موسوعة التفسير

سورةُ مُحمَّدٍ
الآيات (20-24)

ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ

غريب الكلمات:

مُحْكَمَةٌ: أي: لا نَسْخَ فيها، أو مُحكَمةٌ بالبَيانِ والفرائِضِ، والمُحْكَمُ: ما لا يَعرِضُ فيه شُبهةٌ مِن حيثُ اللَّفظُ، ولا مِن حيثُ المعنى، وأصلُ (حكم): يدُلُّ على المَنعِ [354] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/210)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/91)، ((تفسير القرطبي)) (16/243). .
فَأَوْلَى لَهُمْ: قيل: هو أفعَلُ، مِنَ الوَلْيِ: وهو القُربُ، ومَعناه التَّوَعُّدُ والتَّهَدُّدُ، أي: وَلِيَهم المكروهُ، وقارَبهم ما يُهلِكُهم. وقيل: وَعيدٌ بمعنى: فوَيلٌ لهم، وأصلُ أَوْلى: أَوْيَلُ، مأخوذٌ مِنَ الوَيلِ، أي: أشَدُّ وَيلًا، فوقَعَ فيه قَلبٌ، وقيل غيرُ ذلك [355] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 411)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (6/141)، ((البسيط)) للواحدي (20/250)، ((المحكم والمحيط الأعظم)) لابن سِيدَه (10/458)، ((تفسير الزمخشري)) (4/324)، ((لسان العرب)) لابن منظور (15/411)، ((تاج العروس)) للزَّبِيدي (40/250)، ((تفسير ابن عاشور)) (26/109). .
عَزَمَ الْأَمْرُ: أي: جَدَّ الأمرُ وفُرِض القِتالُ، والعزمُ والعزيمةُ: عقْدُ القلبِ على إمضاءِ الأمرِ [356] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/212)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (4/308)، ((الهداية إلى بلوغ النهاية)) لمكي (11/6908)، ((الوجيز)) للواحدي (ص: 1003)، ((عمدة الحفاظ)) للسمين الحلبي (3/71)، ((تفسير الجلالين)) (ص: 675). .
فَهَلْ عَسَيْتُمْ: أي: لَعلَّكم، يُقالُ: عسَى زَيدٌ أنْ يخرُجَ، أي: لَعَلَّه يَخرُجُ، وعسَى كلمةُ تَرَجٍّ، تقولُ: عسَى يكونُ كذا. وهي تدُلُّ على قُربٍ وإمكانٍ، فهي لِمُقارَبةِ الأمرِ على سبيلِ الرَّجاءِ والطَّمعِ، أي: لِتَوقُّعِ حُصولِ ما لم يَحصُلْ، سواءٌ يُرْجَى حُصولُه عن قريبٍ أو بعدَ مُدَّةٍ مديدةٍ [357] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/213)، ((معاني القرآن وإعرابه)) للزجاج (5/13)، ((المفردات في غريب القرآن)) للراغب (ص: 566)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 635). قال ابنُ المُظَفَّرِ الرَّازيُّ: (لقائلٍ أن يقولَ: كيف دخلَتْ «هلْ» وهي مِن حروفِ الاستِفهامِ على «عسى» وهي مِن أفعالِ التَّرجِّي، وهو مُفَسَّرٌ بـ «لَعَلَّ»؟ وهل يُقالُ: هل لَعلَّك تَزورُني؟! ثمَّ كيف قال: إنْ أعرَضْتُم أن تُفسِدوا؟ وهل يقالُ: إن زُرْتَني أن أُكرِمَك؟ والجواب: أنَّ «هلْ» مِن حروفِ الاستِفهامِ، ولكنَّه هاهنا استِفهامُ التَّقريرِ؛ لأنَّه مِن الله تعالى. و«عسى» و«لَعلَّ» مِن اللهِ تعالى واجِبانِ، وأمَّا «إن أعرَضْتُم أن تُفسِدوا» فعلى الإضمارِ، يعني: إن أعرَضْتُم يكونُ حالُكم أن تُفسِدوا، وإن وليتُم أمرَ النَّاسِ يكونُ حالُكم أن تَقطَعوا أرحامَكم. ويجوزُ أن يكونَ على التَّقديمِ والتَّأخيرِ، تقديرُه: فهل عسَيْتُم أن تُفسِدوا في الأرضِ إن تَوَلَّيْتُم. ويجوزُ أن يُقالَ: عسى أن تَسُرَّني إن زُرْتَني. وإذا كانت «هلْ» استِفهامَ تقريرٍ هاهنا، و«عسى» مِن الله واجبًا؛ يكونُ المعنى -واللهُ أعلَمُ: إنَّكم إن تَولَّيْتُم عن القرآنِ والعمَلِ به تُفسِدوا في الأرضِ، أو إنَّكم إن وليتُم أمْرَ النَّاسِ تُفسِدوا في الأرضِ وتُقَطِّعوا أرحامَكم). ((مباحث التفسير)) (ص: 280). .
 أَرْحَامَكُمْ: أي: ذَوِي قراباتِكم، والرَّحِمُ هو النَّسَبُ والاتِّصالُ الَّذِي يَجمَعُه رحِمُ والِدَةٍ فسُمِّيَ باسمِه، وأصلُ (رحم): يدُلُّ على الرِّقَّةِ والعَطفِ والرَّأفةِ؛ سُمِّيَ به رَحِمُ المرأةِ؛ لأنَّ منه يكونُ ما يُرحَمُ ويُرَقُّ له مِن وَلَدٍ [358] يُنظر: ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 53)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/498)، ((مشارق الأنوار)) للقاضي عياض (1/286)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 161). .
لَعَنَهُمُ: أي: أخْزاهم وأبْعَدَهم وطَرَدَهم مِن رَحمتِه، وأصلُ اللَّعْنِ: يدُلُّ على الطَّردِ والإبعادِ [359] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (7/148)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/252)، ((المفردات)) للراغب (ص: 741). .

مشكل الإعراب:

قَولُه تعالى: فَأَوْلَى لَهُمْ * طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ
(أَولَى): فيه عِدَّةُ أوجُهٍ:
أحَدُها: أنَّه مُبتدَأٌ مَرفوعٌ. ولَهُمْ: جارٌّ ومجرورٌ مُتعَلِّقٌ بمَحذوفٍ خبَرٌ، وهي كَلِمةُ تهديدٍ ووعيدٍ، أي: فوَيلٌ لهم، أو الهلاكُ لهم، وسَوَّغ الابتِداءَ بالنَّكرةِ كَوْنُه دُعاءً.
الثَّاني: أنَّ (أَولَى) خبرٌ لِمُبتدأٍ محذوفٍ، تقديرُه: فالعِقابُ أو الهلاكُ أَولى لهم، أي: أقرَبُ وأَدنى.
الثَّالِثُ: أنَّ (أَولَى): مُبتدأٌ. ولَهُمْ مُتعَلِّقٌ به، واللَّامُ بمعنى الباءِ. وطَاعَةٌ في الآيةِ التَّاليةِ خبَرٌ عنه، والتَّقديرُ: أَولَى بهم طاعةٌ دونَ غَيرِها.
الرَّابعُ: أنَّ (أَولَى): فِعلٌ ماضٍ، وفاعِلُه مُضمَرٌ يدُلُّ عليه السِّياقُ، أي: قارَبَهم ووَلِيَهم ما يُهلِكُهم، واللَّامُ في لَهُمْ زائِدةٌ في المفعولِ.
الخامِسُ: أنَّه فِعلٌ ماضٍ، وفاعِلُه ضَميرُ اللهِ عزَّ وجلَّ، واللَّامُ مَزيدةٌ في المفعولِ الأوَّلِ، والمفعولُ الثَّاني محذوفٌ، والتَّقديرُ: أَوْلاهم اللهُ تعالى ما يَكرَهونَ. أو اللَّامُ غيرُ مَزيدةٍ، والمفعولُ محذوفٌ، والتَّقديرُ: أدنَى اللهُ عزَّ وجلَّ الهلاكَ لهم، وجملةُ فَأَوْلَى لَهُمْ استِئنافيَّةٌ لا محلَّ لها مِنَ الإعرابِ.
طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ
في رَفعِ طَاعَةٌ عِدَّةُ أوجُهٍ:
 أحَدُها: أنَّها خَبَرُ المُبتدَأِ (أَولَى) على ما تَقدَّمَ، وعلى هذا الوَجهِ فهي مِن تمامِ ما قَبْلَها؛ فلا يُوقَفُ على لَهُمْ.
 الثَّاني: أنَّها مُبتدَأٌ. وَقَوْلٌ: مَعطوفٌ مَرفوعٌ مِثلُه، والخبَرُ مَحذوفٌ، أي: طاعةٌ وقَولٌ مَعروفٌ أمثَلُ لكم مِن غَيرِهما.
الثَّالِثُ: أنَّها خبَرُ مُبتدأٍ محذوفٍ، أي: أمْرُنا طاعةٌ. وعلى هذينِ الوَجهَينِ فهو كلامٌ مُستَقِلٌّ مُستأنَفٌ محذوفٌ منه أحَدُ الجُزأَينِ؛ فيُوقَفُ على لَهُمْ، وهو قَولُ الأكثَرِينَ [360] يُنظر: ((معاني القرآن وإعرابه)) للزجاج (5/12)، ((إعراب القرآن)) للنحاس (4/123)، ((مشكل إعراب القرآن)) لمكي (2/673)، ((تفسير أبي حيان)) (8/81)، ((الدر المصون)) للسمين الحلبي (9/698-700)، ((تفسير الألوسي)) (13/223)، ((تفسير ابن عاشور)) (26/108). .

المعنى الإجمالي:

يخبِرُ الله سبحانَه عن تمنِّي المؤمنينَ نزولَ سورةٍ، وحالِ المنافِقينَ إذا دُعُوا للقتالِ والجهادِ في سبيلِ الله، فيقولُ: ويقولُ الَّذين آمَنوا: هلَّا أنزَل اللهُ على رَسولِه سُورةً؛ اشتياقًا منهم لِنُزولِ الوَحيِ، فإذا أَنزَلَ اللهُ سُورةً مُحكَمةً، وأوجَبَ فيها قِتالَ الكُفَّارِ؛ رأيتَ -يا محمَّدُ- المُنافِقينَ الَّذين في قُلوبِهم مَرَضُ الشَّكِّ والنِّفاقِ يَنظُرونَ إليك نَظَرَ الَّذي غُشِيَ عليه مِن الموتِ؛ لِجُبْنِهم وكَراهِيَتِهم للجِهادِ.
ثمَّ يَتوعَّدُهم الله تعالى ويُهدِّدُهم، فيقولُ: فأوْلَى لهم. لو أطاعونا، وقالوا قولًا معروفًا، كان أمْثَلَ وأحسَنَ، فإذا وَجَب القِتالُ فلو أنَّ المُنافِقينَ صَدَقوا اللهَ في الإيمانِ والجهادِ لَكان صِدقُهم خَيرًا لهم.
ثمَّ يُبيِّنُ الله سبحانَه حالَ المتولِّي عن طاعةِ ربِّه، وما يُتوقَّعُ منه، فيقولُ: فهل يُتوقَّعُ منكم إن أعرَضْتُم عن الحَقِّ وترَكْتُم الجِهادَ إلَّا أن تَرجِعوا إلى ما كُنتُم عليه في الجاهِليَّةِ مِن الإفسادِ في الأرضِ، وقَطعِ الأرحامِ؟ أُولئِك المُفسِدونَ في الأرضِ المُقَطِّعونَ لأرحامِهم هم الَّذين طرَدَهم اللهُ مِن رَحمتِه، فأصَمَّهم فلا يَسمَعونَ سَماعًا يَنتَفِعونَ به، وأعماهم عن رُؤيةِ الحَقِّ.
ثمَّ يأمُرُ الله تعالى بتدبُّرِ القرآنِ وتفهُّمِه، ويَنهَى عن الإعراضِ عنه، فيقولُ: أفلا يَتدَبَّرُ هؤلاءِ المُنافِقونَ القُرآنَ، أم أقفَلَ اللهُ قُلوبَهم؟!

تفسير الآيات:

وَيَقُولُ الَّذِينَ آَمَنُوا لَوْلَا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ (20).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّه لَمَّا بيَّن اللهُ تعالى حالَ المُنافِقِ والكافِرِ والمُهتَدي المُؤمِنِ عندَ استِماعِ الآياتِ العِلميَّةِ مِن التَّوحيدِ والحَشرِ وغيرِهما بقَولِه: وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ [محمد: 16] ، وقَولِه وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى [محمد: 17] ؛ بيَّن حالَهم في الآياتِ العمَليَّةِ [361] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (28/53). .
وأيضًا لَمَّا جَرى في هذه السُّورةِ وَصفُ حالِ المُنافِقين؛ أُعقِبَ ذلك بوَصفٍ أجْلَى مَظاهِرَ نِفاقِهم، وذلك حينَ يُدْعَى المُسلِمونَ إلى الجهادِ [362] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/106). .
وَيَقُولُ الَّذِينَ آَمَنُوا لَوْلَا نُزِّلَتْ سُورَةٌ.
أي: ويقولُ الَّذين آمَنوا: هلَّا أنزَل اللهُ على رَسولِه سُورةً؛ اشتياقًا منهم لِنُزولِ الوَحيِ، وحِرصًا مِنهم على العَمَلِ بما فيه [363] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/209)، ((تفسير القرطبي)) (16/243)، ((تفسير ابن كثير)) (7/317)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (18/236)، ((تفسير ابن عاشور)) (26/107). .
فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ.
أي: فإذا أَنزَلَ اللهُ سُورةً مُحكَمةً [364] قيل: المرادُ: مُحكَمةٌ بالبَيانِ والفرائِضِ. وممَّن قال بهذا: ابنُ جرير، ومكِّي. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/209)، ((الهداية إلى بلوغ النهاية)) لمكي (11/6906). وقيل: مُحكَمةٌ: غيرُ مَنسوخةٍ. وممَّن ذهب إلى هذا المعنى: الزَّجَّاجُ، والواحديُّ، وابنُ عطية، والقرطبي، والشوكاني. يُنظر: ((معاني القرآن وإعرابه)) للزجاج (5/12)، ((الوجيز)) للواحدي (ص: 1003)، ((تفسير ابن عطية)) (5/117)، ((تفسير القرطبي)) (16/243)، ((تفسير الشوكاني)) (5/45). قال ابنُ عطية: (أمَّا الإحكامُ الَّذي هو بمعنى الإتقانِ، فالقُرآنُ فيه كُلُّه سَواءٌ). ((تفسير ابن عطية)) (5/117). وقيل: مُحكَمةٌ: مُبَيَّنةٌ لا تَشابُهَ فيها. وممَّن ذهب إلى هذا المعنى: البَيْضاويُّ، والنَّسَفيُّ. يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (5/123)، ((تفسير النسفي)) (3/327). قال ابنُ عاشور: (وَصْفُ السُّورةِ بـ مُحْكَمَةٌ باعتبارِ وَصفِ آياتِها بالإحكامِ، أي: عَدَمِ التَّشابُهِ، وانتفاءِ الاحتِمالِ، كما دَلَّت عليه مُقابَلةُ المُحكَماتِ بالمُتشابِهاتِ في قَولِه تعالى: مِنْهُ آَيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ [آل عمران: 7] ، أي: لا تَحتمِلُ آياتُ تلك السُّورةِ المُتعلِّقةُ بالقِتالِ إلَّا وُجوبَ القِتالِ، وعَدَمَ الهَوادةِ فيه). ((تفسير ابن عاشور)) (26/107). ويُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/324). وقيل: المرادُ: السُّورةُ الَّتي يُذكَرُ فيها الحَلالُ والحرامُ. وممَّن ذهَب إلى هذا المعنى: مقاتلُ بنُ سُلَيمانَ، والسمرقنديُّ. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/48)، ((تفسير السمرقندي)) (3/302). ويُنظر أيضًا: ((تفسير الماوردي)) (5/300). وقال القاسمي: (مُحْكَمَةٌ أي: مُبيَّنةٌ، لا تَقْبَلُ نَسخًا ولا تأويلًا). ((تفسير القاسمي)) (8/473). ويُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (18/236). وقال الشنقيطي: (أي: مُتقَنةُ الألفاظِ والمعاني، واضِحةُ الدَّلالةِ، لا نَسْخَ فيها). ((أضواء البيان)) (7/255). وقال السعدي: (فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ أي: مُلزَمٌ العمَلُ بها). ((تفسير السعدي)) (ص: 788). ، وأوجَبَ فيها قِتالَ الكُفَّارِ؛ رأيتَ المُنافِقينَ الَّذين في قُلوبِهم مَرَضُ الشَّكِّ والنِّفاقِ -يا محمَّدُ- يَنظُرونَ إليك بتحديقٍ شديدٍ، كنَظَرِ المحتضَرِ الَّذي شخَص بصَرُه عندَ الموتِ فلا يَطرِفُ [365] ممَّن ذهب إلى هذا المعنى المذكورِ في الجملةِ: ابنُ قُتَيْبةَ، والسمرقنديُّ، والسمعاني، والبغوي، والقرطبي، والبِقاعي، والشوكاني، والقاسمي، وابنُ عاشور. يُنظر: ((تأويل مشكل القرآن)) لابن قتيبة (ص: 238)، ((تفسير السمرقندي)) (3/302)، ((تفسير السمعاني)) (5/180)، ((تفسير البغوي)) (4/216)، ((تفسير القرطبي)) (16/243)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (18/237)، ((تفسير الشوكاني)) (5/45)، ((تفسير القاسمي)) (8/474)، ((تفسير ابن عاشور)) (26/108). وقال ابن جرير: (يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ الَّذي قد صُرِع، وإنَّما عَنَى بقولِه: مِنَ الْمَوْتِ: مِن خَوْفِ الموتِ). ((تفسير ابن جرير)) (21/210). ؛ وذلك لِجُبْنِهم وخَوفِهم وكَراهِيَتِهم للجِهادِ [366] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/209، 210)، ((الوجيز)) للواحدي (ص: 1003)، ((تفسير القرطبي)) (16/243)، ((تفسير أبي حيان)) (9/470)، ((تفسير ابن كثير)) (7/317)، ((تفسير السعدي)) (ص: 788)، ((تفسير ابن عاشور)) (26/107، 108)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/255، 256). .
كما قال تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآَخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا [النساء: 77] .
وقال سُبحانَه: فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا [الأحزاب: 19] .
فَأَوْلَى لَهُمْ.
أي: يقولُ اللهُ تعالى لأولئك المُنافِقينَ مُحَذِّرًا ومُهَدِّدِّا لهم: فأوْلَى لهم [367] ممَّن ذهب إلى أنَّ المرادَ بها وعيدٌ وتهديدٌ: ابنُ قُتَيْبةَ، وابنُ جرير، والزَّجَّاجُ، وابنُ أبي زَمَنين، والزمخشري، وابن تيميَّة، والبِقاعي. يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 411)، ((تفسير ابن جرير)) (21/211)، ((معاني القرآن وإعرابه)) للزجاج (5/12)، ((تفسير ابن أبي زمنين)) (4/242)، ((تفسير الزمخشري)) (4/324)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (13/54) وَ (28/438)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (18/237، 238). وممَّن قال بهذا القولِ مِن السَّلفِ: قَتادةُ، وابنُ جُرَيجٍ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/211)، ((الدر المنثور)) للسيوطي (7/496). وقيل: الكَلامُ تمَّ عندَ قولِه: فَأَوْلَى، وهو تهديدٌ...، ثمَّ ابتَدَأ فقال: لَهُمْ * طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ، قال الواحِديُّ عن هذا القولِ: (هو القَولُ الحَسَنُ الَّذي يُعرَفُ حُسنُه وصِحَّتُه، ويجوزُ على هذا القولِ أن يكونَ المعنى: لِلمُنافِقينَ طاعةٌ وقَولٌ مَعروفٌ باللِّسانِ، فإذا جَدَّ الأمرُ تبيَّن كَذِبُهم فيما قالوا، بقُعودِهم عن نُصرةِ النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم، يدُلُّ على صحَّةِ هذا سياقُ الآيةِ فيما بَعْدُ). ((البسيط)) (20/251). وقال ابنُ سِيْدَه: (قولُه تعالى أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى [القيامة: 34] معناه: التَّوَعُّدُ والتَّهَدُّدُ، أي: الشَّرُّ أقرَبُ إليك. وقال ثعلبٌ: معناه: دَنَوتَ مِن الهَلَكةِ. وكذلك قَولُه: فَأَوْلَى لَهُمْ، أي: وَلِيَهم المكروهُ، وهو اسمٌ لِدَنَوتَ أو قارَبْتَ). ((المحكم)) (10/458). وقال الزمخشري: (فَأَوْلَى لَهُمْ وعيدٌ بمعنى: فوَيلٌ لهم، وهو أفعَلُ: مِنَ الوَلْيِ، وهو القُربُ، ومعناه: الدُّعاءُ عليهم بأنْ يَلِيَهم المكروهُ). ((تفسير الزمخشري)) (4/324). وقال الواحدي: (قال الأصمعيُّ: معنى قولِهم في التَّهديد: أَوْلى لك: وَلِيَك وقارَبَك ما تَكرَهُ... قال ثعلبٌ: ولم يَقُلْ أحدٌ في أَوْلَى لَكَ أحسَنَ ممَّا قال الأصمعيُّ. وأبو إسحاقَ -يعني: الزَّجَّاجَ- يختارُ هذا القولَ، ويقولُ: المعنى: وَلِيَهم المكروهُ). ((البسيط)) (20/249). ويُنظر: ((معاني القرآن وإعرابه)) للزجاج (5/12). وقال ابن تيميَّة: (... فَأَوْلَى لَهُمْ أي: فبُعْدًا لهم). ((مجموع الفتاوى)) (28/438). وقال البِقاعي: (فَأَوْلَى أي: أشَدُّ مَيلٍ ووَيلٍ وانتِكاسٍ وعِثارٍ مُوقِعٍ لهم في الهَلَكةِ: كائِنٌ لَهُمْ، أي: خاصٌّ بهم). ((نظم الدرر)) (18/238). وقيل: المرادُ: كان الأَوْلى بهم أن يَسمَعوا ويُطيعوا ويَمتَثِلوا ما أوجَبَه اللهُ عليهم مِنَ الطَّاعاتِ في الوَقتِ الرَّاهِنِ. وممَّن ذهب إلى هذا المعنى: ابنُ كثير، والسعديُّ. يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (7/317)، ((تفسير السعدي)) (ص: 788). قال السعدي: (أي: فأَوْلى لهم أن يَمتَثِلوا الأمرَ الحاضِرَ المحتَّمَ عليهم، ويُجمِعوا عليه هِمَمَهم، ولا يَطلُبوا أن يُشْرَعَ لهم ما هو شاقٌّ عليهم، ولْيَفرَحوا بعافيةِ الله تعالى وعَفْوِه). ((تفسير السعدي)) (ص: 788). وعلى هذا القولِ فهذه الجملةُ فَأَوْلَى لَهُمْ متَّصِلةٌ بما بعدَها، واللَّامُ في قولِه: لَهُمْ بمعنَى الباءِ، أي: الطَّاعةُ أولَى وألْيقُ بهم، وأحقُّ لهم مِنْ تركِ امتثالِ أمرِ اللهِ. يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (16/244). .
طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ (21).
طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ.
أي: لو أطاعونا، وقالوا قولًا معروفًا؛ كان أمْثَلَ وأحسَنَ [368] قال الرَّسْعَنيُّ: (قال تعالى: طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ قال الخليلُ وسِيبَويهِ: المعنى: طاعةٌ وقولٌ معروفٌ أمْثَلُ. وقيل: هذا حكايةُ قولِهم، أي: قالوا طاعةٌ، أي: أمْرُنا طاعةٌ وقولٌ معروفٌ...، وذكَر بعضُ المفسِّرينَ أنَّه متَّصِلٌ بما قبْلَه. والمعنى: فأولَى لهم أن يُطيعوا، وأنْ يَقولوا معروفًا). ((تفسير الرسعني)) (7/266). ممَّن اختار القولَ الأوَّلَ: أي: أنَّ اللهَ تعالى قال: لو أطاعونا وقالوا قَولًا معروفًا، كان أمْثَلَ وأحسَنَ: الواحديُّ، والبغوي، والزمخشري، والقرطبي، والعُلَيمي. يُنظر: ((الوسيط)) للواحدي (4/126)، ((تفسير البغوي)) (4/216)، ((تفسير الزمخشري)) (4/324)، ((تفسير القرطبي)) (16/244)، ((تفسير العليمي)) (6/319). ويُنظر أيضًا: ((الكتاب)) لسيبويه (2/136)، ((بدائع الفوائد)) لابن القيم (2/150)، ((تفسير الشوكاني)) (5/46). وممَّن اختار القولَ الثَّانيَ؛ أنَّ هذا حكايةُ قولِهم: ابنُ جرير، والثعلبيُّ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/211)، ((تفسير الثعلبي)) (9/35). قال ابن جرير: (قَولُه: طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ وهذا خبرٌ مِن الله -تَعالى ذِكرُه- عن قِيلِ هؤلاء المنافِقينَ مِن قبْلِ أنْ تَنزِلَ سورةٌ مُحكَمةٌ ويُذكَرَ فيها القتالُ، وأنَّهم إذا قيل لهم: إنَّ الله مُفتَرِضٌ عليكم الجهادَ، قالوا: سمْعٌ وطاعةٌ. فقال اللهُ عزَّ وجلَّ لهم: فإذا أُنزِلَتْ سورةٌ، وفُرِضَ القتالُ فيها عليهم، فشَقَّ ذلك عليهم وكَرِهوه- طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ، قبْلَ وُجوبِ الفرْض عليكم، فإذا عَزَم الأمرُ كَرِهْتُموه وشَقَّ عليكم). ((تفسير ابن جرير)) (21/211). والقولُ الثَّالثُ -وهو أنَّ المعنى: أولَى لهم أن يُطيعوا، وأنْ يَقولوا معروفًا- تقدَّمتِ الإشارةُ إليه في الآيةِ السَّابقةِ. يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (7/317)، ((تفسير السعدي)) (ص: 788). قال الواحدي: (يجوزُ أن يكونَ هذا متَّصِلًا بما قبْلَه، على معنى: فأَوْلى لهم طاعةُ الله ورسولِه، وقولٌ معروفٌ بالإجابةِ، أي: لو أطاعوا كانت الطَّاعةُ والإجابةُ أَوْلى لهم. وهذا معنى قولِ ابنِ عبَّاسٍ في روايةِ عَطاءٍ، واختيارُ الكِسائيِّ). ((الوسيط)) (4/126). .
فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ.
أي: فلو أنَّ المُنافِقينَ إذا وَجَب القِتالُ وحَضَر وَقتُه، صَدَقوا اللهَ في إيمانِهم وجهادِهم؛ لَكان صِدقُهم خَيرًا لهم في دُنياهم وأُخراهم [369] يُنظر: ((الوسيط)) للواحدي (4/126)، ((تفسير القرطبي)) (16/244)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (18/239)، ((تفسير ابن عاشور)) (26/110، 111). قال ابن جُزَي: (صَدَقُوا اللَّهَ يحتملُ أن يُريدَ صِدقَ اللِّسانِ، أو صِدقَ العَزمِ والنِّيَّةِ وهو أظهَرُ). ((تفسير ابن جزي)) (2/283). .
كما قال تعالى: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُلْ لَا تُقْسِمُوا طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [النور: 53] .
وقال سُبحانَه: وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا * وَإِذًا لَآَتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا * وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا * وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا [النساء: 66 - 69] .
ثمَّ ذَكر تعالى حالَ المُتوَلِّي عن طاعةِ ربِّه، وأنَّه لا يَتولَّى إلى خَيرٍ، بل إلى شرٍّ، فقال [370] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 788). :
فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ (22).
القِراءاتُ ذاتُ الأَثَرِ في التَّفسيرِ:
1- قِراءةُ تُوُلِّيتُمْ بضَمِّ التَّاءِ والواوِ، وكَسرِ اللَّامِ المشَدَّدةِ، مبنيًّا للمَفعولِ، مِنَ الوِلايةِ، قيل: معناها: إنْ توَلَّاكم وُلاةُ جَورٍ تحَرَّكتُم معهم في الفِتنةِ، وعاوَنتُموهم على ظُلمِهم. وقيل: معناها: إنْ وَلَّيتُكم أُمورَ النَّاسِ [371] قرأ بها رُوَيسٌ عن يعقوبَ. يُنظر: ((النشر)) لابن الجزري (2/374)، ((البدور الزاهرة)) لعبد الفتاح القاضي (ص: 297). ويُنظر لمعنى هذه القراءةِ: ((معاني القراءات)) للأزهري (2/388)، ((المحتسب)) لابن جِنِّي (2/272)، ((الدر المصون)) للسمين الحلبي (9/701). .
2- قِراءةُ تَوَلَّيْتُمْ قيل: معناها: مِنَ الإعراضِ، أي: إن أعرَضتُم عن الحَقِّ. وقيل: معناها: مِنَ الوِلايةِ، أي: إنْ توَلَّيتُم أمورَ النَّاسِ، ووَلِيتُم أعمالَهم [372] قرأ بها الباقون. يُنظر: ((النشر)) لابن الجزري (2/374). ويُنظر لمعنى هذه القراءةِ: ((معاني القراءات)) للأزهري (2/388)، ((الدر المصون)) للسمين (9/701)، ((إتحاف فضلاء البشر)) للبناء (ص: 507). .
فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ (22).
أي: فهل يُتوقَّعُ منكم ويُنتَظَرُ -إن أعرَضْتُم عن الحَقِّ، وترَكتُم الجِهادَ- إلا الإفسادُ في الأرضِ -بالكفرِ والمعاصي وسفْكِ الدِّماءِ-، وقطيعةُ الأرحامِ، والعودةُ إلى ما كنتُم فيه مِن الجاهليَّةِ [373] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/213)، ((تفسير أبي حيان)) (9/472)، ((التبيان)) لابن القيم (ص: 127)، ((تفسير ابن كثير)) (7/317، 318)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (18/240-242)، ((تفسير ابن عاشور)) (26/112). قال السمعانيُّ: (قَولُه تعالى: فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ فيه قولانِ: أحدُهما: إن تولَّيتُم ولايةً، أي: كانت لكم ولايةٌ. والثَّاني: إن تولَّيتُم عن الإيمانِ بالرَّسولِ وبالقُرآنِ؛ أي: أعرَضْتُم، فهل يكونُ منكم سِوى أن تُفسِدوا في الأرضِ، وتقطِّعوا أرحامَكم؟ وقيل على القولِ الأوَّلِ: إنَّه قد كان هذا في صدرِ الإسلامِ؛ فإنَّ قُرَيْشًا لَمَّا توَلَّوُا الأمرَ أفسَدوا في الأرضِ وقَطَّعوا الأرحامَ). ((تفسير السمعاني)) (5/181). ممَّن اختار أنَّ التَّولِّيَ بمعنى الإعراضِ: ابنُ جرير، والواحديُّ، والبغوي، وابن عطية، وابن القيِّم، وابن كثير، والبِقاعي، والسعدي، وابن عاشور. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/213)، ((الوسيط)) للواحدي (4/126)، ((تفسير البغوي)) (4/216)، ((تفسير ابن عطية)) (5/118)، ((التبيان)) لابن القيم (ص: 127)، ((تفسير ابن كثير)) (7/317)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (18/240)، ((تفسير السعدي)) (ص: 788)، ((تفسير ابن عاشور)) (26/112). وممَّن اختار أنَّ المعنى: صِرتُم وُلاةً: ابنُ جُزَي، والعُلَيْمي. يُنظر: ((تفسير ابن جزي)) (2/283)، ((تفسير العليمي)) (6/320). ؟!
عن أبي هُرَيرةَ رَضِي اللهُ عنه، عن النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم قال: ((خَلَق اللهُ الخَلْقَ، فلمَّا فَرَغ منه قامَت الرَّحِمُ فأخَذَت بحَقْوِ [374] الحَقْوُ: مَعقِدُ الإزارِ. يُنظر: ((فتح الباري)) لابن حجر (8/580). قال ابنُ تيميَّةَ: (هذا الحديثُ في الجملةِ مِن أحاديثِ الصِّفاتِ الَّتي نصَّ الأئمَّةُ على أنَّه يُمَرُّ كما جاء، ورَدُّوا على مَن نفَى مُوجَبَه). ((بيان تلبيس الجهمية)) (6/222). الرَّحمنِ، فقال له: مَهْ [375] مَهْ: اسمُ فِعلٍ معناه الزَّجرُ، أي: اكفُفْ وانزَجِرْ. وقيل: هي هنا ما الاستِفهاميَّةُ، حُذِفَت ألِفُها، ووُقِفَ عليها بهاءِ السَّكْتِ، والشَّائِعُ ألَّا يُفعَلَ ذلك إلَّا وهي مجرورةٌ، لكِنْ قد سُمِعَ مِثلُ ذلك. يُنظر: ((فتح الباري)) لابن حجر (8/580). ، قالت: هذا مَقامُ العائِذِ [376] العائِذِ: أي: المُستَجيرِ. يُنظر: ((شرح القَسْطَلَّاني)) (7/343). بكَ مِن القَطيعةِ، قال: ألَا تَرضَينَ أن أصِلَ مَن وَصَلَكِ، وأقطَعَ مَن قَطَعَكِ؟ قالت: بلى يا رَبِّ، قال: فذَاكِ. قال أبو هُرَيرةَ: اقرَؤوا إنْ شِئتُم: فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ)) [377] رواه البخاري (4830) واللَّفظُ له، ومسلم (2554). .
أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ (23).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا بيَّن لهم ما يكونُ ممَّن تَثاقَلَ عن أمرِ اللهِ؛ بيَّن حالَهمُ الَّذي أنتجَ لهم ذلك، فقال [378] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (18/242). :
أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ.
أي: أُولئِك المُفسِدونَ في الأرضِ المُقَطِّعونَ لأرحامِهم هم الَّذين طرَدَهم اللهُ، وأبْعَدَهم مِن رَحمتِه [379] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/215)، ((تفسير القرطبي)) (16/246)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (18/242)، ((تفسير السعدي)) (ص: 788). .
كما قال تعالى: أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ * الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالْآَخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ [هود: 18، 19].
وعن جُبَيرِ بنِ مُطعِمٍ رَضِيَ اللهُ عنه، أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم قال: ((لا يَدخُلُ الجَنَّةَ قاطِعُ رَحِمٍ )) [380] رواه البخاري (5984)، ومسلم (2556) واللَّفظُ له. .
وعن أبي بَكْرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: قال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((ما مِن ذَنْبٍ أجدَرُ أن يُعَجِّلَ اللهُ لِصاحِبِه العُقوبةَ في الدُّنيا مع ما يَدَّخِرُ له في الآخِرةِ: مِنَ البَغيِ وقَطيعةِ الرَّحِمِ )) [381] أخرجه أبو داودَ (4902)، وأحمدُ (20398) باختلافٍ يسيرٍ، والترمذيُّ (2511)، وابنُ ماجه (4211) واللَّفظُ لهما. قال الترمذيُّ: (حسَنٌ صَحيحٌ). وصحَّحه الألبانيُّ في ((صحيح سنن ابن ماجه)) (4211)، وصحَّح إسنادَه الحاكِمُ في ((المستدرك)) (3359)، وشُعيبٌ الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (34/40). .
وعن عَليِّ بنِ أبي طالبٍ رَضِي اللهُ عنه، أنَّ النَّبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم قال: ((لَعَنَ اللهُ مَن لَعَن والِدَه، ولَعَن اللهُ مَن ذَبَح لِغَيرِ اللهِ، ولَعَن اللهُ مَن آوَى مُحْدِثًا [382] آوى مُحْدِثًا: وهو الَّذي جنَى على غيرِه جنايةً، وإيواؤُه إجارتُه مِن خصمِه، والحيلولةُ بيْنَه وبيْنَ ما يحِقُّ استيفاؤُه. يُنظر: ((شرح المشكاة)) للطِّيبي (9/2805). ، ولَعَن اللهُ مَن غَيَّرَ مَنارَ الأرضِ [383] غَيَّر مَنارَ الأرضِ: المَنارُ: العَلَمُ والحدُّ بيْنَ الأرْضَينِ، وذلك بأن يُسوِّيَه أو يُغيِّرَه؛ لِيَستبيحَ بذلك ما ليس له بحقٍّ مِن ملكٍ أو طريقٍ. يُنظر: ((كشف المُشْكِل من حديث الصحيحين)) لابن الجوزي (1/204)، ((شرح المشكاة)) للطِّيبي (9/2805). ) [384] رواه مسلم (1978). .
فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ.
أي: فسَلَبَهم اللهُ القُدرةَ على سَماعِ الحَقِّ سَماعًا يَنتَفِعونَ به، وسَلَبَهم اللهُ القُدرةَ على رُؤيةِ الحَقِّ على وَجهٍ يَنتَفِعونَ به [385] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/215)، ((تفسير القرطبي)) (16/246)، ((تفسير السعدي)) (ص: 788). .
كما قال تعالى: وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آَذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ [الأعراف: 179].
وقال سُبحانَه: وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ * إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ * وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ [الأنفال: 21 - 23] .
أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا (24).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
بعدَ أنْ ذَكر أنَّ أولئك المُنافِقين أبْعَدَهم اللهُ عن الخَيرِ، فأصَمَّهم فلم يَنتفِعوا بما سَمِعوا، وأعْمى أبْصارَهم فلم يَستَفيدوا بما أبصَروا - بيَّنَ أنَّ حالَهم دائرةٌ بيْنَ أمْرَينِ: إمَّا أنَّهم لا يَتدبَّرونَ القُرآنَ إذا وَصَل إلى قُلوبِهم، أو أنَّهم يَتدبَّرون ولكنْ لا تَدخُلُ مَعانيه فى قُلوبِهم لِكَونِها مُقفَلةً [386] يُنظر: ((تفسير المراغي)) (26/68). .
أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا (24).
أي: أفلا يَتدبَّرُ القرآنَ هؤلاءِ المعرِضونَ، ويَتفهَّمونَه، ويَتأمَّلونَه حقَّ التَّأمُّلِ، بل أقفَلَ اللهُ قُلوبَهم، فلا قُدرةَ لهم على أن يَعقِلوا بها، فهي مُطْبَقةٌ لا يَخلُصُ إليها شَيءٌ مِن معانيه [387] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/215)، ((تفسير القرطبي)) (16/246، 247)، ((شفاء العليل)) لابن القيم (ص: 95، 96)، ((تفسير ابن كثير)) (7/320)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (18/243، 244)، ((تفسير السعدي)) (ص: 788). قال الشنقيطيُّ: (الهمزةُ في قولِه: أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ للإنكارِ، والفاءُ عاطفةٌ على جملةٍ محذوفةٍ، على أصحِّ القولَينِ، والتَّقديرُ: أيُعْرِضونَ عن كتابِ اللهِ فلا يَتَدَبَّرونَ القرآنَ؟!). ((أضواء البيان)) (7/256). ؟
كما قال الله سبحانهُ وتعالى: وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا * أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا [النساء: 81، 82].
وقال سُبحانَه: وَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آَمِنُوا بِاللَّهِ وَجَاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُو الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُوا ذَرْنَا نَكُنْ مَعَ الْقَاعِدِينَ * رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ [التوبة: 86، 87].

الفوائد التربوية:

1- الشَّوقُ إلى الله تعالى، وإلى رسالاتِه مِن آثارِ محبَّتِه؛ فقد سألَ موسَى عليه السَّلامُ الرؤيةَ شوقًا وتعطُّشًا للجمالِ، فقال: رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ [الأعراف: 143] ، وسألَ المؤمنونَ نُزولَ السُّورةِ تشوُّقًا إلى سماعِ كلامِ ذي العزِّ والجلالِ، كما في قولِه تعالى: وَيَقُولُ الَّذِينَ آَمَنُوا لَوْلَا نُزِّلَتْ سُورَةٌ [388] يُنظر: ((شجرة المعارف والأحوال)) للعز بن عبد السلام (ص: 50). .
2- قَولُه تعالى: فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ أي: جاءهم أمْرُ جدٍّ، وأمرٌ مُحتَّمٌ؛ ففي هذه الحالِ لو صَدَقوا اللهَ بالاستِعانةِ به، وبَذْلِ الجُهدِ في امتِثالِه لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِن حالِهمُ الأُولى، وذلك من وُجوهٍ:
منها: أنَّ العبدَ ناقصٌ مِن كلِّ وجهٍ، لا قُدرةَ له إلَّا إنْ أعانَه اللهُ، فلا يَطلُبُ زِيادةً على ما هو قائمٌ بصدَدِه.
ومنها: أنَّه إذا تعلَّقَت نفْسُه بالمُستقبَلِ، ضَعُفَ عنِ العملِ بوظيفةِ وقتِه وبوظيفةِ المُستقبَلِ، أمَّا الحالُ: فلأنَّ الهِمَّةَ انتقَلَت عنه إلى غَيرِه، والعملُ تَبَعٌ للهِمَّةِ، وأمَّا المستقبَلُ: فإنَّه لا يَجيءُ حتَّى تَفتُرَ الهِمَّةُ عن نشاطِها، فلا يُعانُ عليه.
ومنها: أنَّ العبدَ المؤمِّلَ للآمالِ المُستقبَلةِ، مع كَسَلِه عن عمَلِ الوقتِ الحاضِرِ شَبيهٌ بالمُتألِّي الَّذي يَجزِمُ بقُدرتِه على ما يَستقبِلُ من أُمورِه، فأحرَى به أن يُخذَلَ ولا يقومَ بما هَمَّ به، ووطَّن نفْسَه عليه؛ فالَّذي يَنبغي أنْ يَجمَعَ العبدُ هَمَّه وفِكرَتَه ونَشاطَه على وَقتِه الحاضِرِ، ويُؤدِّيَ وَظيفَتَه بحَسَبِ قدرتِه، ثمَّ كلَّما جاء وَقتٌ استَقبَلَه بنشاطٍ وهِمَّةٍ عاليةٍ مُجتمِعةٍ غيرِ مُتفرِّقةٍ، مُستعينًا بربِّه في ذلك؛ فهذا حَرِيٌّ بالتَّوفيقِ والتَّسديدِ في جميعِ أُمورِه [389] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 788). .
3- قال الله تعالى: طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ * فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ فإذَنْ هما أمْرانِ: إمَّا التِزامٌ بطاعةِ اللهِ، وامتِثالٌ لأوامِرِه، فثَمَّ الخَيرُ والرُّشدُ والفَلاحُ، وإمَّا إعراضٌ عن ذلك وتَوَلٍّ عن طاعةِ اللهِ، فما ثَمَّ إلَّا الفَسادُ في الأرضِ بالعَمَلِ بالمعاصي، وقَطيعةِ الأرحامِ [390] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 788). .
4- قَولُ اللهِ تعالى: طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ * فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ عُلِمَ منه أنَّ مَن أمَرَ بالمعروفِ، وجاهَدَ أهلَ المُنكَرِ؛ أمِنَ الإفسادَ في الأرضِ، وقَطيعةَ الرَّحِمِ، ومَن ترَكَه وقَعَ فيهما [391] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (18/242). .
5- قَولُ اللهِ تعالى: فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فيه إشعارٌ بأنَّ الفَسادَ في الأرضِ وقَطيعةَ الأرحامِ مِن شِعارِ أهلِ الكُفرِ؛ فهما جُرْمانِ كَبيرانِ يَجِبُ على المُؤمِنينَ اجتِنابُهما [392] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/113). .
6- قَولُ اللهِ تعالى: أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا في هذه الآيةِ أعظَمُ حاثٍّ على قَبولِ أوامِرِ اللهِ، ولا سِيَّما الجِهادِ في سَبيلِه، وأشَدُّ زاجرٍ عن الإعراضِ عنه؛ لأنَّ حاصِلَها أنَّه لَعَن مَن أعرَضَ عنه؛ لِكَونِه لا يَتدَبَّرُ القُرآنَ معَ وُضوحِه ويُسْرِه؛ لِيعلَمَ فوائِدَ الجِهادِ الدَّاعيةَ إليه المحَبِّبةَ فيه؛ فكان كأنَّ قَلْبَه مُقفَلٌ [393] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (18/244). .
7- قَولُه تعالى: أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا (قرَأَ قارِئٌ عندَ عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ بها وعِندَه شابٌّ، فقال: اللَّهُمَّ عليها أقفالُها، ومَفاتيحُها بيَدِك لا يَفتَحُها سِواك. فعَرَفَها له عُمَرُ، وزادَتْه عندَه خَيرًا) [394] يُنظر: ((شفاء العليل)) لابن القيم (ص: 90). .
8- قَولُ اللهِ تعالى: أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا يدُلُّ على أنَّ تدَبُّرَ القُرآنِ وتفَهُّمَه وتَعلُّمَه والعَمَلَ به: أمرٌ لا بُدَّ منه للمُسلِمينَ، وقد بَيَّن النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم أنَّ المُشتَغِلينَ بذلك هم خَيرُ النَّاسِ، كما ثَبَت عنه صلَّى الله عليه وسلَّم في الصَّحيحِ مِن حَديثِ عُثمانَ بنِ عَفَّانَ رَضِيَ الله عنه أنَّه قال: ((خَيْرُكم مَن تَعلَّمَ القُرآنَ وعَلَّمَه )) [395] أخرجه البخاري (5027) من حديث عثمانَ بنِ عفَّانَ رضيَ الله عنه. ، وقال تعالى: وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ [396] يُنظر: ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/256، 257). [آل عمران: 79] .
9- قال تعالى: أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا الحَقُّ الَّذي لا شَكَّ فيه أنَّ كُلَّ مَن له قُدرةٌ مِن المُسلِمينَ على التَّعَلُّمِ والتَّفَهُّمِ وإدراكِ معاني الكِتابِ والسُّنَّةِ: يَجِبُ عليه تَعَلُّمُهما والعَمَلُ بما عَلِمَ منهما، أمَّا العَمَلُ بهما مع الجَهلِ بما يَعمَلُ به منهما فمَمنوعٌ إجماعًا، وأمَّا ما عَلِمَه مِنهما عِلمًا صَحيحًا ناشِئًا عن تعَلُّمٍ صَحيحٍ فله أن يَعمَلَ به، ولو آيةً واحِدةً أو حديثًا واحِدًا، ومَعلومٌ أنَّ هذا الذَّمَّ والإنكارَ على مَن لم يَتدَبَّرْ كِتابَ اللهِ عامٌّ لجَميعِ النَّاسِ، ومِمَّا يُوَضِّحُ ذلك أنَّ المُخاطَبينَ الأَوَّلِينَ به الَّذين نَزَل فيهم هم المُنافِقونَ والكُفَّارُ، وليس أحَدٌ منهم مُستَكمِلًا لِشُروطِ الاجتِهادِ المُقَرَّرةِ عندَ أهلِ الأُصولِ، بل ليس عندَهم شَيءٌ منها أصلًا، فلو كان القُرآنُ لا يَجوزُ أن يَنتَفِعَ بالعَمَلِ به والاهتِداءِ بهَدْيِه إلَّا المجتَهِدونَ بالاصطلاحِ الأُصوليِّ، لَمَا وَبَّخ اللهُ الكُفَّارَ وأنكر عليهم عدَمَ الاهتِداءِ بهُداه، ولَمَا أقام عليهم الحُجَّةَ به حتَّى يُحَصِّلوا شُروطَ الاجتِهادِ المُقَرَّرةَ عندَ مُتأخِّري الأُصوليِّينَ، كما ترى [397] يُنظر: ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/258). .
10- في قوله تعالى: أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا، وقوله تعالى: كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آَيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ [ص: 29] أنَّ الله سبحانَه إنَّما أنزَل كتابَه ليتأدَّبَ عبادُه بآدابِه، ويتخلَّقوا بأخلاقِه، ويتأمَّلوا ما فيه مِن الثَّناءِ على الله تعالى، وما لم يُتدبَّرْ ذلك حتى يُفهمَ لا يُمكِن العملُ به؛ فإنَّه رسائلُ أرسلَها الله إلى عبادِه ليُنفِّذوها، لا لتقرأَ عليهم فلا يَفْهموها ولا يُقيموها [398] يُنظر: ((شجرة المعارف والأحوال)) للعز بن عبد السلام (ص: 67). ! أما غالبُ مسلمةِ اليومَ فقد اكتَفوا مِن القرآنِ بألفاظٍ يُردِّدونَها وأنغامٍ يُلحِّنونها في المآتمِ والمقابرِ والدُّورِ، وبمصاحفَ يَحمِلونَها أو يُودِعونَها تَرِكةً في البيوتِ، ونسوا أنَّ بركةَ القرآنِ العُظمَى إنَّما هي في تدبُّرِه وتفهُّمِه، وفي الجلوسِ إليه، والاستفادةِ من هديِه وآدابِه، ثمَّ في الوقوفِ عندَ أوامرِه ومراضيه، والبعدِ عن مساخطِه ونواهيه.
ألَا إنَّ آخرَ هذه الأمةِ لا يصلحُ إلَّا بما صلَح به أوَّلُها، وهو أنْ يَعودوا إلى كتابِ الله يَستلهِمونَه الرُّشدَ، ويَستمنِحونَه الهدَى، ويُحكِّمونَه في نفوسِهم وفي كلِّ ما يتَّصِلُ بهم، كما كان آباؤنا الأوَّلونَ يَتلونَه حقَّ تلاوتِه، بتدبُّرٍ وتفكُّرٍ في مجالسِهم ومساجدِهم وأنديتِهم وبيوتِهم وفي صلواتِهم المفروضةِ والنَّافلةِ [399] يُنظر: ((مناهل العرفان في علوم القرآن)) الزرقاني (2/8). .
11- التَّأمُّلُ في القُرآنِ هو تحديقُ نَظَرِ القَلبِ إلى مَعانيه، وجَمعُ الفِكرِ على تدَبُّرِه وتَعقُّلِه، وهو المقصودُ بإنزالِه، لا مُجَرَّدُ تلاوتِه بلا فَهمٍ ولا تدَبُّرٍ؛ قال الله تعالى: أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا، وقال تعالى: كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آَيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ [ص: 29] ، وقال تعالى: أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ [المؤمنون: 68] ، وقال تعالى: إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ [الزخرف: 3] ، وقال الحَسَنُ: (نَزَل القُرآنُ لِيُتَدَبَّرَ ويُعمَلَ به، فاتَّخَذوا تِلاوتَه عَمَلًا!)، فليس شَيءٌ أنفَعَ للعَبدِ في مَعاشِه ومَعادِه، وأقرَبَ إلى نجاتِه: مِن تدَبُّرِ القُرآنِ، وإطالةِ التَّأمُّلِ فيه، وجَمعِ الفِكرِ على معاني آياتِه؛ فإنَّها تُطلِعُ العَبدَ على معالِمِ الخَيرِ والشَّرِّ بحَذافيرِهما، وعلى طُرُقاتِهما وأسبابِهما، وغاياتِهما وثَمَراتِهما، ومآلِ أهلِهما، وتُلْقِي في يَدِه مَفاتيحَ كُنوزِ السَّعادةِ والعُلومِ النَّافِعةِ، وتُثَبِّتُ قواعِدَ الإيمانِ في قَلبِه، وتُشيدُ بُنيانَه، وتُوَطِّدُ أركانَه، وتُريه صورةَ الدُّنيا والآخرةِ، والجنَّةِ والنَّارِ في قَلْبِه، وتُحضِرُه بيْنَ الأُمَمِ، وتُرِيه أيَّامَ اللهِ فيهم، وتُبَصِّرُه مواقِعَ العِبَرِ، وتُشهِدُه عَدلَ اللهِ وفَضْلَه، وتُعَرِّفُه ذاتَه وأسماءَه، وصِفاتِه وأفعالَه، وما يُحِبُّه وما يُبغِضُه، وصِراطَه المُوصِلَ إليه، وما لِسالكِيه بعدَ الوُصولِ والقُدومِ عليه، وقَواطِعَ الطَّريقِ وآفاتِها، وتُعَرِّفُه النَّفْسَ وصِفاتِها، ومُفسداتِ الأعمالِ ومُصَحِّحاتِها، وتُعَرِّفُه طَريقَ أهلِ الجنَّةِ وأهلِ النَّارِ، وأعمالَهم وأحوالَهم وسِيماهم، ومراتِبَ أهلِ السَّعادةِ وأهلِ الشَّقاوةِ، وأقسامَ الخَلقِ واجتِماعَهم فيما يَجتَمِعونَ فيه، وافتِراقَهم فيما يَفتَرِقونَ فيه. وبالجُملةِ تُعَرِّفُه الرَّبَّ المَدْعُوَّ إليه، وطريقَ الوُصولِ إليه، وما له مِنَ الكَرامةِ إذا قَدِمَ عليه، وتُعَرِّفُه في مقابِلِ ذلك ثلاثةً أُخرى: ما يدعو إليه الشَّيطانُ، والطَّريقَ المُوصِلةَ إليه، وما للمُستَجيبِ لِدَعوتِه مِن الإهانةِ والعَذابِ بعدَ الوُصولِ إليه؛ فهذه سِتَّةُ أُمورٍ ضَروريٌّ للعَبدِ مَعرِفتُها ومُشاهَدتُها ومُطالَعتُها؛ فتُشْهِدُه الآخِرةَ حتَّى كأنَّه فيها، وتُغَيِّبُه عن الدُّنيا حتَّى كأنَّه ليس فيها، وتُمَيِّزُ له بيْنَ الحَقِّ والباطلِ في كُلِّ ما اختَلَف فيه العالَمُ، فتُريه الحَقَّ حَقًّا، والباطِلَ باطِلًا، وتُعْطيه فُرقانًا ونُورًا يُفَرِّقُ به بيْنَ الهُدى والضَّلالِ، والغَيِّ والرَّشادِ، وتُعطيه قُوَّةً في قَلْبِه، وحياةً وسَعةً وانشِراحًا، وبَهجةً وسُرورًا، فيَصيرُ في شأنٍ والنَّاسُ في شأنٍ آخَرَ؛ فإنَّ معانيَ القُرآنِ دائِرةٌ على التَّوحيدِ وبَراهينِه، والعِلمِ باللهِ وما له مِن أوصافِ الكَمالِ، وما يُنَزَّهُ عنه مِن سِماتِ النَّقصِ، وعلى الإيمانِ بالرُّسُلِ، وذِكرِ بَراهينِ صِدقِهم، وأدِلَّةِ صِحَّةِ نبُوَّتِهم، والتَّعريفِ بحُقوقِهم وحُقوقِ مُرسِلِهم، وعلى الإيمانِ بمَلائِكتِه، وهم رُسُلُه في خَلْقِه وأمْرِه، وتدبيرِهم الأمورَ بإذْنِه ومَشيئتِه، وما جُعِلوا عليه مِن أمرِ العالَمِ العُلويِّ والسُّفْليِّ، وما يَختَصُّ بالنَّوعِ الإنسانيِّ منهم، مِن حينِ يَستَقِرُّ في رَحِمِ أمِّه إلى يَومِ يُوافي رَبَّه ويَقْدَمُ عليه، وعلى الإيمانِ باليومِ الآخِرِ وما أعَدَّ اللهُ فيه لأوليائِه مِن دارِ النَّعيمِ المُطلَقِ الَّتي لا يَشعُرونَ فيها بألمٍ ولا نَكَدٍ وتَنغيصٍ، وما أعَدَّ لأعدائِه مِن دارِ العِقابِ الوَبيلِ الَّتي لا يُخالِطُها سُرورٌ ولا رَخاءٌ ولا راحةٌ ولا فَرَحٌ، وتفاصيلِ ذلك أتَمَّ تفصيلِ وأبْيَنَه، وعلى تفاصيلِ الأمرِ والنَّهيِ، والشَّرعِ والقَدَرِ، والحَلالِ والحَرامِ، والمواعِظِ والعِبَرِ، والقَصَصِ والأمثالِ، والأسبابِ والحِكَمِ، والمبادئِ والغاياتِ في خَلْقِه وأَمْرِه؛ فلا تَزالُ مَعانيه تُنهِضُ العَبدَ إلى رَبِّه بالوَعدِ الجَميلِ، وتُحَذِّرُه وتُخَوِّفُه بوَعيدِه مِنَ العذابِ الوَبيلِ، وتَحُثُّه على التَّضَمُّرِ والتَّخَفُّفِ لِلِقاءِ اليَومِ الثَّقيلِ، وتَهْدِيه في ظُلَمِ الآراءِ والمذاهِبِ إلى سَواءِ السَّبيلِ، وتَصُدُّه عن اقتِحامِ طُرُقِ البِدَعِ والأضاليلِ، وتَبعَثُه على الازديادِ مِنَ النِّعَمِ بشُكرِ رَبِّه الجليلِ، وتُبَصِّرُه بحُدودِ الحَلالِ والحَرامِ، وتَقِفُه عليها لئلَّا يَتعَدَّاها فيَقَعَ في العَناءِ الطَّويلِ، وتُثَبِّتُ قَلْبَه عن الزَّيغِ والمَيلِ عن الحَقِّ والتَّحويلِ، وتُسَهِّلُ عليه الأمورَ الصِّعابَ والعَقَباتِ الشَّاقَّةَ غايةَ التَّسهيلِ، وتُناديه كُلَّما فَتَرَت عَزَماتُه ووَنَى في سَيرِه: تَقَدَّمَ الرَّكْبُ وفَاتَك الدَّليلُ؛ فاللَّحاقَ اللَّحاقَ والرَّحيلَ الرَّحيلَ! وتَحدو به وتَسيرُ أمامَه سَيرَ الدَّليلِ، وكُلَّما خرَجَ عليه كَمينٌ مِن كَمائِنِ العَدُوِّ، أو قاطِعٌ مِن قُطَّاعِ الطَّريقِ نادَتْه: الحَذَرَ الحَذَرَ؛ فاعتَصِمْ باللهِ، واستَعِنْ به، وقُلْ: حَسْبِيَ اللهُ ونِعْمَ الوَكيلُ! وفي تأمُّلِ القُرآنِ وتدَبُّرِه وتَفَهُّمِه أضعافُ أضعافِ ما ذكَرْنا مِنَ الحِكَمِ والفوائِدِ. وبالجُملةِ فهو أعظَمُ الكُنوزِ [400] يُنظر: ((مدارج السالكين)) لابن القيم (1/449-451). .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- قَولُ اللهِ تعالى: فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ إنَّما قال: وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ؛ لأنَّ السُّورةَ ليست كُلُّها مُتَمَحِّضةً لذِكرِ القِتالِ؛ فإنَّ سُوَرَ القُرآنِ ذواتُ أغراضٍ شَتَّى [401] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/107). .
2- قَولُ اللهِ تعالى: فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ هذه الآيةُ إنباءٌ مِمَّا سيَكونُ مِن المُنافِقينَ حينَ يَجِدُّ الجِدُّ، ويَجيءُ أوانُ القِتالِ، وهي مِن مُعجِزاتِ القُرآنِ في الإخبارِ بالغَيبِ؛ فقد عَزَم أمرُ القِتالِ يومَ أُحُدٍ، وخَرَج المنافِقونَ معَ جَيشِ المُسلِمينَ في صُورةِ المجاهِدينَ، فلَمَّا بلَغَ الجَيشُ إلى الشَّوطِ [402] الشَّوط: اسمُ بستانٍ بالمدينةِ. يُنظر: ((معجم البلدان)) للحموي (3/372). بيْنَ المدينةِ وأُحُدٍ، قال عبدُ اللهِ بنُ أُبَيٍّ ابنُ سَلولَ رأسُ المُنافِقينَ: ما نَدري عَلامَ نَقتُلُ أنفُسَنا هاهنا أيُّها النَّاسُ؟ ورجع هو وأتْباعُه، وكانوا ثُلُثَ الجَيشِ، وذلك سَنَةَ ثَلاثٍ مِنَ الهِجرةِ [403] يُنظر: ((البداية والنهاية)) لابن كثير (4/16). ، أي: بعدَ نُزولِ هذه الآيةِ بنَحوِ ثلاثِ سِنينَ [404] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/111). .
3- قَولُ اللهِ تعالى: فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ فيه سُؤالٌ: (عسى) للتَّوقُّعِ، واللهُ تعالى عالِمٌ بكُلِّ شَيءٍ؟
الجوابُ مِن وُجوهٍ:
الوَجهُ الأوَّلُ: أنَّ المعنى: يَفعَلُ بكم فِعلَ المتَوَقِّعِ.
الوَجهُ الثَّاني: أنَّ كُلَّ مَن يَنظُرُ إليهم يَتوقَّعُ منهم ذلك.
الوَجهُ الثَّالِثُ: أنَّه محمولٌ على الحَقيقةِ؛ وذلك لأنَّ الفِعلَ إذا كان مُمكِنًا في نَفْسِه فالنَّظَرُ إليه غيرُ مُستَلزِمٍ لأمرٍ، وإنَّما الأمرُ يجوزُ أن يَحصُلَ منه تارةً، ولا يَحصُلَ منه أُخرى؛ فيكونُ الفِعلُ لذلك الأمرِ المطلوبِ على سَبيلِ التَّرَجِّي سواءٌ كان الفاعِلُ يَعلَمُ حُصولَ الأمرِ منه، وسواءٌ أَنْ لم يكُنْ يَعلَمُ، مِثالُه: مَن نَصَب شَبكةً لاصطيادِ الصَّيدِ يُقالُ: هو مُتوَقِّعٌ لذلك، فإنْ حَصَل له العِلمُ بوُقوعِه فيه بإخبارِ صادِقٍ أنَّه سيَقَعُ فيه، أو بطَريقٍ أُخرى: لا يَخرُجُ عن التَّوَقُّعِ. غايةُ ما في البابِ أنَّ في الشَّاهِدِ لم يَحصُلْ لنا العِلمُ فيما نَتوَقَّعُه، فيُظَنُّ أنَّ عَدَمَ العِلمِ لازِمٌ للمُتوَقِّعِ، وليس كذلك، بل المتوَقِّعُ هو المُنتَظِرُ لأمرٍ ليس بواجِبِ الوُقوعِ؛ نَظَرًا لذلك الأمرِ فحَسْبُ، سواءٌ كان له به عِلمٌ أو لم يَكُنْ [405] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (28/54). .
الوَجهُ الرَّابعُ: هذا التوقُّعُ الَّذي في (عسى) ليس مَنسوبًا إليه تعالى؛ لأنَّه عالِمٌ بما كان وما يكونُ، وإنَّما هو بالنِّسبةِ لِمَن عَرَف المنافِقينَ، كأنَّه يقولُ لهم: هل يُتَوقَّعُ منكم إذا أعرَضْتُم عن القِتالِ أن يكونَ كذا وكذا [406] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (9/472). ؟
الوجهُ الخامسُ: أنَّ (عسى) مِن الله واجبةٌ، أي: مُتحقِّقةُ الوُقوعِ [407] يُنظر: ((الدر المصون)) للسمين الحلبي (2/388). .
الوجهُ السَّادسُ: أنَّ فِعلَ (عسى) يدُلُّ على التَّرجِّي، وقد دخل عليه هنا حرفُ الاستِفهامِ (هل)، فأفاد تقريرَ ما هو مُتوقَّعٌ، وأشعَرَ بما هو كائنٌ [408] يُنظر: ((قواعد التفسير)) للسبت (2/544). .
4- قَولُه تعالى: فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ فيه إشارةٌ إلى فَسادِ قَولٍ قاله المُنافِقونَ، وهو أنَّهم كانوا يقولونَ: كيفَ نُقاتِلُ والقَتلُ إفسادٌ، والعَرَبُ مِن ذوي أرحامِنا وقبائلِنا؟! فقال تعالى: إنْ توَلَّيْتُم لا يَقعُ منكم إلَّا الفَسادُ في الأرضِ؛ فإنَّكم تَقتُلونَ مَن تَقدرِونَ عليه، وتَنهَبونَه، والقِتالُ واقِعٌ بيْنَكم، أليس قَتْلُكمُ البَناتِ إفسادًا وقطعًا للرَّحِمِ؟! فلا يَصِحُّ تَعلُّلُكم بذلك معَ أنَّه خِلافُ ما أمَرَ اللهُ، وهذا طاعةٌ [409] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (28/54). .
5- في قَولِه تعالى: فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ أنَّ صِلةَ الأرحامِ واجِبةٌ، وقَطْعَها سَبَبٌ لِلَّعنةِ والحِرمانِ مِن دُخولِ الجنَّةِ [410] يُنظر: ((شرح العقيدة الواسطية)) لابن عثيمين (2/360). .
6- قَولُ اللهِ تعالى: فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ استَدَلَّ به عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ رضيَ الله عنه على مَنْعِ بَيعِ أمِّ الوَلَدِ [411] يُنظر: ((الإكليل)) للسيوطي (ص: 238). وأخرج أثرَ عُمَرَ: الحاكمُ في ((المستدرك)) (3708) وصحَّح إسنادَه، ومِن طريقِه البيهقيُّ في ((السنن الكبرى)) (10/577). .
7- قَولُ اللهِ تعالى: أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ، فيه تَرتيبٌ حَسَنٌ؛ قيل: وذلك مِن حيث إنَّهم استَمَعوا الكلامَ العِلمِيَّ، ولم يَفهَموه، فهُم بالنِّسبةِ إليه صُمٌّ أصمَّهمُ اللهُ، وعندَ الأمرِ بالعَمَلِ تَرَكوه، وعلَّلوا بكَونِه إفسادًا وقطعًا للرَّحمِ، وهم كانوا يَتعاطَوْنه عندَ النَّهيِ عنه، فلم يَرَوْا حالَهم عليه، وتَرَكوا اتِّباعَ النَّبيِّ الَّذي يأمُرُهم بالإصلاحِ وصِلَةِ الأرحامِ، ولو دعاهم مَن يأمُرُ بالإفسادِ وقَطيعةِ الرَّحِمِ لَاتَّبَعوه؛ فهم عُمْيٌ أعماهمُ اللهُ [412] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (28/55). .
8- قَولُ اللهِ تعالى: أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ * أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ فيه سُؤالٌ: لَمَّا قال اللهُ تعالى: فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ كيف يُمكِنُهم التَّدَبُّرُ في القُرآنِ؛ قال تعالى: أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ، وهو كقَولِ القائِلِ للأعْمى: (أبصِرْ)، وللأصَمِّ: (اسْمَعْ)؟!
الجوابُ مِن وُجوهٍ:
الوجهُ الأوَّلُ: أنَّ قَولَه: أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ المرادُ منه النَّاسُ.
الوجهُ الثَّاني: أنَّ هذه الآيةَ ورَدَت مُحَقِّقةً لِمَعنى الآيةِ المتقَدِّمةِ؛ فإنَّه تعالى قال: أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ [محمد:23] ، أي: أبعَدَهم عنه، أو عن الصِّدقِ أو عن الخَيرِ، أو غيرِ ذلك مِن الأُمورِ الحَسَنةِ، فأصَمَّهم لا يَسمَعونَ حَقيقةَ الكلامِ، وأعماهم لا يَتَّبِعونَ طَريقَ الإسلامِ، فإذَنْ هُم بيْنَ أمرَينِ؛ إمَّا لا يَتدَبَّرونَ القُرآنَ فيَبعُدونَ منه؛ لأنَّ اللهَ تعالى لعَنَهم وأبعَدَهم عن الخَيرِ والصِّدقِ، والقُرآنُ منهما الصِّنفُ الأعلَى، بل النَّوعُ الأشرَفُ، وإمَّا يَتدَبَّرونَ لكِنْ لا تَدخُلُ مَعانيه في قُلوبِهم؛ لِكَونِها مُقفَلةً، تقديرُه: أفلا يَتَدَبَّرونَ القُرآنَ لِكَونِهم مَلعونينَ مَبعودينَ، أم على قُلوبٍ أقفالٌ، فيَتدَبَّرونَ ولا يَفهَمونَ [413] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (28/55). ؟
الوجهُ الثَّالثُ: أنَّ اللهَ تعالى لَمَّا قال: أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ فكان قولُه: أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ كالتَّهييجِ لهم على تركِ ما هم فيه مِن الكفرِ الَّذي استحَقُّوا بسببِه اللَّعنةِ، أو كالتَّبكيتِ لهم على إصرارِهم على الكفرِ [414] يُنظر: ((تفسير الخازن)) (4/148). .
9- في قَولِه تعالى: أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا أنَّ مَعرِفةَ تفسيرِ كتابِ اللهِ فَرضٌ؛ إمَّا فَرضُ كِفايةٍ، وإمَّا فَرضُ عَينٍ [415] قال ابن عثيمين: (لو قال قائلٌ: هل معرفةُ تفسيرِ القُرآنِ واجبةٌ؟ الجوابُ: تفسيرُ ما لا يقومُ دينُ المرءِ إلَّا به فهو واجبٌ، مثلُ قولِه تعالى: وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ [البقرة: 43] يجبُ أن نعرِفَ ما معنى إقامةِ الصَّلاةِ، وَآَتُوا الزَّكَاةَ [البقرة: 43] كذلك، وما زاد على ذلك فهو فَرضُ كِفايةٍ). ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (2/256). ؛ وجْهُ الدَّلالةِ: أنَّ اللهَ تعالى وَبَّخَ أولئك الَّذين لا يَتدبَّرون القُرآنَ، وأشار إلى أنَّ ذلك مِن الإقفالِ على قُلوبِهم، وعَدَمِ وُصولِ الخَيرِ إليها، والتَّدبُّرُ هو التَّأمُّلُ في الألفاظِ للوُصولِ إلى مَعانيها؛ فإذا لم يَكُنْ ذلك فاتتِ الحِكمةُ مِن إنزالِ القُرآنِ، وصار مُجرَّدَ ألفاظٍ لا تأثيرَ لها، ولأنَّه لا يُمكِنُ الاتِّعاظُ بما في القُرآنِ بدونِ فَهْمِ مَعانيه؛ فإنَّ اللهَ تعالى لم يُنزِلْ علينا القُرآنَ لِمُجرَّدِ أن نتعبَّدَ بلَفظِه، بل لنَعرِفَ معناه، ونُطبِّقَه عَمَلًا وعِلمًا، وقد كان الصَّحابةُ رَضيَ اللهُ عنهم لا يَتجاوَزون عَشْرَ آياتٍ حتَّى يَتعلَّموها وما فيها مِن العِلمِ والعَمَلِ [416] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (1/380)، ((أصول في التفسير)) لابن عثيمين (ص: 23). ويُنظر فيما ورد عن الصَّحابةِ: ما أخرجه الإمامُ أحمدُ في ((مسنده)) (23482)، وابنُ أبي شَيْبةَ في ((المصنَّف)) (29929) مِن حديثِ رجُلٍ مِن أصحابِ النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم. وما أخرجه ابن جرير في ((تفسيره)) (1/74)، والطَّحاويُّ في ((مُشْكِل الآثار)) (1450) مِن قولِ ابنِ مسعودٍ رضيَ الله عنه. .
10- قال الله تعالى: أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا إذا كان قد حضَّ الكُفَّارَ والمُنافِقينَ على تدَبُّرِه، عُلِمَ أنَّ مَعانيَه مِمَّا يُمكِنُ الكُفَّارَ والمُنافِقينَ فَهمُها ومَعرِفتُها، فكيف لا يكونُ ذلك مُمكِنًا للمُؤمِنينَ؟! وهذا يُبَيِّنُ أنَّ مَعانيَه كانت مَعروفةً بَيِّنةً لهم [417] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيميَّة (5/157، 158). .

بلاغة الآيات:

1- قَولُه تعالى: وَيَقُولُ الَّذِينَ آَمَنُوا لَوْلَا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ * طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ
- قولُه: وَيَقُولُ الَّذِينَ آَمَنُوا لَوْلَا نُزِّلَتْ سُورَةٌ مَعلومٌ أنَّ قَولَ المُؤمِنينَ هذا وقَعَ قبْلَ نُزولِ هذه الآيةِ؛ فالتَّعبيرُ عنه بالفِعلِ المُضارِعِ إمَّا لِقَصْدِ استِحضارِ الحالةِ، وإمَّا لِلدَّلالةِ على أنَّهم مُستمِرُّون على هذا القَولِ [418] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/107). .
- وحُذِفَ وَصْفُ كِلمةِ (سورة) في حِكايةِ قَولِهم: لَوْلَا نُزِّلَتْ سُورَةٌ؛ لِدَلالةِ ما بعْدَه عليه مِن قَولِه: وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ؛ لأنَّ قَولَه: فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ -أي: كما تَمنَّوا- اقْتَضى أنَّ المَسؤولَ سُورةٌ يُشرَعُ فيها قِتالُ المُشرِكين؛ فالمعنى: لولا نُزِّلَت سُورةٌ يُذكَرُ فيها القِتالُ وفَرْضُه [419] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/107). .
- والمَقصودُ مِن هذه الآيةِ هو قَولُه: فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ، وما قبْلَه تَوطئةٌ له بذِكْرِ سَببِه، وأفاد تَقديمُه أيضًا تَنْويهًا بشَأْنِ الَّذين آمَنوا، وأفاد ذِكْرُه مُقابَلةً بيْنَ حالَيِ الفريقينِ جَرْيًا على سَنَنِ هذه السُّورةِ [420] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/106، 107). .
- قولُه: يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ انتَصَبَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ على المَفعوليَّةِ المُطلَقةِ؛ لِبَيانِ صِفةِ النَّظَرِ مِن قَولِه: يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ؛ فهو على مَعنى التَّشبيهِ البليغِ، ووَجْهُ الشَّبَهِ: ثَباتُ الحَدَقةِ وعَدَمُ التَّحريكِ، أي: يَنظُرون إليك نظَرَ المُتحيِّرِ بحيثُ يَتَّجِهُ إلى صَوبٍ واحدٍ، ولا يَشتغِلُ بالمَرئيَّاتِ؛ لأنَّه في شاغلٍ عن النَّظَرِ، وإنَّما يُوجِّهون أنْظارَهم إلى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ؛ إذ كانوا بمَجلِسِه حِينَ نُزولِ السُّورةِ، وكانوا يَتظاهَرون بالإقبالِ على تَلقِّي ما يَنطِقُ به مِن الوحْيِ، فلمَّا سَمِعوا ذِكرَ القِتالِ بُهِتوا؛ فالمَقصودُ المُشابَهةُ في هذه الصُّورةِ [421] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/108). .
- و(مِنْ) هنا تَعليليَّةٌ، أي: المَغْشِيِّ عليه مِن أجْلِ المَوتِ، أي: حُضورِ الموتِ [422] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/108). .
- وفُرِّعَ قَولُه: فَأَوْلَى لَهُمْ * طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ، وهذا التَّفريعُ اعتِراضٌ بيْنَ جُملةِ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ وبيْنَ جُملةِ فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ [423] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/108). .
- ولَفظُ (أَوْلى) هنا يَجوزُ أنْ يكونَ مُستعمَلًا استِعمالَ التَّفضيلِ على شَيءٍ غَيرِ مَذْكورٍ يدُلُّ عليه ما قبْلَه، أي: أَوْلى لهم مِن ذلك الخَوفِ الَّذي دلَّ عليه نَظَرُهم كالمَغْشيِّ عليه مِن المَوتِ؛ أنْ يُطيعوا أمْرَ اللهِ، ويَقولوا قَولًا مَعروفًا، وعلى هذا الوَجْهِ فتَعديةُ (أَوْلى) باللَّامِ دُونَ الباءِ؛ لِلدَّلالةِ على أنَّ ذلك أَوْلى وأنفَعُ؛ فكان اجتِلابُ اللَّامِ لِلدَّلالةِ على معنى النَّفْعِ، وهو يَرتبِطُ بقَولِه بعْدَه: فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ. ويَجوزُ أنْ يكونَ فَأَوْلَى لَهُمْ مُستعمَلًا في التَّهديدِ والوَعيدِ، ومَعناهُ: أنَّ اللهَ أخبَرَ عن تَوعُّدِه إيَّاهُم. واللَّامُ على هذا الوَجْهِ إمَّا مَزيدةٌ، أي: أَولاهُم اللهُ ما يَكرَهونَ، وإمَّا مُتعلِّقةٌ بـ (أَوْلى) على أنَّه فِعلُ مُضِيٍّ، وعلى هذا الاستِعمالِ يَكونُ قَولُه: طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ كَلامًا مُستأْنَفًا، وهو مُبتدَأٌ خَبَرُه مَحذوفٌ، أي: طاعةٌ وقَولٌ مَعروفٌ خَيرٌ لهم، أو خبَرٌ لِمُبتدَأٍ مَحذوفٍ، تَقديرُه: الأمْرُ طاعةٌ وقَولٌ مَعروفٌ، أي: أمَرَ اللهُ أنْ يُطِيعوا [424] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/324)، ((تفسير البيضاوي)) (5/123)، ((تفسير أبي حيان)) (9/471)، ((تفسير أبي السعود)) (8/97)، ((تفسير ابن عاشور)) (26/108، 109). .
- ونكَّر الاسمَينِ: طَاعَةٌ وَقَوْلٌ؛ لِيَكونَا صالِحَينِ للتَّعظيمِ وما دونَه [425] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (18/239). .
- وقولُه: فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ تَفريعٌ على وَصْفِ حالِ المُنافِقين مِن الهَلَعِ عِندَ سَماعِ ذِكْرِ القِتالِ؛ فإنَّه إذا جَدَّ أمْرُ القِتالِ -أي: حانَ أنْ يُندَبَ المُسلِمون إلى القِتالِ- سيَضْطَرِبُ أمْرُ المُنافِقينَ، ويَتسلَّلون لِواذًا مِن حُضورِ الجِهادِ، وأنَّ الأَوْلَى لهم حِينَئذٍ أنْ يُخلِصوا الإيمانَ، ويُجاهِدوا كما يُجاهِدُ المُسلِمون الخُلَّصُ؛ وإلَّا فإنَّهم لا مَحيصَ لهم مِن أحَدِ أمْرَينِ: إمَّا حُضورُ القِتالِ بدُونِ نِيَّةٍ؛ فتَكونُ عليهمُ الهَزيمةُ، ويَخْسَروا أنفُسَهم باطِلًا، وإمَّا أنْ يَنخَزِلوا عن القِتالِ [426] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/110). .
- والتَّعريفُ في الْأَمْرُ تَعريفُ العَهدِ، أو اللَّامُ عِوَضٌ عن المُضافِ إليه، أي: أمْرُ القِتالِ المُتقدِّمِ آنِفًا في قَولِه: وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ [427] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/110). .
- وقولُه: فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ دَليلُ جَوابِ فَإِذَا؛ لأنَّ (إذا) ضُمِّنت هنا مَعنى الشَّرْطِ، أي: كَذَبوا اللهَ وأخْلَفوا، فلو صَدَقوا اللهَ لَكان خَيرًا لهم، واقتِرانُ جُملةِ الجَوابِ بالفاءِ؛ لِلدَّلالةِ على تَضمينِ (إذا) مَعنى الشَّرْطِ، وذلك أحسَنُ مِن تَجْريدِه عن الفاءِ إذا كانت جُملةُ الجَوابِ شَرطيَّةً أيضًا [428] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/110). .
- ومعنَى صَدَقُوا اللَّهَ قالُوا له الصِّدْقَ -على قولٍ في التفسيرِ-، وهو مُطابَقةُ الكلامِ لِمَا في نفْسِ الأمْرِ، أي: لو صَدَقوا في قَولِهم: نحْن مُؤمِنون، وهم إنَّما كَذَبوا رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ؛ إذ أظْهَروا له خِلافَ ما في نُفوسِهم؛ فجُعِل الكذِبُ على رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ كَذِبًا على اللهِ؛ تَفْظيعًا له، وتَهويلًا لِمَغَبَّتِه [429] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/111). .
- وفي الكَلامِ إيجازٌ؛ لأنَّ قَولَه: لَكَانَ خَيْرًا يُؤذِنُ بأنَّه إذا عَزَم الأمْرُ حصَلَ لهمْ ما لا خَيرَ فيه [430] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/110). .
2- قَولُه تعالى: فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ مُقْتضى تَناسُقِ النَّظْمِ أنَّ هذا مُفرَّعٌ على قَولِه: فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ [محمد: 21] ؛ لأنَّه يُفهَمُ منه أنَّه إذا عَزَم الأمْرُ تَولَّوا عن القِتالِ، وانْكشَفَ نِفاقُهم، فتَكونُ إتْمامًا لِمَا في الآيةِ السَّابقةِ مِن الإنْباءِ بما سَيَكونُ مِن المُنافِقين يَومَ أُحُدٍ [431] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/110). .
- وفي قَولِه: فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ الآيةَ، الْتِفاتٌ مِن الغَيبةِ إلى الخِطابِ، والخِطابُ مُوجَّهٌ إلى الَّذين في قُلوبِهم مَرَضٌ، والسِّرُّ فيه هنا: أنَّه جاء لِتَأكيدِ التَّوبيخِ، وتَشْديدِ التَّقريعِ، وتَسجيلِ ذلك عليهم مُشافَهةً وخِطابًا [432] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/325)، ((تفسير أبي حيان)) (9/471)، ((تفسير أبي السعود)) (8/98)، ((تفسير ابن عاشور)) (26/111)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (9/221). .
- والاستِفهامُ مُستعمَلٌ في التَّكذيبِ لِمَا سَيَعْتذِرون به لِانْخِزالِهم؛ ولذلك جِيءَ فيه بـ (هل) الدَّالَّةِ على التَّحقيقِ؛ لأنَّها في الاستِفهامِ بمَنزِلةِ (قدْ) في الخبَرِ؛ فالمَعنى: أفيَتحقَّقُ إنْ تَولَّيْتم أنَّكم تُفسِدون في الأرْضِ، وتُقطِّعون أرْحامَكم، وأنتُم تَزْعُمون أنَّكم تَولَّيْتم إبقاءً على أنفُسِكم وعلى ذَوي قَرابةِ أنْسابِكم؟! وهذا تَوبيخٌ [433] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/111، 112). .
- وعبَّرَ بـ وَتُقَطِّعُوا بالتَّشديدِ على التَّكثيرِ [434] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (9/472). .
3- قَولُه تعالى: أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ
- أُولَئِكَ إشارةٌ إلى المُخاطَبينَ بطَريقِ الالْتِفاتِ؛ إيذانًا بأنَّ ذِكْرَ هَنَاتِهم [435] الهَنَات هنا معناها: خِصالُ الشَّرِّ، ولا يُقالُ ذلك في الخَيرِ. يُنظر: ((الصحاح)) للجوهري (6/ 2537)، ((النهاية)) لابن الأثير (5/279). أوجَبَ إسْقاطَهم عن رُتْبةِ الخِطابِ، وحِكايةَ أحْوالِهم الفَظيعةِ لِغَيرِهم [436] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (8/99). .
- وفيه لَطيفةٌ: وهي أنَّ اللهَ تعالَى قال: فَأَصَمَّهُمْ، ولم يَقُلْ: أصَمَّ آذانَهم، وقال: وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ، ولم يقُلْ: أعْماهُم؛ وذلك لأنَّ العَينَ آلةُ الرُّؤيةِ، ولو أصابَها آفةٌ لا يَحصُلُ الإبصارُ، والأُذُنُ لو أصابَها آفةٌ مِن قطْعٍ أو قلْعٍ، تَسمَعُ الكلامَ؛ لأنَّ الأُذُنَ خُلِقَت وخُلِقَ فيها تَعاريجُ؛ لِيَكثُرَ فيها الهَواءُ المُتموِّجُ، ولا يَقرَعَ الصِّماخَ بعُنْفٍ فيُؤذِيَ كما يُؤذِي الصَّوتُ القوِيُّ، فقال: فَأَصَمَّهُمْ مِن غَيرِ ذِكْرِ الأُذُنِ، وقال: وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ مع ذِكْرِ العَينِ؛ لأنَّ البصَرَ هاهنا بمَعنى العَينِ، ولهذا جمَعَه بالأبصارِ، ولو كان مَصدَرًا لَمَا جُمِعَ، فلمْ يَذكُرِ الأُذُنَ؛ إذ لا مَدخَلَ لها في الإصمامِ، والعينُ لها مَدخَلٌ في الرُّؤيةِ، بلْ هي الكلُّ، ويدُلُّ عليه أنَّ الآفةَ في غَيرِ هذه المواضعِ لَمَّا أضافَها إلى الأُذنِ سمَّاها وَقْرًا، كما قال تعالَى: وَفِي آَذَانِنَا وَقْرٌ [فصلت: 5] ، وقال: كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا [لقمان: 7] ، والوَقْرُ دُونَ الصَّمِّ، وكذلك الطَّرَشُ [437] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (28/55)، ((تفسير أبي حيان)) (9/472). . وقيل غيرُ ذلك [438] يُنظر: ((تفسير الألوسي)) (13/225)، ((تفسير ابن عاشور)) (26/113). .
- وعُبِّرَ بالصَّمَمِ عن عَدَمِ الانتِفاعِ بالمَسموعاتِ مِن آياتِ القُرآنِ ومَواعِظِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، كما عُبِّرَ بالعَمَى هنا عن عَدَمِ الفَهمِ؛ لأنَّ حالَ الأعْمى أنْ يكونَ مُضطَرِبًا فيما يُحِيطُ به، لا يَدْري نافِعَه مِن ضارِّه إلَّا بمَعونةِ مَن يُرشِدُه [439] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/113). .
4- قَولُه تعالى: أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا
- الاستِفهامُ في قَولِه: أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ تَوبيخيٌّ وتَوقيفيٌّ على مَخازِيهم. وهو إنْكارٌ وتَعْجيبٌ مِن سُوءِ عِلْمِهم بالقُرآنِ، ومِن إعْراضِهم عن سَماعِه [440] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (9/473)، ((تفسير ابن عاشور)) (26/113)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (9/220). .
- قولُه: أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا (أمْ) مُنقطِعةٌ، وما فيها مِن مَعنى (بلْ)؛ لِلِانتقالِ مِن التَّوبيخِ بعَدَمِ التَّدبُّرِ إلى التَّوبيخِ بكَوْنِ قُلوبِهم مُقْفلَةً لا تَقبَلُ التَّدبُّرَ والتَّفكُّرَ، والهَمْزةُ لِلتَّقريرِ [441] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/326)، ((تفسير البيضاوي)) (5/123)، ((تفسير أبي حيان)) (9/473)، ((تفسير أبي السعود)) (8/99)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (9/220). .
- وتَنْكيرُ القُلوبِ؛ إمَّا لِتَهويلِ حالِها، وتَفْظيعِ شَأْنِها بإيهامِ أمْرِها في القَساوةِ والجَهالةِ، كأنَّه قِيلَ: على قُلوبٍ مُنكَرةٍ، لا يُعرَفُ حالُها، ولا يُقادَرُ قَدْرُها في القَساوةِ. وإمَّا لأنَّ المُرادَ بها قُلوبُ بَعضٍ منهم، وهمُ المُنافِقونَ، والمعنى: بلْ بَعضُ القُلوبِ عليها أقفالٌ، وهذا مِن التَّعريضِ بأنَّ قُلوبَهم مِن هذا النَّوعِ؛ لأنَّ إثْباتَ هذا النَّوعِ مِن القُلوبِ في أثْناءِ التَّعجيبِ مِن عَدَمِ تَدبُّرِ هؤلاء القُرآنَ يدُلُّ -بدَلالةِ الالتِزامِ- أنَّ قُلوبَ هؤلاءِ مِن هذا النَّوعِ مِن القُلوبِ ذَواتِ الأقْفالِ؛ فكَونُ قُلوبِهم مِن هذا النَّوعِ مُستَفادٌ مِن الإضْرابِ الانتقاليِّ في حِكايةِ أحوالِهِم [442] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/326)، ((تفسير البيضاوي)) (5/123)، ((تفسير أبي حيان)) (9/473)، ((تفسير أبي السعود)) (8/99)، ((تفسير ابن عاشور)) (26/114)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (9/220). ، أو أنَّه لم يحتَجْ إلى تعريفِ القلوبِ؛ لأنَّه معلومٌ أنَّها قلوبُ مَن ذكرَ [443] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (9/473). .
وقيل: قال: عَلَى قُلُوبٍ لأنَّه لو قال: (على قُلوبِهم) لم يَدخُلْ قَلبُ غَيرِهم في هذه الجُملةِ. والمُرادُ: أمْ على قُلوبِ هؤلاء وقُلوبِ مَن كانوا بهذه الصِّفةِ أقفالُها [444] يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (16/247)، ((شفاء العليل)) لابن القيم (ص: 95، 96). .
- وإضافةُ (أقْفالٍ) إلى ضَميرِ قُلُوبٍ نظْمٌ بَديعٌ أشارَ إلى اخْتِصاصِ الأقفالِ بتلك القُلوبِ، أي: مُلازَمتِها لها؛ فدلَّ على أنَّها قاسيةٌ، وأنَّها أقفالٌ مُناسِبةٌ لها، غَيرُ مُجانِسةٍ لِسائرِ الأقْفالِ المَعهودةِ [445] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/326)، ((تفسير البيضاوي)) (5/123)، ((تفسير أبي حيان)) (9/473)، ((تفسير أبي السعود)) (8/99)، ((تفسير ابن عاشور)) (26/114)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (9/221). .
وقيل: قال: أَقْفَالُهَا بالإضافةِ، ولم يَقُلْ: (أقفالٌ)، كما قال: قُلُوبٍ؛ لأنَّ الأقفالَ كانت مِن شَأنِها، فأضافَها إليها كأنَّها ليستْ إلَّا لها، وفي الجُملةِ لم يُضِفِ القُلوبَ إليهم؛ لعَدَمِ نَفعِها إيَّاهم [446] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (28/56). .
وقيل: في قَولِه: أَقْفَالُهَا بالتَّعريفِ نَوعُ تأكيدٍ؛ فإنَّه لو قال (أقفالٌ) لَذَهَبَ الوَهمُ إلى ما يُعرَفُ بهذا الاسمِ؛ فلمَّا أضافَها إلى القُلوبِ عُلِمَ أنَّ المرادَ بها ما هو للقَلبِ بمَنزلةِ القُفلِ للبابِ؛ فكأنَّه أراد أقفالَها المُختصَّةَ بها، الَّتي لا تكونُ لِغَيرِها، واللهُ أعلمُ [447] يُنظر: ((شفاء العليل)) لابن القيم (ص: 96). .
- والآيةُ مِن الاحتِباكِ [448] الاحتِباكُ: هو الحذفُ مِن الأوائلِ لدَلالةِ الأواخِرِ، والحذفُ مِن الأواخرِ لدَلالةِ الأوائلِ، إذا اجتمَع الحَذفانِ معًا، وله في القرآنِ نظائرُ، وهو مِن إبداعاتِ القرآنِ وعناصرِ إعجازِه، وهو مِن ألطفِ الأنواعِ. يُنظر: ((الإتقان)) للسيوطي (3/204)، ((البلاغة العربية)) لعبد الرحمن حَبَنَّكَة الميداني (1/347). : ذَكرَ التَّدبُّرَ أوَّلًا دليلًا على ضِدِّه ثانيًا، والأقفالَ ثانيًا دليلًا على ضِدِّها أوَّلًا، وسِرُّه: أنَّه ذَكرَ نَتيجةَ الخَيرِ الكافِلةَ بالسَّعادةِ أوَّلًا، وسببَ الشَّرِّ الجامِعَ للشَّقاوةِ ثانيًا [449] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (18/244، 245). .