موسوعة التفسير

سورةُ الرَّعدِ
الآيات (19-24)

ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ

غريب الكلمات:

الْأَلْبَابِ: العقولِ الزكيَّة، مفردُها لُبٌّ، وأصْل اللُّبِّ: الخُلُوصُ والجَوْدةُ، والشَّيء المُنتقَى [322] يُنظر: ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 51)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/199)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 102). .
الْمِيثَاقَ: الميثاق: عقدٌ مؤكَّدٌ بيمينٍ وعهدٍ، أو العهدُ المُحكَمُ، وأصله: العقدُ والإحكامُ [323] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (2/46)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (6/85)، ((المفردات)) للراغب (ص: 853). .
وَيَدْرَءُونَ: أي: يَدفَعونَ، وأصلُ (درأ): يدُلُّ على دفعِ الشَّيءِ [324] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 227)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 511)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/271)، ((المفردات)) للراغب (ص: 313)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 180). .
عُقْبَى الدَّارِ: أي: تصيرُ الجنَّةُ آخِرَ أمْرِهم، والعُقبَى: العاقِبةُ، وهي الشَّيءُ الذي يقَعُ عَقِبَ شَيءٍ آخَرَ، وقد اشتُهِرَ استِعمالُها في آخِرةِ الخيرِ، وأصلُ (عقب): يدُلُّ على تأخيرِ شَيءٍ، وإتيانِه بعدَ غَيرِه [325] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (4/77)، ((البسيط)) للواحدي (12/341)، ((المفردات)) للراغب (ص: 575)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 202)، ((تفسير ابن عاشور)) (13/130). .
عَدْنٍ: أي: إِقَامَةٍ، واستقرارٍ، وثباتٍ، يُقَال: عدن بالمكانِ إِذا أقامَ به، واستقرَّ، وأصلُ (عدن): يدلُّ على الإقامةِ [326] يُنظر: ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 334)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (4/248)، ((المفردات)) للراغب (ص: 553)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 142)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 227). .

المعنى الإجمالي:

يُخاطِبُ اللهُ تعالى نبيَّه- صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- مُبَيِّنًا أنَّ المُهتدينَ والضَّالِّينَ لا يستوونَ، فيقولُ له: هل الذي يعلَمُ أنَّ ما جاءك- يا محمَّدُ- مِن عندِ اللهِ هو الحَقُّ فيؤمِنُ به، كالأعمى عن الحَقِّ الذي لم يؤمِنْ؟ إنَّما يتَّعِظُ وينتفعُ بما أنزلَه الله إليك مِن القرآنِ أصحابُ العُقولِ السَّليمةِ، الذين يوفونَ بالعهدِ الذي بينَهم وبينَ الله تعالى مِن الأوامرِ والنَّواهي، والعهدِ الذي بينَهم وبينَ النَّاسِ، ويستمرُّون على الوفاءِ به، فلا يقعُ منه نقضٌ له، وهم الذين يَصِلونَ كلَّ ما أمَرَهم اللهُ بوَصلِه، مِن الإيمانِ باللهِ والأرحامِ وغير ذلك، ويخافونَ رَبَّهم أن يُحاسِبَهم على كلِّ ذُنوبِهم، ولا يغفِرُ لهم منها شيئًا، وهم الذين صَبَروا؛ طلبًا لرِضا ربِّهم، وأدَّوا الصَّلاةَ على أتمِّ وُجوهِها، وأدَّوا مِن أموالِهم زكاتَهم المفروضةَ، والنَّفَقاتِ الواجِبةَ، في الخَفاءِ والعَلَن، ويَدفعونَ بالعَمَلِ الصَّالحِ السَّيئَ من الأعمالِ، أولئك الموصوفونَ بهذه الصِّفاتِ لهم العاقِبةُ المحمودةُ في الآخرةِ.
تلك العاقِبةُ هي جنَّاتُ عَدنٍ يُقيمونَ فيها لا يزولونَ عنها، ومعهم الصَّالِحونَ مِن الآباءِ والزَّوجاتِ والذُّرِّيَّاتِ؛ من الذُّكورِ والإناث، وتدخُلُ الملائِكةُ عليهم مِن كلِّ بابٍ؛ لتهنِئتِهم بدُخولِ الجنَّةِ، تقولُ الملائِكةُ لهم: سَلِمْتُم مِن كُلِّ سُوءٍ؛ بسبَبِ صَبرِكم في الدُّنيا، فنِعْمَ عاقبةُ الدَّارِ الجنَّةُ!

تفسير الآيات:

أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ (19).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
أنَّه لَمَّا افترَقَ حالُ من أجاب ومَن أعرَضَ في الجزاءِ، وكان ما مضى مُستوفيًا طُرُقَ البَيانِ بإيضاحِ الأمرِ بالجُزئيَّاتِ والأمثلةِ مع التَّرغيبِ والتَّرهيبِ، فكان جديرًا بترتيبِ الأثَرِ عليه- تسبَّبَ عنه الإنكارُ على مَن سَوَّى بين العالمِ العامِلِ وغَيرِه؛ التفاتًا إلى قَولِه تعالى: هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ [الرعد:16] ، وسَوَّى بين الحَقِّ والباطِلِ؛ التفاتًا إلى قَولِه تعالى: كَذِلَكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ[الرعد:17] فحَسُنَ قَولُه [327] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (10/326-327). :
أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى.
أي: أهذا الذي يعلَمُ أنَّ القُرآنَ الذي أنزَلَه اللهُ عليك- يا محمَّدُ- حَقٌّ لا شَكَّ فيه، فيؤمِنُ به ويتَّبِعُه- كالذي هو أعمَى القَلبِ، لا يعلَمُ ما أنزَلَ اللهُ في كِتابِه، ولا يفهَمُه ولا يتَّبِعُه؟! أفهذا كهذا؟! لا يستويانِ [328] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (13/506)، ((تفسير القرطبي)) (9/307)، ((تفسير ابن كثير)) (4/450)، ((تفسير السعدي)) (ص: 416). .
كما قال تعالى: أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ [الزمر: 9] .
وقال عزَّ وجلَّ: وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلَا الْمُسِيءُ قَلِيلًا مَا تَتَذَكَّرُونَ [غافر: 58] .
إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ.
أي: إنَّما يتَّعِظُ بآياتِ اللهِ ويَعتَبِرُ بها أصحابُ العُقولِ السَّليمةِ الصَّحيحةِ [329] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (13/507)، ((تفسير ابن كثير)) (4/450)، ((تفسير السعدي)) (ص: 416). .
كما قال تعالى: الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ [الزمر: 18] .
الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللّهِ وَلاَ يِنقُضُونَ الْمِيثَاقَ (20).
الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللّهِ .
أي: الَّذين يُوفُونَ بالعهدِ [330] قال الرازي: (اعلمْ أَنَّ هذه الآيةَ هل هي مُتعلِّقةٌ بما قبلَها أم لا؟ فيه قولانِ: القولُ الأوَّلُ: أَنَّها متعلِّقةٌ بما قبلَها وعلى هذا التَّقديرِ ففيه وجهانِ: الأوَّلُ: أنَّه يجوزُ أنْ يكونَ قولُه: الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ صفةً لأُولي الألبابِ. والثَّاني: أنْ يكونَ ذلك صِفَةً لقولِه: أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ [الرعد: 19] . والقولُ الثَّاني: أنْ يكونَ قولُه: الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ مُبتدأً: وأُولئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ خَبرَه). ((تفسير الرازي)) (19/32). الذي بينَهم وبينَ الله تعالى مِن الأوامرِ والنَّواهي، والعهدِ الذي بينَهم وبينَ النَّاسِ، كالوفاءِ بالعقودِ في المعاملاتِ، وأداءِ الأماناتِ إلى غير ذلك [331] يُنظر: ((تفسير السمرقندي)) (2/224)، ((تفسير الرازي)) (19/33)، ((عدة الصابرين)) لابن القيم (ص: 29)، ((تفسير الشوكاني)) (3/94). وممن اختار العمومَ في معنَى العهدِ: السمرقندي، والرازي، وابنُ القيمِ، والشوكاني. يُنظر المصادر السابقة. قال الرازي: (ويدخلُ فيه [أي: عهدِ الله] الإتيانُ بجميعِ المأموراتِ والانتهاءُ عن كلِّ المنهياتِ، ويدخلُ فيه الوفاءُ بالعقودِ في المعاملاتِ، ويدخلُ فيه أداءُ الأماناتِ، وهذا القولُ هو المختارُ الصحيحُ في تأويلِ الآيةِ). ((تفسير الرازي)) (19/33). وقال محمد رشيد رضا: (وعهدُ اللهِ هنا يشملُ جَميعَ ما عَهِدَه إلى البشرِ مِنَ التَّكاليفِ سواءٌ كانَتْ بلفظِ العهدِ كقولِه: أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ [يس: 60] الآيتينِ أوْ بلفظٍ آخَرَ - ومِنه: يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّـكُمُ الشَّيْطَانُ [الأعراف: 27] وأمثالِه مِنَ النِّداءِ في هذه السُّورةِ - ومِنَ الوصايا في السُّورةِ الَّتي قبلَها «الأنعام» كما يشملُ ما عاهَدوا اللهَ عليه بلفظِ العهدِ أوْ بدونِه، وما يُعاهِدُ بعضُهم بعضًا عليه بشروطِه، ومنها ألَّا يكونَ على شيءٍ محرَّمٍ. ويدخلُ في العهدِ العامِّ ما أوجَبه مِنْ مُوالاةِ المؤمنينَ وحقوقِهم). ((تفسير المنار)) (10/104). وقال ابنُ عاشور: (عهدُ الله مصدرٌ مضافٌ لمفعولِه، أي: ما عاهدوا الله على فعلِه، أو مِن إضافةِ المصدرِ إلى فاعلِه، أي: ما عهِد الله به إليهم). ((تفسير ابن عاشور)) (13/125-126). .
وَلاَ يِنقُضُونَ الْمِيثَاقَ.
 أي: ولا يقعُ منهم نقضٌ لهذا العهدِ المؤكَّد، فهم مستمرُّون على الوفاءِ به [332] يُنظر: ((تفسير السمعاني)) (3/89)، ((تفسير أبي حيان)) (6/379)، ((عدة الصابرين)) لابن القيم (ص: 29). قال أبو حيان: (والظاهرُ أنَّ قولَه: وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ، جملةٌ توكيديةٌ لقولِه: يُوفُونَ بِعَهْدِ اللهِ؛ لأنَّ العهدَ هو الميثاقُ، ويلزمُ مِن إيفاءِ العهدِ انتفاءُ نقيضِه). ((تفسير أبي حيان)) (6/379). قال الرَّازي: (قولُه: وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ وفيه أقوالٌ: القولُ الأوَّلُ: وهو قَولُ الأكثرينَ: أنَّ هذا الكلامَ قريبٌ مِنَ الوَفاءِ بالعَهدِ، فإنَّ الوفاءَ بالعهدِ قَريبٌ مِن عَدَمِ نَقضِ الميثاقِ والعَهدِ، وهذا مِثلُ أن يقولَ: إنَّه لمَّا وجب وجودُه لزِمَ أن يمتَنِعَ عَدَمُه؛ فهذان المَفهومانِ مُتغايرانِ إلَّا أنَّهما متلازمانِ، فكذلك الوفاءُ بالعَهدِ يَلزَمُه ألَّا يُنقَضَ الميثاقُ... والقَولُ الثَّاني: أنَّ الميثاقَ ما وثَّقَه المُكَلَّفُ على نفسِه؛ فالحاصِلُ أنَّ قَولَه: الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ إشارةٌ إلى ما كَلَّف اللهُ العبدَ به ابتداءً، وقَولَه: وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ إشارةٌ إلى ما التَزَمه العبدُ من أنواعِ الطَّاعاتِ بحسَب اختيارِه نفسِه، كالنَّذرِ بالطَّاعاتِ والخَيراتِ. والقَولُ الثَّالثُ: أنَّ المرادَ بالوَفاءِ بالعَهدِ: عهدُ الرُّبوبيَّةِ والعبوديَّة، والمرادَ بالميثاقِ: المَواثيقُ المذكورةُ في التَّوراةِ والإنجيلِ وسائرِ الكُتُبِ الإلهيَّةِ على وجوبِ الإيمانِ بنبُوَّةِ محمَّدٍ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّم عند ظهورِه). ((تفسير الرازي)) (19/33). وقال القرطبي: (قوله: وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ يحتملُ أن يريدَ به جنسَ المواثيقِ، أي إذا عقَدوا في طاعةِ الله عهدًا لم ينقضوه. قال قتادةُ: تقدَّم الله إلى عبادِه في نقضِ الميثاقِ، ونهَى عنه في بضعٍ وعشرينَ آيةً، ويحتملُ أن يشيرَ إلى ميثاقٍ بعينِه، هو الذي أخَذه الله على عبادِه حين أخرَجهم مِن صُلبِ أبيهم آدمَ). ((تفسير القرطبي)) (9/307-308). وقيل: هذا تعميمٌ بعد التَّخصيصِ؛ لأنَّه يدخُلُ تحتَ المِيثاقِ كُلُّ ما أوجَبَه العَبدُ على نَفسِه كالنُّذورِ ونَحوِها، ويحتملُ أن يكونَ الأمرُ بالعَكسِ، فيَكونَ مِنَ التَّخصيصِ بعد التَّعميمِ، على أن يُرادَ بالعَهدِ جَميعُ عُهودِ الله، وهي أوامِرُه ونواهيه التي وصَّى بها عَبيدَه، ويَدخُلُ في ذلك الالتِزاماتُ التي يُلزِمُ بها العَبدُ نَفسَه، ويرادُ بالميثاقِ ما أخَذَه اللهُ على عبادِه حينَ أخرَجَهم مِن صُلبِ آدَمَ في عالَمِ الذَّرِّ. يُنظر: ((تفسير الشوكاني)) (3/94). وممن ذهب إلى أنَّه تعميمٌ بعدَ تخصيصٍ: الزمخشريُّ، والشوكاني، والقاسمي، وابنُ عاشورٍ. يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (2/525)، ((تفسير الشوكاني)) (3/94)، ((تفسير القاسمي)) (6/279)، ((تفسير ابن عاشور)) (13/126). .
وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الحِسَابِ (21).
وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ.
أي: ومِن صفاتِ أُولي الألبابِ أنَّهم يَصِلونَ كُلَّ ما أمَرَ اللهُ بوَصلِه؛ مِن الإيمانِ باللهِ وطاعتِه، وعبادتِه وَحدَه لا شريكَ له، وصلةِ الأرحامِ، وغيرِ ذلك [333] يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (9/310)، ((تفسير السعدي)) (ص: 416). وممَّن ذهب إلى أنَّ المرادَ بـ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ: صِلةُ الأرحامِ: ابنُ جرير، وابنُ كثير، ونسَبه القرطبيُّ إلى أكثرِ المفسِّرين. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (13/508)، ((تفسير القرطبي)) (9/310)، ((تفسير ابن كثير)) (4/450). وممن اختار العموم في الآية: القرطبيُّ، وابنُ القيم، والشوكاني، والسعدي، وابنُ عاشور. يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (9/310)، ((عدة الصابرين)) (ص: 29)، ((تفسير الشوكاني)) (3/94)، ((تفسير السعدي)) (ص: 416) ((تفسير ابن عاشور)) (13/127). قال القرطبي: (قوله تعالى: وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ ظاهِرٌ في صلةِ الأرحام، وهو قولُ قتادةَ وأكثرِ المفسِّرين، وهو معَ ذلك يتناولُ جميعَ الطاعاتِ). ((تفسير القرطبي)) (9/310). ويُنظر: ((تفسير ابن عطية)) (3/309). وقال ابنُ القيم: (وصفَهم بأنَّهم يصِلون ما أمَر الله به أن يُوصلَ، ويدخلُ في هذا ظاهرُ الدينِ وباطنُه، وحقُّ الله، وحقُّ خلقه). ((عدة الصابرين)) (ص: 29). وقال السعدي: (وهذا عامٌّ في كلِّ ما أمر الله بوَصلِه، من الإيمان به وبرسولِه، ومحبَّتِه ومحبةِ رسوله، والانقيادِ لعبادتِه وحدَه لا شريكَ له، ولطاعةِ رَسولِه، ويَصِلون آباءَهم وأُمَّهاتِهم...، ويَصِلون الأقاربَ والأرحامَ...، ويَصِلون ما بينَهم وبينَ الأزواجِ والأصحابِ والمماليك). ((تفسير السعدي)) (ص: 416).  وقال ابنُ عاشور: (مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ عامٌّ في جميعِ الأواصِرِ والعلائِقِ التي أمَرَ الله بالمودَّةِ والإحسانِ لأصحابِها؛ فمنها آصِرةُ الإيمانِ، ومنها آصِرةُ القرابةِ، وهي صِلةُ الرَّحِمِ، وقد اتَّفَق المفَسِّرونَ على أنَّها مُرادُ اللهِ هنا). ((تفسير ابن عاشور)) (13/127). وقال الرسعني: (ويدخُلُ في عُمومِ قَولِه تعالى: مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وصْلُ قَرابةِ رَسولِ اللهِ- صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- وقَرابةِ المؤمِنينَ الثَّابتةِ بقَولِه تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ [الحجرات:10] . والمرادُ بصِلَتِهم: العَطفُ عليهم، والإحسانُ إليهم، والذبُّ عنهم بالحَقِّ، وإفشاءُ السَّلامِ عليهم، وزيارتُهم، والنَّصيحةُ لهم). ((تفسير الرسعني)) (3/472). وقال الشنقيطي: (قولُه تعالَى: وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ لم يُبَيِّنْ هنا هذا الَّذي أمَر به أنْ يُوصلَ، وقد أشارَ إلى أنَّ منه الأرحامَ بقولِه: فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ [محمد: 22] . وأشارَ في موضعٍ آخرَ إلى أنَّ منه الإيمانَ بجميعِ الرُّسلِ، فلا يجوزُ قطعُ بعضِهم عن بعضٍ في ذلك بأنْ يُؤمنَ ببعضِهم دونَ بعضِهم الآخرِ. وذلك في قولِه: وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا * أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا [النساء: 150، 151] ). ((أضواء البيان)) (1/19). .
وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ .
أي: ويخشونَ رَبَّهم، إن خالفوا أوامِرَه فقَطَعوا ما أمَرَهم بوَصلِه [334] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (13/508)، ((تفسير القرطبي)) (9/310)، ((تفسير السعدي)) (ص: 416). .
وَيَخَافُونَ سُوءَ الحِسَابِ.
أي: ويخافونَ مُناقشةَ اللهِ لهم عن جميعِ أعمالِهم وعدمِ مَغفرةِ ذُنوبِهم [335] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (13/508)، ((تفسير القرطبي)) (9/310)، ((تفسير السعدي)) (ص: 416). .
وَالَّذِينَ صَبَرُواْ ابْتِغَاء وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَأَنفَقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلاَنِيَةً وَيَدْرَؤُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ (22).
وَالَّذِينَ صَبَرُواْ ابْتِغَاء وَجْهِ رَبِّهِمْ.
أي: والذين صبَروا على طاعةِ اللهِ وعن مَعاصيه، وعلى أقدارِه المؤلِمةِ، طَلبًا لرِضوانِه وثَوابِه [336] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (4/450، 451)، ((تفسير الشوكاني)) (3/94)، ((تفسير السعدي)) (ص: 416). .
وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ.
أي: وأدَّوُا الصَّلواتِ بأركانِها وشُروطِها، وواجِباتِها، في مَواقيتِها، خاشعينَ فيها [337] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (13/509)، ((تفسير القرطبي)) (9/310)، ((تفسير ابن كثير)) (4/451)، ((تفسير السعدي)) (ص: 416). قال الشوكاني: (والمرادُ بها الصلواتُ المفروضةُ، وقيل: أعمُّ مِن ذلك). ((تفسير الشوكاني)) (3/94). وممن قال بهذا القولِ مِن السلفِ: ابنُ عباسٍ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (13/509). .
وَأَنفَقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلاَنِيَةً.
أي: وأخرجوا الزَّكَواتِ المفروضةَ، والنَّفَقاتِ الواجِبةَ مِن الأموالِ التي رزَقناهم، فأعطَوها لمُستحِقِّيها في الخفاءِ وفي العَلَنِ [338] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (13/509)، ((تفسير ابن كثير)) (4/451). والمعنى المذكور- وهو أنَّ المرادَ بالإنفاقِ هنا: الإنفاقُ الواجبُ- هو اختيارُ ابنِ جريرٍ، وابنِ كثيرٍ. وممن قال بهذا القولِ مِن السلفِ: ابنُ عباسٍ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (13/509). وقيل: المرادُ ما هو أعمُّ مِن ذلك، وممن ذهَب إلى ذلك الرسعني والسعديُّ. يُنظر: ((تفسير الرسعني)) (3/475)، ((تفسير السعدي)) (ص: 416). وقال ابنُ عطيةَ: (وَأَنْفَقُوا يريدُ به مواساةَ المحتاجِ، و«السر» هو فيما أُنفِق تطوعًا، و«العلانية» فيما أُنفِق مِن الزكاةِ المفروضةِ؛ لأنَّ التطوعَ كلَّه الأفضلُ فيه التكتمُ). ((تفسير ابن عطية)) (3/309). .
كما قال تعالى: الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ [البقرة: 274].
وَيَدْرَؤُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ.
أي: ويدفعونَ بالعملِ الصالحِ السيِّئَ مِن الأعمالِ [339] يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (9/310-311)، ((تفسير الشوكاني)) (3/94). وممن ذهَب إلى العمومِ- وأن المعنى: يدفعونَ بالعملِ الصالحِ السيئَ مِن الأعمالِ فيدفعون الذنب بالتوبة وسيئة من أساء إليهم بالإحسان إليه، إلى غير ذلك-: القرطبيُّ، والشوكاني. يُنظر: ((المصدران السابقان)). قال القرطبيُّ: (وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أي يدفعونَ بالعملِ الصالحِ السيئَ مِن الأعمالِ، قاله ابنُ عبَّاسٍ). ثم ذكَر ثمانيةَ أقوالٍ أُخرَى، وقال: (فهذه تسعةُ أقوالٍ، معناها كلِّها متقاربٌ، والأوَّل يتناولُها بالعمومِ، ونظيرُه: إِنَّ الحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ [هود: 114] ). ((تفسير القرطبي)) (9/310-311). وقال الشوكاني: (وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَأي: يدفَعونَ سَيِّئةَ مَن أساء إليهم بالإحسانِ إليه، كما في قَولِه تعالى: ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [المؤمنون: 96] ، أو يَدفَعونَ بالعَمَلِ الصَّالحِ العَمَلَ السَّيِّئَ، أو يَدفَعونَ الشَّرَّ بالخيرِ، أو المُنكَرَ بالمعروفِ، أو الظُّلمَ بالعَفوِ، أو الذَّنبَ بالتَّوبةِ، ولا مانِعَ مِن حَملِ الآيةِ على جميعِ هذه الأمورِ). ((تفسير الشوكاني)) (3/94). وقال ابنُ القيم: (ثمَّ ذكَرَ حالَهم إذا جُهِلَ عليهم وأُوذوا أنَّهم لا يُقابِلونَ ذلك بمِثلِه، بل يَدرَؤونَ بالحَسَنةِ السَّيِّئةَ، فيُحسِنونَ إلى مَن يُسيءُ إليهم، فقال: وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وقد فُسِّرَ هذا الدَّرءُ بأنَّهم يَدفَعونَ بالذَّنبِ الحَسَنةَ بَعدَه، كما قال تعالى: إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ [هود: 114] ، وقال النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «أتبِعِ السَّيِّئةَ الحَسَنةَ تَمْحُها»، والتَّحقيقُ أنَّ الآيةَ تَعُمُّ النَّوعينِ). ((عدة الصابرين)) (ص: 31). وقيل: ويَدفَعونَ إساءةَ مَن أساء إليهم- بقَولِه أو فِعلِه- بالإحسانِ إليه، وممَّن ذهب إلى هذا المعنى المذكور: ابنُ جريرٍ، وابنُ عطيةَ، وابنُ كثيرٍ، والسعدي. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (13/510)، ((تفسير ابن عطية)) (3/309)، ((تفسير ابن كثير)) (4/451)، ((تفسير السعدي)) (ص: 416). وممن قال بهذا القولِ مِن السلفِ: ابنُ زيدٍ، وسعيدُ بنُ جبيرٍ، والضحَّاكُ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (13/510)، ((الدر المنثور)) للسيوطي (4/637). .
كما قال تعالى: إِنَّ الحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ [هود: 114] .
وقال عزَّ وجلَّ: وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ [فصلت: 34-35] .
  أُوْلَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ.
أي: أولئك- المؤمِنونَ الذين ذكَرْنا أوصافَهم- لهم في الآخِرةِ الجنَّةُ [340] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (13/510)، ((تفسير القرطبي)) (9/311)، ((تفسير السعدي)) (ص: 416). وقيل: المرادُ بقولِه تعالى: عُقْبَى الدَّارِ: لهم عاقبةُ الآخرةِ، وهي الجنةُ بدلَ النارِ. وممن ذهَب إلى هذا المعنى: القرطبيُّ. ((تفسير القرطبي)) (9/311). ويُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (13/510). وقيل: المراد: لهم عاقبةُ الدنيا وهي الجنةُ. وممن ذهب إلى هذا المعنى: الرسعني، والشوكاني، والقاسمي. يُنظر: ((تفسير الرسعني)) (3/476)، ((تفسير الشوكاني)) (3/94)، ((تفسير القاسمي)) (6/280). قال ابنُ عطية: (قوله: عُقْبَى الدَّارِ يحتملُ أن يكونَ عُقْبَى دارِ الدنيا، ثم فسَّرَ العُقبى بقولِه: جَنَّاتُ عَدْنٍ؛ إذ العُقبى تعمُّ حالةَ الخيرِ وحالةَ الشرِّ، ويحتملُ أن يريدَ عُقْبَى دارِ الآخرةِ لدارِ الدنيا، أي: العقبى الحسنةُ في الدارِ الآخرةِ هي لهم). ((تفسير ابن عطية)) (3/310). وقال ابنُ كثيرٍ: (عُقْبَى الدَّارِ وهي العاقبةُ والنُّصرةُ في الدُّنيا والآخرةِ). ((تفسير ابن كثير)) (4/450). .
جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِم مِّن كُلِّ بَابٍ (23).
جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ.
أي: لهم جَنَّاتُ مُكثٍ وإقامةٍ دائِمةٍ، يدخُلونَها هم والصَّالِحونَ مِن آبائِهم وأمَّهاتِهم وأزواجِهم وأولادِهم [341] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (13/510، 511)، ((تفسير السمعاني)) (3/90)، ((تفسير القرطبي)) (9/311، 312)، ((تفسير ابن كثير)) (4/451)، ((تفسير السعدي)) (ص: 416)، ((تفسير ابن عاشور)) (13/132). .
كما قال تعالى: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ [الطور: 21].
وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِم مِّن كُلِّ بَابٍ.
أي: والملائِكةُ يَدخُلونَ على المؤمنينَ مِن كُلِّ بابٍ؛ للسَّلامِ عليهم، وتهنِئتِهم بدُخولِ الجنَّةِ [342] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (13/511)، ((تفسير القرطبي)) (9/312)، ((تفسير ابن كثير)) (4/451)، ((تفسير السعدي)) (ص: 416). .
سَلاَمٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ (24).
أي: تقولُ الملائكةُ لأهلِ الجنَّةِ: سَلَّمَكم اللهُ- أيُّها المؤمِنونَ- من العذابِ والأهوالِ والشُّرورِ في الآخرةِ [343] قال القرطبي: (سَلَامٌ عَلَيْكُمْ أي: يقولون: سلامٌ عليكم، فأُضمِرَ القول، أي: قد سلمتُم من الآفات والمحن. وقيل: هو دعاءٌ لهم بدوام السلامة، وإن كانوا سالمين، أي: سلَّمكم الله، فهو خبرٌ معناه الدعاء، ويتضمَّن الاعترافَ بالعبودية. بِمَا صَبَرْتُمْ أي: بصبرِكم). ((تفسير القرطبي)) (9/312). ؛ بسبَبِ صَبرِكم في الدُّنيا، فنِعمَ عُقبى الدَّارِ الجنَّةُ [344] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (13/511)، ((الوسيط)) للواحدي (3/14)، ((تفسير البغوي)) (3/19)، ((تفسير القرطبي)) (9/312)، ((تفسير الخازن)) (3/17)، ((تفسير أبي حيان)) (6/383)، ((تفسير أبي السعود)) (5/18). .
عن عبدِ اللهِ بنِ عَمرِو بنِ العاصِ رَضِيَ الله عنهما، عن رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّه قال: ((هل تدرونَ أوَّلَ مَن يدخُلُ الجنَّةَ مِن خَلقِ اللهِ؟ قالوا: اللهُ ورسولُه أعلَمُ، قال: أوَّلُ من يدخُلُ الجنَّةَ مِن خَلقِ اللهِ الفُقَراءُ المهاجِرونَ، الذين تُسَدُّ بهم الثُّغورُ، ويُتَّقى بهم المَكارِهُ، ويموتُ أحَدُهم وحاجتُه في صَدرِه لا يستطيعُ لها قَضاءً، فيقولُ اللهُ عزَّ وجَلَّ لِمَن يشاءُ مِن ملائكتِه: ائتُوهم فحَيُّوهم، فتقولُ الملائكةُ: نحن سُكَّانُ سمائِك، وخِيرتُك مِن خَلقِك، أفتأمُرُنا أن نأتيَ هؤلاءِ فنُسَلِّمَ عليهم؟! قال: إنَّهم كانوا عبادًا يعبُدوني لا يُشرِكونَ بي شيئًا، وتُسَدُّ بهم الثُّغورُ، ويُتَّقى بهم المكارِهُ، يموتُ أحَدُهم وحاجتُه في صَدرِه، لا يستطيعُ لها قضاءً ، قال: فتأتيهم الملائكةُ عند ذلك، فيدخُلونَ عليهم مِن كُلِّ بابٍ: سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ)) [345] أخرجه أحمد في ((المسند)) (6570)، وعبد بن حميد في ((المنتخب)) (352)، والبزار في ((المسند)) (2457)، وابن حبان في ((الصحيح)) (7421). قال المنذري في ((الترغيب والترهيب)) (4/136): رواتُه ثقاتٌ. وصحَّح إسنادَه الدمياطي في ((المتجر الرابح)) (328)، وأحمد شاكر في ((المسند)) (10/77)، وصحَّح الحديثَ الألباني في ((صحيح الترغيب)) (3183). .

الفوائد التربوية:

1- قال الله تعالى: أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى حقيقٌ بالعبدِ أن يتذكَّرَ ويتفَكَّرَ أيُّ الفريقينِ أحسَنُ حالًا وخيرٌ مآلًا، فيُؤثِرُ طريقَه، ويَسلُكُ خَلفَه، ولكِنْ ما كلُّ أحدٍ يتذكَّرُ ما ينفَعُه ويضُرُّه [346] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 416). .
2- قال الله تعالى: وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ فيَصِلونَ ما بينهم وبينَ رَبِّهم بعبوديَّتِه وَحدَه لا شَريكَ له، والقيامِ بطاعتِه، والإنابةِ إليه والتوكُّلِ عليه، وحُبِّه وخَوفِه ورَجائِه، والتَّوبةِ إليه، والاستكانةِ له، والخُضوعِ والذِّلَّةِ له، والاعترافِ له بنِعمَتِه وشُكرِه عليها، والإقرارِ بالخَطيئةِ والاستغفارِ منها؛ فأمَرَ الله بهذه الأسبابِ التي بينه وبينَ عَبدِه أن تُوصَلَ، وأمَرَ أن نَصِلَ ما بيننا وبينَ رَسولِه بالإيمانِ به وتَصديقِه، وتَحكيمِه في كُلِّ شَيءٍ، والرِّضا لحُكمِه والتَّسليمِ له، وتقديمِ محبَّتِه على محبَّةِ النَّفسِ والولَدِ والوالِدِ والنَّاسِ أجمعينَ- صلواتُ اللهِ وسَلامُه عليه- وأمَرَ أن نَصِلَ ما بيننا وبين الوالِدَينِ والأقرَبينَ بالبِرِّ والصِّلةِ، وما بيننا وبينَ الزَّوجاتِ بالقيامِ بحُقوقِهنَّ، ومُعاشَرتِهنَّ بالمعروفِ، وأن نَصِلَ ما بيننا وبين الجارِ القَريبِ والبعيدِ بمُراعاةِ حَقِّه، وحِفظِه في نَفسِه ومالِه وأهلِه بما نحفَظُ به نفوسَنا وأهلينا وأموالَنا، وأن نَصِلَ ما بيننا وبين الرَّفيقِ في السَّفَرِ والحَضَرِ، وأن نَصِلَ ما بيننا وبين عُمومِ النَّاسِ بأن نأتيَ إليهم بما نحِبُّ أن يأتوه إلينا؛ فهذا كلُّه مما أمَرَ اللهُ به أن يُوصَلَ [347] يُنظر: ((عدة الصابرين)) لابن القيم (ص: 29). .
3- السببُ الذي يجعَلُ العبدَ واصِلًا ما أمَرَ اللهُ به أن يُوصَلَ: خَشيةُ اللهِ وخَوفُ يومِ الحسابِ؛ ولهذا قال تعالى: وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ، أي: يخافونَه فيمنَعُهم خوفُهم منه، ومن القدومِ عليه يومَ الحسابِ، أن يتجَرَّؤوا على معاصي اللهِ، أو يُقَصِّروا في شيءٍ ممَّا أمرَ اللهُ به؛ خوفًا مِن العقابِ ورجاءً للثَّوابِ [348] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 416). ، ولا يمكِنُ لأحدٍ قَطُّ أن يَصِلَ ما أمَرَ اللهُ بوَصلِه إلَّا بخَشيتِه، ومتى ترَّحَلَت الخشيةُ مِن القَلبِ، انقطَعَت هذه الوُصَلُ [349] يُنظر: ((عدة الصابرين)) لابن القيم (ص: 30). .
4- قال الله تعالى: وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ، فلم يكتَفِ منهم بمجَرَّدِ الصَّبرِ، حتى يكونَ خالصًا لوجهِه سبحانَه [350] يُنظر: ((عدة الصابرين)) لابن القيم (ص: 30). .
5- قال تعالى: وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ ثمَّ ذكَرَ لهم ما يُعينُهم على الصَّبرِ، وهي الصَّلاةُ، فقال: وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وهذان هما العَونانِ على مصالحِ الدُّنيا والآخرةِ، وهما الصَّبرُ والصَّلاةُ؛ قال تعالى: وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ [البقرة: 45] ، وقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ [351] يُنظر: ((عدة الصابرين)) لابن القيم (ص: 30). [البقرة: 153] .
6-  قال الله تعالى: جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ في التَّقييدِ بالصَّلاحِ قَطعٌ للأطماعِ الفارغةِ لِمَن يتمَسَّكُ بمُجَرَّدِ حَبلِ الأنسابِ [352] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (5/18). .
7- قولُ الله تعالى: سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فيه إشارةٌ إلى أنَّ الصَّبرَ عِمادُ الدِّينِ كُلِّه [353] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (10/332). .
8- في قَولِه تعالى: وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ * سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ دَلالةٌ على أنَّ الفوزَ بالمطلوبِ المحبوبِ، والنَّجاةَ مِن المكروهِ المرهوبِ، ودخولَ الجَنَّةِ؛ إنَّما نالوه بالصَّبرِ [354] يُنظر: ((مدارج السالكين)) لابن القيم (2/153). .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- قَولُه تعالى: الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ * وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ إلى قَولِه: وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ جمَع مقاماتِ الإسلامِ والإيمانِ كلَّها؛ حيث اشتَمَل على فِعلِ المأمورِ، وتركِ المحظورِ، والصَّبرِ على المَقدورِ [355] يُنظر: ((عدة الصابرين)) لابن القيم (ص: 31). .
2- قَولُه تعالى: وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ فيه إثباتُ الوجهِ لله عزَّ وجلَّ [356] يُنظر: ((مجموع فتاوى ورسائل العثيمين)) (10/943). .
3- قَولُ الله تعالى: جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ فيه دليلٌ على أنَّ الدَّرَجةَ تعلو بالشَّفاعةِ، وأنَّ الموصوفينَ بتلك الصِّفاتِ يقتَرِنُ بعضُهم ببعضٍ- لِما بينهم مِن القَرابةِ والوُصلةِ- في دُخولِ الجنَّةِ؛ زيادةً في أُنسِهم [357] يُنظر: ((تفسير الشربيني)) (2/157). .
4- الإكثارُ مِن تَردادِ رسلِ الملكِ أعظمُ في الفخرِ، وأكثرُ في السرورِ والعزِّ، قال الله تعالى: وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ، ولمَّا كان إتيانُهم مِن الأماكنِ المعتادةِ- مع القدرةِ على غيرِها- أدلَّ على الأدبِ والكرمِ؛ قال تعالى: مِنْ كُلِّ بَابٍ [358] يُنظر: ((تفسير الشربيني)) (2/157). .
5- يجزئُ السَّلامُ مع حذفِ اللَّامِ، فلو قال القائلُ: «سلامٌ عليكم» أجزأَ؛ قال تعالى: وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ * سَلَامٌ عَلَيْكُمْ، لكن باللامِ أولَى؛ لأنَّها للتفخيمِ والتكثيرِ [359] يُنظر: ((فتح الباري)) لابن حجر (11/4). .
6- في قَولِه تعالى: وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ * سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ إشارةٌ إلى أنَّ مِن الملائكةِ ملائِكةً مُوَكَّلينَ بتحيَّةِ أهلِ الجنَّةِ [360] يُنظر: ((شرح الأربعين النووية)) لابن عثيمين (ص: 42). .
7- قولُ الله تعالى: سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ لَمَّا كان الصبرُ هو الذي نشأ عنه تلك الطَّاعاتُ السَّابقةُ؛ ذكَرَت الملائكةُ أنَّ النَّعيمَ السَّرمديَّ إنَّما هو حاصِلٌ بسبَبِ الصَّبرِ، ولم يأتِ التَّركيبُ بالإيفاءِ بالعَهدِ، ولا بغيرِ ذلك [361] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (6/383). .
8- لَمَّا كانت الجنَّةُ دارَ السَّلامةِ مِن كُلِّ عَيبٍ وشَرٍّ وآفةٍ، بل قد سَلِمَت مِن كُلِّ ما ينغِّصُ العَيشَ والحياةَ- كانت تحيَّةُ أهلِها فيها سَلامًا، والرَّبُّ يُحيِّيهم فيها بالسَّلامِ وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ * سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ [362] يُنظر: ((بدائع الفوائد)) لابن القيم (2/145). [الرعد: 23- 24] .
9- السَّلامُ شُرِعَ على الأحياءِ والأمواتِ بتقديمِ اسمِه على المُسلَّمِ عليهم؛ لأنَّه دُعاءٌ بخيرٍ، والأحسَنُ في دُعاءِ الخيرِ أن يتقَدَّمَ المدعوُّ به على المدعوِّ له، قال تعالى: سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ، ومِن ذلك قولُه تعالى: رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ [هود: 73] ، وقولُه: سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ [الصافات: 109] ، سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ [الصافات: 79] ، سَلَامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ [الصافات: 130] ، وأمُّا الدُّعاءُ بالشَّرِّ فيُقدَّمُ فيه المدعوُّ عليه على المدعُوِّ به غالبًا، كقولِه تعالى لإبليسَ: وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي [ص: 78] ، وقولِه: وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ [الحجر: 35] ، وقولِه: عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ [التوبة: 98] ، وقولِه: وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ [الشورى: 16] ، وسِرُّ ذلك- والله أعلَمُ- أنَّ في الدُّعاءِ بالخيرِ قَدَّموا اسمَ الدُّعاءِ المحبوبِ الذي تشتهيه النُّفوسُ وتَطلُبُه، ويَلَذُّ للسَّمعِ لَفظُه، فيَبدأُ السَّمعُ بذِكرِ الاسمِ المحبوبِ المَطلوبِ، ويبدأُ القَلبُ بتصَوُّرِه، فيُفتَحُ له القَلبُ والسَّمعُ، فيبقى السَّامِعُ كالمُنتَظِر لِمَن يحصُلُ هذا، وعلى من يحُلُّ، فيأتي باسمِه فيقولُ: عليك أو لك، فيحصُلُ له من السُّرورِ والفَرَحِ ما يبعَثُ على التَّحابِّ والتَّوادِّ والتَّراحُمِ، الذي هو المقصودُ بالسَّلامِ، وأمَّا في الدُّعاءِ عليه ففي تقديمِ المدعوِّ عليه إيذانٌ باختصاصِه بذلك الدُّعاءِ، وأنَّه عليه وَحدَه، كأنَّه قيل له: هذا عليك وَحدَك لا يَشرَكُك فيه السَّامِعونَ، بخلافِ الدُّعاءِ بالخيرِ؛ فإنَّ المطلوبَ عُمومُه، وكلَّما عَمَّ به الدَّاعي كان أفضَلَ [363] يُنظر: ((بدائع الفوائد)) لابن القيم (2/174). .

بلاغة الآيات:

1- قوله تعالى: أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ
- قولُه: أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ تفريعٌ على جُملةِ لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَى... الآيةَ؛ فالكلامُ لنَفْيِ استواءِ المؤمنِ والكافرِ في صورةِ الاستفهامِ؛ تنبيهًا على غَفلةِ الضَّالينَ [364] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (13/123). .
- إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ فيه قصْرٌ بـ (إنَّما)، وهو قصْرٌ إضافيٌّ، أي: لا غيرُ أُولي الألبابِ؛ فهو تعريضٌ بالمُشركين بأنَّهم لا عقولَ لهم؛ إذ انتَفَت عنهم فائدةُ عُقولِهم [365] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (13/123). .
- قولُه: أَفَمَنْ يَعْلَمُ فيه دُخولُ همزةِ الإنكارِ على الفاءِ أَفَمَنْ؛ لإنكارِ أنْ تقَعَ شُبهَةٌ في تشابُهِهما بعدما ضُرِبَ مِن المَثَلِ، في أنَّ حالَ مَن عَلِمَ أنَّما أُنْزِلَ إليك مِن ربِّك الحقُّ فاستجابَ، بمعزِلٍ مِن حالِ الجاهلِ الَّذي لم يستبْصِرْ فيستجيبَ، كبُعْدِ ما بين الزَّبَدِ والماءِ، والخَبَثِ والإبريزِ [366] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (2/524)، ((تفسير البيضاوي)) (3/186)، ((تفسير أبي حيان)) (6/378). الخَبَثُ: ما تنفيه النَّارُ مِن رديءِ الفِضَّةِ والحَديدِ وغيرهما. يُنظر: ((غريب الحديث)) للقاسم ابن سلام (2/192). والإبريزُ: الذَّهَبُ الخالِصُ. يُنظر: ((مختار الصحاح)) للرازي (ص: 350). ؛ فإيرادُ الفاءِ بعد الهمزةِ لتَوجيهِ الإنكارِ إلى ترتُّبِ توهُّمِ المُماثلَةِ على ظُهورِ حالِ كلٍّ منهما بما ضُرِبَ مِن الأمثالِ وبين المصيرِ والمآلِ، كأنَّه قيل: أبعدما بُيِّنَ حالُ كلٍّ مِن الفريقينِ ومآلُهما يُتَوَهَّمُ المُماثلَةُ بينهما [367] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (5/16). ؟!
- قولُه: كَمَنْ هُوَ أَعْمَى، أي: كمَن لا يعلَمُ ذلك، إلَّا أنَّه أُريدَ زيادةُ تقْبيحِ حالِه فعُبِّرَ عنه بالأعْمى [368] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (5/16). ، وقيل: شَبَّه الكافِرَ والجاهِلَ بالأعمَى؛ لأنَّ الأعمَى لا يهتدي لرُشدٍ [369] يُنظر: ((تفسير الشربيني)) (2/155). .
2- قوله تعالى: الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ
- قولُه: الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ فيه إعادةُ اسمِ الموصولِ وما عُطِفَ عليه مِن الأسماءِ الموصولةِ؛ للدَّلالةِ على أنَّ صِلاتِها خِصالٌ عظيمةٌ تقْتَضي الاهتمامَ بذِكْرِ مَن اتَّصَفَ بها، ولدفْعِ تَوَهُّمِ أنَّ عُقْبى الدَّارِ لا تتحقَّقُ لهم إلَّا إذا جمَعوا كلَّ هذه الصِّفاتِ [370] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (13/126). .
- وجُملةُ وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ جُملةٌ توكيديَّةٌ لقولِه: يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ؛ لأنَّ العهدَ هو الميثاقُ، ويلزَمُ مِن إيفاءِ العهدِ انتفاءُ نَقيضِه [371] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (6/379). . وقيل: قولُه: وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ تعميمٌ بعد تخصيصٍ، وفيه تأْكيدٌ للاستمرارِ المفهومِ مِن صِيغَةِ المُستقبَلِ [372] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (2/525)، ((تفسير أبي السعود)) (5/17). ؛ فالميثاقُ يستغرِقُ جميعَ المَواثيقِ، وبذلك يكونُ أعمَّ مِن (عهدِ اللَّهِ)، فيشمَلُ المواثيقَ الحاصِلةَ بين النَّاسِ مِن عُهودٍ وأَيْمانٍ، وباعتبارِ هذا العُمومِ حصَلَت مُغايرةٌ ما بينه وبين عَهْدِ اللَّهِ، وتلك هي مُسَوِّغَةُ عطْفِ وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ على يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ مع حُصولِ التَّأْكيدِ لمعنى الأُولى بنَفْيِ ضِدِّها، وتعريضًا بالمُشركين؛ لاتِّصافِهم بضِدِّ ذلك الكَمالِ؛ فعطْفُ التَّأكيدِ باعتبارِ المُغايرةِ بالعُمومِ والخُصوصِ [373] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (13/126). .
3- قوله تعالى: وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ
- قولُه: وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ... فيه إطنابٌ في التَّعبيرِ عنِ الرَّحِمِ- على أحدِ القولينِ في التفسيرِ- بطريقةِ اسمِ الموصولِ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ؛ لِما في الصِّلةِ مِن التَّعريضِ بأنَّ واصِلَها آتٍ بما يُرْضي اللَّهَ؛ لينتَقِلَ مِن ذلك إلى التَّعريضِ بالمُشركين الَّذين قطَعوا أواصِرَ القَرابةِ بينهم وبين رَسولِ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ومَن معه مِن المؤمنين، وأساؤوا إليهم في كلِّ حالٍ، وكتَبوا صحيفةَ القَطيعَةِ مع بَني هاشمٍ [374] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (13/127). .
- قولُه: أَنْ يُوصَلَ جيءَ بهذا النَّظْمِ؛ لزيادةِ تقْريرِ المقصودِ- وهو الأرحامُ- بعد تقريرِه بالموصوليَّةِ [375] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (13/128). ، وذلك على أحدِ وجهي التفسيرِ. وقيل: قال: بِهِ أَنْ يُوصَلَ دونَ (بوَصلِه)؛ ليكونَ مأمورًا بوَصلِه مرَّتينِ، ويُفيدَ تجديدَ الوَصلِ- كُلَّما قطَعَه قاطِعٌ- على الاستمرارِ [376] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (10/329). .
4- قوله تعالى: وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ
- قولُه: وَالَّذِينَ صَبَرُوا لمَّا كان الصَّبرُ على الوجْهِ المذْكورِ مِلاكَ الأمرِ في كلِّ ما ذُكِرَ مِن الصِّلاتِ السَّابقةِ واللَّاحِقةِ: أُورِدَ على صِيغَةِ الماضي؛ اعتناءً بشأْنِه، ودلالةً على وُجوبِ تحقُّقِه؛ فإنَّ ذلك ممَّا لا بُدَّ منه؛ إمَّا في نفْسِ الصِّلاتِ، كما فيما عَدَا الأُولى والرَّابعةِ والخامسةِ، أو في إظهارِ أحكامِها، كما في الصِّلاتِ الثَّلاثِ المَذْكوراتِ؛ فإنَّها وإنِ استغْنَت عنِ الصَّبرِ في أنفُسِها حيث لا مَشَقَّةَ على النَّفْسِ في الاعترافِ بالرُّبوبيَّةِ والخشيَةِ والخوفِ، لكنْ إظهارُ أحكامِها والجرْيُ على مُوجبِها غيرُ خالٍ عنِ الاحتياجِ إليه [377] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (5/17). ، ففيه مجيءُ الصِّلَةِ هنا بلفْظِ الماضي، وفي المُوصِلين قبْلَ ذلك بلفْظِ المُضارِعِ في قولِه: الَّذِينَ يُوفُونَ، وَالَّذِينَ يَصِلُونَ، وما عُطِفَ عليهما؛ على سبيلِ التَّفنُّنِ في الفَصاحةِ؛ لأنَّ المُبتدأَ هنا في معنى اسمِ الشَّرطِ بالماضي كالمُضارِعِ في اسمِ الشَّرطِ، فكذلك فيما أشبَهَه، وأيضًا اختصاصُ هذه الصِّلةِ بالماضي وتَيْنِكَ بالمُضارِعِ؛ لأنَّ تَيْنِكَ الصِّلَتَيْنِ قُصِدَ بهما الاستصحابُ والالتباسُ دائمًا، وهذه الصِّلَةُ قُصِدَ بها تقدُّمُها على تَيْنِكَ الصِّلَتَيْنِ وما عُطِفَ عليهما؛ لأنَّ حُصولَ تلك الصِّلاتِ إنَّما هي مُترتِّبَةٌ على حُصولِ الصَّبرِ وتقدُّمِه عليها؛ ولذلك لم تأتِ صلتُه في القُرآنِ إلَّا بصِيغَةِ الماضي؛ إذ هو شَرطٌ في حُصولِ التَّكاليفِ وإيقاعِها. واللَّهُ أعلمُ [378] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (6/380). . وقيل: جاءتِ الصِّلاتُ الَّذِينَ يُوفُونَ وَالَّذِينَ يَصِلُونَ وما عُطِفَ عليهما بصيغةِ المُضارِعِ في تلك الأفعالِ الخمسةِ؛ لإفادةِ التَّجدُّدِ كِنايةً عنِ الاستمرارِ، وجاءت صِلَةُ وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وما عُطِفَ عليها- وهو وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا- بصيغةِ المُضِيِّ؛ لإفادةِ تحقُّقِ هذه الأفعالِ الثَّلاثةِ لهم وتمكُّنِها من أنفُسِهم؛ تنويهًا بها؛ لأنَّها أُصولٌ لفضائلِ الأعمالِ [379] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (13/128). .
- قولُه: صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ فيه احتِراسٌ، حيث انْتَفَى بقولِه: ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ أنْ يكونَ صبْرُهم ناشِئًا عن حُبِّ الجاهِ والشُّهرةِ، أو ليقالَ: ما أصبَرَه، وأحمَلَه للنَّوازِلِ، وأوْقَرَه عند الزَّلازلِ! لئلا يشمَتَ به الأعداءُ [380] يُنظر: ((إعراب القرآن وبيانه)) لدرويش (5/117). !
- في قولِه: وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً أفرَدَ الصَّلاةَ والزَّكاةَ بالذِّكرِ، وإن كانتا داخِلَتينِ في الجُملةِ الأولى؛ تنبيهًا على كونِهما أشرَفَ مِن سائِرِ العباداتِ [381] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (19/35). . وفيه وجهٌ آخرُ: أنَّه نبَّهَ على هاتينِ الخَصْلَتَيْنِ: العِبادةِ البَدَنيَّةِ، والعِبادةِ الماليَّةِ؛ إذ هما عَمودُ الدِّينِ، والصَّبرُ عليهما أعظَمُ صبْرٍ؛ لِتكرُّرِ الصَّلواتِ، ولِتعلُّقِ النُّفوسِ بحُبِّ تحصيلِ المالِ [382] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (6/380- 381). .
- قولُه: وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ فيه تقْديمُ المجرورِ بِالْحَسَنَةِ على المنْصوبِ السَّيِّئَةَ؛ لإظهارِ كَمالِ العِنايةِ بالحَسَنةِ [383] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (5/17). .
- وفيه إعادةُ أُسلوبِ التَّعبيرِ بالمُضارِعِ في المعطوفِ على الصِّلَةِ وهو قولُه: وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِالسَّيِّئَةَ؛ لاقتضاءِ المَقامِ إفادةَ التَّجدُّدِ؛ إيماءً إلى أنَّ تجدُّدَ هذا الدَّرْءِ ممَّا يُحْرَصُ عليه؛ لأنَّ النَّاسَ عُرْضَةٌ للسَّيِّئاتِ على تفاوُتٍ، فوصَفَ لهم دواءَ ذلك بأنْ يدْرَؤوا السَّيِّئاتِ بالحَسَناتِ [384] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (3/129). .
- قولُه: أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ دلَّ اسمُ الإشارةِ أُولَئِكَ على أنَّ المُشارَ إليهم جَديرونَ بالحُكْمِ الوارِدِ بعد اسمِ الإشارةِ؛ لأجْلِ ما وُصِفَ به المُشارُ إليهم مِن الأوصافِ [385] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (13/130). .
- وفي قولِه: لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ قُدِّمَ المجرورُ على المُبتدأِ؛ للدَّلالةِ على القصْرِ، أي: لهم عُقْبى الدَّارِ لا للمُتَّصِفينَ بأَضْدادِ صِفاتِهم، فهو قصْرٌ إضافيٌّ [386] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (13/130). .
5- قوله تعالى: جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ
- قولُه: يَدْخُلُونَهَا جُملةٌ حاليَّةٌ؛ وهي حالٌ مِن جَنَّاتُ، أو مِن ضميرِ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ، والمقصودُ مِن ذِكْرِها استحضارُ الحالةِ البَهيجَةِ [387] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (13/131). .
- قولُه: يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ وذِكْرُ مِنْ كُلِّ بَابٍ كِنايةٌ عن كثْرَةِ غِشْيانِ الملائكةِ إيَّاهم، بحيث لا يخْلو بابٌ مِن أبوابِ بيوتِهم لا تدخُلُ منه ملائكةٌ [388] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (13/132). .
6- قوله تعالى: سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ
- قولُه: سَلَامٌ عَلَيْكُمْ فيها بِشارةٌ بِدَوامِ السَّلامةِ [389] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (3/186). ؛ حيث عُبِّرَ بالجُملةِ الاسميَّةِ.
- قولُه: فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ تفريعُ ثناءٍ على حُسنِ عاقِبتِهم، والمخصوصُ بالمدْحِ محذوفٌ؛ لدلالةِ مَقامِ الخِطابِ عليه، والتَّقديرُ: فنِعْمَ عُقْبى الدَّارِ دارُ عُقْباكم [390] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (13/132). .