْوَنُ مِن هذه الأمورِ مِن دفْعِ الضَّرِّ وجلْبِ النَّفعِ؛ للتَّصريحِ بعَجْزِهم عن كلِّ واحدٍ ممَّا ذُكِرَ على التَّفصيلِ، والتَّنبيهِ على أنَّ الإلهَ يجِبُ أنْ يكونَ قادرًا على جميعِ ذلك. وفيه إيذانٌ بغايةِ جَهْلِهم وسَخافةِ عُقولِهم، كأنَّهم غيرُ عارفينَ بانتفاءِ ما نُفِيَ عن آلهتِهم مِن الأمورِ المذكورةِ، مُفْتَقِرون إلى التَّصريحِ بذلك [97] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (4/117)، ((تفسير أبي السعود)) (6/202). .
- والتَّنكيرُ في قولِه: مَوْتًا وَلَا حَيَاةً في سِياقِ النَّفيِ للعُمومِ [98] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (18/322). .
- وفيه مُناسَبةٌ حَسَنةٌ؛ حيثُ جاء قولُه تعالى: وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا، فقدَّمَ الضَّرَّ على النَّفعِ هنا، وعكَسَ ذلك في سُورةِ (الرَّعدِ): قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا [الرعد: 16] . ووَجْهُ ذلك: أن ما في سُورةِ (الفُرقانِ) بُنِيَ على ما قبْلَه، وهو لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ، وقولُه: لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا نفْيٌ، وقولُه: وَهُمْ يُخْلَقُونَ إثباتٌ؛ فقَدَّمَ النَّفيَ على الإثباتِ، وكان الضَّرُّ نفْيًا، والنَّفعُ إثباتًا؛ إذِ النَّفعُ إثباتُ المصالحِ وإيجادُها؛ والضَّرُّ نفْيُها، فكما قَدَّمَ فيما قبْلَه ما نَفى على ما أثبَتَ، حمَلَ المعطوفَ عليه لِيكونَ مُشاكِلًا له. وأمَّا في سُورةِ (الرَّعدِ) فإنَّه قدَّمَ فيها الأفضلَ على الأنقَصِ؛ لأنَّ اجتلابَ النَّفعِ أشرَفُ مِن استدفاعِ الضَّرِّ، وهو رُتْبةٌ فَوقَه؛ فمَن فاته ذلك طلَبَ دفْعَ الضَّرِّ، فهو على وَجْهِه في التَّرتيبِ [99] يُنظر: ((درة التنزيل وغرة التأويل)) للإسكافي (1/957). . وقيل: قدَّمَ الضَّرَّ على النَّفعِ؛ لمُناسَبةِ ما بعْدَه مِن تَقديمِ الموتِ على الحياةِ [100] يُنظر: ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص: 403). . وقيل: تَقديمُ ذِكْرِ الضَّرِّ؛ لأنَّ دَفْعَه -مع كونِه أهَمَّ في نفْسِه- أوَّلُ مَراتبِ النَّفعِ وأقدمُها [101] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/202). . وقيل: قولُه هنا: ضَرًّا وَلَا نَفْعًا جَرَى مَجْرى المثَلِ لقَصْدِ الإحاطةِ بالأحوالِ؛ فكأنَّه قيل: لا يَمْلِكون التَّصرُّفَ بحالٍ مِن الأحوالِ. وهذا نظيرُ أنْ يُقالَ: شَرْقًا وغرْبًا، وليلًا ونَهارًا. وبذلك يَندفِعُ ما يُشكِلُ في بادئِ الرَّأيِ مِن وجْهِ نفْيِ قُدرتِهم على إضرارِ أنفُسِهم بأنَّه لا تَتعلَّقُ إرادةُ أحدٍ بضَرِّ نفْسِه، وبذلك أيضًا لا يُتطلَّبُ وجْهٌ لتَقديمِ الضَّرِّ على النَّفعِ؛ لأنَّ المقامَ يَقْتضي التَّسويةَ في تَقديمِ أحَدِ الأمْرينِ؛ فالمُتكلِّمُ مُخيَّرٌ في ذلك، والمُخالَفةُ بيْن الآياتِ في تَقديمِ أحَدِ الأمرينِ مُجرَّدُ تَفنُّنٍ [102] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (18/320). .