موسوعة التفسير

سورةُ الجِنِّ
الآيات (18-24)

ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ

غريب الكلمات:

لِبَدًا: أي: جماعاتٍ بَعضُها فوقَ بَعضٍ، شُبِّهَت بالشَّيءِ المتلَبِّدِ بعضُه فوقَ بَعضٍ، وهو مِن: تلَبَّدَ الشَّيءُ على الشَّيءِ: أي تجَمَّعَ، وأصلُ (لبد): يدُلُّ على تكَرُّسِ الشَّيءِ بَعضِه فوقَ بَعضٍ [199] يُنظَر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/228)، ((تفسير ابن عطية)) (5/384)، ((تفسير القرطبي)) (19/23). .
يُجِيرَنِي: أي: يَنصُرَني، وَيدفَعَ عنِّي، وأصلُه مِنَ الجِوارِ بمعنى التَّأمينِ [200] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/348)، ((تفسير القرطبي)) (19/26)، ((تفسير ابن كثير)) (8/245)، ((تفسير ابن جزي)) (1/28). .
مُلْتَحَدًا: أي: مَلجأً أمِيلُ إليه، وأصلُ (لحد): يدُلُّ على مَيلٍ [201] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 492)، ((تفسير ابن جرير)) (15/235)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 444)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/236)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 213). .

مشكل الإعراب:

قوله تعالى: قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا * إِلَّا بَلَاغًا مِنَ اللَّهِ وَرِسَالَاتِهِ
قَولُه: إِلَّا بَلَاغًا: فيه أوجهٌ؛ أحدُها: أنَّه استِثناءٌ مُنقَطِعٌ، أي: لكِنْ إنْ بَلَّغْتُ عن اللهِ رَحِمني. الثَّاني: أنَّه مُتَّصِلٌ، وتأويلُه: أنَّ الإِجارةَ مُستعارةٌ للبلاغِ، إذ هو سَبَبُها، وسببُ رحمتِه تعالى، والمعنى: ولن أجِدَ مِن دُونِه مَنجًى إلَّا بلاغًا، أي: لا يُنجِيني إلَّا أن أُبلِّغَ عن اللهِ ما أُرسِلْتُ به، وعليه يكونُ بدلًا مِنْ مُلْتَحَدًا؛ لأنَّ الكلامَ غيرُ موجَبٍ. أو يكونُ مَنصوبًا على الاستثناءِ. الثَّالثُ: أن يكونَ مُستثنًى مُنقَطِعًا مِن قَولِه: لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا [الجن: 21] ، فقال: إِلَّا بَلَاغًا استِثناءً منه، أي: لا أملِكُ إلَّا أنْ أُبَلِّغَكم ما أُرْسِلْتُ به. وقولُه: قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي ... جملةٌ اعتُرِضَ بها؛ لتأكيدِ نَفيِ الاستِطاعةِ عن نَفْسِه.
وَرِسَالَاتِهِ فيه وجهانِ؛ أحدُهما: أنَّها مَنصوبةٌ عطفًا على بَلَاغًا، كأنَّه قال: لا أملِكُ لكم إلَّا التَّبليغَ والرِّسالةَ. والثَّاني: أنَّها مجرورةٌ عَطْفًا على اللَّهِ، أي: إلَّا أن أُبلِّغَ عن اللهِ وعن رِسالاتِه [202] يُنظَر: ((معاني القرآن)) للفراء (3/195)، ((معاني القرآن وإعرابه)) للزجاج (5/235)، ((تفسير الزمخشري)) (4/631)، ((الدر المصون)) للسمين الحلبي (10/500). .

المعنى الإجمالي:

يقولُ تعالى آمِرًا عِبادَه أنْ يُوَحِّدوه في مَحالِّ عبادتِه: وأنَّ المساجِدَ لله تعالى وَحْدَه؛ فلا تُشرِكوا باللهِ فيها أحدًا مِن خَلْقِه.
ثمَّ يُبيِّنُ سبحانَه حالَ الجنِّ مِن الصَّالحينَ معَ النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم: وأنَّه لَمَّا قام محمَّدٌ يدعو اللهَ، كاد الجنُّ يَكونونَ عليه جماعاتٍ.
ثمَّ يأمُرُ الله تعالى نبيَّه صلَّى الله عليه وسلَّم أنْ يبيِّنَ حقيقةَ ما يدعو إليه، فيقولُ: قلْ -يا محمَّدُ-: إنَّما أدْعُو ربِّي وَحْدَه، ولا أُشرِكُ به أحدًا مِن خَلْقِه. قُلْ: إنِّي لا أملِكُ لكم ضَرًّا ولا نَفعًا، ولا ضَلالةً ولا صوابًا. قُلْ: إنِّي لن يُنقِذَني مِن اللهِ أحدٌ إنْ أرادني بسُوءٍ، ولن أَجِدَ مِن دونِ اللهِ مَلْجأً ألجَأُ إليه، إلَّا أن أبَلِّغَ عنه ما أُرسِلْتُ به.
ثمَّ يُبيِّنُ سبحانَه سوءَ عاقبةِ مَن يُخالِفُ أمْرَه، فيقولُ: ومَن يَعْصِ اللهَ ورسولَه في التَّوحيدِ والعبادةِ؛ فإنَّ له نارَ جهنَّمَ خالِدًا فيها أبدًا.
ثمَّ يهدِّدُ الله الكافرينَ بسببِ استهزائِهم بالمؤمنينَ، فيقولُ: حتَّى إذا رأى الكُفَّارُ ما وعَدَهم اللهُ به مِنَ العَذابِ، فسيَعلَمونَ حِينَها مَنِ الأضعَفُ ناصِرًا والأقَلُّ عددًا: هم أو المُؤمِنونَ؟

تفسير الآيات:

وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا (18).
أي: وأنَّ جميعَ المساجِدِ الَّتي هي بيوتٌ لعِبادةِ اللهِ تعالى: هي له وَحْدَه؛ فلا تُشرِكوا باللهِ فيها أحدًا مِن خَلْقِه، وأفرِدوه وَحْدَه بالسُّؤالِ والعبادةِ [203] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/340)، ((تفسير القرطبي)) (19/21)، ((تفسير ابن جزي)) (2/419)، ((تفسير ابن كثير)) (8/244)، ((تفسير السعدي)) (ص: 891). قال الرازي: (التَّقديرُ: قُلْ: أُوحِيَ إلَيَّ أنَّ المساجِدَ للهِ. ومذهبُ الخليلِ أنَّ التَّقديرَ: ولأنَّ المساجِدَ لله فلا تدعوا، فعلى هذا اللَّامُ مُتعلِّقةٌ بـ فَلَا تَدْعُوا، أي: فلا تدعوا مع اللهِ أحدًا في المساجِدِ؛ لأنَّها لله خاصَّةً). ((تفسير الرازي)) (30/673). ممَّن ذهب إلى التَّقديرِ الأوَّلِ: ابنُ جرير، والقرطبيُّ، والبِقاعي. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/ 340)، ((تفسير القرطبي)) (19/20)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/489). وممَّن ذهب إلى التَّقديرِ الثَّاني، أي: ولأنَّ المساجِدَ لله: الخليلُ -كما نسَبَه إليه سيبويه- وذهب إليه ابنُ أبي زَمَنِين، والسَّمْعانيُّ. يُنظر: ((الكتاب)) لسيبويه (3/127)، ((تفسير ابن أبي زمنين)) (5/46)، ((تفسير السمعاني)) (6/70). قال مقاتلُ بنُ سُلَيمانَ: (وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ يعني: الكنائِسَ والبِيَعَ والمساجِدَ، للهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا؛ وذلك أنَّ اليهودَ والنَّصارى يُشرِكونَ في صلاتِهم في البِيَعِ والكنائِسِ، فأمَرَ اللهُ المؤمِنينَ أن يوحِّدوه). ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/464). وقال القرطبي: (وقيل: المعنى: أفرِدوا المساجِدَ لذِكرِ اللهِ، ولا تتَّخِذوها هُزُوًا ومَتجَرًا ومَجلِسًا، ولا طُرُقًا، ولا تجعلوا لغيرِ اللهِ فيها نصيبًا. وفي الصَّحيح: «مَن نَشَد ضالَّةً في المسجدِ، فقولوا: لا ردَّها اللهُ عليك؛ فإنَّ المساجِدَ لم تُبْنَ لهذا» [أخرجه مسلم (568)]). ((تفسير القرطبي)) (19/22). وقيل: معنى قولِه: الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ الصَّلواتُ للَّه، وقيل: الأعضاءُ التي يُسجَدُ عليها للَّه، وقيل: هي كلُّ موضعٍ صلَّى فيه الإنسانُ. يُنظر: ((تفسير الماوردي)) (6/119)، ((تفسير ابن الجوزي)) (4/349). .
كما قال تعالى: وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ [الأعراف: 29].
وقال سُبحانَه: إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآَتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ [التوبة: 18] .
وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا (19).
أي: وأنَّه لَمَّا قام محمَّدٌ يدعو اللهَ، كاد الجنُّ يَكونون عليه جماعاتٍ يَتراكَمُ بَعضُها على بَعضٍ [204] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/342-345)، ((تفسير القرطبي)) (19/23)، ((تفسير ابن كثير)) (8/245)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/241، 242). قيل: المعنى: كاد الجِنُّ مِن تكاثُرِهم على الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم حينَ سمِعوه يقرأُ القُرآنَ يَكونونَ عليه متراكِمينَ ومُقتَرِبينَ منه؛ مِن ازدحامِهم عليه؛ حرصًا ورغبةً منهم في استماعِ القرآنِ. وممَّن ذهب إلى هذا المعنى في الجملةِ: مقاتلُ بنُ سُلَيمانَ، وابنُ قُتَيْبةَ، والواحديُّ، والرَّسْعَني، والعُلَيمي، والشَّوكاني، والقاسمي، والسعدي. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/465)، ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 491)، ((الوجيز)) للواحدي (ص: 1142)، ((تفسير الرسعني)) (8/317)، ((تفسير العليمي)) (7/187)، ((تفسير الشوكاني)) (5/371)، ((تفسير القاسمي)) (9/334)، ((تفسير السعدي)) (ص: 891). وقيل: المرادُ: لَمَّا قام محمَّدٌ يدعو النَّاسَ إلى توحيدِ الله تعالى، كاد المشرِكونَ أن يَكونوا عليه جَميعًا؛ ليُطفِئُوا نورَ اللهِ تعالى. وممَّن ذهب إلى هذا المعنى في الجملةِ: ابنُ جرير، واستظهره ابنُ كثير، وذهب إليه ابنُ عاشور. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/345)، ((تفسير ابن كثير)) (8/245)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/241، 242). وقال البِقاعي: (كَادُوا أي: قَرُبَ القاسِطونَ مِن الفريقَينِ الجنِّ والإنسِ، يَكُونُونَ عَلَيْهِ أي: على عبْدِ اللهِ، لِبَدًا أي: مُتراكِمينَ بعضُهم على بعضٍ مِن شِدَّةِ ازدحامِهِم، حتَّى كان ذلك جِبِلَّةً لهم؛ تَعجُّبًا ممَّا رَأَوا منه مِن عِبادتِه، وإرادةً لِرَدِّه عن ذلك). ((نظم الدرر)) (20/491). قال الواحدي: (قوله: عَبْدُ اللَّهِ يعني: النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في قَولِ الجميعِ). ((البسيط)) (22/318). .
قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا (20).
أي: قلْ -يا محمَّدُ-: إنَّما أدْعُو ربِّي وَحْدَه، ولا أُشرِكُ به أحدًا مِن خَلْقِه [205] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/348)، ((تفسير ابن كثير)) (8/245)، ((تفسير السعدي)) (ص: 891). قال ابنُ جرير: (قُلْ -يا محمَّدُ- للنَّاسِ الَّذين كادوا يَكونونَ عليك لِبَدًا). ((تفسير ابن جرير)) (23/348). .
قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا (21).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّه انتِقالٌ مِن ذِكرِ ما أُوحِيَ به إلى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، إلى تَوجيهِ خِطابٍ مُستأنَفٍ إليه؛ فبَعْدَ أنْ حُكِيَ في هذه السُّورةِ ما أوحَى اللهُ إلى رَسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ممَّا خَفِيَ عليه مِن الشُّؤونِ المُتعلِّقةِ به مِن اتِّباعِ مُتابِعينَ، وإعراضِ مُعرِضين؛ انتُقِلَ إلى تَلقينِه ما يَرُدُّ به على الَّذين أظْهَروا له العِنادَ، ولبَيانِ عَجْزِه عن شُؤونِ نفْسِه، وأنَّ الأمرَ كلَّه بيَدِ اللهِ [206] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/243). .
قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا (21).
أي: قُلْ -يا محمَّدُ-: إنِّي لا أملِكُ لكم ضَرًّا ولا نَفعًا، ولا ضَلالةً ولا صوابًا وسَدادًا؛ فإنَّما المرجِعُ في ذلك كُلِّه إلى اللهِ عزَّ وجلَّ، وإنَّما أنا عبدٌ ليس لي مِنَ الأمرِ شَيءٌ [207] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/348)، ((تفسير البيضاوي)) (5/253)، ((تفسير ابن كثير)) (8/245)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/494)، ((تفسير السعدي)) (ص: 891)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/243). .
كما قال تعالى: قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [الأعراف: 188] .
وقال سُبحانَه: قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا [الفتح: 11] .
قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا (22).
قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ.
أي: قُلْ -يا محمَّدُ-: إنِّي لن يُنقِذَني مِن اللهِ أحدٌ إنْ أراد أن يُصيبَني بضُرٍّ [208] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/348)، ((تفسير القرطبي)) (19/26)، ((تفسير ابن كثير)) (8/245)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/495)، ((تفسير السعدي)) (ص: 891). .
كما قال تعالى: وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ [يونس: 107] .
وقال سُبحانَه: قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ [الزمر: 38] .
وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا.
أي: ولن أَجِدَ مِن دونِ اللهِ مَلجَأً ألجَأُ إليه [209] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/349)، ((تفسير القرطبي)) (19/26)، ((الروح)) لابن القيم (ص: 263)، ((تفسير ابن كثير)) (8/245)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/244). .
إِلَّا بَلَاغًا مِنَ اللَّهِ وَرِسَالَاتِهِ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا (23).
إِلَّا بَلَاغًا مِنَ اللَّهِ وَرِسَالَاتِهِ.
أي: لن أجِدَ مِن دونِ اللهِ مَلجَأً إلَّا أن أبَلِّغَ عنه ما أُرسِلْتُ به؛ فإنَّ فيه الأمانَ والنَّجاةَ [210] يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/465)، ((معاني القرآن وإعرابه)) للزجاج (5/237)، ((تفسير القرطبي)) (19/26)، ((مجموع الفتاوى)) (27/432). وممَّن قال بهذا المعنى المذكورِ: مقاتلُ بنُ سُلَيمانَ، والزَّجَّاجُ، والقرطبيُّ، وابنُ تيميَّةَ. يُنظر: المصادر السابقة. وقيل: المعنى: إنِّي لا أملِكُ لكم ضَرًّا ولا رشَدًا، ولكنِّي أُبلِّغُ عن اللهِ، فأمَّا الرَّشَدُ والخِذْلانُ فبِيَدِ اللهِ، هو مالِكُه وَحْدَه، فيَهدي مَن يَشاءُ، ويَخذُلُ مَن يشاءُ. وممَّن ذهب إلى هذا المعنى في الجملةِ: ابنُ جرير، والواحديُّ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/349، 350)، ((الوجيز)) للواحدي (ص: 1142). ويُنظر أيضًا: ((تفسير السمعاني)) (6/72). .
وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا.
مُناسَبَتُها لِما قَبْلَها:
لَمَّا كان قولُه: قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا [الجن: 20] إلى هنا، كَلامًا مُتضمِّنًا أنَّهم أشْرَكوا وعانَدوا الرَّسولَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ حينَ دَعاهم إلى التَّوحيدِ، واقتَرَحوا عليه ما تَوهَّموه -تَعجيزًا له- مِن ضُروبِ الاقتراحِ؛ أُعقِبَ ذلك بتَهْديدِهم ووَعيدِهم بأنَّهم إنْ دامُوا على عِصيانِ اللهِ ورَسولِه سيَلْقَون نارَ جهنَّمَ؛ لأنَّ كلَّ مَن يَعْصي اللهَ ورسولَه كانت له نارُ جهنَّمَ [211] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/245). .
وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا.
أي: ومَن يعْصِ اللهَ تعالى ورَسولَه في التَّوحيدِ والعبادةِ، فقد استحَقَّ الخُلودَ الأبَديَّ في نارِ جهنَّمَ [212] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/350)، ((الوسيط)) للواحدي (4/368)، ((تفسير القرطبي)) (19/26، 27)، ((تفسير السعدي)) (ص: 891). قال السِّعديُّ: (وهذا المرادُ به المعصيةُ الكُفْريَّةُ، كما قيَّدَتْها النُّصوصُ الأُخَرُ المُحكَمةُ. وأمَّا مُجرَّدُ المعصيةِ فإنَّه لا يُوجِبُ الخلودَ في النَّارِ، كما دَلَّت على ذلك آياتُ القرآنِ، والأحاديثُ عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وأجْمَعَ عليه سَلَفُ الأُمَّةِ وأئمَّةُ هذه الأُمَّةِ). ((تفسير السعدي)) (ص: 891). .
حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِرًا وَأَقَلُّ عَدَدًا (24).
أي: حتَّى إذا رأَى الكُفَّارُ ما وعَدَهم اللهُ مِن العذابِ وشاهَدوه عِيانًا، وأيْقَنوا بوُقوعِه؛ فسيَعلَمونَ حِينَها مَنِ الأضعَفُ ناصِرًا ومانِعًا لهم مِن العَذابِ، ومَن الأقَلُّ عددًا: هم أو المؤمِنونَ الموَحِّدونَ لله تعالى [213] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/350، 351)، ((تفسير السمرقندي)) (3/507)، ((تفسير البيضاوي)) (5/254)، ((تفسير ابن كثير)) (8/246)، ((تفسير السعدي)) (ص: 891). ممَّن اختار في الجملةِ أنَّ المعنى: يوعَدون في الدُّنيا وفي الآخرةِ: السمرقنديُّ، والرَّسْعَني، والبيضاوي، والقرطبي، وابنُ جُزَي، والبِقاعي، والشوكاني. يُنظر: ((تفسير السمرقندي)) (3/ 507)، ((تفسير الرسعني)) (8/320)، ((تفسير البيضاوي)) (5/254)، ((تفسير القرطبي)) (19/27)، ((تفسير ابن جزي)) (2/420)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/498)، ((تفسير الشوكاني)) (5/372). وممَّن قال بأنَّ المراد: ما يُوعَدونَ يومَ القيامةِ: البَغَويُّ، والخازن، وابن كثير. يُنظر: ((تفسير البغوي)) (5/163)، ((تفسير الخازن)) (4/352)، ((تفسير ابن كثير)) (8/246). قال الزَّمخشريُّ: (فإنْ قلتَ: بِمَ تَعلَّق حَتَّى وجُعِلَ ما بعْدَه غايةً له؟ قلتُ: بقولِه: يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا، على أنَّهم يَتظاهَرونَ عليه بالعَداوةِ، ويَستضعِفون أنْصارَه، ويَستقِلُّون عَدَدَهم، حتَّى إذا رَأَوا ما يُوعَدون مِن يومِ بدْرٍ وإظهارِ اللهِ له عليهم، أو مِن يومِ القيامةِ؛ فسَيعلَمون حينَئذٍ أنَّهم أضعَفُ ناصرًا وأقلُّ عدَدًا. ويجوزُ أنْ يَتعلَّقَ بمَحذوفٍ دلَّت عليه الحالُ: مِن استضعافِ الكفَّارِ له، واستِقلالِهم لعَدَدِه، كأنَّه قال: لا يَزالون على ما همْ عليه حتَّى إذا رَأَوا ما يُوعَدون). ((تفسير الزمخشري)) (4/632). ؟
كما قال تعالى: حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذَابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضْعَفُ جُنْدًا [مريم: 75] .
وقال سُبحانَه: وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ [الشعراء: 227] .
وقال عزَّ وجَلَّ: وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ [سبأ: 24] .

الفوائد التربوية:

قَولُ اللهِ تعالى: قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا * قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا فيه بيانُ حالةِ الخَلقِ، وأنَّ كُلَّ أحدٍ منهم لا يستَحِقُّ مِن العبادةِ مِثقالَ ذَرَّةٍ؛ لأنَّ الرَّسولَ محمَّدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إذا كان لا يملِكُ لأحدٍ نَفعًا ولا ضَرًّا، بل ولا يملِكُ لِنَفْسِه، عُلِمَ أنَّ الخَلْقَ كُلَّهم كذلك، فمِنَ الخطَأِ والغَلَطِ اتِّخاذُ مَن هذا وَصْفُه إلهًا آخَرَ مع اللهِ [214] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 891). !

الفوائد العلمية واللطائف:

1- قَولُ اللهِ تعالى: وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا فيه أنَّ المساجِدَ الَّتي هي أعظَمُ محالِّ العبادةِ مَبنيَّةٌ على الإخلاصِ للهِ، والخُضوعِ لعَظَمتِه، والاستِكانةِ لعِزَّتِه [215] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 890). .
2- قال الله تعالى: وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا قَولُه: فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا في ضِمْنِه أمرٌ بذِكرِ اللهِ وبدُعائِه [216] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (30/674). .
3- قَولُ اللهِ تعالى: وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا أضاف تعالى المساجِدَ لنَفْسِه تَشريفًا، فاستُدِلَّ به على تنزيهِها عن غيرِ العباداتِ؛ مِنَ البَيعِ، والخُصوماتِ، وإقامةِ الحُدودِ [217] يُنظر: ((الإكليل)) للسيوطي (ص: 275). اتَّفق الفُقهاءُ على أنَّه تَحرُمُ إقامةُ الحدودِ في المساجدِ، أمَّا البَيعُ والشِّراءُ فقد اتَّفَق الفقهاءُ على مَنعِه، لكنْ ذهب الحَنَفيَّةُ والمالكيَّةُ والشَّافعيَّةُ إلى الكراهةِ، وذهب الحنابلةُ إلى التَّحريمِ. يُنظر: ((الموسوعة الفقهية الكويتية)) (17/148، 179). قال العُلَيمي: (وأمَّا حُكمُ القاضي في المسجدِ؛ فقال أبو حنيفةَ ومالكٌ وأحمدُ: يجوزُ؛ لأنَّ رسولَ الله صلَّى الله عليه وسلَّم كان يَقضي بيْن الخُصومِ في المسجدِ، وكذا الخُلفاءُ الرَّاشِدونَ بعْدَه. ومذهبُ الشَّافِعيِّ: يُكرَهُ كَراهةَ تنزيهٍ، فلو اتَّفقَتْ قضيَّةٌ أو قضايا وقتَ حُضورِه في المسجدِ لصلاةٍ أو غيرِها، فلا بأسَ بفَصلِها. وأمَّا الحدودُ فلا تُقامُ في المساجدِ بالاتِّفاقِ). ((تفسير العليمي)) (7/187). .
4- قَولُ اللهِ تعالى: وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا قيل: المساجِدُ هنا هي جَمعُ (مَسجَدٍ) بالفتحِ، وهي الأعضاءُ السَّبعةُ الَّتي يَسجُدُ عليها الإنسانُ: الجبهةُ، واليَدانِ، والرُّكبتانِ، والقَدَمانِ، أي: هي للهِ؛ فلا تَسجُدوا بها لغَيرِه؛ ففيه رَدٌّ على مَن خَصَّ السُّجودَ بالجَبهةِ فقط دونَ السِّتَّةِ الباقيةِ [218] يُنظر: ((الإكليل)) للسيوطي (ص: 275). قال أبو حيَّانَ: (وأبعَدَ ابنُ عطاءٍ في قولِه: إنَّها الآرابُ الَّتي يُسجَدُ عليها، واحدُها مَسجَدٌ؛ بفتْح الجيمِ، وهي الجَبْهةُ والأنفُ، واليَدانِ، والرُّكبتانِ، والقَدَمانِ؛ عدَّ الجَبْهةَ والأنفَ واحدًا. وأبعَدَ أيضًا مَن قال: المسجدُ الحرامُ؛ لأنَّه قِبلةُ المساجدِ، ومَن قال: إنَّه جمْعُ مَسجَدٍ، وهو السُّجودُ). ((تفسير أبي حيان)) (10/300). .
5- قَولُه تعالى: وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا استُدِلَّ به على أنَّه لا يجوزُ إضافةُ المساجدِ إلى مخلوقٍ إضافةَ مِلْكٍ واختِصاصٍ، وأنَّه لا يجوزُ نِسبةُ شيءٍ مِن المساجدِ إلى بعضِ طوائفِ المُسلمينَ للاختِصاصِ بها، فيُقالُ: هذه المساجِدُ للطَّائفةِ الفُلانيةِ، وهذه للطَّائفةِ الأُخرى؛ فإنَّها مُشتَرَكةٌ بيْن المسلمينَ عُمومًا [219] يُنظر: ((فتح الباري)) لابن رجب (2/360). .
6- قال تعالى: وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ المساجدُ وإن كانت لله مِلْكًا وتشريفًا، فإنَّها قد تُنسبُ إلى غيرِه تعريفًا، فيقالُ: مَسجِدُ فُلانٍ [220] يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (19/21). عن عبدِ اللهِ بنِ عُمَرَ رضِيَ الله عنهما، ((أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم سابَق بيْنَ الخَيلِ الَّتي أُضْمِرَتْ مِن الحَفْياءِ، وأمَدُها ثَنِيَّةُ الوَداعِ، وسابَق بيْنَ الخيلِ الَّتي لم تُضْمَرْ مِن الثَّنِيَّةِ إلى مَسجِدِ بني زُرَيْقٍ...)). أخرجه البخاريُّ (420)، وترجم له: (بابٌ: هل يُقالُ: مَسجِدُ بَني فُلانٍ؟). .
7- أنَّ اللهَ سُبحانَه وتعالى لا يَرضى أنْ يُشْرَكَ معه في عبادتِه أحدٌ، بل هو وحْدَه المستحِقُّ للعبادةِ، ودليلُ ذلك قَولُه تعالى: وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا، فنهى اللهُ تعالى أنْ يَدْعُوَ الإنسانُ مع اللهِ أحدًا، واللهُ لا يَنْهَى عن شَيءٍ إلَّا وهو لا يَرضاه سُبحانَه [221] يُنظر: ((شرح ثلاثة الأصول)) لابن عثيمين (ص: 33). .
8- اتَّفَق أئِمَّةُ الإسلامِ على أنَّه لا يُشْرَعُ بناءُ المشاهِدِ على القُبورِ، ولا يُشْرَعُ اتِّخاذُها مَساجِدَ، ولا يُشْرَعُ الصَّلاةُ عندَها، ولا يُشْرَعُ قصدُها لأجلِ التَّعَبُّدِ عندَها بصلاةِ أوْ اعتكافٍ أوْ استغاثةٍ أوْ ابتهالٍ أوْ نحوِ ذلك، فهذا ليس مِن دينِ الله، إنَّما دِينُ اللهِ تَعظيمُ بُيوتِ اللهِ وحْدَه لا شَريكَ له، وهي المساجدُ الَّتي تُشرَعُ فيها الصَّلَواتُ جَماعةً وغيرَ جماعةٍ، والاعتكافُ، وسائرُ العِباداتِ البَدَنيَّةِ والقلْبيَّةِ؛ مِن القراءةِ والذِّكرِ والدُّعاءِ للهِ؛ قال تَعالى: وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا، وقال تعالى: قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ [الأعراف: 29] ، وقال تعالى: إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآَتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ [التوبة: 18] ، وقال تعالى: فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآَصَالِ * رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ * لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ [222] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (27/449). [النور: 36 - 38] .
9- قَولُ اللهِ تعالى: وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا فيه سُؤالٌ: لمَ سَمَّى محمًّدًا بـ (عبدِ اللهِ)، وما ذكَرَه بـ (رَسولِ اللهِ) أو (نبيِّ اللهِ)؟
الجوابُ: لأنَّه إن كان هذا الكلامُ مِن جُملةِ المُوحَى، فاللَّائِقُ بتواضُعِ الرَّسولِ أن يَذكُرَ نَفْسَه بالعُبوديَّةِ [223] قال ابن جُزَي بعدَ أن ذكَر هذا الوجهَ مِن كلامِ الزمخشريِّ: (وهذا الَّذي قاله بعيدٌ، مع أنَّه إنَّما يُمكِنُ على قراءةِ: وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ بفتحِ الهمزةِ، فيكونُ عطفًا على أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ [الجن: 1] . وأمَّا على القِراءةِ بالكسرِ على الاستِئنافِ فيَكونُ إخبارًا مِن الله، أو مِن جملةِ كلامِ الجِنِّ، فيَبطُلُ ما قاله). ((تفسير ابن جزي)) (2/420). ، وإنْ كان مِن كلامِ الجِنِّ، كان المعنى: أنَّ عبْدَ اللهِ لَمَّا اشتَغَل بعبوديَّةِ اللهِ فهؤلاء الكُفَّارُ لِمَ اجتَمَعوا ولِمَ حاوَلوا مَنْعَه منه، مع أنَّ ذلك هو الموافِقُ لقانونِ العَقلِ [224] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/630)، ((تفسير الرازي)) (30/674). ؟! فالمعنى: أنَّ عبادةَ عبْدِ اللهِ للهِ ليست بأمرٍ مُستبعَدٍ عن العقلِ ولا مُستنكَرٍ حتَّى يَكونوا عليه لِبَدًا [225] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (10/301). -وذلك على قولٍ في التَّفسيرِ-، أو لأنَّ العبوديَّةَ مِن أشرَفِ الخِصالِ [226] يُنظر: ((تفسير ابن عجيبة)) (7/159). . فقد وَصَف اللهُ تعالى أكرَمَ خَلْقِه عليه، وأعلاهم عِندَه مَنزِلةً بالعُبوديَّةِ في أشرَفِ مَقاماتِه؛ فوَصَفه بالعُبوديَّةِ في مقامِ الدعوةِ إليه، فقال :وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا وذكره بالعُبوديَّةِ في مقامِ الإسراءِ، فقال: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى [الإسراء: 1] ، وذَكَره بالعُبوديَّةِ في مَقامِ إنزالِ الكِتابِ عليه، فقال تعالى: تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا [الفرقان: 1] وقال سُبحانه: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا [الكهف: 1] ، وذَكَره بالعُبوديَّةِ في مَقامِ التحَدِّي بأن يأتُوا بمِثْلِه في قَولِه: وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا [227] يُنظر: ((مدارج السالكين)) لابن القيم (1/122، 123). [البقرة: 23] .
10- قَولُ اللهِ تعالى: وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا فيه شِدَّةُ حِرصِ الجِنِّ لاستِماعِ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وتراكُمِهم عليه [228] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 891). .
11- في قَولِه تعالى: قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا * قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لا يَملِكُ لنَفْسِه نَفْعًا ولا ضَرًّا؛ فكيف يَمْلِكُ لغيرِه؟! فالنَّبيُّ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ لو أراد اللهُ به ما يُريدُ، ما استطاع أحدٌ مِن النَّاسِ أنْ يَمْنعَ إرادةَ اللهِ فيه، وإذا كان كذلك فمِن الضَّلالِ البَيِّنِ أنْ يَستغيثَ أحدٌ برَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، بل هذا مِن الشِّركِ [229] يُنظر: ((شرح الأربعين النووية)) لابن عثيمين (ص: 28). .
12- في قَولِه تعالى: وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ردٌّ واضحٌ على مَن قال: إنَّ عذابَ النَّارِ غيرُ مُؤَبَّدٍ [230] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الفرقان)) (ص: 70). !
13- إذا أُطْلِقَتِ المعصيةُ للهِ ورَسولِه دَخَلَ فيها الكُفرُ والفُسوقُ، كقَولِه تعالى: وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا [231] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (7/59). .
14- قال تعالى: وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا الآيةُ في الكفَّارِ، وحمَلها المعتزلةُ على عصاةِ المؤمنينَ؛ لأنَّ مذهبَهم خلودُهم في النَّارِ. والدَّليلُ على أنَّها في الكفَّارِ وجْهانِ؛ أحدُهما: أنَّها مكِّيَّةٌ، والسُّورةُ المكِّيَّةُ إنَّما الكلامُ فيها معَ الكفَّارِ. والآخَرُ: دَلالةُ ما قبْلَها وما بعْدَها على أنَّ المرادَ بها الكفَّارُ [232] يُنظر: ((تفسير ابن جزي)) (2/420). ، فالعِصيانُ في الآيةِ هو عِصيانُ الكُفرِ، لا عِصيانُ الذَّنْبِ، فمَن شُبِّهَ عليه مِن المعتَزِلةِ، وتعَلَّقَ بظاهِرِ لَفظِ العِصيانِ، نبَّهَه عليه قَولُه: حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِرًا وَأَقَلُّ عَدَدًا؛ لأنَّ المسلِمَ -عاصيًا كان أو غيرَ عاصٍ- لم يَنْسُبْ قَطُّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إلى أنَّه لا ناصرَ له، ولا كَثرةَ عددٍ يَغْلِبُ بها! وإنَّما كان يَنْسُبُه إلى ذلك الكُفَّارُ، ويَرَونَ أنَّه مَغلوبٌ لقِلَّةِ عددِه وأنصارِه، وكانوا يَعصُونَه ولا يُطيعونَه، ويَتربَّصونَ به رَيْبَ المَنونِ، وكانت مَعصيتُهم للرَّسولِ مَعصيةً للهِ تبارك وتعالى؛ فأنزَلَ اللهُ هذه الآيةَ فيهم، وأخبَرَ أنَّهم إذا أَفْضَوا إلى الخُلودِ في النَّارِ عَرَفوا أنَّهم كانوا هم الأَقَلِّينَ عدَدًا وأنصارًا، لا الرَّسولَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم [233] يُنظر: ((النكت الدالة على البيان)) للقصاب (4/429). .

بلاغة الآيات :

1- قولُه تعالَى: وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا
- فُرِّعَ على اختِصاصِ كَونِ المساجِدِ للهِ النَّهيُ عن أنْ يَدْعوَ المشرِكون مع اللهِ أحَدًا، وهذا إلْزامٌ لهم بالتَّوحيدِ بطَريقِ القَولِ بالمُوجَبِ [234] القولُ بالموجَبِ: هو عبارةٌ عن تسليمِ مقتضَى ما جعَله المستدِلُّ دليلًا لحُكمٍ، مع بقاءِ الخِلافِ بيْنَهما فيه. أو: تسليمُ الدَّليلِ معَ بقاءِ النِّزاعِ، ومعنى ذلك: أن يُسلِّمَ الخَصمُ الدَّليلَ الَّذي استدَلَّ به المُستَدِلُّ، إلَّا أنَّه يقولُ: هذا الدُّليلُ ليس فى محلِّ النِّزاعِ، إنَّما هو في غيرِه؛ فيبقَى الخِلافُ بيْنَهما. يُنظر: ((تقريب الوصول إلي علم الأصول)) لابن جُزَي (ص: 189)، ((نهاية السول شرح منهاج الوصول)) للإسنوي (ص: 346)، ((تفسير ابن عاشور)) (13/201). ؛ لأنَّهم كانوا يَزعُمون أنَّهم أهلُ بَيتِ اللهِ، فعِبادتُهم غيرَ اللهِ مُنافيةٌ لزَعْمِهم ذلك [235] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/241). .
2- قولُه تعالَى: وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا * قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا
- قولُه: وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ هو محمَّدٌ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وُضِعَ الاسمُ الظَّاهرُ مَوضعَ المُضمَرِ؛ إذ مُقْتضى الظَّاهرِ أنْ يُقالَ: وأنَّه لَمَّا قُمتَ تَدْعو اللهَ كادُوا يَكونون عليك، أو لَمَّا قُمتُ أدْعو اللهَ كادوا يَكونون علَيَّ؛ ولكنْ عُدِلَ إلى الاسمِ الظَّاهرِ لقَصْدِ تَكريمِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بوَصْفِ عَبْدُ اللَّهِ؛ لِما في هذه الإضافةِ مِن التَّشريفِ مع وَصْفِ (عبْدٍ) [236] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/242). .
- قولُه: وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ مِن جُملةِ المُوحَى في قولِه: قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ، ومَعطوفٌ على قولِه: أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ، فيَكونُ قولُه: وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ مِن تَتِمَّةِ كَلامِه صَلَواتُ اللهِ عليه؛ لأنَّه هو المأمورُ بقولِه: قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ، فكان الأصلُ: قُل: أُوحِيَ إلَيَّ أنَّه لَمَّا قُمتَ تَدْعو؛ فوُضِعَ مَوضعَ الضَّميرِ عَبْدُ اللَّهِ للإشعارِ بما هو المُقتضي لِقيامِه، وتَواضُعًا للهِ تعالَى، وتَذلُّلًا لجَلالِه؛ تَعليمًا مِن اللهِ، وتأْديبًا له. أو يكونُ نقْلًا لكلامِ اللهِ تعالَى المُوحَى إليه؛ فتَخصيصُ ذِكرِ العبدِ إدماجٌ [237] الإدماجُ: أنْ يُدمِجَ المتكلِّمُ غرَضًا في غرَضٍ، أو بديعًا في بديعٍ، بحيثُ لا يَظهرُ في الكلامِ إلَّا أحدُ الغرَضينِ أو أحدُ البَديعَينِ؛ فهو مِن أفانينِ البَلاغةِ، ويكونُ مرادُ البليغِ غَرَضينِ فيَقرِنُ الغرضَ المَسوقَ له الكلامُ بالغرضِ الثَّاني، وفيه تَظهرُ مَقدرةُ البليغِ؛ إذ يأتي بذلك الاقترانِ بدونِ خروجٍ عن غَرَضِه المَسوقِ له الكلامُ ولا تَكلُّفٍ، بمعنى: أن يَجعلَ المتكلِّمُ الكلامَ الَّذي سِيق لِمَعنًى -مِن مَدحٍ أو غيرِه- مُتضمِّنًا معنًى آخَرَ. يُنظر: ((الإتقان)) للسيوطي (3/298)، ((تفسير ابن عاشور)) (1/339)، ((علوم البلاغة البيان المعاني البديع)) للمراغي (ص: 344)، ((البلاغة العربية)) لعبد الرحمن حَبَنَّكَة الميداني (2/427). لمعْنى أنَّ العِبادةَ مِن العبدِ غيرُ مُستبعَدةٍ، فلا يَنْبغي أنْ نَتعجَّبَ منه [238] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/630)، ((تفسير البيضاوي)) (5/253)، ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (16/64)، ((تفسير أبي حيان)) (10/301)، ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص: 584)، ((تفسير أبي السعود)) (9/46). .
- قولُه: قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا كَلامٌ مُستأنَفٌ، وهو مِن تَمامِ ما أُوحِيَ به إليه [239] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/243)، ((إعراب القرآن وبيانه)) لدرويش (10/246). .
- ويُفيدُ قولُه: قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي قصْرًا [240] القَصرُ أو الحَصرُ: هو تَخصيصُ شَيءٍ بشَيءٍ وحصرُه فيه، ويُسمَّى الأمرُ الأوَّلُ: مَقصورًا، والثَّاني: مقصورًا عليه؛ مِثل: إنَّما زيدٌ قائمٌ، و: ما ضربتُ إلَّا زيدًا. ويَنقسِمُ إلى قصرٍ حقيقيٍّ، وقصرٍ إضافيٍّ، وادِّعائيٍّ، وقَصْرِ قَلْبٍ. ويَنقسِمُ القَصرُ أو الحَصرُ باعتبارٍ آخَرَ إلى ثلاثةِ أقسامٍ: قصْرُ إفرادٍ، وقصْرُ قَلْبٍ، وقَصْرُ تعيينٍ؛ فالأوَّل: يُخاطَبُ به مَن يَعتقدُ الشَّرِكةَ؛ نحو: إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ [النحل: 51] ، خُوطِبَ به مَن يَعتقدُ اشتِراكَ اللهِ والأصنامِ في الأُلوهيَّةِ. والثَّاني: يُخاطَبُ به مَن يَعتقدُ إثباتَ الحُكمِ لغيرِ مَن أثبتَه المُتكلِّمُ له؛ نحو: رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ [البقرة: 258] ، خُوطِبَ به نَمرودُ، الَّذي اعتَقد أنَّه هو المحيي المميتُ دون اللهِ. والثَّالثُ: يُخاطَبُ به مَن تَساوَى عندَه الأمْران، فلمْ يَحكُمْ بإثباتِ الصِّفةِ لواحدٍ بعَيْنِه، ولا لواحدٍ بإحْدى الصِّفتَينِ بعَيْنِها. يُنظر: ((مفتاح العلوم)) للسَّكَّاكي (ص: 288)، ((الإيضاح في علوم البلاغة)) للقَزْويني (1/118) و(3/6)، ((التعريفات)) للجُرْجاني (1/175، 176)، ((الإتقان)) للسيوطي (3/ 167)، ((جواهر البلاغة)) للهاشمي (ص: 167، 168)، ((البلاغة العربية)) لعبد الرحمن بن حسن حَبَنَّكَة الميداني (1/525). ، أي: لا أدْعو غيرَه، أي: لا أعبُدُ غيرَه دُونَه، وعُطِفَ عليه وَلَا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا تأْكيدًا لمَفهومِ القصْرِ، وأصْلُه ألَّا يُعطَفَ، فعَطْفُه لمُجرَّدِ التَّشريكِ؛ للعِنايةِ باستِقلالهِ بالإبلاغِ [241] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (10/302)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/243). .
3- قولُه تعالَى: قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا استِئنافٌ ابتدائيٌّ. وقولُه: وَلَا رَشَدًا تَتميمٌ [242] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/243)، ((إعراب القرآن وبيانه)) لدرويش (10/247). والتَّتميم: مِن أنواعِ إطنابِ الزِّيادةِ، وهو الإتيانُ بكلمةٍ أو كلامٍ مُتمِّمٍ للمقصودِ، أو لزِيادةٍ حَسنةٍ، بحيثُ إذا طُرِحَ مِن الكلامِ نقَصَ معناه في ذاتِه، أو في صِفاتِه. يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (1/120) و(2/332، 333)، ((إعراب القرآن وبيانه)) لدرويش (1/44)، ((مفاتيح التفسير)) للخطيب (1/49 - 51، 240، 241). .
- وأيضًا في قولِه: قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا احتباكٌ [243] الاحتِباك: هو الحذفُ مِن الأوائلِ لدَلالةِ الأواخِرِ، والحذفُ مِن الأواخِرِ لدَلالةِ الأوائلِ، إذا اجتمَع الحَذفانِ معًا، وله في القرآنِ نَظائرُ. يُنظر: ((الإتقان)) للسيوطي (3/204)، ((البلاغة العربية)) لعبد الرحمن حَبَنَّكَة الميداني (1/347). ؛ لأنَّ الضَّرَّ يُقابِلُه النَّفعُ، والرَّشَدُ يُقابِلُه الضَّلالُ، فالتَّقديرُ: لا أمْلِكُ لكم ضَرًّا ولا نفْعًا، ولا ضَلالًا ولا رَشَدًا، فحُذِفَ مِن كلٍّ ما يدُلُّ عليه مُقابِلُه. أو جُعِلَ الضَّرُّ مُقابِلًا للرَّشدِ تَعبيرًا به عن الْغَيِّ؛ إذِ الْغَيُّ ثَمَرتُه الضَّررُ [244] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/631)، ((تفسير البيضاوي)) (5/253)، ((تفسير أبي حيان)) (10/302)، ((تفسير أبي السعود)) (9/46)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/243). .
4- قولُه تعالَى: قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا * إِلَّا بَلَاغًا مِنَ اللَّهِ وَرِسَالَاتِهِ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا
- قولُه: قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا مُعترِضٌ بيْن المُسْتثنى منه لَا أَمْلِكُ والمُسْتثنى إِلَّا بَلَاغًا مِنَ اللَّهِ وَرِسَالَاتِهِ [245] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/244). . قيل: هو اعتِراضٌ لتَأْكيدِ نفْيِ الاستِطاعةِ عن نفْسِه، وبَيانِ عَجْزِه، على معْنى: أنَّ اللهَ إنْ أرادَ به سُوءًا -مِن مرَضٍ، أو مَوتٍ، أو غَيرِهما- لم يَصِحَّ أنْ يُجيرَه منه أحدٌ، أو يَجِدَ مِن دُونِه مَلاذًا يَأْوي إليه [246] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/631)، ((تفسير البيضاوي)) (5/254)، ((تفسير أبي حيان)) (10/303)، ((تفسير أبي السعود)) (9/46). .
- قولُه: وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا، أي: لنْ أجِدَ مَكانًا يَعصِمُني كائنًا مِن دونِ اللهِ، أي: بَعيدًا عن اللهِ غيرَ داخلٍ مِن مَلكوتِه؛ ولهذا جاء لنَفْيِ وِجْدانِه حرْفُ (لنْ) [247] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/244). .
- قولُه: إِلَّا بَلَاغًا مِنَ اللَّهِ وَرِسَالَاتِهِ قيل: هو استِثناءٌ مُنقطِعٌ مِن ضَرًّا ورَشَدًا، وليس مُتَّصلًا؛ لأنَّ الضَّرَّ والرَّشدَ المَنفيَّينِ في قولِه: لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا هما الضَّرُّ والرَّشدُ الواقعانِ في النَّفْسِ بالإلجاءِ. ويجوزُ أنْ يكونَ مع ذلك استثناءً مُتَّصِلًا مِن مُلْتَحَدًا، أي: بتَأويلِ مُلْتَحَدًا بمعْنى مَخلَصٍ أو مَأمَنٍ، وهذا الاستثناءُ مِن أُسلوبِ تَأكيدِ الشَّيءِ بما يُشبِهُ ضِدَّه. وقيل: إِلَّا في تَقديرِ الانفصالِ: (إنْ) شَرطيَّةٌ و(لا) نافيةٌ، وحُذِفَ فِعلُها لدَلالةِ المَصدرِ عليه، والتَّقديرُ: إنْ لمْ أُبَلِّغْ بلاغًا مِن اللهِ ورِسالتِه...، وهذا كما تَقولُ: إنْ لا قِيامًا فقُعودًا، أي: إنْ لم تقُمْ قِيامًا فاقعُدْ قُعودًا، وحَذْفُ هذا الفِعلِ قد يكونُ لدَلالةٍ عليه بعْدَه أو قبْلَه [248] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/631)، ((تفسير البيضاوي)) (5/254)، ((تفسير أبي حيان)) (10/302، 303)، ((تفسير أبي السعود)) (9/47)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/244)، ((إعراب القرآن وبيانه)) لدرويش (10/248). .
5- قولُه تعالَى: حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِرًا وَأَقَلُّ عَدَدًا كانوا إذا سَمِعوا آياتِ الوعْدِ بنَصْرِ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ والمسلِمينَ في الدُّنيا والآخِرةِ، وآياتِ الوعيدِ للمُشرِكين بالانهزامِ وعَذابِ الآخِرةِ وعذابِ الدُّنيا؛ استَسْخَروا مِن ذلك، وقالوا: وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ [سبأ: 35] ، وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [السجدة: 28] ، إلى غيرِ ذلك؛ فهُم مَغرورونَ بالاستِدراجِ والإمهالِ؛ فلذلك عُقِّبَ وَعيدُهم بالغايةِ المُفادةِ مِن (حتَّى)، فالغايةُ هنا مُتعلِّقةٌ بمَحذوفٍ يدُلُّ عليه الكلامُ مِن سُخريةِ الكفَّارِ مِن الوعيدِ، واستِضعافِهم المسلِمينَ في العَدَدِ والعُدَدِ؛ فإنَّ ذلك يُفهَمُ منه أنَّهم لا يَزالون يَحسَبون أنَّهم غالِبون فائِزون، حتَّى إذا رَأَوْا ما يُوعَدون تَحقَّقوا إخفاقَ آمالِهِم [249] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/632)، ((تفسير البيضاوي)) (5/254)، ((تفسير أبي حيان)) (10/303، 304)، ((تفسير أبي السعود)) (9/47)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/245)، ((إعراب القرآن وبيانه)) لدرويش (10/249). .
- وجِيءَ بالجُملةِ المُضافِ إليها (إذا) فِعلًا ماضيًا فقال: رَأَوُا؛ للتَّنبيهِ على تَحقيقِ وُقوعِه [250] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/632)، ((تفسير أبي حيان)) (10/304)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/246). .
- قولُه: فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِرًا وَأَقَلُّ عَدَدًا السِّينُ هنا للتَّأكيدِ المُجرَّدِ، لا للاسْتِقبالِ؛ لأنَّ السِّينَ حرْفُ استِقبالٍ، ووَقْتُ رُؤيةِ العذابِ يَحصُلُ فَورَ عِلمِ الضَّعيفِ مِن القَويِّ، والسِّينُ تَقْتضي أنَّه يَتأخَّرُ عنه [251] يُنظر: ((إعراب القرآن وبيانه)) لدرويش (10/249، 250). .
- والاستِفهامُ بما فيه مِن الإبهامِ يَكونُ كِنايةً عن الغَرابةِ، بحيث يَسأَلُ النَّاسُ عن تَعيينِ الشَّيءِ بعْدَ البحثِ عنه [252] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/246). .
- وضَعْفُ الناصرِ وَهَنٌ لهم مِن جِهةِ وَهَنِ أنْصارِهم، وقِلَّةُ العَددِ وَهَنٌ لهم مِن جانبِ أنفُسِهم، وهذا وَعيدٌ لهم بخَيبةِ غُرورِهم بالأمْنِ مِن غَلَبِ المسلمينَ في الدُّنيا؛ فإنَّهمْ كانوا يَقولونَ: نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ [القمر: 44]، وقالوا: نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا [253] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/246). [سبأ: 35] .