موسوعة التفسير

سورةُ الرَّعدِ
الآيات (15-18)

ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﰎ ﰏ ﰐ ﰑ ﰒ ﰓ ﰔ ﰕ ﰖ ﰗ ﰘ ﰙ ﰚ ﰛ ﰜ ﰝ

غريب الكلمات:

بِالْغُدُوِّ : جمع غَداةٍ: وهي أولُ النَّهَارِ، وأصلُ (غدو): يدُلُّ على زَمانٍ [214] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/101)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (4/415)، ((المفردات)) للراغب (ص: 603). .
وَالْآصَالِ: جمع أُصُلٍ، والأُصُلُ: جَمْعُ أَصِيلٍ: وهو آخِرُ النَّهَارِ، وأصلُ (أصل): يدلُّ على ما كان مِن النَّهارِ بعدَ العَشيِّ [215] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/101)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/109)، ((المفردات)) للراغب (ص: 78)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 215). .
الْقَهَّارُ: أي: الغالبُ، والقاهرُ لكلِّ شيءٍ وحدَه، والقهرُ: الغلبةُ والتذليلُ معًا، وأصلُ (قهر): غلبةٌ وعلوٌّ [216] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/35)، ((المفردات)) للراغب (ص: 687)، ((تفسير القرطبي)) (9/304)، ((تفسير ابن كثير)) (7/136). .
أَوْدِيَةٌ: جمعُ الوادي، وسُمِّي واديًا لخروجِه وسيلانِه، وأصلُ الوادي: الموضعُ الذي يسيلُ فيه الماءُ، ومنه سُمِّي المفْرَجُ بينَ الجبلينِ واديًا [217] يُنظر: ((المفردات)) للراغب (ص: 862)، ((تفسير القرطبي)) (9/305). .
زَبَدًا رَابِيًا: أي: غُثاءً طافيًا عاليًا فوقَ الماءِ، وأصلُ (زبد): يدلُّ على تولُّدِ شَيءٍ عن شَيءٍ، وأصلُ (ربو): يدلُّ على الزِّيادةِ والنَّماءِ والعُلُوِّ [218] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 227)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/483)، (3/43)، ((البسيط)) للواحدي (12/334)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 250)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 484). .
حِلْيَةٍ: أي: ما يُتحَلَّى ويُتَزيَّنُ به، وهو المَصوغُ من الذَّهَبِ والفِضَّةِ، وأصلُ (حلي): يدُلُّ على تحسينِ الشَّيءِ [219] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 227)، ((تفسير ابن جرير)) (14/185)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/94)، ((معاني القرآن)) للزجَّاج (3/145). .
جُفَاءً: مُطَّرَحًا مَرميًّا؛ مِن قَولِهم: جفأ الوادي غُثاءَه: إذا رماه، وأصلُ (جفأ): يدلُّ على نبُوِّ الشَّيءِ عن الشَّيءِ [220] يُنظر: ((معاني القرآن)) للفراء (2/62)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 179)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/465)، ((تاج العروس)) للزبيدي (1/178)، ((تفسير ابن عاشور)) (13/121). .

المعنى الإجمالي:

يقول تعالى: ولِلَّه وَحدَه يَسجُدُ خاضِعًا مُنقادًا كُلُّ مَن في السَّمواتِ والأرضِ، فيَسجُدُ ويخضَعُ له المؤمِنونَ طَوعًا واختيارًا، ويخضَعُ له الكافِرونَ رَغمًا عنهم؛ لأنَّهم يَستكبِرونَ عن عبادتِه، وحالُهم وفِطرتُهم تُكَذِّبُهم في ذلك، وتسجُدُ لله ظِلالُ المَخلوقاتِ أوَّلَ النَّهارِ وآخِرَه، قلْ- يا مُحمَّدُ- للمُشرِكينَ: مَن خالِقُ السَّمواتِ والأرضِ ومُدَبِّرُهما؟ قُل: اللهُ هو الخالِقُ المدَبِّرُ لهما، ثمَّ قُلْ لهم مُلزِمًا بالحُجَّةِ: أتَّخَذتُم غَيرَه معَبودينَ لكم، وهم لا يَقدِرونَ على نَفعِ أنفُسِهم أو ضَرِّها، فَضلًا عن نَفعِكم أو ضَرِّكم، وترَكتُم عبادةَ مالِكِها؟! قلْ لهم: هل يستوي الكافِرُ الذي هو أعمَى البَصيرةِ، والمؤمِنُ الذي هو البصيرُ المُهتدي؟ أم هل يستوي الكُفرُ الذي هو ظُلماتٌ، والإيمانُ الذي هو نورٌ؟ أم جَعَلوا لله سُبحانَه شُرَكاءَ معه في الخَلقِ خَلَقوا مِثلَ خَلقِ اللهِ، فاختلطَ عندهم خلقُ اللهِ بخَلقِ شُرَكائِهم؟! قُل لهم: اللهُ وَحدَه هو خالِقُ كُلِّ شَيءٍ لا شريكَ له في الخَلقِ، وهو الواحِدُ القهَّارُ الذي يستحِقُّ الألوهيَّةَ والعبادةَ، لا الأصنامُ والأوثانُ التي لا تضرُّ ولا تنفَعُ.
 ثمَّ ضربَ اللهُ سُبحانَه مثَلًا للحَقِّ والباطلِ بماءٍ أنزَلَه من السَّماءِ، فجَرَت به أودِيةُ الأرضِ بقَدْرِ صِغَرِها وكِبَرِها، فحمَلَ السَّيلُ غُثاءً طافيًا فوقَه لا نفْعَ فيه، وضربَ مثلًا آخرَ: هو المعادِنُ يُوقِدونَ عليها النَّارَ لِصَهرِها؛ طلَبًا للزِّينةِ- كما في الذَّهَبِ والفِضَّةِ- أو طلَبًا لمنافِعَ ينتفِعونَ بها- كما في النُّحاسِ- فيخرجُ مِنها خَبَثُها ممَّا لا فائدةَ فيه، كالذي كان مع الماءِ، بمِثلِ هذا يضرِبُ اللهُ المَثَلَ للحَقِّ والباطِلِ؛ فالباطِلُ- كغُثاءِ الماءِ والمعادِنِ- يتلاشَى أو يُرْمَى؛ إذ لا فائدةَ منه، والحقُّ- كالماءِ الصافي والمعادِنِ النَّقيَّةِ- يبقَى في الأرضِ للانتفاعِ به، كما بيَّنَ لكم هذه الأمثَالَ، كذلك يضرِبُها للنَّاسِ؛ ليتَّضِحَ الحَقُّ مِن الباطِلِ، والهُدَى من الضَّلالِ.
ثمَّ بيَّن الله سبحانه بعدَ ذلك عاقبةَ أهلِ الحقِّ، وعاقبةَ أهلِ الباطلِ، فقال: للمُؤمنينَ الذين أطاعوا اللهَ ورَسولَه الجنَّةُ، والذين لم يُطيعوه وكَفَروا به لو كانوا يَملِكونَ كُلَّ ما في الأرضِ وضِعْفَه معه لبَذَلوه؛ فداءً لأنفُسِهم مِن عذابِ اللهِ يومَ القيامةِ، ولن يُتَقبَّلَ منهم، أولئك يُحاسَبونَ على كُلِّ ما أسلَفوه مِن عمَلٍ سيِّئٍ، ومَسكَنُهم ومَقامُهم جهنَّمُ تكونُ لهم فِراشًا، وبِئسَ الفِراشُ الذي مَهَدوه لأنفُسِهم.

تفسير الآيات:

وَلِلّهِ يَسْجُدُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلالُهُم بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ (15).
وَلِلّهِ يَسْجُدُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا.
أي: ولله يَسجُدُ مَن في السَّمَواتِ ومَن في الأرضِ طائعينَ [221] قال ابنُ القيم: (قوله تعالى: وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا يدخلُ فيه سجودُ المصلِّين قطعًا، وكيف لا وهو أجلُّ السجودِ وأفرضُه؟). ((إعلام الموقعين)) (2/294). ومكرهينَ؛ سجودَ ذلٍّ وقهرٍ وخضوعٍ، فكلُّ أحدٍ خاضعٌ لقدرِ اللهِ، مقهورٌ تحتَ سلطانِه، لا يقدرُ أن يمتنعَ عليه [222] يُنظر: ((مدارج السالكين)) لابن القيم (1/107)، ((تفسير القاسمي)) (6/272)، ((شرح رياض الصالحين)) لابن عثيمين (5/442). وممن اختار هذا القولَ في معنَى السجودِ: ابنُ القيم، والقاسمي، وابنُ عثيمين. تُنظر: المصادر السابقة. قال ابنُ عثيمين: (قال الله تعالى: وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا والسجودُ هنا السجودُ القدريُّ، فكلُّ أحدٍ خاضعٌ لقدرِ الله، ما أحدٌ يستطيعُ أن يغالبَ الله عزَّ وجلَّ، أين المفرُّ... فالسجودُ الشرعيُّ كثيرٌ مِن الناسِ حقَّ عليهم العذابُ، فلم يسجدوا، على أنَّ الشمسَ والقمرَ والنجومَ والجبالَ والشجرَ والدوابَّ كلَّها يسجدُ لله عزَّ وجلَّ، لكنَّ الكفرةَ مِن بني آدمَ ومِن الجنِّ لا يسجدونَ للهِ تعالى إلا السجودَ الكونيَّ القدريَّ). ((شرح رياض الصالحين)) (5/442). وقال ابنُ تيميةَ في تفسيرِ الكرهِ في الآيةِ: (والصحيحُ أنَّه انقيادُهم لحكمِه القدريِّ بغيرِ اختيارِهم، كاستسلامِهم عندَ المصائبِ وانقيادِهم لما يكرهونَ مِن أحكامِه الشرعيةِ، فكلُّ أحدٍ لا بدَّ له مِن انقيادِه لحكمِه القدريِّ والشرعيِّ). ((مجموع الفتاوى)) (8/49). وقال النحاسُ: (ومِن أحسنِ ما قيل: أنَّ السجودَ هاهنا الخضوعُ لتدبيرِ الله جلَّ وعزَّ وتصريفِه مِن صحَّةٍ وسقمٍ وغيرِهما. طَوْعًا وَكَرْهًا أي: ينقادونَ على ما أحبُّوا أو كرِهوا لا حيلةَ لهم في ذلك). ((إعراب القرآن)) (2/222). وقال السعدي: (جميعُ ما احتوتْ عليه السمواتُ والأرضُ كلُّها خاضعةٌ لربِّها، تسجدُ له طَوْعًا وَكَرْهًا فالطوعُ لمن يأتي بالسجودِ والخضوعِ اختيارًا كالمؤمنينَ، والكرهُ لمن يستكبرُ عن عبادةِ ربِّه، وحالُه وفطرتُه تكذِّبُه في ذلك). ((تفسير السعدي)) (ص: 415). وقيل: سجودُ مَن في السموات والأرض من العامِّ المخصوص؛ فالمؤمنون والملائكة يسجدونَ لله سجودًا حقيقيًّا، وهو وضعُ الجبهة على الأرض، يفعلون ذلك طوعًا، والكُفَّار يسجدون كَرهًا، ومنهم المنافقون. وممن اختار هذا القول: ابن جرير، والواحدي، ونسبه للمفسرين يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (13/491)، ((الوسيط)) للواحدي (3/11)، ((الوجيز)) للواحدي (ص: 568). وقيل: المرادُ بسجودِ الكفارِ كَرهًا: سجودُ ظِلالِهم كَرهًا. وممن ذهب إلى ذلك: مقاتل. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (2/373). وقيل: الآيةُ في المؤمنينَ، فبعضُهم يسجدُ طَوعًا؛ لخِفَّةِ امتثالِ أوامِرِ الشَّرع عليه، وبعضُهم يسجدُ كَرهًا؛ لثِقَل مشقَّةِ التكليفِ عليه. وجوزَّه الزجاجُ. ((معاني القرآن وإعرابه)) (3/144) ونسَبه ابنُ عطيةَ أيضا للنحاسِ، لكن تعقَّبه قائلًا: (وإن كان اللفظُ يقتضي هذا فهو قلقٌ مِن جهةِ المعنَى المقصودِ بالآيةِ). ((تفسير ابن عطية)) (3/306). ويُنظر: ((تفسير ابن الجوزي)) (2/489)، ((تفسير ابن عطية)) (3/305)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (2/237 - 239). وقال ابنُ جُزي: (مَنْ لا تقعُ إلا علَى مَن يعقلُ، فهي هنا يُراد بها الملائكةُ والإنسُ والجنُّ، فإذا جعَلْنا السجودَ بمعنَى الانقيادِ لأمرِ الله وقضائِه؛ فهو عامٌّ في الجميعِ: مَن شاء منهم ومَن أبَى، ويكونُ طوعًا لمَن أسلَم، وكرهًا لمن كرِه وسخِط، وإن جعَلْنا السجودَ هو المعروفُ بالجسدِ، فيكونُ لسجودِ الملائكةِ والمؤمنينَ مِن الإنسِ والجنِّ طوعًا، وأما الكرهُ فهو سجودُ المنافقِ وسجودُ ظلِّ الكافرِ). ((تفسير ابن جزي)) (1/ 403). .
كما قال تعالى: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ [الحج: 18] .
وَظِلالُهُم بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ.
أي: ولِلَّهِ تَسجُدُ ظِلالُ المَخلوقاتِ في أوَّلِ النَّهارِ، وفي آخِرِه [223] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (13/492)، ((تفسير القرطبي)) (9/302)، ((تفسير ابن كثير)) (4/446)، ((تفسير السعدي)) (ص: 415). قال الشنقيطي: (قيل: سجودُها حقيقي، والله تعالى قادِرٌ على أن يخلُقَ لها إدراكًا تُدرِكُ به وتسجُدُ لله سجودًا حقيقيًّا، وقيل: سجودُها: مَيلُها بقدرةِ اللهِ أوَّلَ النهار إلى جهةِ المغرب، وآخِرَه إلى جهة المَشرق، وادَّعى من قال هذا أنَّ الظِّلَّ لا حقيقةَ له؛ لأنَّه خيالٌ فلا يمكِنُ منه الإدراكُ. ونحن نقول: إنَّ اللهَ- جلَّ وعلا- قادِرٌ على كلِّ شيءٍ؛ فهو قادر على أن يخلُقَ للظِّلِّ إدراكًا يسجدُ به لله تعالى سجودًا حقيقيًّا). ((أضواء البيان)) (2/238). .
كما قال تعالى: أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ * وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلَائِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ [النحل: 48-49] .
قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ قُلِ اللّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُم مِّن دُونِهِ أَوْلِيَاء لاَ يَمْلِكُونَ لأَنفُسِهِمْ نَفْعًا وَلاَ ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُواْ لِلّهِ شُرَكَاء خَلَقُواْ كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (16).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
لما ذكَر الله تعالى أنَّ المخلوقاتِ كلَّها تسجدُ له طوعًا وكرهًا؛ لذا كان هو الإلهَ حقًّا، المعبودَ المحمودَ حقًّا، وكانت إلهيةُ غيرِه باطلةً، ولهذا ذكَر بطلانَها، وبرْهَن عليه [224] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 415). .
وأيضًا فإنَّه لَمَّا نهَضَت الأدِلَّةُ الصَّريحةُ بمظاهِرِ الموجوداتِ المتنَوِّعةِ على انفرادِه بالإلهيَّةِ، مِن قَولِه تعالى: اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا [الرعد: 2] ، وقَولِه: وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ [الرعد: 3] ، وقولِه: اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى [الرعد: 8] ، وقولِه: هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ [الرعد: 12] الآيات، وبما فيها مِن دَلالةٍ رَمزيَّةٍ دَقيقةٍ، مِن قَولِه تعالى: لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ [الرعد: 14] ، وقَولِه: وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ [الرعد: 15] ، إلى آخِرِها- لا جرَمَ تهيَّأَ المَقامُ لتَقريرِ المُشرِكينَ تقريرًا لا يجِدونَ معه عن الإقرارِ مَندوحةً، ثمَّ لتَقريعِهم على الإشراكِ تَقريعًا لا يسَعُهم إلَّا تجَرُّعُ مَرارتِه؛ لذلك استؤنِفَ الكلامُ وافتُتِحَ بالأمرِ بالقَولِ؛ تنويهًا بوضوحِ الحُجَّة [225] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (13/112). ،، فقال تعالى: 
قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ قُلِ اللّهُ.
أي: قُل- يا مُحمَّدُ- لِمُشركي قَومِك: مَن خالِقُ السَّمواتِ والأرضِ ومالِكُهما ومُدَبِّرُهما؟ قُل: ربُّها الذي خلَقَها وأوجَدَها هو اللهُ المُستَحِقُّ للعبادةِ وَحدَه دونَ غَيرِه [226] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (13/493)، ((البسيط)) للواحدي (12/329)، ((تفسير البغوي)) (3/13)، ((تفسير ابن كثير)) (4/446). .
قُلْ أَفَاتَّخَذْتُم مِّن دُونِهِ أَوْلِيَاء لاَ يَمْلِكُونَ لأَنفُسِهِمْ نَفْعًا وَلاَ ضَرًّا.
أي: قُل- يا محمَّدُ- لِمُشركي قَومِك: أفاتَّخَذتُم مِن دونِ اللهِ آلهةً لا تملِكُ أن تجلِبَ لأنفُسِها نفعًا، ولا أن تدفَعَ عن أنفُسِها ضَرًّا، فضلًا عن غَيرِها، فتَعبُدونَها وتترُكونَ عِبادةَ اللهِ الذي بِيَدِه وحدَه النَّفعُ والضَّرُّ [227] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (13/493)، ((تفسير ابن كثير)) (4/446)، ((تفسير السعدي)) (ص: 415). ؟!
كما قال تعالى: وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ [يونس: 18] .
قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ.
أي: قُلْ- يا محمَّدُ- للمُشرِكينَ مِن قَومِك: هل يَستوي الأعمى الذي لا يُبصِرُ شَيئًا، والبَصيرُ الذي يُبصِرُ؟ لا شَكَّ أنَّهما لا يستويانِ، فكذلك لا يستوي الموَحِّدُ لله، والمُشرِكُ به [228] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (13/494)، ((الوسيط)) للواحدي (3/12)، ((تفسير ابن كثير)) (4/446). .
  أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ.
أي: وهل تستوي الظُّلُماتُ التي لا يُرى فيها شيءٌ، والنُّورُ الذي تُرى فيه الأشياءُ بوُضوحٍ؟ لا شَكَّ أنَّهما لا يستويانِ؛ فكذلك لا يستوي الشِّركُ والإيمانُ [229] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (13/494)، ((الوسيط)) للواحدي (3/12)، ((تفسير البغوي)) (3/13). .
أَمْ جَعَلُواْ لِلّهِ شُرَكَاء خَلَقُواْ كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ.
أي: أجَعَلوا لله شُرَكاءَ يَعبُدونَهم مع اللهِ؛ خَلَقوا مثلَ خَلقِ اللهِ- تعالى وتقَدَّسَ-، فتَشابهَ خَلقُ الشُّركاءِ بخَلقِ اللهِ عِندَهم، فجَعَلوها شُرَكاءَ لله بسبَبِ ذلك؟! أي: ليس الأمرُ كذلك، فلا عُذرَ للمُشرِكينَ في عبادتِها، وهم مُعتَرِفونَ بأنَّها لا تخلُقُ شيئًا [230] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (13/495)، ((تفسير ابن كثير)) (4/446)، ((تفسير ابن عاشور)) (13/115). قال ابن تيمية: (هذا استفهامُ إنكارٍ بمعنى النفي، أي: ما جعلوا لله شُرَكاءَ خَلَقوا كخَلقِه؛ فإنَّهم مقِرُّونَ أنَّ آلهتَهم لم يخلُقوا كخَلِقه، وإنَّما كانوا يجعلونَهم شُفَعاءَ ووسائِطَ). ((مجموع الفتاوى)) (1/311). .
كما قال تعالى: هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ [لقمان: 11] .
قُلِ اللّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ.
أي: قُل- يا محمَّدُ- للمُشرِكينَ: اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيءٍ، وقد خلَقَكم وخلَقَ آلهَتَكم، فكيف تعبُدونَها مع اللهِ، وهو المستحِقُّ للعبادةِ وَحدَه [231] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (13/496)، ((تفسير القرطبي)) (9/304)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (2/239). ؟!
كما قال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة: 21] .
وقال تعالى: أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ [الأعراف: 191] .
وقال سُبحانه: وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ * أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ [النحل: 20، 21].
وقال عزَّ وجلَّ حاكيًا قولَ إبراهيمَ- عليه السَّلامُ- لِقَومِه: قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ * وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ [الصافات: 95- 96].
وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ.
أي: واللهُ هو الواحِدُ الذي لا ثانيَ له، الغالِبُ لجميعِ خَلقِه، المستحِقُّ للعبادةِ وَحدَه دون ما سواه [232] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (13/496)، ((تفسير القرطبي)) (9/304)، ((تفسير السعدي)) (ص: 415). .
أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَّابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاء حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثَالَ (17).
أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا.
أي: أنزلَ اللهُ مِن السَّحابِ مطَرًا فاحتمَلَتْه الأوديةُ بقَدْرِ كِبَرِها وصِغَرِها، فأخذ كلُّ وادٍ بحسَبِ سَعَتِه [233] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (13/496)، ((تفسير النسفي)) (2/149)، ((تفسير ابن كثير)) (4/447). قال الرسعني: (المعنى: سالَتْ أوديةٌ بقَدرِها على حسبِ مجاريها، إن صغر الوادي قلَّ الماءُ، وإن اتَّسَع كَثُرَ الماءُ. هذا قولُ أكثرِ المفسرينَ). ((تفسير الرسعني)) (3/466). .
وهذا مَثَلٌ ضرَبَه اللهُ، فشَبَّه تعالى ما أنزَلَه من العِلمِ والإيمانِ إلى القُلوبِ بالماءِ الذي أنزَلَه من السَّماءِ إلى الأرضِ، وشبَّه القلوبَ الحاملةَ للعِلمِ والإيمانِ بالأوديةِ الحاملةِ للسَّيلِ؛ فقَلبٌ كبيرٌ يسَعُ عِلمًا عَظيمًا، كوادٍ كبيرٍ يسَعُ ماءً كثيرًا، وقلبٌ صغيرٌ يسَعُ عِلمًا قَليلًا، كوادٍ صغيرٍ يسَعُ ماءً قليلًا، فحَمَلت القلوبُ مِن هذا العِلمِ بقَدَرِها، كما سالت الأوديةُ مِن الماءِ بقَدَرِها، فهذا تقسيمٌ للقُلوِب بحَسَب ما تحمِلُه مِن العِلمِ والإيمانِ إلى مُتَّسِعٍ وضَيِّقٍ [234] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (13/496)، ((تفسير القرطبي)) (9/304)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (9/314)، ((تفسير ابن كثير)) (4/447)، ((مجموع رسائل ابن رجب)) (2/558)، ((تفسير السعدي)) (ص: 416). .
فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَّابِيًا.
أي: فاحتمَلَ الماءُ الذي يسيلُ في الأوديةِ بعد نزولِ المطَرِ زبَدًا [235] قال الشوكاني: (الزَّبَدُ: هو الأبيضُ المُرتفعُ المنتفِخُ على وجهِ السَّيلِ، ويقال له: الغُثاءُ والرَّغوةُ). ((تفسير الشوكاني)) (3/90). ويُنظر: ((تفسير ابن عطية)) (3/307)، ((تفسير ابن عاشور)) (13/117). مُرتفِعًا فوقَ الماءِ طافيًا على سَطحِه [236] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (13/496، 497)، ((تفسير البغوي)) (3/14)، ((تفسير ابن كثير)) (4/447). .
وهذا بيانٌ للحَقِّ في ثَباتِه والباطِلِ في اضمِحلالِه؛ فالحَقُّ هو الماءُ الباقي الذي أنزَلَه اللهُ مِن السَّماءِ، والباطِلُ هو الزَّبَدُ الذي لا يُنتفَعُ به، فإنَّه يضمَحِلُّ ويَعْلَقُ بجَنَباتِ الأوديةِ، وتدفَعُه الرِّياحُ، فكذلك يذهَبُ الكُفرُ ويتلاشَى [237] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (13/496، 497)، ((تفسير القرطبي)) (9/304). قال الواحدي: (يريد: أنَّ الباطِلَ- وإنْ ظهَرَ على الحقِّ في بعضِ الأحوالِ- فإنَّ الله سيمحَقُه ويُبطِلُه، ويجعلُ العاقبةَ للحقِّ وأهلِه). ((الوجيز)) (ص: 569). .
وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاء حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ.
أي: ومِن الذي يُوقِدُ عليه الناسُ في النَّارِ؛ ليذوبَ، مِن معادِنِ الذَّهَبِ والفِضَّةِ؛ طلبًا لحِليةٍ يتزيَّنونَ بها، ويتجمَّلون، أو من معادِنِ الحديدِ، والنحاسِ، والرصاصِ وغيرِها؛ طلَبًا لِمَتاعٍ يتمَتَّعونَ به، وينتفِعونَ، كالأواني والآلاتِ المصنوعةِ- خبثٌ يعلو فوقَ ما أُذِيب مِن تلك المعادنِ، كما يعلُو الزَّبَدُ على الماءِ، فلا يُنتفعُ به، ويذهبُ باطلًا [238] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (13/497)، ((تفسير البغوي)) (3/14)، ((تفسير القرطبي)) (9/305)، ((تفسير ابن كثير)) (4/447)، ((تفسير الشوكاني)) (3/90)، ((تفسير ابن عاشور)) (13/118-120). .
كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ.
أي: كما مثَّل اللهُ بقاءَ الإيمانِ وبُطلانَ الكُفرِ إذا اجتمعا، بما يبقى مِن ماءِ السَّيلِ وخالِصِ المَعادِنِ التي يُوقَدُ عليها في النَّارِ- كذلك يُبيِّنُ اللهُ مثَلَ الحَقِّ والباطِلِ [239] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (13/497)، ((تفسير ابن كثير)) (4/447)، ((تفسير ابن عاشور)) (13/120). .
  ﯭ  ﯮ  ﯯ  ﯰ.
مُناسَبتُها لِما قَبلَها:
لَمَّا نبَّهَ اللهُ تعالى بهذا الفَصلِ- وهو قولُه: كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ- على عُلُوِّ رُتبةِ هذا المثَلِ؛ شرَعَ في شَرحِه، فبدأ بما هو الأهَمُّ في هذا المَقامِ، وهو إبطالُ الباطِلِ الذي أضَلَّهم [240] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (10/317). .
فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء.
أي: فأمَّا الزَّبَدُ- الذي كان يعلو السَّيلَ، ويعلو المعادِنَ عند الإيقادِ عليها- فيذهَبُ ضائِعًا مُضمحِلًّا مَرمِيًّا لا يُنتفَعُ به [241] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (13/497، 498)، ((الوسيط)) للواحدي (3/12)، ((تفسير البغوي)) (3/14)، ((تفسير ابن كثير)) (4/447). .
وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ.
أي: وأمَّا ما ينفَعُ النَّاسَ- مِن الماءِ الصَّافي والمعادِنِ الخالِصةِ- فيبقى في الأرضِ ويَستقِرُّ، فينتفِعُ به النَّاسُ [242] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (13/498)، ((مفتاح دار السعادة)) لابن القيم (1/61)، ((تفسير ابن كثير)) (4/447). قال ابنُ تيميةَ: (والذي ينفَعُ النَّاسَ يمكُثُ في الأرضِ ويستَقِرُّ، وكذلك القلوبُ تُخالِطُها الشَّهَواتُ والشُّبُهاتُ، فإذا ترابى فيها الحَقُّ ثارت فيها تلك الشَّهَواتُ والشُّبُهاتُ، ثم تذهبُ جُفاءً، ويستقِرُّ فيها الإيمان والقرآنُ الذي ينفَعُ صاحِبَه والنَّاسَ، وقال: وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فهذا المثَلُ الآخَرُ، وهو الناريُّ؛ فالأول للحياةِ، والثاني للضياء). ((مجموع الفتاوى)) (19/95). وقال ابنُ القيِّم: (شَبَّه الوحيَ- الذي أنزله لحياةِ القلوبِ والأسماعِ والأبصارِ- بالماءِ الذي أنزله لحياةِ الأرض بالنَّبات، وشبَّه القلوب بالأودية، فقلبٌ كبيرٌ يسعُ عِلمًا عظيمًا كوادٍ كبير يسعُ ماء كثيرًا، وقلبٌ صغير إنما يسعُ بحَسَبه كالوادي الصغير، فسالت أوديةٌ بقَدَرها، واحتمَلَت قلوبٌ من الهدى والعلمِ بقَدَرِها؛ وكما أن السيلَ إذا خالط الأرضَ ومرَّ عليها احتمل غُثاءً وزَبَدًا، فكذلك الهُدى والعلم إذا خالطَ القلوبَ أثار ما فيها من الشَّهواتِ والشُّبُهاتِ؛ ليقلَعَها ويُذهِبَها كما يثيرُ الدواءُ وقتَ شُربِه من البَدَن أخلاطَه، فيتكدَّرُ بها شاربُه، وهي من تمام نفْعِ الدواء؛ فإنَّه أثارها ليَذهبَ بها، فإنه لا يجامِعُها ولا يشارِكُها؛ وهكذا يضرِبُ اللهُ الحقَّ والباطل، ثم ذكر المثلَ الناريَّ، فقال: وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ، وهو الخبَثُ الذي يخرجُ عند سبْكِ الذهب والفضَّة والنُّحاس والحديد، فتُخرِجُه النار وتميِّزُه وتَفصِلُه عن الجوهر الذي يُنتفَعُ به، فيُرمى ويُطرَحُ ويَذهَبُ جُفاءً؛ فكذلك الشهواتُ والشبُهاتُ يرميها قلبُ المؤمِنُ ويَطرَحُها ويجفوها، كما يطرحُ السيلُ والنار ذلك الزبَدَ والغُثاءَ والخَبَث، ويستقِرُّ في قرار الوادي الماءُ الصافي الذي يستقي منه النَّاسُ ويزرعون ويسقونَ أنعامهم، كذلك يستقِرُّ في قرار القلبِ وجِذرِه الإيمانُ الخالِصُ الصافي الذي ينفَعُ صاحِبَه، وينتَفِعُ به غيرُه؛ ومن لم يَفقَهْ هذين المثَلَين ولم يتدبَّرْهما ويعرِفْ ما يُراد منهما، فليس من أهلِهما، والله الموفِّق). ((إعلام الموقعين)) (1/117- 118). ويُنظر: ((مجموع رسائل ابن رجب)) (2/558، 559)، ((تفسير السعدي)) (ص: 416)، ((تفسير ابن عاشور)) (13/117). .
عن أبي موسى الأشعريِّ رضيَ الله عنه، عن النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم قال: ((إنَّ مثَلَ ما بعَثَني الله به- عزَّ وجلَّ- من الهُدى والعِلمِ، كمَثَلِ غيثٍ أصاب أرضًا، فكانت منها طائفةٌ طَيِّبةٌ قَبِلَت الماءَ، فأنبَتَت الكَلأَ والعُشبَ الكثيرَ، وكان منها أجادِبُ أمسَكَت الماءَ، فنفعَ اللهُ بها النَّاسَ، فشَرِبوا منها وسَقَوا ورَعَوا، وأصاب طائفةً منها أخرى، إنَّما هي قِيعانٌ لا تُمسِكُ ماءً ولا تُنبِتُ كَلأً؛ فذلك مثَلُ مَن فَقُهَ في دينِ اللهِ، ونفَعَه بما بعَثَني اللهُ به، فعَلِم وعلَّم، ومثَلُ مَن لم يرفَعْ بذلك رأسًا، ولم يقبَلْ هُدى اللهِ الذي أُرسِلتُ به )) [243] رواه البخاري (79)، ومسلم (2282) واللفظ له. .
كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثَالَ.
أي: كما مثَّل اللهُ لكم هذا المثَلَ لبقاءِ الحَقِّ وذَهابِ الباطِلِ، كذلك يضرِبُ اللهُ لكم الأمثالَ؛ ليتَّضِحَ لكم الحَقُّ مِن الباطِلِ [244] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (13/498)، ((تفسير البغوي)) (3/14)، ((تفسير القرطبي)) (9/306)، ((تفسير السعدي)) (ص: 416). .
كما قال تعالى: وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ [العنكبوت: 43] .
وقال سُبحانه: وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ [الزمر: 27] .
وقال عزَّ وجلَّ: وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ [الحشر: 21] .
لِلَّذِينَ اسْتَجَابُواْ لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُواْ لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لاَفْتَدَوْاْ بِهِ أُوْلَـئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (18).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
لَمَّا بيَّنَ تعالى الحَقَّ مِن الباطِلِ، ذكَرَ أنَّ النَّاسَ على قِسمَينِ: مُستجيبٍ لرَبِّه، فذكَرَ ثوابَه، وغيرِ مُستجيبٍ، فذكَرَ عقابَه، فقال [245] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 416). :
لِلَّذِينَ اسْتَجَابُواْ لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَى.
أي: للذينَ أجابوا ربَّهم فآمَنوا به وأطاعوه ورَسولَه؛ الجزاءُ الحسَنُ في الدُّنيا، والجنَّةُ في الآخرةِ [246] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (13/504)، ((تفسير القرطبي)) (9/306)، ((تفسير ابن كثير)) (4/449)، ((تفسير السعدي)) (ص: 416). .
كما قال سُبحانَه مُخبِرًا عن ذي القَرنينِ أنَّه قال: قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا * وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا [الكهف: 87- 88] .
وقال تعالى: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ [يونس: 26] .
وقال سُبحانه: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ [النحل: 30] .
وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُواْ لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لاَفْتَدَوْاْ بِهِ.
أي: والذين لم يُؤمِنوا برَبِّهم ولم يطيعوه ورَسولَه؛ لو أنَّهم يَملِكونَ كُلَّ شَيءٍ في الأرضِ، ويَملِكونَ مِثلَه معه، لقدَّموه فداءً؛ لتخليصِ أنفُسِهم من عذابِ النَّارِ يومَ القيامةِ [247] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (13/505)، ((تفسير القرطبي)) (9/307)، ((تفسير ابن كثير)) (4/449)، ((تفسير السعدي)) (ص: 416). .
كما قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ [آل عمران: 91] .
أُوْلَـئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ.
أي: أولئك الكُفَّارُ- الذين لم يستجيبوا لربِّهم- يُؤخَذون يومَ الحسابِ بجميعِ ذُنوبِهم صَغيرَها وكبيرَها، ولا يَغفِرُ اللهُ شيئًا منها، فلا يقبَلُ لهم حَسَنةً، ولا يتجاوَزُ لهم عن سيِّئةٍ [248] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (13/505)، ((تفسير القرطبي)) (9/307)، ((تفسير ابن كثير)) (4/449)، ((تفسير السعدي)) (ص: 416). .
كما قال تعالى: وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا [الكهف: 49] .
وقال سُبحانه: فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ * فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ * عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ [المدثر: 8 - 10] .
وعن عائِشةَ رَضِيَ الله عنها، قالت: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((من حُوسِبَ يومَ القيامةِ عُذِّبَ. فقلتُ: أليس قد قال اللهُ عزَّ وجلَّ: فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا [الانشقاق: 8] ؟! فقال: ليس ذاك الحِسابَ، إنَّما ذاك العَرضُ، مَن نوقِشَ الحِسابَ يومَ القيامةِ عُذِّبَ )) [249] رواه البخاري (103)، ومسلم (2876)، واللفظ له. .
وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ.
أي: ومسكَنُ الكُفَّارِ ومَقامُهم يومَ القيامةِ نارُ جهنَّمَ، وبئسَ الفِراشُ جهنَّمُ [250] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (13/506)، ((تفسير القرطبي)) (9/307)، ((تفسير السعدي)) (ص: 416). .

الفوائد التربوية:

قولُ الله تعالى: أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ يُستفادُ منه أنَّ الباطِلَ وإن علا في وقتٍ، فإنَّه يضمَحِلُّ، ويبقى الحَقُّ ظاهِرًا لا يشوبُه شَيءٌ مِن الشُّبُهاتِ [251] يُنظر: ((تفسير ابن عادل)) (11/290)، ويُنظر أيضًا: ((تفسير ابن جرير)) (13/501)، ((تفسير البغوي)) (3/14). .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- قال اللهُ تعالى في سورةِ آلِ عِمرانَ: أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ [آل عمران: 83] ، وعامَّةُ السَّلَفِ على أنَّ المرادَ بالاستسلامِ استِسلامُهم له بالخُضوعِ والذُّلِّ، لا مجرَّدُ تَصريفِ الرَّبِّ لهم، كما في قَولِه تعالى هنا: وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وهذا الخضوعُ والذُّلُّ هو أيضًا لازِمٌ لكُلِّ عبدٍ، لا بدَّ له مِن ذلك، وإن كان قد يَعرِضُ له أحيانًا الإعراضُ عن رَبِّه والاستكبارُ، فلا بُدَّ له عند التَّحقيقِ مِن الخُضوعِ والذُّلِّ له، لكِنَّ المؤمِنَ يُسلِمُ له طَوعًا فيُحِبُّه ويُطيعُ أمْرَه، والكافِر إنَّما يخضَعُ له عند رَغبةٍ ورَهبةٍ، فإذا زال عنه ذلك أعرَضَ عن رَبِّه [252] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (14/30). .
2- جُملةُ لَا يَمْلِكُونَ صِفَةٌ لـ أَوْلِياءَ، والمقصودُ منها تنبيهُ السَّامعينَ للنَّظَرِ في تلك الصِّفَةِ؛ فإنَّهم إنْ تدبَّروا عَلِموها، وعَلِموا أنَّ مَن كانت تلك صِفَتَه فليس بأهلٍ لأنْ يُعْبَدَ [253] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (13/113). .
3- في قَولِه تعالى: أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ احتَجَّ سُبحانه على تَفَرُّدِه بالإلهيَّةِ بتفرُّدِه بالخَلْقِ؛ وعلى بُطلانِ إلهيَّةِ ما سواه بعَجزِهم عن الخَلْقِ، وعلى أنَّه واحدٌ بأنَّه قَهَّارٌ- والقَهرُ التامُّ يستلزِمُ الوَحدةَ- فإنَّ الشَّرِكةَ تُنافي تمامَ القَهرِ [254] يُنظر: ((الصواعق المرسلة)) لابن القيم (2/466). ، فلا توجدُ الوحدةُ والقهرُ إلَّا للهِ وحدَه، فالمخلوقاتُ وكلُّ مخلوقٍ فوقَه مخلوقٌ يقهرُه، ثم فوقَ ذلك القاهرِ قاهرٌ أعلَى منه، حتَّى ينتهيَ القهرُ للواحدِ القهَّار، فالقهرُ والتوحيدُ متلازمانِ متعينانِ لله وحدَه، فتبيَّن بالدليلِ العقليِّ القاهرِ، أنَّ ما يُدعَى مِن دونِ الله ليس له شيءٌ مِن خلقِ المخلوقاتِ، وبذلك كانت عبادتُه باطلةً [255] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 415). .
4- قَولُ الله تعالى: أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ ساق ذلك في أُسلوبِ الغَيبةِ؛ إعلامًا بأنَّهم أهلٌ للإعراضِ عنهم؛ لكَونِهم في عِدادِ البَهائِم؛ لقَولِهم ما لا يُعقَلُ بوجهٍ مِن الوُجوهِ [256] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (10/313). .
5- قال تعالى: أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ فنفَى أن يكونَ خالقٌ غيره، ونفَى أن يكونَ شيءٌ سواه غير مخلوقٍ، فلو كانت الأفعالُ غيرَ مخلوقةٍ له، لكان خالقَ بعضِ الأشياءِ لا خالقَ كلِّ شيءٍ، وهو بخلافِ الآيةِ [257] يُنظر: ((الاعتقاد)) للبيهقي (ص: 142). .
6- في قَولِه تعالى: أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا إشارةٌ إلى أنَّ السَّماءَ تَرِدُ- في اللُّغةِ والقُرآنِ- بمعنى العُلُوِّ؛ لأنَّ الماءَ يَنزِلُ مِن السَّحابِ لا مِن السَّماءِ التي هي السَّقفُ المحفوظُ [258] يُنظر: ((شرح العقيدة الواسطية)) لابن عثيمين (1/398). !
7- قولُ الله تعالى: وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ أصلٌ في الصَّوغِ والأواني المُنطَبِعةِ [259] يُنظر: ((الإكليل)) للسيوطي (ص:157). .

بلاغة الآيات:

1- قوله تعالى: وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّموات وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ
- وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّموات وَالْأَرْضِ طَوْعًا فيه قصْرٌ، أي: يسجُدُ للَّهِ وحدَه لا لشيءٍ غيرِه استقلالًا ولا اشتراكًا؛ فالقصْرُ ينتظِمُ القلْبَ والإفرادَ [260] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (5/11). وقَصرُ الإفرادِ: إذا اعتقَد المخاطَبُ الشركةَ، نحو: إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ [النساء: 171] ردًّا على مَن اعتقد أنَّ الله ثالثُ ثلاثةٍ. وأمَّا قصرُ القَلبِ: فهو إذا اعتقَد المخاطَبُ عكسَ الحُكمِ الذي يُثبتُه المُتكلِّمُ، نحو: (ما سافَر إلَّا عليٌّ) ردًّا على مَن اعتقدَ أن المسافِرَ خليلٌ لا علىٌّ. فقد قلَب المتكلِّمُ على المخاطَبِ اعتقادَه، وعكَسه عليه. يُنظر: ((جواهر البلاغة)) للهاشمي (ص: 173)، ((البلاغة العربية)) لعبد الرحمن حَبَنَّـكَة الميداني (1/528- 529). . وعدَلَ عن ضميرِ الجَلالةِ إلى اسمِه تعالى العَلَمِ؛ تبَعًا للأُسلوبِ السَّابقِ [261] يعني قولَه تعالى: اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا... [الرعد: 2] ، وقوله: اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ... [الرعد: 8] . في افتتاحِ الأغراضِ الأصليَّةِ [262] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (13/110). .
- مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ فيه تخصيصُ انقيادِ العُقلاءِ بالذِّكْرِ مع كونِ غيرِهم أيضًا كذلك؛ لأنَّهم العُمدَةُ، وانقيادَهم دليلُ انقيادِ غيرِهم، والعُمومُ المُستفادُ مِن (مَن) الموصولةِ عُمومٌ عُرفيٌّ يُرادُ به الكَثْرةُ الكاثِرَةُ [263] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (13/110). .
- قولُه: وَظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ فيه تخصيصُ هذينِ الوقتينِ مع أنَّ انقيادَها مُتَحَقِّقٌ في جميعِ أوقاتِ وُجودِها؛ لأنَّ الظِّلالَ إنَّما تعظُمُ وتكثُرُ فيهما [264] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (3/184)، ((تفسير أبي حيان)) (6/370). .
- وفي قولِه: وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا مُناسَبةٌ حَسَنةٌ، حيث قال هنا: مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ، وفي سورةِ (النَّحلِ) قال: وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ...، وقال في سورةِ (الحجِّ): أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ...، فخصَّصَ آيةَ (الرَّعدِ) بـ (مَن) ولم تَتكرَّر؛ ووجْهُ ذلك: أنَّ ما في هذه السُّورةِ تقدَّمَ آيةَ السَّجدَةِ ذِكْرُ العُلْويَّاتِ مِن البرْقِ والسَّحابِ والصَّواعِقِ، ثمَّ ذِكرُ الملائكةِ بتسبيحِهم، ثمَّ الأصنامِ والكفَّارِ، فبدَأَ في آيةِ السَّجدَةِ بذِكْرِ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ؛ ليُقَدِّمَ ذِكْرَهم، وأتْبَعَهم مَن في الأرضِ فذَكرَهم تَبعًا. ولم يُكرِّر (مَن) فيها كما كرَّرها في سورة (الحَجِّ)؛ استخفافًا بالأصنامِ والكفَّارِ، وأمَّا في سورةِ (الحجِّ) فتقدَّمَ ذِكْرُ المؤمنين وسائرِ الأديانِ؛ فَقُدِّم مَنْ فِي السَّمَوَاتِ؛ لشرَفِهم وتعظيمًا لهم ولها، ثمَّ ذَكَر وَمَنْ فِي الْأَرْضِ؛ ليُقَدِّمَ ذِكْرَ المؤمنين؛ لأنَّهم هم الَّذين تقدَّمَ ذِكْرُهم، وأمَّا في سُورةِ (النَّحلِ) فقد تقدَّمَ ذِكْرُ ما خلَقَ اللَّهُ على العُمومِ، ولم يكن فيه ذِكرُ الملائكةِ والرَّعدِ ولا الإنسِ بالتَّصريحِ؛  فاقتَضَتِ الآيةُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ؛ فقال في كلِّ آيةٍ ما يناسِبُها [265] يُنظر: ((أسرار التكرار في القرآن)) للكرماني (ص: 152)، ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص: 286- 287). .
وقيل: إنَّ وُرودَ (مَن) في سُورةِ (الرَّعدِ) لا سُؤالَ فيه، فإنَّ قَبولَ الأوامِرِ وامتثالَ الطَّاعاتِ بالقصْدِ والاختيارِ بمَشيئةِ اللَّهِ سبحانه- إنَّما يكونُ مِن أصحابِ العُقولِ، وهم الملائكةُ والإنسُ والجِنُّ، وهم المَقْصودونَ في الآيةِ، فورَدَتْ بـ (مَن) الواقِعةِ على العُقلاءِ؛ لهذا قيل: طَوْعًا وَكَرْهًا [الرعد: 15] ؛ لأنَّ ذلك إنَّما يكونُ ويُسْتَوْضَحُ مِن العاقِلِ، فالآيةُ وارِدَةٌ على ما ينْبَغي. وأمَّا آيةُ (النَّحلِ) فمُراعًى فيها لفْظُ (دابَّة) الوارِدُ فيها؛ إذ هو عامٌّ للعاقِلِ وغيرِه، فورَدَتِ الآيةُ بـ (ما) الواقِعَةِ على الأنواعِ والأجناسِ مُناسِبَةً لِما تقدَّمَ مِن الإطلاقِ والعُمومِ [266] يُنظر: ((ملاك التأويل)) لأبي جعفر الغرناطي (2/278-279). .
- ومِن المُناسَبَةِ الحَسَنةِ أيضًا أنَّ في سُورةِ (النَّحلِ) زيادة: وَالْمَلَائِكَةُ [النحل: 49] ، ولم يرِدْ ذلك هنا في سُورةِ (الرَّعدِ)؛ ووجْهُ ذلك: أنَّ قولَه تعالى في آيةِ (النَّحلِ): وَالْمَلَائِكَةُ تخصيصٌ لهم؛ لجَليلِ حالِهم، فعُيِّنوا بالذِّكْرِ مع دُخولِهم في العُمومِ المُتقدِّمِ، وهذا كقولِه تعالى: وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ [البقرة: 98] ، مع دُخولِهما تحتَ لفْظِ الملائكةِ. ثمَّ أَكَّدَ الوارِدُ في آيةِ (النَّحلِ) ما ورَدَ فيها مِن لفْظِ (دابَّة). ولم يُخَصَّصوا بالذِّكْرِ في آيةِ (الرَّعدِ)؛ لأنَّه لم يقَعْ هناك لفْظُ (دابَّة)، الَّذي هو الموجِبُ لِتَعْيِينِ الملائكةِ وتخصيصِهم بالذِّكْرِ، فكلٌّ على ما يجِبُ ويُناسِبُ [267] يُنظر: ((ملاك التأويل)) لأبي جعفر الغرناطي (2/279). .
2- قوله تعالى: قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ
- قولُه: قُلِ اللَّهُ حكايةٌ لاعترافِهم وتأْكيدٌ له عليهم؛ لأنَّه إذا قال لهم: مَنْ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ لم يكُنْ لهم بُدٌّ مِن أنْ يقولوا: اللَّهُ، كقولِه: قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ [المؤمنون: 86-87] ، وهذا كما يقولُ المُناظِرُ لصاحبِه: أهذا قولُك؟ فإذا قال: هذا قولي، قال: هذا قولُك، فيَحْكي إقرارَه؛ تقريرًا له عليه واستيثاقًا منه، ثم يقولُ له: فيلْزَمُك على هذا القولِ كَيْتَ وكَيْتَ. ويجوزُ أنْ يكونَ تلْقينًا، أى: إنْ كَفُّوا عنِ الجوابِ فلقِّنْهم، فإنَّهم يتلقَّنونَه، ولا يقدِرون أنْ يُنكرِوه؛ فلأنَّه لَمَّا كان السُّؤالُ عن أمرٍ واضحٍ لا يمكِنُ أنْ يدفَعَ منه أحدٌ، كان جوابُه مِن السَّائلِ، فكانَ السَّبْقُ إليه أفصحَ في الاحتجاجِ إليهم وأسرعَ في قطْعِهم في انتظارِ الجوابِ منهم؛ إذ لا جوابَ إلَّا هذا الَّذي وقعَتِ المُبادرةُ إليه [268] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (2/522)، ((تفسير أبي حيان)) (6/370). . وقيل: لكونِ الاستفهامِ غيرَ حقيقيٍّ جاءَ جوابُه مِن قِبَلِ المُستفهِمِ، وهذا كثيرٌ في القُرآنِ، وهو مِن بَديعِ أساليبِه [269] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (13/113). .
- قولُه: قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ استفهامٌ على سبيلِ التَّوبيخِ والإنكارِ [270] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (2/522)، ((تفسير أبي حيان)) (6/370)، ((تفسير أبي السعود)) (5/12). . وفيه إعادةُ فِعْلِ الأمرِ بالقولِ قُلْ الَّذي هو تفريعٌ على الإقرارِ بأنَّ اللَّهَ ربُّ السَّمواتِ والأرضِ؛ لقصْدِ الاهتمامِ بذلك التَّفريعِ؛ لِما فيه من الحُجَّةِ الواضِحةِ، فالاستفهامُ تقريرٌ وتوبيخٌ وتسفيهٌ لرأْيِهم بناءً على الإقرارِ المُسَلَّمِ [271] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (13/113). .
- قولُه: قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ لَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا فيه وصْفُ الأولياءِ هاهنا بعدَمِ المالِكِيَّةِ للنَّفعِ والضَّرِّ في ترشيحِ الإنكارِ وتأْكيدِه، كتقْييدِ الاتِّخاذِ بالجُملةِ الحاليَّةِ وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ في قولِه تعالى: أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ [الكهف: 50] ؛ فإنَّ كلًّا منهما ممَّا يَنْفي الاتِّخاذَ المَذْكورَ ويُؤكِّدُ إنكارَه [272] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (5/13). .
- قولُه: نَفْعًا وَلَا ضَرًّا فيه عطْفُ الضَّرِّ على النَّفعِ؛ استقصاءً في عجْزِهم؛ لأنَّ شأْنَ الضَّرِّ أنَّه أقربُ للاستطاعةِ وأسهلُ [273] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (13/113). .
- ونكَّرَ نَفْعًا ليعُمَّ، وقدَّمَه؛ لأنَّ السِّياقَ لطَلَبِهم منهم، والإنسانُ إنَّما يَطلُبُ ما ينفَعُه [274] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (10/312). .
- وفيه مُناسَبَةٌ حَسَنةٌ، حيث قال هنا: قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا [الرعد: 16] ، وقال في سُورةِ (الفُرقانِ): وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا [الفرقان: 3] ؛ فقُدِّمَ (النَّفعُ) على (الضَّرِّ) في سُورةِ الرَّعْدِ، وعُكِسَ ذلك في سُورةِ الفُرقانِ؛ ووجْهُ ذلك: أنَّ آيةَ (الفُرقانِ) قد عُطِفَ عليها بالواوِ المُشْرِكَةِ في الإعْرابِ والمعنى قولُه تعالى: وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا [الفرقان: 3] ، وقُدِّمَ قبلَها ما عُطِفَت عليه بالواوِ أيضًا، وذلك قولُه تعالى: وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ [الفرقان: 3] ؛ فقد اتَّفقَت هذه الجُمَلُ المَعْطوفاتُ في انطِواءِ كلِّ جُملةٍ منها على مُتَقابِلَيْنِ كالضِّدَّيْنِ، ففي الأُولى عدَمُ الخلْقِ في قولِه: لَا يَخْلُقُونَ مُقابِلًا للخلْقِ والحياةِ، وبُنِيَ مَجْموعُها على تأْخيرِ أشرَفِ المُتَقابِلَيْنِ، ففي الأُولى الإشارةُ إلى الخلْقِ في قولِه تعالى: وَهُمْ يُخْلَقُونَ، وكذا في الثَّانيةِ الضَّرُّ والنَّفعُ، والنَّفعُ أشرَفُ، وفي الثَّالثةِ الموتُ والحياةُ، والحياةُ أشرَفُ، فرُوعِيَ تَناسُبُ الآيِ على ما أوضَحْنا، فقُدِّمَ الضَّرُّ على النَّفعِ في آيةِ (الفُرقانِ). أمَّا آيةُ (الرَّعدِ) فلم يعرِضْ فيها ما يحمِلُ على ما ذُكِرَ مِن التَّناسُبِ، فجاءت مِن حيث أُفْرِدَت على ما يجِبُ مِن تقْديمِ النَّفعِ الَّذي هو مَطْلَبُ العاقِلِ، وكأنْ قد قيل فيها: إذا لم ينْفَعوا أنفُسَهم فكيف ينْفَعونَكم؟! ثمَّ أُتْبِعَ بما يكْمُلُ به التَّعريفُ بحالِ مَن اتَّخَذوهم أولياءَ مِن أنَّها لا تضُرُّ ولا تنفَعُ، فجاء كلٌّ على ما يُناسِبُ؛ فإنَّه لمَّا تقدَّمَ قبلَ الجُمَلِ المذْكورةِ في سُورةِ (الفُرقانِ) قولُه سبحانه: وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا [الفرقان: 2] ، ناسَبَ هذا مِن ذِكْرِ آلهَتِهم وَصْفُها بأنَّها لا تخلُقُ، فقيل: وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ [الفرقان: 3] ؛ ليحصُلَ مِن وَصْفِه سبحانه بأنَّه خالِقُ كلِّ شيءٍ، وأنَّ آلهَتَهم لا تخلُقُ شيئًا ما أفْصَحَ به مِن توبيخِهم وتقْريعِهم في قولِه تعالى: أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ [النحل: 17] ، وتناسَبَ هذا أوضَحَ تناسُبٍ وأبْيَنَه، ولا يمكِنُ خلافُه، ثمَّ بُنِيَ عليه ما بعدَه لتَناسُبِ ذلك كلِّه، وحصَلَ منه أنَّ الوارِدَ في كلٍّ مِن السُّورتَيْنِ لا يمكِنُ فيه العَكْسُ بوجْهٍ [275] يُنظر: ((ملاك التأويل)) لأبي جعفر الغرناطي (2/279-280). .
- قولُه: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ فيه إعادةُ الأمرِ بالقولِ؛ للاهتمامِ الخاصِّ بهذا الكلامِ؛ لأنَّ ما قبله إبطالٌ لاستحقاقِ آلهتِهم العبادةَ، وهذا إظهارٌ لِمَزِيَّةِ المؤمنين باللَّهِ على أهلِ الشِّركِ؛ لأنَّ قولَه: قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ تضمَّنَ أنَّ الرَّسولَ صلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ دعا إلى إفرادِ اللَّهِ بالرُّبوبيَّةِ، وأنَّ المُخاطَبين أثْبَتوا الرُّبوبيَّةَ للأصنامِ؛ فكانَ حالُهم وحالُه كحالِ الأعمى والبصيرِ وحالِ الظُّلماتِ والنُّورِ، ونفْيُ التَّسويةِ بين الحالينِ يتضمَّنُ تشبيهًا بالحالينِ، وهذا مِن صِيَغِ التَّشبيهِ البليغِ. وأَمْ للإضرابِ الانتقاليِّ في التَّشبيهِ [276] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (13/113). .
- وفي قولِه: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ اخْتِيرَ التَّشبيهُ في المُتَقابِلاتِ- العمى والبصَرِ،  والظُّلمةِ والنُّورِ-؛ لتَمامِ المُناسبَةِ؛ لأنَّ حالَ المُشركين أصحابِ العَمَى كحالِ الظُّلمةِ في انعدامِ إدراكِ المُبْصَراتِ، وحالَ المؤمنين كحالِ البصَرِ في العِلْمِ، وكحالِ النُّورِ في الإرشادِ [277] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (13/114- 115). .
- قولُه: أَمْ هَلْ تَسْتَوِي فيه إظهارُ حرْفِ (هل) بعد (أم)؛ لأنَّ فيه إفادةَ تحقيقِ الاستفهامِ، وذلك ليس ممَّا تُغْني فيه دلالةُ (أم) على أصلِ الاستفهامِ [278] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (13/114). .
- قولُه: أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ أي: بل أجَعَلوا، ومعنى الهمزةِ الإنكارُ، وقولُه: خَلَقُوا كَخَلْقِهِ صِفَةٌ لـ شُرَكَاءَ داخِلةٌ في حُكْمِ الإنكارِ؛ فالكلامُ بعدَ (أم) استفهامٌ حُذِفَت أداتُه؛ لدَلالةِ (أم) عليها [279] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (2/522)، ((تفسير البيضاوي)) (3/185)، ((تفسير ابن عاشور)) (13/115). ، والاستفهامُ مُستعمَلٌ في التَّهكُّمِ والتَّغليطِ، فتضمَّنَ هذا الاستفهامُ التَّهكُّمَ بهم؛ لأنَّه معلومٌ بالضَّرورةِ أنَّ هذه الأصنامَ وما اتَّخَذوها مِن دونِ اللَّهِ أولياءَ، وجعَلوهم شُركاءَ- لا تقدِرُ على خلْقِ ذَرَّةٍ، ولا إيجادِ شيءٍ البتَّةَ [280] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (6/371)، ((تفسير أبي السعود)) (5/13)، ((تفسير ابن عاشور)) (13/115). .
- قولُه: أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ فيه الانتقالُ مِن خطابِهم إلى الإخبارِ عنهم غائبًا؛ إعراضًا عنهم، وتنبيهًا على تَوبيخِهم في جَعْلِ شُركاءَ للَّهِ، وتعجيبًا منهم، وإنكارًا عليهم، فالْتفَتَ عنِ الخطابِ إلى الغَيبةِ؛ إعراضًا عنهم؛ لِما مضى مِن ذِكرِ ضَلالِهم [281] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (13/115). .
- قولُه: شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ فيه تعريضٌ بِرَكاكَةِ رأْيِهم، وتَهَكُّمٌ بهم [282] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (5/13). ، والفرقُ بين التَّهكُّمِ والهَزْلِ الَّذي يُرادُ به الجِدُّ: أنَّ التَّهكُّمَ ظاهرُه جِدٌّ وباطِنُه هَزْلٌ؛ لِمَجيئِه على سبيلِ الاستهزاءِ والسُّخرِيَةِ، هذا على ما تعارَفْناه بيننا، والهَزْلُ الَّذي يُرادُ به الجِدُّ ظاهِرُه هَزْلٌ وباطِنُه جِدٌّ، وفي قولِه تعالى: خَلَقُوا كَخَلْقِهِ في سِياقِ الإنكارِ تَهَكُّمٌ بهم؛ لأنَّ غيرَ اللَّهِ لا يخلُقُ خلْقًا البتَّةَ؛ لا بطريقِ المُشابَهَةِ والمُساواةِ، ولا بطريقِ الانحطاطِ والقُصورِ، فقد كان يكْفي في الإنكارِ عليهم أنَّ الشُّركاءَ الَّتي اتَّخذوها لا تخلُقُ مُطلقًا، ولكنْ جاءَ قولُه تعالى: كَخَلْقِهِ؛ تهكُّمًا يَزِيدُ الإنكارَ تأْكيدًا [283] يُنظر: ((إعراب القرآن وبيانه)) لدرويش (5/110- 112). .
- قولُه: قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَذْلَكَةٌ لِما تقدَّمَ ونتيجةٌ له؛ فإنَّه لمَّا جاءَ الاستفهامُ التَّوبيخيُّ في أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ، وفي أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ كان بحيث يَنتجُ أنَّ أولئك الَّذين اتَّخذوهم شُركاءَ للَّهِ، والَّذين تبيَّنَ قُصورُهم عن أنْ يمْلِكوا لأنفُسِهم نفعًا أو ضرًّا، وأنَّهم لا يخلُقونَ كخَلْقِ اللَّهِ؛ إنْ هم إلَّا مخلوقاتٌ للَّهِ تعالى، وأنَّ اللَّهَ خالقُ كلِّ شيءٍ، وما أولئك الأصنامُ إلَّا أشياءُ داخِلةٌ في عُمومِ كلِّ شيءٍ، وأنَّ اللَّهَ هو المُتَوَحِّدُ بالخلْقِ، القهَّارُ لكلِّ شيءٍ دونَه [284] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (13/115). .
- قولُه: الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ فيه حذْفُ مُتعلِّقِ هذينِ الاسمينِ؛ لِتَعَيُّنِ موضوعِ الوَحدةِ ومُتعلِّقِ القَهْرِ [285] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (13/116). .
3- قوله تعالى: أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ.
- هذا مَثَلٌ ضرَبَه اللَّهُ تعالى للحقِّ وأهلِه والباطِلِ وحزْبِه؛ فمثَّلَ الحقَّ وأهلَه بالماءِ الَّذي يُنزِلُه مِن السَّماءِ، فتَسيلُ به أوديةُ النَّاسِ، فيَحْيَونَ به وينفَعُهم أنواعَ المَنافِعِ، وبالفِلِزِّ [286] الفِلِزُّ: اسمٌ جامعٌ لجواهرِ الأرضِ، مِنَ الذَّهَبِ، والفِضَّة، والصُّفْرِ، والنُّحاسِ وغيرِها. يُنظر: ((أساس البلاغة)) للزمخشري (2/34). الَّذي ينتفِعونَ به في صَوْغِ الحُلِيِّ منه واتِّخاذِ الأواني والآلاتِ المُختلِفةِ، ولو لم يكُنْ إلَّا الحديدُ الَّذي فيه البأْسُ الشَّديدُ لَكَفى به، وأنَّ ذلك ماكِثٌ في الأرضِ، باقٍ بقاءً ظاهِرًا، يثبُتُ الماءُ في مَنافِعِه، وتَبْقى آثارُه في العُيونِ والبئارِ والجبوبِ، والثِّمارِ الَّتي تنبُتُ به ممَّا يُدَّخَرُ ويُكْنَزُ، وكذلك الجواهِرُ تَبْقى أزمِنةً مُتطاولِةً، وشبَّهَ الباطِلَ في سُرعةِ اضْمِحلالِه ووَشَكِ زَوالِه وانسِلاخِه عنِ المَنفعَةِ بزَبدِ السَّيلِ الَّذي يُرْمَى به، وبزَبَدِ الفِلِزِّ الَّذي يطْفو فوقَه إذا أُذِيبَ [287] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (2/523)، ((تفسير البيضاوي)) (3/185)، ((تفسير أبي حيان)) (6/372). .
- وفي قوله: أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ جِيءَ في هذا التسجيلِ بطريقةِ ضرْبِ المَثلِ بحالَيْ فَريقينِ في تلقِّي شيءٍ واحدٍ انتَفَع فريقٌ بما فيه مِن منافِعَ، وتعلَّق فريقٌ بما فيه من مَضارَّ. وجِيء في ذلك التمثيلِ بحالةٍ فيها دَلالةٌ على بديعِ تَصرُّفِ الله تعالى؛ ليَحصُلَ التخلص مِن ذِكر دلائل القُدرةِ إلى ذِكر عِبَر الموعظةِ. وهذا تَشبيهٌ تمثيليٌّ (مُركَّب)، حيث شبَّهَ إنْزالَ القُرآنِ الَّذي به الهُدى مِن السَّماءِ بإنْزالِ الماءِ الَّذي به النَّفعُ والحياةُ مِن السَّماءِ، وشبَّهَ وُرودَ القُرآنِ على أسماعِ النَّاسِ بالسَّيلِ يمُرُّ على مُختلِفِ الجِهاتِ؛ فهو يمُرُّ على التِّلالِ والجبالِ فلا يستقِرُّ فيها، ولكنَّه يمْضي إلى الأوديةِ والوِهادِ فيأخُذُ منه كلٌّ بقدْرِ سَعَتِه، وتلك السِّيُولُ في حالِ نُزولِها تحمِلُ في أَعالِيها زَبَدًا، وهو رَغْوَةُ الماءِ الَّتي تَرْبو وتَطْفو على سطْحِ الماءِ، فيذهَبُ الزَّبَدُ غيرَ مُنْتَفَعٍ به، ويبْقى الماءُ الخالِصُ الصَّافي ينتفِعُ به النَّاسُ للشَّرابِ والسَّقْيِ. ثمَّ شُبِّهَت هيئةُ نُزولِ الآياتِ وما تحْتَوي عليه مِن إيقاظِ النَّظَرِ فيها، فينتفِعُ به مَن دخَلَ الإيمانُ قُلوبَهم على مقاديرِ قُوَّةِ إيمانِهم وعمَلِهم، ويمُرُّ على قُلوبِ قومٍ لا يشعُرونَ به؛ وهم المُنكِرون المُعرِضون، ويُخالِطُ قُلوبَ قومٍ فيتأمَّلونَه، فيأْخُذونَ منه ما يُثِيرُ لهم شُبُهَاتٍ وإلحادًا. شبَّهَ ذلك كلَّه بهيئةِ نُزولِ الماءِ؛ فانحِدارُه على الجبالِ والتِّلالِ وسَيَلانُه في الأوديةِ على اختلافِ مقاديرِها، ثمَّ ما يدفَعُ مِن نفْسِه زَبَدًا لا يُنْتَفَعُ به، ثمَّ لم يلْبَثِ الزَّبَدُ أنْ ذهَبَ وفَنِيَ، والماءُ بَقِيَ في الأرضِ للنَّفعِ. ولمَّا كان المقصودُ التَّشبيهَ بالهيئةِ كلِّها جيءَ في حِكايةِ ما تَرَتَّبَ على إنْزالِ الماءِ بالعطْفِ بفاءِ التَّفريعِ في قولِه: فَسَالَتْ وقولِه: فَاحْتَمَلَ؛ فهذا تمْثيلٌ صالِحٌ لتَجْزِئةِ التَّشبيهاتِ الَّتي تَرَكَّبَ منها، وهو أبلَغُ التَّمثيلِ [288] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (13/116- 117). .
- ومِن مَحاسنِ البلاغةِ أيضًا في هذه الآيةِ: أنَّه شبَّهَ الحقَّ بِما يخلُصُ مِن جِرْمِ هذه المَعادِنِ مِن الأقْذارِ والخبَثِ ودَوامِ الانتفاعِ بها، وشبَّهَ الباطِلَ بالزَّبَدِ والمُجتمِعِ مِن الخبَثِ والأقْذارِ، ولا بقاءٌ له ولا قيمةٌ، وفصَّلَ ما سَبَقَ ذِكْرُه ممَّا يُنْتَفَعُ به ومِن الزَّبَدِ، فبدَأَ بالزَّبَدِ؛ إذ هو المُتأخِّرُ في قولِه: زَبَدًا رَابِيًا، وفي قولِه: زَبَدٌ مِثْلُهُ. ولكونِ الباطِلِ كِنايةً عنه وُصِفَ مُتَأَخِّرًا، وكأنَّه- واللَّهُ أعلمُ- يَبدَأُ في التَّفصيلِ بما هو أهمُّ في الذِّكْرِ. وأُفْرِدَ الزَّبَدُ بالذِّكْرِ ولم يُثَنَّ وإنْ تقدَّمَ زَبَدانِ؛ لاشتراكِهما في مُطلَقِ الزَّبَدِيَّةِ، فهما واحدٌ باعتبارِ القَدْرِ المُشْترَكِ [289] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (6/374). .
- قولُه: كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فيه حذْفُ المضافِ، والتقديرُ: مَثَلَ الحقِّ ومَثَلَ الباطِلِ؛ والحذْفُ للإنباءِ عن كَمالِ التَّماثُلِ بين المُمَثَّلِ والمُمَثَّلِ به؛ كأنَّ المَثَلَ المَضروبَ عينُ الحقِّ والباطِلِ، وبعدَ تحقيقِ التَّمثيلِ، مع الإيماءِ في تَضاعيفِ ذلك إلى وُجوهِ المُماثلَةِ على أبدَعِ وُجوهٍ وآنَقِها، وبيَّنَ عاقِبةَ كلٍّ مِن المُمَثَّلَيْنِ على وجْهِ التَّمثيلِ، مع التَّصريحِ ببعضِ ما به المُماثلَةُ مِن الذَّهابِ والبقاءِ؛ تَتِمَّةً للغرَضِ مِن التَّمثيلِ؛ مِن الحثِّ على اتِّباعِ الحقِّ الثَّابتِ، والرَّدعِ عنِ الباطلِ الزَّائدِ، فقيل: فَأَمَّا الزَّبَدُ... [290] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (5/15). .
- وتنْكيرُ أَوْدِيَةٌ؛ لأنَّ المطرَ يأْتي على تَناوُبٍ بين البِقاعِ، فيَسيلُ بعضُ أوديةِ الأرضِ دونَ بعضٍ [291] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (2/523)، ((تفسير البيضاوي)) (3/185)، ((تفسير أبي حيان)) (6/373). .
- فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ وإيثارُ التَّمثيلِ بها على الأنهارِ المُستمِرَّةِ الجَرَيانِ؛ لوُضوحِ المُماثَلَةِ بين شأْنِها وشأْنِ ما مُثِّلَ بها [292] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (5/14). .
- قولُه: بَقَدَرِهَا سبَبُ ذِكْرِه أنَّه مِن مواضِعِ العِبرَةِ؛ وهو أنْ كانت أَخاديدُ الأوديةِ على قدْرِ ما تحتمِلُه مِن السِّيولِ بحيث لا تَفيضُ عليها، وهو غالِبُ أحوالِ الأوديةِ، وهذا الحالُ مقصودٌ في التَّمثيلِ؛ لأنَّه حالُ انصرافِ الماءِ لنَفْعٍ لا ضُرَّ معه؛ لأنَّ مِن السِّيولِ جَواحِفُ تجرُفُ الزَّرعَ والبيوتَ والأنعامَ، وأيضًا هو دالٌّ على تَفاوُتِ الأوديةِ في مَقاديرِ المياهِ، ولذلك حظٌّ مِن التَّشبيهِ؛ وهو اختِلافُ النَّاسِ في قابِلِيَّةِ الانتفاعِ بما نزَلَ مِن عند اللَّهِ، كاختلافِ الأوديةِ في قَبولِ الماءِ على حسَب ما يسيلُ إليها مِن مَصابِّ السِّيولِ، وقد تمَّ التَّمثيلُ هنا [293] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (13/118)، ويُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (2/523). ، وقوله أيضًا: بِقَدَرِهَا هو من بابِ الاحتراسِ، أي: بمقدارِها الَّذي عرَف اللَّهُ أنَّه نافعٌ للممطورِ عليهم غيرُ ضارٍّ، وإلا فلو طمَا واستحالَ سيلًا لاجتاحَ الأخضرَ واليابسَ ولأهلَك الحَرْثَ والنَّسلَ [294] يُنظر: ((إعراب القرآن وبيانه)) لدرويش (5/112 - 114). .
- قولُه: فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا فيه تعريفُ السَّيل؛ لأنَّه قد فُهِم مِن الفعل قَبْلَه، وهو قوله تعالى: فَسَالَتْ، وهو لو ذكر لكان نكرةً، فلمَّا أُعيدَ أُعيدَ معرفةً نحو: رأيتُ رجلًا فأكرمتُ الرَّجُلَ، وهكذا تطرد القاعدةُ في النَّكِرةِ إذا أُعيدتْ [295] يُنظر: ((إعراب القرآن وبيانه)) لدرويش (5/112 - 114). .
- وإنَّما وُصِفَ الزَّبَدُ بقولِه تعالى: رَابِيًا، أي: عاليًا مُنتفِخًا فوقه؛ بيانًا لِما أُرِيدَ بالاحتمالِ المُحْتَمَلِ؛ لكونِ الحَمِيلِ غيرَ طافٍ كالأشجارِ الثَّقيلةِ، وإنَّما لم يُدْفَعْ ذلك الاحتمالُ بأنَّ يقالَ: (فاحْتَمَلَ السَّيْلُ فوقه)؛ للإيذانِ بأنَّ تلك الفوقيَّةَ مُقْتَضى شأْنِ الزَّبَدِ لا مِن جِهَةِ المُحْتَمِلِ؛ تحقيقًا للمُماثَلَةِ بينه وبين ما مُثِّلَ به مِن الباطِلِ الَّذي شأْنُه الظُّهورُ في بادي الرَّأْيِ مِن غيرِ مُداخلَةٍ في الحقِّ [296] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (5/14). .
- قولُه: وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ عِبارةٌ جامِعَةٌ لأنواعِ الفِلِزِّ، مع إظهارِ الكِبْرياءِ في ذِكْرِه على وجْهِ التَّهاوُنِ به كما هو شأنُ الملوكِ، وذلك أنَّ فيه عدولًا مِن الاسمِ إلى تصويرِ حالةٍ هي أحطُّ حالاتِ هذه الجواهرِ، أي: هذه التي تعدُّونها أنفسَ الجواهرِ، وتتَّخِذون منها الحليَّ، وتَتزيَّنون بها، هي هذه التي تُوقِدونَ عليها [297] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (2/523)، ((تفسير البيضاوي)) (3/185)، ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (8/498)، ((تفسير أبي السعود)) (5/14). .
- والضَّميرُ في يُوقِدُونَ للنَّاسِ؛ أُضْمِرَ مع عدَمِ سَبْقِ الذِّكْرِ؛ لظُهورِه [298] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (5/14). .
- وفي زيادةِ فِي النَّارِ إشعارٌ بالمُبالَغَةِ في الاعتمالِ للإذابةِ، وحُصولِ الزَّبَدِ كما أُشيرَ إليه، وعدَمُ التَّعرُّضِ لإخراجِه مِن الأرضِ؛ لعدَمِ دَخْلِ ذلك العنوانِ في التَّمثيلِ، كما أنَّ لعنوانِ إنزالِ الماءِ مِن السَّماءِ دَخْلًا فيه حسبما فُصِّلَ فيما سلف، بل له إخلالٌ بذلك [299] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (5/14-15). .
- قولُه: وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ، وهذا تمثيلٌ آخَرُ ورَدَ استطرادًا عَقِبَ ذِكْرِ نظيرِه، يُفيدُ تقريبَ التَّمثيلِ لقومٍ لم يُشاهِدوا سِيولَ الأوديةِ؛ فقرَّبَ إليهم تمثيلَ عدَمِ انتفاعِهم بما انتفَعَ به غيرُهم بمِثْلِ ما يُصْهَرُ مِن الذَّهبِ والفضَّةِ في البَواتِقِ [300] البَواتق: جمْعُ بَوتقَة، وهي الْوِعَاء الَّذِي يُذابُ فيه الْمَعْدنُ؛ يُذيبُ فِيهِ الصَّائغُ ونَحْوُه من الصُّنَّاعِ. يُنظر: ((تاج العروس)) للزبيدي (19/172)، ((المعجم الوسيط)) (1/75). ؛ فإنَّه يقذِفُ زَبَدًا ينتَفي عنه وهو الخبَثُ، وهو غيرُ صالِحٍ لشيءٍ، في حين صَلاحِ مَعدنِه لاتِّخاذِه حِلْيَةً أو مَتاعًا، فالكلامُ من قَبِيلِ تعدُّدِ التَّشبيهِ القريبِ [301] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (13/118- 119). .
- قولُه: وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ فيه تقْديمُ المُسنَدِ -وهو مِمَّا يُوقِدُونَ- على المُسنَدِ إليه -وهو زَبَدٌ- في هذه الجُملةِ؛ للاهتمامِ بالمُسنَدِ؛ لأنَّه موضِعُ اعتبارٍ أيضًا ببديعِ صُنْعِ اللَّهِ تعالى؛ إذ جعَلَ الزَّبَدَ يطْفو على أرَقِّ الأجسامِ -وهو الماءُ- وعلى أغلظها -وهو المعدنُ- فهو ناموسٌ مِن نَواميسِ الخِلْقَةِ، فبالتَّقديمِ يقَعُ تَشْويقُ السَّامِعِ إلى ترقُّبِ المُسنَدِ إليه [302] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (13/119). .
- وعدَلَ عن تسمِيَةِ الذَّهبِ والفضَّةِ إلى الموصوليَّةِ بقولِه: وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ؛ لأنَّها أخصَرُ وأجمَعُ، ولأنَّ الغرَضَ في ذِكْرِ الجُملةِ المَجْعولةِ صِلَةً، فلو ذُكِرَت بكيفيَّةٍ غيرِ صِلَةٍ -كالوصفيَّةِ مَثَلًا- لكانت بمنزِلَةِ الفَضْلَةِ في الكلامِ، ولَطالَ الكلامُ بذِكْرِ اسم المعدنَيْنِ مع ذِكْرِ الصِّلَةِ؛ إذ لا مَحيدَ عن ذِكْرِ الوَقودِ؛ لأنَّه سبَبُ الزَّبَدِ، فكان الإتيانُ بالموصولِ قضاءً لحقِّ ذِكْرِ الجُملةِ مع الاختصارِ البديعِ، ولأنَّ في العُدولِ عن ذِكْرِ اسمِ الذَّهبِ والفضَّةِ إعراضًا يُؤْذِنُ بقِلَّةِ الاكتراثِ بهما؛ ترفُّعًا عن وَلَعِ النَّاسِ بهما؛ فإنَّ اسمَيْهما قد اقتَرَنا بالتَّعظيمِ في عُرْفِ النَّاسِ [303] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (13/119). .
- وفائدةُ قولِه: ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ كالفائدةِ في قولِه: بَقَدَرِهَا؛ لأنَّه جمَعَ الماءَ والفِلِزَّ في النَّفعِ في قولِه: وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ؛ لأنَّ المعنى: وأمَّا ما ينفَعُهم مِن الماءِ والفِلِزِّ؛ فذُكِرَ وجْه الانتفاعِ ممَّا يُوقَدُ عليه منه ويُذابُ، وهو الحِلْيَةُ والمَتاعُ [304] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (2/523). ، وذُكِرَ لإيضاحِ المُرادِ مِن الصِّلَةِ، ولإدماجِ ما فيه مِن مِنَّةِ تسخيرِ ذلك للنَّاسِ؛ لشِدَّةِ رغبتِهم فيهما [305] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (13/120). ، وفي ذِكْرِ مُتعلِّقِ ابْتِغَاءَ تنبيهٌ على مَنفعَةِ ما يوقِدونَ عليه [306] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (6/374). .
- وجُملةُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ مُعترِضَةٌ، وهي فَذْلَكَةُ التَّمثيلِ ببَيانِ الغرَضِ منه، أي: مِثْلُ هذه الحالةِ يكونُ ضَرْبُ مَثَلٍ للحقِّ والباطِلِ، وقد عُلِمَ أنَّ الزَّبَدَ مَثَلٌ للباطِلِ، وأنَّ الماءَ مَثَلٌ للحقِّ، فارْتَقَى عندَ ذلك إلى ما في المَثَلَيْنِ مِن صِفَتَيِ البقاءِ والزَّوالِ؛ ليتَوَصَّلَ بذلك إلى البِشارةِ والنِّذارةِ لأهلِ الحقِّ وأهلِ الباطِلِ، فصارُ التَّشبيهُ تعريضًا وكِنايةً عنِ البِشارةِ والنِّذارةِ [307] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (13/120). .
- وفي قولِه: فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ تغْيِيرُ تَرْتيبِ اللَّفِّ الواقعِ في الفذْلَكَةِ المُوافِقِ للتَّرتيبِ الواقعِ في التَّمثيلِ؛ لمُراعاةِ المُلاءمَةِ بين حالتَيِ الذَّهابِ والبقاءِ وبين ذِكْرَيْهما؛ فإنَّ المُعتَبَرَ إنَّما هو بقاءُ الباقي بعد ذَهابِ الذَّاهِبِ لا قبْلَه [308] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (5/15). ؛ فجُملةُ فَأَمَّا الزَّبَدُ معطوفةٌ على جُملةِ فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا مُفَرَّعَةً على التَّمثيلِ، وافتُتِحَت بـ فَأَمَّا؛ للتَّوكيدِ، وصَرْفِ ذِهْنِ السَّامِعِ إلى الكلامِ لِما فيه مِن خَفِيِّ البِشارةِ والنِّذارةِ، ولأنَّه تَمامُ التَّمثيلِ [309] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (13/120- 121). .
- وعبَّرَ عنِ الماءِ بـ مَا يَنْفَعُ النَّاسَ؛ للإيماءِ إلى وجْهِ بِناءِ الخبَرِ، وهو البَقاءُ في الأرضِ؛ تعريضًا للمُشركين بأنَّ يعرِضوا أحوالَهم على مَضمونِ هذه الصِّلَةِ، واكْتُفِيَ بذِكْرِ وجْهِ شَبَهِ النَّافِعِ بالماءِ وغيرِ النَّافِعِ بالزَّبَدِ عن ذِكْرِ وجْهِ شَبَهِ النَّافِعِ بالذَّهبِ أو الفضَّةِ وغيرِ النَّافِعِ بزَبَدِهما؛ استغناءً عنه [310] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (13/121). .
- وجُملةُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ مُسْتَأْنَفَةٌ تَذْييليَّةٌ؛ لِما في لفْظِ الْأَمْثَالَ مِن العُمومِ، فهو أعمُّ مِن جُملةِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ؛ لدلالتِها على صِنْفٍ مِن المَثَلِ دون جميعِ أصنافِه، فلمَّا أعقَبَ بمَثَلٍ آخَرَ- وهو فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً- جيءَ بالتَّنبيهِ إلى الفائدةِ العامَّةِ مِن ضرْبِ الأمثالِ، وحصَلَ أيضًا توكيدُ جُملةِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ؛ لأنَّ العامَّ يندرِجُ فيه الخاصُّ. فالإشارةُ بـ كَذَلِكَ إلى التَّمثيلِ السَّابِقِ في جُملةِ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً، أي: مِثْلَ ذلك الضَّربِ البَديعِ يضرِبُ اللَّهُ الأمثالَ، وهو المقصودُ بهذا التَّذييلِ [311] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (13/121- 122). .
- وأيضًا قولُه: كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ فيه تفخيمٌ لشأْنِ هذا التَّمثيلِ، وتأكيدٌ لقولِه: كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ [312] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (5/15). ؛ فالإشارةُ بـ كَذَلِكَ للتَّنويهِ بذلك المَثَلِ، وتنْبيهِ الأفهامِ إلى حِكْمتِه وحِكْمةِ التَّمثيلِ، وما فيه مِن المَواعظِ والعِبَرِ، وما جمَعَه مِن التَّمثيلِ والكِنايةِ التَّعريضيَّةِ، وإلى بَلاغةِ القُرآنِ وإعجازِه، وذلك تبهيجٌ للمؤمنِينَ وتَحدٍّ للمُشركِينَ، ولِيُعلمَ أن جُملةَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً لم يُؤْتَ بها لمُجَرَّدِ تشْخيصِ دَقائقِ القُدرةِ الإلهيَّةِ والصُّنْعِ البديعِ، بل ولضَرْبِ المَثَلِ؛ فيُعْلَمُ المُمَثَّلُ له بطريقِ التَّعريضِ بالمُشركين والمؤمنِينَ؛ فيكونُ الكلامُ قد تمَّ عندَ قوله: كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ، كما في شأْنِ التَّذييلِ [313] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (13/121- 122). .
- وفي هذه الآيةِ ما يُعرَفُ في البلاغةِ بمُراعاةِ النظيرِ، وذلك في ألفاظِ (الماء) و(السيل)، و(الزبد) و(الرَّبو)، وفي ألفاظ (النَّار) و(الإيقاد)، و(الحِلية) و(المتاع) [314] يُنظر: ((إعراب القرآن وبيانه)) لدرويش (5/112 - 114). .
4- قولُه تعالى: لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ
- قولُه: لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَى... استئنافٌ بَيانيٌّ لجُملةِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ؛ ففي ذِكْرِ هذه الجُملةِ زيادةُ تنبيهٍ للتَّمثيلِ وللغرَضِ منه مع ما في ذلك مِن جَزاءِ الفريقينِ، وفي العُدولِ إلى الموصولينَ وصِلَتَيْهما في قولِه: لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا إيماءٌ إلى أنَّ الصِّلَتَيْنِ- الاستجابةَ، وعدَمَ الاستجابةِ- سببانِ لِما حصَلَ للفريقينِ [315] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (13/122). .
- وفي قولِه: لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَى تقْديمُ المُسنَدِ لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا؛ لأنَّه الأهمُّ؛ لأنَّ الغرَضَ التَّنويهُ بشأْنِ الَّذين استجابوا مع جَعْلِ الحُسْنى في مَرتبةِ المُسنَدِ إليه، وفي ذلك تنويهٌ بها أيضًا [316] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (13/122). ؛ فـ الْحُسْنَى مُبتدأٌ، وخبَرُه في قولِه: لِلَّذِينَ، ووَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا مُبتدأٌ، خبَرُه ما بعدَه، وغايَرَ بين جُمْلتَيِ الابتداءِ؛ لِما يدلُّ عليه تقْديمُ الجارِّ والمَجْرورِ في الاعتِناءِ والاهتمامِ، أو مِن الاختصاصِ، على رأيٍّ آخَرَ [317] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (6/375). . وقيل: أُجْرِيَ الخبَرُ عن وعيدِ الَّذين لم يستجيبوا على أصْلِ نظْمِ الكلامِ في التَّقديمِ والتَّأخيرِ؛ لقِلَّةِ الاكتِراثِ بهم [318] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (13/123). .
- وأيضًا قولُه: وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ فيه مِن تَهويلِ ما يلْقاهم ما لا يُحيطُ به البَيانُ؛ فالموصولُ وَالَّذِينَ مُبتدأٌ، والشَّرطيَّةُ كما هي لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ... خبَرُه، لكنْ لا على أنَّها وُضِعَت موضِعَ السُّوءَى، فوقَعَت في مُقابلةِ الحُسنى الواقِعَةِ في القَرينةِ الأُولى؛ لمُراعاةِ حُسْنِ المُقابلَةِ؛ فصارَ كأنَّه قيل: والَّذين لم يستجيبوا له السُّوءَى كما يُوهِمُ؛ فـ (إنْ) الشَّرطيَّةُ وإنْ دلَّت على كَمالِ سوءِ حالِهم، لكنَّها بمعزِلٍ مِن القيامِ مَقامَ لفْظِ (السُّوءَى) مَصحوبًا باللَّامِ الدَّاخِلةِ على الموصولِ أو ضميرِه، وعليه يدورُ حُصولُ المَرامِ، وإنَّما الواقِعُ في تلك المُقابَلةِ سُوءُ الْحِسَابِ في قولِه: أُولَئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ، وحيث كان اسمُ الإشارةِ الواقِعُ مُبتدأً في هذه الجُملةِ عِبارةً عنِ الموصولِ الواقِعِ مُبتدأً في الجُملةِ السَّابقةِ، كان خبرُها -الجُملةُ الظَّرفيَّةُ- خبرًا عنِ الموصولِ في الحقيقةِ، ومُبيِّنًا لإبهامِ مضمونِ الشَّرطيَّةِ الواقِعَةِ خبرًا عنه أوَّلًا؛ ولذلك تُرِكَ العَطْفُ، فصارَ كأنَّه قيل: والَّذين لم يستجيبوا له لهم سوءُ الحِسابِ، وذلك في قوَّةِ أنْ يقالَ: وللَّذين لم يستجيبوا له سوءُ الحسابِ مع زيادةِ تأْكيدٍ؛ فتمَّ حُسْنُ المُقابَلةِ على أبلَغِ وجْهٍ وآكدِه [319] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (5/15-16). .
- وفيه مُناسَبَةٌ حَسَنةٌ، حيث قال هنا: لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ، وفي سُورةِ المائدةِ قال: لِيَفْتَدُوا بِهِ [المائدة: 36] ؛ وذلك لأنَّ (لو) وجوابَها يتَّصِلانِ بالماضي، فقال في هذه السُّورةِ لَافْتَدَوْا بِهِ، وجوابُه في المائدةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وهو بلفْظِ الماضي، وقولُه: لِيَفْتَدُوا بِهِ عِلَّةٌ وليس بجوابٍ؛ فجاء كلٌّ على ما يُناسِبُ [320] يُنظر: ((أسرار التكرار في القرآن)) للكرماني (ص: 152-153). .
- قولُه: أُولَئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ فيه الإتيانُ باسمِ الإشارةِ في أُولَئِكَ؛ للتَّنبيهِ على أنَّهم أَحْرِيَاءُ بِما بعدَ اسمِ الإشارةِ مِن الخبَرِ بسَبَبِ ما قبْلَ اسمِ الإشارةِ مِن الصِّلةِ [321] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (13/122). .