موسوعة التفسير

سُورةُ يُونُس
الآيات (104-109)

ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ

غريب الكلمات:

حَنِيفًا: أي: مُقبلًا على اللهِ، مُعرضًا عما سِواه، وقيل: مائلًا عن الشركِ والدِّينِ الباطلِ إلى التوحيدِ، والدِّينِ الحقِّ المستقيمِ، وأصلُ الحنفِ: الميلُ عن الشيءِ بالإقبالِ على آخرَ، فالحنفُ ميلٌ عن الضلالةِ إلى الاستقامةِ، وأصلُه ميلٌ في إبهاميِ القدمينِ، كل واحدةٍ على صاحبتِها [1209] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 64)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 184)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 291)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (9/319)، ((جلاء الأفهام)) لابن القيم (1/269)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 96)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 359). ، وقيل: حنيفًا، أي: مسلمًا مستقيمًا [1210] وذلك بناءً على قولِ مَن قال: إنَّ الحنيفَ هو المستقيمُ مِن كلِّ شيءٍ. والحنفَ الاستقامةُ، وجعلوا الرَّجلَ الَّذي تُقبلُ إحدَى قَدَميه على الأُخرى، إنَّما قِيل له: أحنفُ، على جهة التفاؤلِ، كما قِيل للمَهْلَكةِ مِن البلادِ: المفازَةُ، بمعنَى الفوزِ بالنَّجاةِ منها والسَّلامةِ؛ وكما قِيل لِلَّديغِ: السَّليمُ؛ تفاؤلًا له بالسَّلامةِ مِن الهلاكِ، وما أشبهَ ذلك. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (2/591)، ((تفسير الماوردي)) (2/353)، ((تفسير ابن عطية)) (3/146). .
بِوَكِيلٍ: الوكيلُ: المانعُ والحافظُ والكفيلُ، ووكيلُ الرجلِ في مالِه هو الذي كفَله له، وقام به، والتوكُّلُ يُقال على وجهينِ، يُقال: توكَّلتُ لفلانٍ بمعنى: توليتُ له، ويُقال: وكلتُه فتوكَّل لي، وتوكلتُ عليه بمعنَى: اعتمدتُه، وأصلُ (وكل): يدلُّ على اعتمادِ غيرِك في أمرِك [1211] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 18، 313)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (6/136)، ((المفردات)) للراغب (ص: 882)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 206). .

المعنى الإجمالي:

يقولُ الله تعالَى: قُل- يا مُحمَّدُ- لهؤلاء النَّاسِ: إن كُنتُم في شَكٍّ مِن صِحَّةِ ديني الذي دَعَوتُكم إليه، وهو الإسلامُ، فإنِّي لا أعبدُ في حالٍ مِن الأحوالِ أحدًا من الذين تَعبدونَهم ممَّا اتَّخَذتُم مِن الأصنامِ والأوثانِ، ولكِنْ أعبدُ اللهَ وَحْدَه الذي يُميتُكم، وأمرني الله عزَّ وجلَّ أن أكونَ مِن المؤمنينَ. وأمَرني بقولِه: أقِمْ- أيُّها الرَّسولُ- نَفسَك على دينِ الإسلامِ مُستقيمًا عليه، غيرَ مائلٍ عنه، ولا تكونَنَّ ممَّن يُشرِكُ في عبادةِ رَبِّه الآلهةَ والأندادَ، فتكونَ مِن الهالكينَ، ولا تعبُدْ مِن دونِ الله شيئًا من الأوثانِ والأصنامِ وغيرِها؛ لأنَّها لا تنفَعُ ولا تضُرُّ، فإن فعَلْتَ ذلك وعبَدْتَها مِن دونِ اللهِ، فإنَّك إذًا من الظَّالِمينَ لأنفُسِهم بالشِّركِ، وإن يُصِبْك اللهُ- أيُّها الرَّسولُ- بشدَّةٍ أو بلاءٍ، فلا كاشِفَ لذلك إلَّا هو جلَّ وعلا، وإن يُرِدْك برَخاءٍ أو نعمةٍ، فلا يمنَعُه عنك أحدٌ، يصيبُ اللهُ عزَّ وجلَّ بالسَّرَّاءِ والضَّرَّاءِ مَن يشاءُ مِن عبادِه، وهو الغَفورُ لذنوبِ مَن تاب، الرَّحيمُ بمن آمنَ به وأطاعه، وقل- أيُّها الرَّسولُ- للنَّاسِ: قد جاءكم القرآنُ الذي فيه بيانُ هِدايتِكم، فمَن اهتدى بهذا القرآنِ، فإنَّما ثَمرةُ عَمَلِه راجعةٌ إليه، ومَن انحرَفَ عن القرآنِ، وأصرَّ على الضَّلالِ، فإنَّما ضلالُه وضرَرُه على نفسِه، وما أنا بمسلَّطٍ عليكم حتى تكونوا مؤمنينَ، ولا بحفيظٍ عليكم حتى أحفظَ أعمالَكم وأحاسِبَكم عليها، واتَّبِع وحيَ اللهِ الذي يُوحيه إليك، فاعمَلْ به، واصبِرْ على طاعةِ الله تعالى، وعلى أذى مَن آذاك في تبليغِ رِسالتِه، حتى يقضيَ اللهُ بينك وبينهم، وهو عزَّ وجَلَّ خيرُ الحاكِمينَ؛ فإنَّ حُكمَه مُشتَمِلٌ على العَدلِ التَّامِّ.

تفسير الآيات:

قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي شَكٍّ مِّن دِينِي فَلاَ أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ وَلَـكِنْ أَعْبُدُ اللّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (104).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا ذكَرَ اللهُ تعالى الدَّلائِلَ على أقصى الغاياتِ، وأبلَغِ النِّهاياتِ، أمرَ رَسولَه بإظهارِ دِينِه، وبإظهارِ المُبايَنةِ عن المُشرِكينَ؛ لكي تزولَ الشُّكوكُ والشُّبُهاتُ في أمرِه، وتخرُجَ عبادةُ اللهِ مِن طريقةِ السِّرِّ إلى الإظهارِ [1212] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (17/308). .
وأيضًا لَمَّا تقَدَّمَ الفِطامُ عن الميلِ لِمن يطلُبُ الآياتِ، وكان طلَبُهم لها إنَّما هو على وجهِ الشَّكِّ، وإن لم يكُن على ذلك الوجهِ، فإنَّه فِعلُ الشَّاكِّ غالبًا، وتقَدَّمَت أجوبةٌ لهم، وخُتِمَ ذلك بتَهديدِهم وبشارةِ المُؤمِنينَ المُوجبة لثباتِهم- ناسَبَه كلَّ المُناسَبةِ أن أُتبِعَ الأمرُ بجوابٍ آخَرَ دالٍّ على ثباتِه صلَّى الله عليه وسلَّم، وأنَّه مُظهِرٌ دِينَه، رَضِيَ مَن رَضِيَ، وسَخِطَ مَن سَخِطَ [1213] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (9/215). .
قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي شَكٍّ مِّن دِينِي فَلاَ أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ.
أي: قُلْ- يا مُحمَّدُ-: يا أيُّها النَّاسُ [1214] ذهَب ابنُ جريرٍ إلى أنَّ المرادَ بالنَّاس هنا: مُشرِكو قريش. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (12/303). وذهب ابن عطيَّة إلى أنَّها مُخاطَبةٌ عامَّةٌ للنَّاسِ أجمعينَ إلى يوم القيامةِ، يدخلُ تحتَها كلُّ مَن اتَّصَف بالشَّكِّ في دينِ الإسلامِ. يُنظر: ((تفسير ابن عطية)) (3/146). ، إن كُنتُم في شَكٍّ مِن صِحَّةِ دِينِ الإسلامِ الذي أدعوكم إليه، فإنِّي لا أعبدُ الذين تَعبُدونَ مِن دونِ اللهِ، مِن الأصنامِ والأوثانِ وغَيرِها من المخلوقاتِ التي لا تستحِقُّ العبادةَ [1215] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (12/303)، ((تفسير القرطبي)) (8/387)، ((تفسير ابن كثير)) (4/299، 300)، ((تفسير السعدي)) (ص: 375). قال ابن جرير: (وهذا تعريضٌ ولَحنٌ مِن الكلامِ لَطيفٌ، وإنَّما معنى الكلامِ: إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي لا ينبغي لكم أن تشُكُّوا فيه، وإنَّما ينبغي لكم أن تشُكُّوا في الذي أنتم عليه من عبادةِ الأصنامِ التي لا تعقِلُ شيئًا، ولا تضُرُّ ولا تنفَعُ، فأمَّا ديني فلا ينبغي لكم أن تشُكُّوا فيه؛ لأني أعبدُ اللهَ الذي يقبِضُ الخَلقَ فيُميتُهم إذا شاء، وينفَعُهم ويضُرُّهم إذا شاء؛ وذلك أنَّ عبادةَ من كان كذلك لا يستَنكِرُها ذو فطرةٍ صَحيحةٍ، وأمَّا عبادةُ الأوثانِ فيُنكِرُها كلُّ ذي لُبٍّ وعَقلٍ صَحيحٍ). ((تفسير ابن جرير)) (12/303-304). .
وَلَـكِنْ أَعْبُدُ اللّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ.
أي: ولكنْ أعبدُ اللهَ الذي يُميتُكم ويَقبِضُ أرواحَكم، ثمَّ يَبعَثُكم وإليه مَرجِعُكم؛ لِيُجازيَكم بأعمالِكم، فهو وَحْدَه المُستحِقُّ للعبادةِ [1216] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (12/304)، ((تفسير القرطبي)) (8/387)، ((تفسير ابن كثير)) (4/300)، ((تفسير السعدي)) (ص: 375). .
وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ.
أي: وأمَرَني اللهُ أن أكونَ مِن جملةِ المُؤمِنينَ المصدِّقينَ بما أوحَى إليَّ، الموعودينَ بالنَّجاةِ مِن العذابِ، والنصرِ على أعدائهم وأعدائِه [1217] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (12/304)، ((تفسير القرطبي)) (8/387)، ((تفسير الشوكاني)) (2/542)، ((تفسير المنار)) لمحمد رشيد رضا (11/399). .
كما قال تعالى: قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ [الأنعام: 161-163] .
وقال سبحانه: إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ [النمل: 91] .
وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (105).
وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا.
أي: وأمَرَني اللهُ بِقَولِه: أقمْ نفسَك على دينِ الإسلامِ، واستَقِمْ عليه مُخلِصًا لله وَحدَه، مائلًا عن كلِّ دينٍ سواه [1218] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (12/304)، ((تفسير القرطبي)) (8/387، 388)، ((تفسير ابن كثير)) (4/300)، ((تفسير القاسمي)) (6/68)، ((تفسير السعدي)) (ص: 375)، ((تفسير ابن عاشور)) (11/303). .
وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ.
أي: ولا تكوننَّ- يا محمَّدُ- من المُشرِكينَ في عبادةِ اللهِ، لا في حالِهم ولا عقائِدِهم، ولا  أعمالِهم [1219] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (12/304)، ((تفسير أبي السعود)) (4/179)، ((تفسير السعدي)) (ص: 375). .
كما قال تعالى: وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ * بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ [الزمر: 65-66] .
وَلاَ تَدْعُ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَنفَعُكَ وَلاَ يَضُرُّكَ فَإِن فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِّنَ الظَّالِمِينَ (106).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّ اللهَ تعالى لَمَّا نهى النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عن الشِّركِ، أكَّدَه بما هو كالتَّعليلِ له بِقَولِه [1220] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (9/217). :
وَلاَ تَدْعُ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَنفَعُكَ وَلاَ يَضُرُّكَ.
أي: ولا تَعبُدْ- يا مُحمَّدُ- مِن دونِ اللهِ مِن الأصنامِ وغَيرِها ما لا ينفَعُك إن عبَدْتَه، ولا يضُرُّك إن عصَيتَه [1221] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (12/304)، ((تفسير القرطبي)) (8/388)، ((تفسير السعدي)) (ص: 375). .
فَإِن فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِّنَ الظَّالِمِينَ.
أي: فإنْ عَبَدتَ غَيرَ اللهِ، فإنَّك- يا محمَّدُ- من الظَّالِمينَ لأنفُسِهم بالشِّركِ، الواضعينَ العبادةَ في غيرِ مَوضِعِها [1222] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (12/304)، ((تفسير ابن عطية)) (3/147)، ((تفسير القرطبي)) (8/388)، ((تفسير السعدي)) (ص: 375). .
وَإِن يَمْسَسْكَ اللّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَآدَّ لِفَضْلِهِ يُصَيبُ بِهِ مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (107).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا بيَّن الله تعالى في الآيةِ الأولى في صفةِ الأصنامِ أنَّها لا تضُرُّ ولا تنفَعُ؛ بيَّن في هذه الآيةِ أنَّها لا تَقدِرُ أيضًا على دَفعِ الضَّرَرِ الواصلِ مِن الغَيرِ، وعلى الخيرِ الواصلِ مِن الغَيرِ [1223] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (17/310). ، وذكَر أنَّ الحَولَ والقُوَّةَ والنَّفعَ والضُّرَّ، ليس ذلك إلَّا لله، وأنَّه تعالى هو المُنفَرِدُ بذلك [1224] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (6/113). .
وَإِن يَمْسَسْكَ اللّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ.
أي: وإن يُصِبْك اللهُ- يا مُحمَّدُ- بشدَّةٍ وبلاءٍ- كمَرَضٍ أو فقرٍ- فلا يَكشِفُه عنك ويَرفَعُه إلَّا اللهُ وَحدَه المُستَحِقُّ للعبادةِ [1225] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (12/305)، ((تفسير القرطبي)) (8/388)، ((بيان تلبيس الجهمية)) لابن تيمية (5/236)، ((طريق الهجرتين)) لابن القيم (ص: 288)، ((تفسير ابن كثير)) (4/300)، ((تفسير السعدي)) (ص: 375). .
كما قال سُبحانه: قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ [الزمر: 38] .
وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَآدَّ لِفَضْلِهِ.
أي: وإنْ يُرِدِ اللهُ لك الخيرَ- يا محمَّدُ- فلا أحدَ مِن الخَلقِ يَقدِرُ على ردِّ فَضلِه وإحسانِه [1226] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (12/305)، ((الوسيط)) للواحدي (2/562)، ((تفسير القرطبي)) (8/388)، ((تفسير السعدي)) (ص: 375). .
كما قال تعالى: مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ [فاطر: 2] .
وعن ابنِ عبَّاسٍ رَضِيَ الله عنهما، قال: ((كنتُ خَلفَ رَسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يومًا، فقال: يا غُلامُ، إنِّي أعَلِّمُك كَلِماتٍ: احفَظِ اللهَ يَحفَظْك، احفَظِ اللهَ تَجِدْه تُجاهَك، إذا سألتَ فاسألِ اللهَ، وإذا استعَنْتَ فاستعِنْ بالله، واعلَمْ أنَّ الأمَّةَ لو اجتمَعَت على أن ينفَعوك بشَيءٍ، لم ينفَعوك إلَّا بشَيءٍ قد كتَبَه الله لك، ولو اجتَمَعوا على أن يضُرُّوك بشَيءٍ، لم يضُرُّوك إلَّا بشيءٍ قد كتَبَه اللهُ عليك، رُفِعَت الأقلامُ، وجَفَّت الصُّحُف )) [1227]​​ أخرجه الترمذي (2516)، وأحمد (2669)، والطبراني في ((المعجم الأوسط)) (5417). صحَّحه الترمذيُّ، وحسَّنه ابنُ رجبٍ في ((جامع العلوم والحكم)) (1/459)، وابنُ حجرٍ في ((موافقة الخبر الخبر)) (1/327)، وصحَّح إسناده أحمد شاكر في تحقيق ((مسند أحمد)) (4/233)، وصحَّحه الألبانيُّ في ((صحيح الترمذي)) (2516)، وابنُ بازٍ في ((مجموع فتاوى ابن باز)) (1/160). .
يُصَيبُ بِهِ مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ.
أي: يُصيبُ اللهُ بالضُّرِّ والخيرِ من يَشاءُ مِن عبادِه [1228] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (12/305)، ((تفسير القرطبي)) (8/388)، ((تفسير الخازن)) (2/468). وممن ذهب إلى أنَّ الضميرَ في (به) يعودُ إلى الضرِّ والخيرِ: ابنُ جريرٍ والقرطبي والخازنُ. يُنظر: ((المصادر السابقة)). وممن ذهَب إلى أنَّه يعودُ إلى الخيرِ: الشوكاني، ومحمد رشيد رضا، والسعدي. يُنظر: ((تفسير الشوكاني)) (2/542)، ((تفسير المنار)) لمحمد رشيد رضا (11/401)، ((تفسير السعدي)) (ص: 375). .
وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.
أي: وهو الغَفورُ لذُنوبِ عِبادِه التَّائبين، الرَّحيمُ بالمؤمنينَ [1229] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (12/305)، ((تفسير السمرقندي)) (2/135)، ((تفسير القرطبي)) (8/388). .
قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءكُمُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَاْ عَلَيْكُم بِوَكِيلٍ (108).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا كَثُرَت في هذه السُّورةِ الأوامِرُ والنَّواهي والأجوبةُ بسبَبِ ما يقتَرِحونَه على وجهِ التعَنُّت، وخُتِمَ بأنَّ من دعا غيرَه كان راسخًا في الظُّلمِ، لا مُجيرَ له منه؛ ختَم ذلك بجوابٍ مُعلِمٍ بأنَّ فائدةَ الطَّاعةِ ليست راجعةً إلَّا إليهم، وضرَرَ النُّفورِ ليس عائدًا إلَّا عليهم [1230] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (9/219). .
وأيضًا فإنَّه لَمَّا قرَّرَ تعالى الدَّلائِلَ المذكورةَ في التوحيدِ والنبوَّةِ والمعادِ، وزَيَّنَ أمرَ هذه السُّورةِ بهذه البياناتِ الدَّالَّةِ على كونِه تعالى مُبتَدئًا بالخَلقِ والإبداعِ، والتَّكوينِ والاختراعِ- ختَمَها بهذه الخاتمةِ الشَّريفةِ العاليةِ؛ لئلَّا يبقى لأحدٍ عُذرٌ [1231] يُنظر: ((تفسير الشربيني)) (2/41). .
قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءكُمُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ.
أي: قُل- يا محمَّدُ- لجميعِ النَّاسِ: يا أيُّها النَّاسُ، قد أتاكم الحَقُّ المبينُ الذي لا مِريةَ فيه ولا شَكَّ، وهو القُرآنُ الذي نزَلَ مِن عند رَبِّكم، فيه بيانُ دِينِكم، وصَلاحُ أحوالِكم [1232] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (12/305)، ((تفسير ابن عطية)) (3/147)، ((تفسير السعدي)) (ص: 375)، ((تفسير ابن عاشور)) (11/308). قال ابن عاشور: (الخطابُ لجَميعِ النَّاسِ مِن مؤمنٍ وكافرٍ، والمقصودُ منه ابتداءً المُشرِكون؛ ولذلك أطيلَ الكلامُ في شأنِهم، وقد ذُكِرَ معهم من اهتدى تشريفًا لهم). ((تفسير ابن عاشور)) (11/308). .
فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ.
أي: فمَن اهتَدى بهذا القرآنِ واتَّبَعه، فإنَّما ينفَعُ نَفسَه [1233] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (12/305، 306)، ((تفسير ابن كثير)) (4/301)، ((تفسير السعدي)) (ص: 375). .
وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا.
أي: ومن ضلَّ عن القرآنِ فخالفَ طريقَ الحَقِّ، فإنَّما يضرُّ نفسَه [1234] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (12/306)، ((تفسير ابن كثير)) (4/301)، ((تفسير السعدي)) (ص: 375). .
وَمَا أَنَاْ عَلَيْكُم بِوَكِيلٍ.
أي: وقُلْ- يا محمَّدُ- للنَّاسِ: وما أنا بمسَلَّطٍ عليكم، وقاهرٍ لكم حتى تُؤمِنوا، ولا بحفيظٍ عليكم حتى أحفظَ أعمالَكم وأحاسِبَكم عليها [1235] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (12/306)، ((تفسير القرطبي)) (8/389)، ((بدائع الفوائد)) لابن القيم (3/69)، ((تفسير ابن كثير)) (4/301)، ((تفسير السعدي)) (ص: 375)، ((تفسير ابن عاشور)) (11/309). .
كما قال تعالى: قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ [الأنعام: 104] .
وقال عزَّ وجلَّ: إِنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ [الزمر: 41] .
وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّىَ يَحْكُمَ اللّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (109).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا كان أكثَرُ ما ذُكِرَ وعظًا لهم وتذكيرًا؛ ختَمَه الله تعالى بأمرِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بما يفعَلُه في خاصَّةِ نَفسِه، أجابوا أو لم يُجيبوا [1236] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (9/220). ، فقال تعالى:
وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ.
أي: واتَّبعْ- يا محمَّدُ- ما أوحَى اللهُ إليك من القرآنِ، فصدِّقْ بأخبارِه، واعمَلْ بأحكامِه [1237] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (12/306)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (10/676)، ((تفسير ابن كثير)) (4/301)، ((تفسير السعدي)) (ص: 375). .
وَاصْبِرْ حَتَّىَ يَحْكُمَ اللّهُ.
أي: واصبِرْ على التمسُّكِ بما يُوحَى إليك، وعلى أذى المُشرِكينَ، حتَّى يقضيَ اللهُ بينك وبينهم [1238] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (12/306)، ((تفسير القرطبي)) (8/389)، ((تفسير ابن كثير)) (4/301)، ((تفسير السعدي)) (ص: 375). .
كما قال تعالى: وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ [النحل: 127] .
وقال عزَّ وجلَّ: إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ * فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ [النمل: 78-79] .
وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ.
أي: واللهُ خيرُ الحاكِمينَ بالعدْلِ بين المُتَخاصِمينَ، فسيَحكُمُ بينك- يا محمَّدُ- وبين مَن خالَفوك [1239] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (12/306)، ((تفسير ابن كثير)) (4/301)، ((تفسير السعدي)) (ص: 375)، ((تفسير ابن عاشور)) (11/310). قال السعدي: (وقد امتثَلَ صلَّى الله عليه وسلَّم أمرَ رَبِّه، وثبَتَ على الصِّراطِ المُستقيمِ، حتى أظهَرَ الله دينَه على سائرِ الأديانِ، ونصَرَه على أعدائِه بالسَّيفِ والسِّنانِ، بعدما نصَرَه اللهُ عليهم، بالحجَّة والبُرهان). ((تفسير السعدي)) (ص: 375). .

الفوائد التربوية :

1- قال الله تعالى: وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ فلا أحدَ ولا شيءَ يَرُدُّ فَضلَه تعالى الذي تتعَلَّقُ به إرادتُه، فما شاء كان حتمًا، فلا ينبغي لأحدٍ أن يرجوَ الخَيرَ والنَّفعَ إلَّا مِن فَضلِه، ولا أن يخاف رَدَّ ما يريدُه له من أحدٍ غَيرِه [1240] يُنظر: ((تفسير المنار)) لمحمد رشيد رضا (11/401). .
2- قال الله تعالى: وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ أعلَمَت هذه الآيةُ أنَّ من اتَّبَعَ الوَحيَ ابتُليَ بما ينبغي الصَّبرُ عليه، وأفهَمَت أنَّ من كان له أشدَّ اتباعًا، كان أشَدَّ بلاءً [1241] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (9/221). .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- قَولُ الله تعالى: إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ فيه سؤالٌ: كيف قال فِي شَكٍّ وهم كفَّارٌ يَعتَقِدونَ بُطلانَ ما جاء به؟
الجوابُ: أنَّه كان فيهم شاكُّونَ، أو أنَّهم لَمَّا رأوُا الآياتِ اضطَرَبوا، وشَكُّوا في أمرِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم [1242] يُنظر: ((تفسير الشربيني)) (2/40).
2- قَولُ اللهِ تعالى: وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فيه سؤالٌ: ما الحكمةُ في ذِكرِ المَعبودِ الحَقِّ في هذا المقامِ بهذه الصِّفةِ، وهي قولُه: الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ؟ الجواب مِن وجوهٍ:
الأول: أنَّه إنَّما خُصَّ التَّوفِّي هاهنا بالذِّكرِ دونَ الإحياءِ؛ لأنَّه يتضَمَّنُ تهديدًا لهم؛ لأنَّ وفاةَ المُشرِكينَ ميعادُ عذابِهم [1243] يُنظر: ((البسيط)) للواحدي (11/332). .
الثاني: لِمَا فيها مِن الدَّلالةِ على كمالِ التَّصرُّفِ في المخلوقِ؛ فإنَّ المشرِكين لم يَبلُغْ بهم الإشراكُ إلى ادِّعاءِ أنَّ الأصنامَ تُحْيي وتُميتُ [1244] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (11/301). .
 الثالث: يحتملُ أن يكونَ المرادُ: أنِّي أعبُدُ اللهَ الذي خلَقَكم أوَّلًا ثم يتوفَّاكم ثانيًا، ثمَّ يُعيدكم ثالثًا، فاكتفى بذِكرِ التوفِّي منها؛ لِكَونِه منبِّهًا على البَواقي.
الرابع: أنَّ الموتَ أشَدُّ الأشياءِ مَهابةً، فخُصَّ هذا الوصفُ بالذِّكرِ في هذا المقامِ؛ لِيَكونَ أقوى في الزَّجرِ والرَّدعِ.
الخامس: أنَّهم لَمَّا استعجَلوا نزولَ العذابِ قال تعالى: فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ * ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فهذه الآيةُ تدُلُّ على أنَّه تعالى يُهلِكُ أولئك الكُفَّارَ، ويُبقي المؤمنينَ، ويُقَوِّي دولتَهم، فلمَّا كان قريبَ العَهدِ بذِكرِ هذا الكلامِ؛ لا جرَمَ قال هاهنا: وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وهو إشارةٌ إلى ما قَرَّره وبَيَّنَه في تلك الآيةِ، كأنَّه يقولُ: أعبدُ ذلك الذي وعَدَني بإهلاكِهم وبإبقائي [1245] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (17/308). .
3- قَولُ الله تعالى: قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلَا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اختيرَ في الآيةِ الثَّانيةِ صِيغةُ الطَّلَبِ وفيما قَبلَه الخَبَر؛ ذلك بأنَّ الخَبَر هو المناسِبُ لعلاقةِ هذا الأمرِ بالماضي، وهو أن يكونَ مِن جماعةِ المؤمنينَ المَوعودينَ بما تقَدَّمَ من سنَّةِ الله في النبيِّينَ، والطَّلَبُ هو المناسِبُ لعَلاقتِه هو وما عُطِفَ عليه مِن النَّهيِ بالحالِ والاستقبالِ، من دعوةِ هذا الدِّينِ المُوجَّهةِ إلى أهلِ مَكَّةَ وسائرِ النَّاسِ [1246] يُنظر: ((تفسير المنار)) لمحمد رشيد رضا (11/399).
4- قَولُه تعالى: وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ نهيٌ عن الإشراكِ على التَّصريحِ؛ لتأكيدِ التَّحذيرِ والذَّمِّ لأهلِه؛ لأنَّه إذا قيل: لا تكُنْ منهم، اقتضى أنَّهم على نهايةِ الخِزيِ والمَقتِ [1248] يُنظر: ((البسيط)) للواحدي (11/334). .
5- قَولُ الله تعالى: وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ المقصودُ مِن هذا الفَرضِ: تنبيهُ النَّاسِ على فظاعةِ عِظَمِ هذا الفِعلِ، حتى لو فعَلَه أشرفُ المَخلوقينَ، لكان من الظَّالِمينَ [1249] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (11/305). .
6- قَولُ الله تعالى: وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ فيه سؤالٌ: لمَ ذُكِرَ المَسُّ في أحَدِهما، والإرادةُ في الثَّاني؟
الجوابُ: أنَّ للعُلَماءِ وجوهًا في تعليلِ ذلك:
الوجه الأول: أنَّه لَمَّا كان الضرُّ أمرًا وجوديًّا، لا جرمَ قال فيه: وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ ولَمَّا كان الخيرُ قد يكونُ وجوديًّا، وقد يكون عَدميًّا؛ لا جرَمَ لم يُذكَرْ لفظُ الإمساسِ فيه، بل قال: وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ [1250] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (17/310). .
الوجه الثاني: كأنَّه أراد أن يَذكُرَ الأمرينِ جَميعًا: الإرادةَ والإصابةَ في كلِّ واحدٍ مِن الضُرِّ والخَيرِ، وأنَّه لا رادَّ لِما يرُيدُه منهما، ولا مُزيلَ لِما يُصيبُ به منهما، فأوجز الكلامَ بأن ذكَرَ المسَّ وهو الإصابةُ في أحَدِهما، والإرادةَ في الآخرِ؛ ليدُلَّ بما ذُكِرَ على ما تُرِكَ، على أنَّه قد ذكَرَ الإصابةَ بالخَيرِ في قَولِه تعالى: يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ [1251] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (2/375). .
الوجه الثالث: أنَّه عبَّرَ بالمسِّ في قَولِه تعالى: وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ لأنَّه أخوَفُ.
الوجه الرابع: أنَّه عبَّرَ بالإرادةِ في الخيرِ، وبالمسِّ في الضُّرِّ؛ تنبيهًا على أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مرادٌ بالخَيرِ بالذَّاتِ، وبالضُّرِّ بالعَرضِ تطييبًا لقَلبِه [1252] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (9/218-219). .
7- قَولُ الله تعالى: وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ دالٌّ على أنَّ الضُّرَّ والخيرَ واقعانِ بقُدرةِ الله تعالى وبقَضائِه، فيدخلُ فيه الكفرُ والإيمانُ والطاعةُ والعِصيانُ، والسُّرورُ والآفاتُ، والخيراتُ والآلامُ، واللَّذَّاتُ والرَّاحاتُ والجِراحات، فبيَّن سُبحانه وتعالى أنَّه إن قضى لأحدٍ شرًّا، فلا كاشِفَ له إلَّا هو، وإن قضى لأحدٍ خَيرًا فلا رادَّ لِفَضلِه البتَّةَ [1253] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (17/310). .
8- قَولُ الله تعالى: وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ فيه دَقيقةٌ، وهي أنَّه تعالى رجَّحَ جانِبَ الخَيرِ على جانِبِ الشَّرِّ، وذلك من أوجهٍ، منها:
الأول: أنَّه تعالى لَمَّا ذكر إمساسَ الضُّرِّ، بيَّنَ أنَّه لا كاشِفَ له إلَّا هو، وذلك يدُلُّ على أنَّه تعالى يُزيلُ المَضارَّ؛ لأنَّ الاستثناءَ مِن النَّفيِ إثباتٌ، ولَمَّا ذكَرَ الخَيرَ لم يَقُلْ بأنَّه يَدفَعُه بل قال إنَّه: لَا رَادَّ لِفَضْلِهِ، وذلك يدلُّ على أنَّ الخيرَ مَطلوبٌ بالذَّاتِ، وأنَّ الشَّرَّ مطلوبٌ بالعَرضِ.
الثاني: أنَّه قال: وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وهذا أيضًا يدُلُّ على قوَّةِ جانبِ الرَّحمةِ [1254] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (17/310). .
9- التقديمُ في اللفظِ يدلُّ على زيادةِ العنايةِ، فقولُه: وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ يدلُّ على أنَّ المقصودَ هو الإنسانُ، وسائرُ الخيراتِ مخلوقةٌ لأجلِه، فهذه الدقيقةُ لا تُستفادُ إلا مِن هذا التركيبِ [1255] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (17/310). .
10- قَولُ اللهِ تعالى: وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلهِ سمَّى الخيرَ فَضلًا؛ إشعارًا بأنَّ الخُيورَ من الله تعالى، هي صادرةٌ على سبيلِ الفَضلِ والإحسانِ والتفَضُّل [1256] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (6/113). .

بلاغة الآيات:

1- قَولُه تعالى: قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلَا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ
قولُه: يَا أَيُّهَا النَّاسُ فيه إيثارُ الخطابِ باسْمِ الجنسِ مُصدَّرًا بحرفِ التَّنبيهِ؛ تَعميمًا للتَّبليغِ، وإظهارًا لكمالِ العنايةِ بشأنِ ما بُلِّغ إليهم [1257] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (4 /179). .
قولُه: فَلَا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ، فيه الجمعُ بينَ نفيِ أن يَعبُدَ الأصنامَ وبين إثباتِ أنَّه يَعبُدُ اللهَ، وهو يقومُ مَقامَ صيغةِ القصرِ لو قال: فلا أَعبُدُ إلَّا اللهَ؛ ووجهُ العدولِ عن صيغةِ القصرِ: أنَّ شأنَها أن يُطْوَى فيها الطَّرَفُ المنفيُّ للاستغناءِ عنه بالطَّرَفِ المثبَتِ؛ لأنَّه المقصودُ، وذلك حين يكونُ الغرضُ الأصليُّ هو طرَفَ الإثباتِ، فأمَّا إذا كان طرَفُ النَّفيِ هو الأهمَّ كما هنا، وهو إبطالُ عبادةِ الأصنامِ أوَّلًا؛ عَدَل عن صيغةِ القصرِ إلى ذِكْرِ صيغتَيْ نفيٍ وإثباتٍ؛ فهو إطنابٌ اقتَضاه المقامُ [1258] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (11/301-302). .
وعُومِلَت الأصنامُ مُعاملةَ العُقلاءِ، فأُطلِقَ عليها اسمُ الموصولِ الَّذِينَ الَّذي لجماعةِ العقلاءِ؛ مُجاراةً لِما يَعتقِدونه فيها مِن العقلِ والتَّدبيرِ [1259] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (11/301). .
وتقديمُ تركِ عبادةِ الغير على عبادته تعالى في قولِه: فَلَا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ؛ لتقدُّمِ التخليةِ على التحليةِ، كما في كلمةِ التَّوحيدِ، وللإيذانِ بالمخالفةِ مِن أوَّلِ الأمرِ [1260] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (4/179). .
قولُه تعالى: وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فيه جعلُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم مِن جملةِ المؤمِنين؛ تشريفًا لهذا الجمعِ، وتنويهًا به [1261] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (11/302). .
وفي قولِه تعالى: وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ مناسَبةٌ حسَنةٌ، حيث قال اللهُ تعالى هنا: وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، وقال في سورةِ النَّملِ: وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ [النمل: 91] ، فاختُصَّ هذا المكانُ بـ(المؤمنين)، واختُصَّ آخِرُ سورةِ النَّملِ بـ(المسلمين)؛ ووجهُ ذلك: أنَّ قبل هذه الآيةِ في سورةِ يونسَ قولَه تعالى: ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ [يونس: 103] ، فقال بعدَه: وأُمِرتُ أن أكونَ مِنهم. وأمَّا في سورةِ النَّملِ فإنَّ قبلَ هذه الآيةِ مِنها: وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ [النمل: 81] ، فكأنَّه قال: وأُمِرتُ أن أكونَ ممَّن إذا سَمِع بآياتِه آمَن بها، وكان مِن المسلِمين الَّذين مُدِحوا بأنَّ النَّبيَّ يُسمِعُهم؛ إذْ يَنتفِعون بما يَسمَعونه منه، فلمَّا تقاربَتِ اللَّفظَتان وكانَتا تُستعمَلان لمعنًى واحدٍ، حُمِلَت كلُّ واحدةٍ مِنهما على اللَّفظِ الَّذي تَقدَّمها ولاءَمها [1262] يُنظر: ((درة التنزيل وغرة التأويل)) للإسكافي  (2/748-749)، ((أسرار التكرار في القرآن)) للكرماني (ص: 142-143)، ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص:255)  . .
وأيضًا لأنَّ آيةَ سورةِ يونسَ قد ورَد قبلَها قولُه تعالى: وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ * وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ [يونس: 99، 100]، وبعدَ هذا: وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ [يونس: 101]، وبعدَ هذا: كَذَلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ [يونس: 103] ، وبعدَ هذا الآيةُ المذكورةُ مِن قولِه: وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [يونس: 104] ، وتناسُبُ هذا كلِّه ظاهرٌ، ثمَّ إنَّ ما تقدَّم قبلَ آيةِ يونُسَ مِن تَكْرارِ اسمِ الإيمانِ لم يَكُنْ لِيُلائِمَه إطلاقُ اسمِ الإسلامِ؛ لأنَّ رُتبةَ الإيمانِ فوق رُتبةِ الإسلامِ، ومَقامَه أعلى، وهذا على إطلاقِ كلِّ واحدٍ مِن الاسمَينِ على مُسمَّاه لغةً، وعلى رَعْيِ التَّفصيلِ، فكأنْ يكونَ عَكْسَ التَّرقِّي إلى الأعلى أبَدًا، فلا يُمكِنُ في آيةِ يونُسَ إلَّا ما ورَدَت عليه.
أمَّا آيةُ النَّملِ فإنَّ قبْلَها قولَه: إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ [النمل: 91] ، وقولُه: وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ يَقتَضي تسليمَ كلِّ شيءٍ له، والتَّبرِّيَ مِن توهُّمِ شَريكٍ أو نظيرٍ؛ فناسبَ هذا قولَه: وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ [النمل: 91] ، وجاء كلٌّ على ما يَجِبُ [1263] يُنظر: ((ملاك التأويل)) لأبي جعفر الغرناطي (1/250-251). .
2- قوله تعالى: وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ
قولُه: وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا اللَّامُ في لِلدِّينِ للعلَّةِ، أي: لأجلِ الدِّينِ، وهو كنايةٌ عن توجيهِ نفْسِه بأَسْرِها لأجلِ ما أمَره اللهُ به مِن التَّبليغِ، وإرشادِ الأمَّةِ وإصلاحِها [1264] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (6/112)، ((تفسير ابن عاشور)) (11/303). .
قولُه: وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ نهيٌ مؤكِّدٌ لمعنى الأمرِ الَّذي قَبْلَه أَقِمْ، وتأكيدُ الفعلِ المنهيِّ عنه بنونِ التَّوكيدِ؛ للمُبالَغةِ في النَّهيِ عنه؛ اعتِناءً بالتَّبرُّؤِ مِن الشِّركِ [1265] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (11/304). .
3- قوله تعالى: وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ
قوله: وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ تأكيدٌ للنَّهيِ المذكورِ: وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، وتفصيلٌ لما أُجمِلَ فيه؛ إظهارًا لكمالِ العنايةِ بالأمرِ، وكشفًا عن وجهِ بُطلانِ ما عليه المشركون [1266] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (4/179- 180). .
قولُه: فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ تفريعٌ على النَّهيَينِ: وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ؛ للإشارةِ إلى أنَّه لا مَعذِرَةَ لِمَن يَأتي ما نُهي عنه بعدَ أن أُكِّد نهيُه، وبُيِّنَت عِلَّتُه، فمَن فعَله فقد ظلَم نفسَه، واعتَدى على حقِّ ربِّه [1267] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (11/304). .
قولُه: فَإِنْ فَعَلْتَ مَعْناه: فإنْ دعَوتَ مِن دونِ اللهِ ما لا ينفَعُك ولا يضُرُّك؛ فكنَى بالفِعلِ عن الدُّعاءِ إيجازًا، وتنويهًا لشأنِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وتنبيهًا على رِفْعةِ مَكانِه مِن أن يُنسَبَ إليه عبادةُ غيرِ اللهِ سبحانه، ولو في ضِمْنِ الجملةِ الشَّرطيَّةِ [1268] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (2/374)، ((تفسير أبي حيان)) (6/112)، ((تفسير أبي السعود)) (4/180). .
وفي قولِه: فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ أكَّد الكَونَ مِنَ الظَّالِمين بـ(إنَّ)؛ لِزِيادةِ التَّحذيرِ، وأُتِي بـ إِذًا؛ للإشارةِ إلى سؤالٍ مقدَّرٍ؛ كأنَّ سائلًا سأَل: فَإن فعَلتُ فماذا يكونُ [1269] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (11/304- 305). ؟
4- قولُه تعالى: وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ
مِن المناسبةِ الحسنةِ: أنَّه أتَى في الضُّرِّ بلَفظِ المسِّ، فقال: وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ...، وفي الخيرِ بلَفظِ الإرادةِ: وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ، وطابَق بينَ الضُّرِّ والخيرِ مُطابَقةً معنويَّةً لا لفظيَّةً؛ لأنَّ مُقابِلَ الضُّرِّ النَّفْعَ، ومُقابِلَ الخيرِ الشَّرَّ؛ فجاءَت لفظةُ الضُّرِّ ألْطَفَ وأخَصَّ مِن لفظةِ الشَّرِّ، وجاءت لفظةُ الخيرِ أتَمَّ مِن لفظةِ النَّفعِ، ولفظةُ المسِّ أوجَزُ مِن لفظِ الإرادةِ، وأكثَرُ تَنصيصًا على الإصابةِ، وأنسَبُ لقولِه: فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ، ولفظةُ الإرادةِ أدَلُّ على الحصولِ في وقتِ الخطابِ وفي غيرِه، وأنسَبُ لِلَفظِ الخيرِ، وإن كان المسُّ والإرادةُ مَعناهما الإصابةَ [1270] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (6/113). .
وأيضًا جاء جوابُ: وَإِنْ يَمْسَسْكَ بنفيٍ عامٍّ وإيجابٍ: فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ، وجاء جوابُ: وَإِنْ يُرِدْكَ بنفيٍ عامٍّ: فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ؛ لأنَّ ما أراده لا يَرُدُّه رادٌّ لا هو ولا غيرُه؛ فلذلك لم يَجِئِ التَّركيبُ: فلا رادَّ له إلَّا هو، والمسُّ مِن حيث هو فِعلٌ صفةُ فعلٍ يوقِعُه ويَرفَعُه بخِلافِ الإرادةِ؛ فإنَّها صفةُ ذاتٍ [1271] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (2/374)، ((تفسير أبي حيان)) (6/113، 114). .
قولُه: وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ، الفضلُ: هو الخيرُ، وأوقَع الاسْمَ الظَّاهِرَ لِفَضْلِهِ موقِعَ الضَّميرِ- فلم يَقُلْ: فلا رادَّ له-؛ للدَّلالةِ على أنَّ الخيرَ الواصِلَ إلى النَّاسِ فضلٌ مِن اللهِ لا استِحْقاقَ لهم فيه؛ لأنَّهم عَبيدٌ له يُصيبُهم بما يَشاءُ [1272] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (11/306)، ويُنظر أيضًا: ((نظم الدرر)) للبقاعي (9/218). .
وقولُه: وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ تذييلٌ لقولِه تعالى: يُصَيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ مقرِّرٌ لمضمونِه، والكلُّ- أي قولُه: يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ- تذييلٌ للشَّرطيَّةِ الأخيرةِ: وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ، محققٌ لمضمونِها [1273] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (4 /180). .
ولَمَّا تقدَّم قولُه: وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ، فأخَّر الضُّرَّ؛ ناسَب أن تَكونَ البَداءةُ بجُملةِ الشَّرطِ المتعلِّقةِ بالضُّرِّ، وأيضًا فإنَّه لَمَّا كان الكُفَّارُ يُتوقَّعُ منهم الضُّرُّ للمُؤمِنين، والنَّفعُ لا يُرجَى مِنهُم، كان تقديمُ جملةِ الضُّرِّ آكَدَ في الإخبارِ، فبُدِئ بها [1274] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (6/113). .
5- قوله تعالى: قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ
قولُه: قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ، فيه اختيارُ وصفِ الرَّبِّ المضافِ إلى ضميرِ النَّاسِ على اسمِ الجلالةِ؛ حيث قال: مِنْ رَبِّكُمْ، ولم يَقُلْ: (مِنَ اللهِ)؛ للتَّنبيهِ على أنَّه إرشادٌ مِن الَّذي يُحِبُّ صَلاحَ عِبادِه، ويَدْعوهم إلى ما فيه نَفعُهم شأنُ مَن يَرُبُّ، أي: يَسُوس ويُدبِّرُ [1275] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (11/308). .
وفي وصْفِ الحقِّ بـمِنْ رَبِّكُمْ: تنويهٌ بأنَّه حقٌّ مُبينٌ، لا يَخلِطُه باطلٌ ولا رَيبٌ؛ فهو معصومٌ مِن ذلك [1276] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (11/308). .
وقولُه: فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ تفريعٌ على جملةِ: قَدْ جَاءَكُمُ؛ للإشارةِ إلى أنَّ مَجيءَ الحقِّ الواضِحِ يتَرتَّبُ عليه أنَّ اتِّباعَه غُنْمٌ لِمُتَّبِعِه، وليس مَزِيَّةً له على اللهِ؛ لِيُتوَصَّلَ مِن ذلك إلى أنَّ المعرِضَ عنه قد ظلَم نفْسَه، ورتَّب عليها تَبِعَةَ الإعراضِ [1277] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (11/308). .
قولُه: وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ فيه الإتيانُ بالجملةِ الاسميَّةِ المنفيَّةِ؛ للدَّلالةِ على دَوامِ انتِفاءِ ذلك الحُكمِ، وثَباتِه في سائرِ الأحوالِ [1278] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (11/309). .
وفي قوله تعالى: فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ مناسَبةٌ حسَنةٌ، حيث عبَّر هنا بقولِه: فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ، وقال في آخِرِ سورةِ النَّملِ: فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ [النمل: 92] ؛ ففي الأولى قال: وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا، وفي الثَّانيةِ: وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ؛ وهذا لأنَّ الآيةَ الأولى في سورةِ يونسَ لَمَّا قال فيها: فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ، أي: منفعةُ اهتدائِه له، وهي دوامُ النِّعمةِ، والخلودُ في الجنَّةِ- اقتضَى هذا في الضَّلالِ ضدَّه، فقال: وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا، أي: ضررُ ضلالِه عليه، وهو دوامُ العقابِ بأليمِ العذابِ، وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ، ولا يَلزَمُني أن أقِيَكم ما لا تَقُونه أنفُسَكم، كالوكيلِ الَّذي يَلزَمُه حفظُ ما وُكِّل به ممَّا يَضُرُّه.
وأمَّا في الآيةِ الثَّانيةِ في آخرِ سورةِ النَّملِ فإنَّه عدَل بها عِندَ ذِكرِ الضَّلالِ عمَّا حُمِلَت عليه في الآيةِ التي في آخرِ سورةِ يونسَ؛ لِتُحمَلَ على الفواصلِ التي قَبلَها، وهي مختومةٌ بالواوِ والنُّونِ، أو الياءِ والنونِ، فقال تعالى: وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ [النمل:92] ، أي: ممَّن يُعلِمُكم ما يَلزَمُكم أن تَحْذَروه، ويُخوِّفُكم ما يَجِب عليكم أن تَجتنِبوه؛ فاشتمَل هذا على معنى: وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ؛ لأنَّ في قولِه تعالى: فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا، أي: لستُ ممَّن يُكرِهُ على ما يَحْميكم مِن النَّارِ، ويَقيكم حرَّ العقابِ، كالوكيلِ الَّذي يُحامي على ما وُكِّل به أن يَنالَه ضررٌ، مثل: وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ؛ فجاء على لفظِ: إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ؛ لتكونَ الفاصلةُ مُشاكِلةً للفواصلِ الَّتي قبلَها، مع تأديةِ مِثلِ المعنى الذي أدَّته الآيةُ التي شابَهَتْها [1279] يُنظر: ((درة التنزيل وغرة التأويل)) للإسكافي  (2/750-752). .
قولُه: وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ فيه التَّعبيرُ بالمضارِعِ يُوحَى على نَهْجِ التَّجدُّدِ والاستمرارِ من الحقِّ المذكورِ المتأكِّدِ يومًا فيومًا، وفي التَّعبيرِ عن بُلوغِه إليهم بالمجيءِ قَدْ جَاءَكُمُ، وإليه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بالوحيِ يُوحَى إِلَيْكَ: تنبيهٌ على ما بين المرتبتَينِ مِن التَّنائي [1280] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (4 /181). .
قولُه: وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ ثناءٌ وتذييلٌ؛ لِما فيه مِن العمومِ، أي: وهو خيرُ الحاكِمين بينَ كلِّ خَصمَين في هذه القضيَّةِ وفي غيرِها، والتَّعريفُ في الحاكِمين للاستِغْراقِ بقَرينةِ التَّذييلِ [1281] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (11/310). .