موسوعة التفسير

سورة الزمر
الآيتان (9-10)

ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﰎ ﰏ ﰐ ﰑ ﰒ ﰓ ﰔ ﰕ ﰖ ﰗ ﰘ ﰙ

غريب الكلمات:

قَانِتٌ: أي: دائِمُ الطَّاعةِ، أو: مُصَلٍّ، أو: قائِمٌ في صلاتِه، وأصلُ (قنت): يدُلُّ على طاعةٍ وخَيرٍ في دينٍ [248] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 382)، ((تفسير ابن جرير)) (20/177)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 378)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/31). قال ابن القيِّم: (القنوت... هو الطَّاعةُ الدَّائمةُ؛ فيَدخُلُ فيه القيامُ، والذِّكرُ، والدُّعاءُ، وأنواعُ الطَّاعةِ). ((بدائع الفوائد)) (1/80). .
آَنَاءَ اللَّيْلِ: أي: ساعاتِ اللَّيلِ، وأصلُه: يدُلُّ على ساعةٍ مِن الزَّمانِ [249] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 283)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 69)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/141) و(5/225)، ((المفردات)) للراغب (ص: 96)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 234)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 127)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 201). وآناء جمْعٌ، مُفْردُه: إِنْيٌ وإِنًى وأَنا وإنو. يُنظر: ((التبيان في آداب حملة القرآن)) للنووي (ص: 203)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 127) .
أُولُو الْأَلْبَابِ: أي: أصحابُ العقولِ الزَّكيَّةِ، ومفردُ ألبابٍ: لُبٌّ، وأصلُ اللُّبِّ: الخُلوصُ والجَوْدةُ، والشَّيءُ المُنتقَى [250] يُنظر: ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 51)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/199)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 102). .

المعنى الإجمالي:

يقولُ الله تعالى نافيًا المُساواةَ بيْنَ الإنسانِ المُشرِكِ وبيْنَ الإنسانِ الملازِمِ لطاعةِ رَبِّه: آلَّذي هو مُطيعٌ لِرَبِّه قائِمٌ ساعاتِ اللَّيلِ لعبادتِه ساجِدًا وقائِمًا، يَحْذَرُ عذابَ الآخِرةِ، ويَرجو رحمةَ رَبِّه: كمَنْ هو جاعِلٌ لله تعالى شُرَكاءَ في العبادةِ؟!
ثمَّ يَنفي اللهُ تعالى أيضًا المساواةَ بيْنَ العالمِ والجاهلِ، فيقولُ: قُلْ -يا مُحمَّدُ-: هل يَستوي العُلَماءُ العامِلونَ بعِلمِهم، القانِتونَ لله؛ والجُهَّالُ الَّذين لا يَعلَمونَ ولا يَعمَلونَ؟ كلَّا، لا يَستَوونَ؛ إنَّما يَتذكَّرُ أصحابُ العُقولِ السَّليمةِ!
ثمَّ يقولُ تعالى: قُلْ -يا مُحمَّدُ- لعِباديَ المؤمِنينَ: اتَّقوا رَبَّكم، لِلَّذين أحسَنوا العَمَلَ في هذه الحياةِ الدُّنيا حَسَنةٌ، وأرضُ اللهِ فَسيحةٌ، وبلادُه كَثيرةٌ، فإذا عجَزْتُم عن عِبادتي في أرضٍ فتحَوَّلوا إلى أرضٍ أُخرَى تَتَمكَّنونَ فيها مِنَ العبادةِ؛ فلا عُذرَ لأحَدٍ في تَركِ الهِجرةِ.
ثمَّ يُبيِّنُ تعالى عاقبةَ الصَّبرِ، فيقولُ: إنَّما يُوفَّى الصَّابِرونَ أجْرَهم تامًّا كثيرًا بغيرِ حَدٍّ ولا عَدٍّ.

تفسير الآيتين:

أَمْ مَنْ هُوَ قَانِتٌ آَنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآَخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ (9).
مناسبة الآية لما قبلها:
لَمَّا شَرَح تَعالى شَيئًا مِن أحوالِ الظَّالِمينَ الضَّالِّينَ المُشرِكينَ؛ أردَفَه بشَرحِ أحوالِ المُهتَدينَ المُوَحِّدينَ، فقال [251] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (9/188). ويُنظر أيضًا: ((تفسير الرازي)) (26/428). :
أَمْ مَنْ هُوَ قَانِتٌ آَنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآَخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ.
القراءات ذات الأثر في التفسير:
1- قِراءةُ: أَمَنْ بتخفيفِ الميمِ. وهي همزةُ الاستِفهامِ دَخَلَتْ على (مَنْ) بمعنى (الَّذي)، والاستِفهامُ للتَّقريرِ، ومُقابِلُه مَحذوفٌ تقديرُه: أمَنْ هو قانتٌ كمَنْ جعَلَ للهِ أندادًا؟ أو أَمَنْ هو قانِتٌ كغيرِه؟ وقيل: الهَمزةُ للنِّداءِ، و(مَنْ) مُنادى، أي: يا مَن هو قانتٌ، قُلْ كَيْتَ وكَيْتَ، أو أبشِرْ؛ إنَّك مِن أهلِ الجنَّةِ [252] قرأ بها ابنُ كثير، ونافعٌ، وحمزةُ. يُنظر: ((النشر)) لابن الجزري (2/362). ويُنظر لمعنى هذه القراءةِ: ((الحجة)) لابن خالويه (ص: 308، 309)، ((معاني القراءات)) للأزهري (2/335)، ((حجة القراءات)) لابن زنجلة (ص: 620، 621)، ((تفسير القرطبي)) (15/238)، ((الدر المصون)) للسمين الحلبي (9/414). .
2- قِراءةُ: أَمْ مَنْ بتَشديدِ الميمِ، على إدخالِ (أم) على (مَن) الموصولةِ، وإدغامِ الميمِ. وفي (أم) قولانِ؛ أحدُهما: أنَّها مُتَّصِلةٌ، ومُعادِلُها محذوفٌ تقديرُه: آلكافِرُ خيرٌ أم الَّذي هو قانِتٌ؟ وقيل: (أم) في أَمْ مَنْ مُنقَطِعةٌ، فتتقَدَّرُ بـ (بل والهمزةِ) أي: بل أمَنْ هو قانِتٌ كغيرِه، أو كالكافِرِ المَقولِ له: تمتَّعْ بكُفْرِك [253] قرأ بها الباقون. يُنظر: ((النشر)) لابن الجزري (2/362). ويُنظر لمعنى هذه القراءةِ: ((الحجة)) لابن خالويه (ص: 308، 309)، ((معاني القراءات)) للأزهري (2/335)، ((حجة القراءات)) لابن زنجلة (ص: 620، 621)، ((الدر المصون)) للسمين الحلبي (9/414). ؟
أَمْ مَنْ هُوَ قَانِتٌ آَنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآَخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ.
أي: أذَلِكَ الكافِرُ الَّذي يَتمتَّعُ بكُفرِه قَليلًا وهو مِن أصحابِ النَّارِ خَيرٌ أم المُطيعُ لله، المُصَلِّي ساعاتِ اللَّيلِ ساجِدًا وقائِمًا، وهو على حَذَرٍ وخَوفٍ مِن الآخرةِ، ورَجاءٍ وطَمَعٍ في نَيلِ رَحمةِ اللهِ تعالى [254] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/175-177)، ((تفسير ابن عطية)) (4/522)، ((تفسير القرطبي)) (15/238، 239)، ((تفسير ابن كثير)) (7/88)، ((تفسير ابن عاشور)) (23/345، 346). قال القرطبي: (وفي قَانِتٌ أربعةُ أوجُهٍ؛ أحَدُها: أنَّه المطيعُ. قاله ابنُ مسعودٍ. الثَّاني: أنَّه الخاشِعُ في صلاتِه. قاله ابنُ شِهابٍ. الثَّالثُ: أنَّه القائِمُ في صلاتِه. قاله يحيى بنُ سلام. الرَّابعُ: أنَّه الدَّاعي لرَبِّه. وقولُ ابنِ مَسعودٍ يَجمَعُ ذلك). ((تفسير القرطبي)) (15/239). وممَّن قال بأنَّ القنوتَ هو الطَّاعةُ: ابنُ جرير، والسعدي. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/177)، ((تفسير السعدي)) (ص: 720). وقيل: القنوتُ هو دوامُ الطَّاعةِ. وممَّن قال بهذا المعنى: الزَّجَّاجُ، وابنُ تيميَّة، وابنُ عثيمين. يُنظر: ((معاني القرآن وإعرابه)) للزجاج (4/347)، ((الفتاوى الكبرى)) لابن تيمية (2/120)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الزمر)) (ص: 98). وقيل: هو دوامُ الإخلاصِ لله تعالى في العبادةِ. وممَّن قال بهذا المعنى: البِقاعي. يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (16/466). ؟
كما قال تعالى: وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا [الفرقان: 64] .
وقال سُبحانَه: لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آَيَاتِ اللَّهِ آَنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ [آل عمران: 113] .
وعن جابرٍ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: قال رَسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((أفضَلُ الصَّلاةِ طُولُ القُنوتِ )) [255] رواه مسلم (756). .
وعن أنسٍ رَضِيَ اللهُ عنه: ((أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم دخل على شابٍّ وهو في الموتِ، فقال: كيفَ تَجِدُك؟ قال: واللهِ يا رَسولَ اللهِ، إنِّي أرجو اللهَ، وإنِّي أخافُ ذُنوبي! فقال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: لا يَجتَمِعانِ في قَلبِ عَبدٍ في مِثلِ هذا الموطِنِ إلَّا أعطاه اللهُ ما يَرجو، وآمَنَه ممَّا يَخافُ)) [256] أخرجه الترمذي (983) واللَّفظ له، والنسائيُّ في ((السنن الكبرى)) (10901)، وابنُ ماجه (4261). حسَّنه ابنُ العربيِّ في ((عارضة الأحوذي)) (2/370)، والألبانيُّ في ((صحيح سنن الترمذي)) (983)، وجوَّد إسنادَه النوويُّ في ((الخلاصة)) (2/902)، وابنُ المُلَقِّنِ في ((تحفة المحتاج)) (1/582)، والصَّنعانيُّ في ((سبل السلام)) (2/144). .
قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ.
مناسبتها لما قبلها:
أنَّه لَمَّا ذَكَر العَمَلَ؛ ذَكَر العِلمَ [257] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (9/189). .
وأيضًا لَمَّا كان الحامِلُ على الخَوفِ والرَّجاءِ والعَمَلِ إنَّما هو العِلمُ النَّافِعُ، وكان العِلمُ الَّذي لا يَنفَعُ كالجَهلِ، أو الجَهلُ خَيرٌ- كان جوابُ ما تقدَّم مِن الاستفهامِ: لا يَستويانِ؛ لأنَّ المُخلِصَ عالِمٌ، والمُشرِكَ جاهِلٌ؛ فأمَرَه بالجَوابِ بقَولِه [258] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (16/467). :
قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ.
أي: قُلْ -يا مُحمَّدُ-: هل يَستوي العُلَماءُ بدِينِ اللهِ العامِلونَ بعِلمِهم، القانِتون لِرَبِّهم، مع الجُهَّالِ الَّذين لا يَعلَمونَ ذلك، ولا يَعمَلونَ به؟ كلَّا، لا يَستَوونَ [259] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/177)، ((تفسير النسفي)) (3/172)، ((تفسير ابن كثير)) (7/89)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (16/467، 468)، ((تفسير السعدي)) (ص: 720)، ((تفسير ابن عاشور)) (23/348، 349). .
كما قال تعالى: أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ [الرعد: 19] .
وقال الله سُبحانَه وتعالى: يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ [المجادلة: 11] .
إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ.
مناسبتها لما قبلها:
لَمَّا كان مدارُ السَّدادِ التَّذَكُّرَ، وكان مدارُ التَّذَكُّرِ الَّذي به الصَّلاحُ والفَسادُ هو القَلبَ؛ لأنَّه مرَكزُ العَقلِ الَّذي هو آلةُ العِلمِ، وكان القَلبُ الَّذي لا يَحمِلُ على الصَّلاحِ عَدَمًا، بل العَدَمُ خَيرٌ منه- قال [260] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (16/468). :
إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ.
أي: إنَّما يَتذكَّرُ أصحابُ العُقولِ السَّليمةِ، فيَتَّبِعونَ الحَقَّ، ويُؤْثِرونَ العِلمَ على الجَهلِ، وطاعةَ اللهِ على مَعصيتِه [261] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/178)، ((تفسير ابن كثير)) (7/89)، ((تفسير الشوكاني)) (4/520)، ((تفسير السعدي)) (ص: 720)، ((تفسير ابن عاشور)) (23/351). قال الشوكاني: (هذه الجملةُ ليست مِن جملةِ الكلامِ المأمورِ به، بل مِن جِهةِ اللهِ سُبحانَه). ((تفسير الشوكاني)) (4/520). وقال الألوسي: (وقوله تعالى: إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ كلامٌ مُستقِلٌّ، غيرُ داخلٍ عندَ الكافَّةِ في الكلامِ المأمورِ، واردٌ مِن جِهتِه تعالى). ((تفسير الألوسي)) (12/237). وقيل: ليس قولُه: إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ كلامًا مُستقِلًّا، إنَّما هو واقعٌ مَوقِعَ التَّعليلِ لنَفيِ الاستواءِ بيْنَ العالِمِ وغيرِه. وذهب إليه ابنُ عاشور. يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/351). .
كما قال تعالى: الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ [الزمر: 18] .
قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ (10).
مناسبة الآية لما قبلها:
لَمَّا أُجرِيَ الثَّناءُ على المُؤمِنينَ بإقبالِهم على عبادةِ اللهِ في أشَدِّ الآناءِ، وبشِدَّةِ مُراقبتِهم إيَّاه بالخَوفِ والرَّجاءِ، وبتَمييزِهم بصِفةِ العِلمِ والعَقلِ والتَّذَكُّرِ، بخِلافِ حالِ المُشرِكينَ في ذلك كُلِّه؛ أتْبَعَ ذلك بأمرِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بالإقبالِ على خِطابِهم؛ للاستِزادةِ مِن ثباتِهم، ورِباطةِ جَأْشِهم [262] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/351). .
وأيضًا بعدَ أنْ نفَى المساواةَ بيْنَ مَن يَعلَمُ ومَن لا يَعلَمُ- أردَفَه أمْرَ رسولِه أن يَنصَحَ المؤمنينَ بجُملةِ نصائِحَ [263] يُنظر: ((تفسير المراغي)) (23/152). ، فقال:
قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ.
أي: قُلْ -يا مُحمَّدُ- لعِباديَ المؤمِنينَ: اتَّقوا ربَّكم، بامتِثالِ أوامِرِه، واجتِنابِ نواهيه [264] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/178)، ((تفسير القرطبي)) (15/240)، ((تفسير ابن كثير)) (7/89)، ((تفسير السعدي)) (ص: 720)، ((تفسير ابن عاشور)) (23/352)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الزمر)) (ص: 111، 112). .
لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ.
مناسبتها لما قبلها:
لَمَّا أمَرَ سُبحانَه المُؤمِنينَ بالاتِّقاءِ؛ بَيَّن لهم ما في هذا الاتِّقاءِ مِن الفوائِدِ، فقال تعالى [265] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (26/430). :
لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ.
أي: للَّذين أحسَنوا العَمَلَ في هذه الحياةِ الدُّنيا حَسَنةٌ [266] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 720)، ((تفسير ابن عاشور)) (23/353، 354)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الزمر)) (ص: 113-115). وقيل: المعنى: للَّذين أحسَنوا في الدُّنيا حَسَنةٌ في الآخرةِ، وهي الجنَّةُ. وممَّن ذهب إلى هذا القولِ: مقاتلُ بنُ سُلَيمانَ، وابنُ عطية، وابن جُزَي، والشوكاني. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (3/672)، ((تفسير ابن عطية)) (4/523)، ((تفسير ابن جزي)) (2/218)، ((تفسير الشوكاني)) (4/520). قال الماتُريدي: (قال عامَّةُ أهلِ التَّأويلِ: لِلَّذِينَ أحسَنوا في هذه الدُّنيا حسَنةٌ لهم في الآخرةِ). ((تفسير الماتريدي)) (8/666). وقال الماوَرْدي: (قَولُه عَزَّ وجَلَّ: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ فيه وجْهانِ؛ أحدُهما: معناه: للَّذين أحسَنوا في هذه الدُّنيا حَسَنةٌ في الآخِرةِ، وهي الجنَّةُ. الثَّاني: للَّذين أحسَنوا في الدُّنيا حَسَنةٌ في الدُّنيا، فيكونُ ذلك زائدًا على ثَوابِ الآخِرةِ. وفيما أُريدَ بالحَسَنةِ الَّتي لهم في الدُّنيا أربعةُ أوجُهٍ؛ أحدُها: العافيةُ والصِّحَّةُ. قاله السُّدِّيُّ. الثَّاني: ما رزَقَهم اللهُ مِن خيرِ الدُّنيا. قاله يحيى بنُ سلام. الثَّالثُ: ما أعطاهم مِن طاعتِه في الدُّنيا وجَنَّتِه في الآخِرةِ. قاله الحَسَنُ. الرَّابعُ: الظَّفَرُ والغنائِمُ. حكاه النَّقَّاشُ. ويحتمِلُ خامسًا: أنَّ الحَسَنةَ في الدُّنيا الثَّناءُ، وفي الآخرةِ الجزاءُ). ((تفسير الماوردي)) (5/118). وفسَّر السعديُّ الحسنةَ بأنَّها رزقٌ واسعٌ، وعِيشةٌ هنيَّةٌ، وطُمَأنينةُ قلبٍ، وأمْنٌ وسرورٌ. يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 439). وقال ابنُ عاشور: (المرادُ بالَّذين أحسَنوا: الَّذين اتَّقَوُا اللهَ، وهم المؤمِنونَ المَوصوفونَ بما تقدَّمَ مِن قَولِه: أَمْ مَنْ هُوَ قَانِتٌ [الزمر: 9] الآيةَ؛ لأنَّ تلك الخِصالَ تدُلُّ على الإحسانِ المفَسَّرِ بقَولِ النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم: «أن تَعبُدَ اللهَ كأنَّك تَراهُ، فإنْ لم تكُنْ تَراهُ فإنَّه يَراكَ» [البخاري «50» ومسلم «9»]). ((تفسير ابن عاشور)) (23/353). .
كما قال تعالى: وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آَتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآَخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ [البقرة: 201، 202].
وقال الله سُبحانَه وتعالى: وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآَخِرَةِ [الأعراف: 156].
وقال الله عزَّ وجلَّ: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الْآَخِرَةِ خَيْرٌ [النحل: 30] .
وقال تبارك وتعالى: مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً [النحل: 97] .
وعن أنسِ بنِ مالِكٍ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: قال رَسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((إنَّ اللهَ لا يَظلِمُ مُؤمِنًا حَسَنةً؛ يُعطَى بها في الدُّنيا، ويُجزَى بها في الآخِرةِ، وأمَّا الكافِرُ فيُطعَمُ بحَسَناتِ ما عَمِلَ بها لله في الدُّنيا، حتَّى إذا أفضَى إلى الآخِرةِ لم تكُنْ له حَسَنةٌ يُجزَى بها )) [267] رواه مسلم (2808). .
وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ.
مناسبتها لما قبلها:
في قَولِه تعالى: وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ مناسَبةٌ مع قولِه سُبحانَه: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ، وهي أنَّ مِن جملةِ الإحسانِ في الدُّنيا الهجرةَ لا شَكَّ؛ لأنَّ الهجرةَ مِن أكبَرِ ما يدُلُّ على صِدْقِ العاملِ؛ إذْ إنَّ المُهاجِرَ يَدَعُ أهلَه ووطنَه وعشيرتَه ومالَه للهِ [268] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الزمر)) (ص: 115). .
وأيضًا لَمَّا كان رُبَّما عَرَض للإنسانِ في أرضٍ مَن يَمنَعُه الإحسانَ، ويَحمِلُه على العِصيانِ؛ حَثَّ سُبحانَه على الهِجرةِ إلى حيثُ يَزولُ عنه ذلك المانِعُ؛ تنبيهًا على أنَّ مِثلَ هذا ليس عُذرًا في التَّقصيرِ [269] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (16/471). .
وأيضًا لَمَّا قال: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ كان لبَعضِ النُّفوسِ مَجالٌ في هذا الموضِعِ، وهو أنَّ النَّصَّ عامٌّ: أنَّه كُلُّ مَن أحسَنَ فله في الدُّنيا حَسَنةٌ، فما بالُ مَن آمَنَ في أرضٍ يُضطَهَدُ فيها ويُمتَهَنُ، لا يحصُلُ له ذلك؟! دفَعَ هذا الظَّنَّ بِقَولِه [270] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 720). :
وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ.
 أي: وأرضُ اللهِ فَسيحةٌ، فمَن لم يَستَطِعْ أن يَعبُدَ اللهَ في أرضٍ فلْيُهاجِرْ إلى أُخرى يَتمَكَّنُ فيها مِن إقامةِ دينِه؛ فلا عُذرَ لأحَدٍ في تَرْكِ الهِجرةِ [271] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/179)، ((تفسير ابن عطية)) (4/523)، ((تفسير القرطبي)) (15/240)، ((تفسير ابن كثير)) (7/89)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (16/471، 472)، ((تفسير السعدي)) (ص: 720)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (6/355). وذَكَر الماوَرْديُّ احتِمالًا مال إليه، وهو أنَّ المرادَ بسَعةِ الأرضِ: سَعةُ الرِّزقِ؛ لأنَّه يَرزُقُهم مِن الأرضِ، فيَكونُ معناه: ورِزقُ اللهِ واسِعٌ. يُنظر: ((تفسير الماوردي)) (5/119). قال القرطبيُّ بعدَ أن ذكَرَ كلامَ الماوَرْديِّ: (فتكونُ الآيةُ دليلًا على الانتِقالِ مِن الأرضِ الغاليةِ، إلى الأرضِ الرَّاخيةِ). ((تفسير القرطبي)) (15/241). وقيل: المرادُ بالأرضِ: أرضُ الجنَّةِ، رغَّبَهم في سَعَتِها، وسَعةِ نعيمِها. يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (15/240). .
كما قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا [النساء: 97] .
وقال الله سُبحانَه وتعالى: يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ [العنكبوت: 56] .
إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ.
مناسبتها لما قبلها:
لَمَّا كان الصَّبرُ على هِجرةِ الوَطَنِ -ولا سيَّما إن كان ثَمَّ أهلٌ وعَشيرةٌ- شَديدًا جِدًّا؛ ذَكَر ما للصَّابِرِ على ذلك [272] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (16/472). .
إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ.
أي: إنَّما يُعطَى الصَّابِرونَ على البَلاءِ، وعلى طاعةِ اللهِ وعن مَعصيتِه: ثَوابًا تامًّا كَثيرًا، بغيرِ حَدٍّ ولا عَدٍّ [273] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/179)، ((تفسير ابن الجوزي)) (4/10)، ((تفسير القرطبي)) (15/241)، ((تفسير ابن كثير)) (7/89)، ((تفسير السعدي)) (ص: 720)، ((تفسير ابن عاشور)) (23/355)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الزمر)) (ص: 116-118). قال ابن عطية: (هذا يَحتمِلُ مَعنيَينِ؛ أحَدُهما: أنَّ الصَّابِرَ يُوفَّى أجْرَه، ثمَّ لا يُحاسَبُ عن نَعيمٍ، ولا يُتابَعُ بذُنوبٍ... والمعنى الثَّاني: أنَّ أُجورَ الصَّابرينَ تُوفَّى بغيرِ حَصرٍ ولا عَدٍّ، بل جُزافًا، وهذه استِعارةٌ للكثرةِ الَّتي لا تُحصى... وإلى هذا التَّأويلِ ذهب جُمهورُ المفَسِّرينَ). ((تفسير ابن عطية)) (4/524). ويُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (16/472). ممَّن ذهب مِن السَّلفِ إلى نحوِ المعنى الثَّاني: عليُّ بنُ أبي طالبٍ، وقَتادةُ، وابنُ جُرَيجٍ، وابنُ عَونٍ، وسُلَيمانُ بنُ القاسمِ، ومحمَّدُ بنُ مَيمونٍ. يُنظر: ((الصبر والثواب عليه)) لابن أبي الدنيا (ص: 49)، ((تفسير ابن جرير)) (20/179)، ((تفسير البغوي)) (4/82)، ((الدر المنثور)) للسيوطي (7/215). .

الفوائد التربوية:

1- في قَولِه تعالى: أَمْ مَنْ هُوَ قَانِتٌ آَنَاءَ اللَّيْلِ ... أنَّه تعالى نبَّه على أنَّ الانتِفاعَ بالعَمَلِ إنَّما يَحصُلُ إذا كان الإنسانُ مُواظِبًا عليه؛ فإنَّ القُنوتَ عِبارةٌ عن كَونِ الرَّجُلِ قائِمًا بما يجِبُ عليه مِنَ الطَّاعاتِ، وذلك يدُلُّ على أنَّ العمَلَ إنَّما يُفيدُ إذا واظَبَ عليه الإنسانُ [274] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (26/428). .
2- في قَولِه تعالى: أَمْ مَنْ هُوَ قَانِتٌ آَنَاءَ اللَّيْلِ ... أنَّ القرآنَ الكريمَ يَفْتَحُ للإنسانِ الاستِدلالَ العقليَّ، يعني أنَّه يَعْرِضُ الأشياءَ عَرضًا عقليًّا؛ وذلك بطلب التَّدَبُّرِ والتَّفَهُّمِ، فمثلًا: إذا عَرَضْتَ حالَ القانتِ وحالَ العاصي على العقلِ؛ سيقولُ: لا يَسْتَويان؛ مَن هو قانتٌ آناءَ اللَّيلِ ليس كمَن هو عاصٍ! وهذه مِن الطُّرُقِ الَّتي يَنبغي لطالبِ العلمِ أنْ يَتَّخِذَها عندَ المُناظَرةِ سبيلًا إلى إفحامِ الخَصمِ؛ لأنَّ كثيرًا مِن الخصومِ قد لا يَقتنِعون بمُجرَّدِ الدَّليلِ الأثَريِّ؛ فنَسوقُ إليهم الدَّليلَ النَّظريَّ، ولا سيَّما في الوقتِ الحاضرِ؛ حيثُ اتَّخَذَ كثيرٌ مِن النَّاسِ -إنْ لم يكُنْ: أكثرُهم- طريقَ إبليسَ سبيلًا؛ وهو مُعارَضةُ السَّمعِ بما يَظُنُّه عقلًا! يعني: مُعارَضةَ النُّصوصِ بما يَظُنُّونَ أنَّه عقلٌ، ونحن نَعْلَمُ عِلمَ اليقينِ أنَّه ليس في النُّصوصِ ما يُخالِفُ العقلَ الصَّريحَ أبدًا، بل في النُّصوصِ ما يُؤيِّدُه العقلُ الصَّريحُ، ويكونُ هذا شاهدًا لهذا؛ كلٌّ منهما يَقوَى بالآخَرِ [275] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الزمر)) (ص: 106). .
3- قَولُه تعالى: يَحْذَرُ الْآَخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ فيه أنَّه يَنبغي للإنسانِ أنْ يكونَ في سَيرِه إلى اللهِ جامِعًا بيْنَ الخَوفِ والرَّجاءِ [276] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الزمر)) (ص: 107). .
4- في قَولِه تعالى: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ فَضيلةُ العِلمِ، ولكنْ يجِبُ أن نَعلمَ أنَّ العِلمَ يَشرُفُ بشَرَفِ مَوضوعِه، وعلى هذا فأفضَلُ العُلومِ العِلمُ بأسماءِ اللهِ وصِفاتِه؛ لأنَّ هذا أشرَفُ مَوضوعاتِ العِلمِ؛ ثمَّ العِلمُ بأحكامِه: ((مَن يُرِدِ اللهُ به خَيرًا يُفَقِّهْهُ في الدِّينِ )) [277] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الزمر)) (ص: 109). والحديث أخرجه البخاري (71)، ومسلم (1037) من حديث معاويةَ بنِ أبي سُفْيانَ رضي الله عنهما. .
5- قَولُه تعالى: وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ فيه أنَّ مِن الدَّعوةِ إلى اللهِ، ومِن حُسْنِ الدَّعوةِ: إقامةَ الحُجَّةِ؛ فإنَّه لا عُذْرَ لأحدٍ أنْ يقولَ: لا أَجِدُ مَلجأً، أو لا أجِدُ مُهاجَرًا [278] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الزمر)) (ص: 119). .
6- قولُه تعالى: إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ فيه فضيلةُ الصَّبرِ [279] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الزمر)) (ص: 120). ، عن عُمَرَ بنِ عبدِ العَزيزِ أنَّه خَطَب النَّاسَ فقال: (ما أنعَمَ اللهُ على عبدٍ نِعمةً فانتَزَعها منه، فعاضَه مكانَ ما انتَزَع منه الصَّبرَ: إلَّا كان ما عوَّضه اللهُ خيرًا مِمَّا انتَزَع منه)، ثمَّ تلا: إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ [280] يُنظر: ((مجموع رسائل ابن رجب)) (3/153). والأثر أخرجه ابن أبي الدنيا في ((الصبر والثواب عليه)) (22). .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- في قَولِه تعالى: أَمْ مَنْ هُوَ قَانِتٌ آَنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآَخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ، وقَولِه عزَّ وجَلَّ: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [فاطر: 28] أنَّ كلَّ مَن خَشِيَ اللهَ سُبحانَه وتعالى وأطاعَه وتَرَكَ مَعصيتَه: فهو عالِمٌ [281] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (14/292). .
2- في قَولِه تعالى: أَمْ مَنْ هُوَ قَانِتٌ آَنَاءَ اللَّيْلِ ... إلى آخِرِ الآيةِ: أنَّه بدأ فيها بذِكرِ العَمَلِ، وخَتَمها بذِكرِ العِلمِ؛ أمَّا العَمَلُ فكَونُه قانِتًا ساجِدًا قائِمًا، وأمَّا العِلمُ فقَولُه: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ، فلَمَّا ذَكَر العملَ ذَكَر العِلمَ، وهذا يدُلُّ على أنَّ كَمالَ الإنسانِ مَحصورٌ في هذَينِ المَقصودَينِ [282] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (26/428)، ((تفسير أبي حيان)) (9/189). .
3- في قَولِه تعالى: أَمْ مَنْ هُوَ قَانِتٌ آَنَاءَ اللَّيْلِ تَنبيهٌ على فَضلِ قيامِ اللَّيلِ، وأنَّه أرجَحُ مِن قيامِ النَّهارِ، ويُؤكِّدُه وُجوهٌ:
الأوَّلُ: أنَّ عِبادةَ اللَّيلِ أستَرُ عن العُيونِ؛ فتَكونُ أبْعَدَ عن الرِّياءِ.
الثَّاني: أنَّ الظُّلمةَ تمنَعُ مِن الإبصارِ، ونَومَ الخَلقِ يَمنَعُ مِن السَّماعِ؛ فإذا صار القَلبُ فارِغًا عن الاشتِغالِ بالأحوالِ الخارجيَّةِ عاد إلى المطلوبِ الأصليِّ، وهو مَعرِفةُ اللهِ وعبادتُه.
الثَّالِثُ: أنَّ اللَّيلَ وَقتُ النَّومِ، فتَركُه يكونُ أشَقَّ؛ فيكونُ الثَّوابُ أكثَرَ.
الرَّابِعُ: قَولُه تعالى: إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا [283] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (26/428). [المزمل: 6] .
الخامِسُ: قَولُ النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم: ((أفضلُ الصَّلاةِ بعدَ الفريضةِ صلاةُ اللَّيلِ )) [284] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الزمر)) (ص: 107). والحديث أخرجه مسلم (1163) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. .
4- في قَولِه تعالى: سَاجِدًا وَقَائِمًا فَضيلةُ القيامِ والسُّجودِ مِن بيْنِ أركانِ الصَّلاةِ؛ وذلك أنَّ القيامَ شَريفٌ بذِكرِه، والسُّجودَ شَريفٌ بهَيئتِه [285] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الزمر)) (ص: 107). .
5- قَولُه تعالى: يَحْذَرُ الْآَخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ الرَّدُّ على مَن ذَمَّ العباداتِ خَوفًا مِن النَّارِ، أو رَجاءَ الجنَّةِ، وقد قال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((حَوْلَها نُدَنْدِنُ )) [286] يُنظر: ((الإكليل في استنباط التنزيل)) للسيوطي (ص: 224). والحديث أخرجه أبو داود (792)، وأحمدُ (15898) عن بعض أصحاب النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم. صحَّحه ابنُ حجر في ((نتائج الأفكار)) (2/226)، والألبانيُّ في ((صحيح سنن أبي داود)) (792)، وصحَّح إسنادَه النوويُّ في ((المجموع)) (3/471)، و((الأذكار)) (ص: 68)، وصحَّحه على شرطِ الشَّيخَينِ شعيبٌ الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (15898). .
6- قَولُه تعالى: يَحْذَرُ الْآَخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ أنَّه قال في مَقامِ الخَوفِ: يَحْذَرُ الْآَخِرَةَ فما أضاف الحَذَرَ إلى نَفْسِه، وفي مَقامِ الرَّجاءِ أضافه إلى نَفْسِه، وهذا يدُلُّ على أنَّ جانِبَ الرَّجاءِ أكمَلُ وأليَقُ بحَضرةِ اللهِ تعالى [287] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (26/429). .
7- في قَولِه تعالى: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ حُجَّةٌ لِمَن قال: العالِمُ -وإنْ لم يَعمَلْ بعِلمِه- أفضَلُ مِن جاهلٍ لا يَعمَلُ: بالخَبرِ؛ لأنَّ اللهَ جلَّ وتعالى فَرَضَ العِلمَ والعملَ معًا؛ فمَن أطاعَه في العِلْمِ فقد جاء بشَطْرِ الأمرِ، وبَقِيَ عليه الشَّطْرُ، ويُوشِكُ الشَّطْرُ الَّذي أطاع فيه أنْ يُلْحِقَه بالشَّطْرِ الآخَرِ، والجاهِلُ مُضَيِّعٌ لجَميعِه، وغيرُ آخِذٍ عُدَّةَ العَمَلِ، ودَليلَ النجاةِ [288] يُنظر: ((النكت الدالة على البيان)) للقصاب (4/13). .
8- في قَولِه تعالى: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مَدحُ العِلمِ ورِفعةُ قَدْرِه، وذَمُّ الجَهلِ ونَقصُه [289] يُنظر: ((الإكليل في استنباط التنزيل)) للسيوطي (ص: 224). .
9- في قَولِه تعالى: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ إنَّما وَصَف اللهُ تعالى الكُفَّارَ بأنَّهم لا يَعلَمونَ؛ لأنَّ اللهَ تعالى وإن أعطاهم آلةَ العِلمِ فإنَّهم أعرَضوا عن تَحصيلِ العِلمِ؛ فلِهذا جعَلَهم اللهُ تعالى كأنَّهم لَيسُوا مِن أُولي الألبابِ؛ مِن حيثُ إنَّهم لم يَنتَفِعوا بعُقولِهم وقُلوبِهم، وفي هذا تَنبيهٌ على فَضيلةِ العِلمِ [290] يُنظر: ((تفسير الشربيني)) (3/436). .
10- قَولُه تعالى: إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ فيه الثَّناءُ على ذوي العقولِ؛ حيثُ جَعَلهم هم المُتذَكِّرينَ المُتَّعِظينَ المُنتفِعينَ بما يَسمعونَ، وأنَّ مَن لا يَتذكَّرُ فهو ناقصُ العقلِ؛ لأنَّه إذا كان لا يَتذكَّرُ إلَّا أصحابُ العقولِ؛ فمَن لا يَتذكَّرُ يكونُ ناقصَ العقلِ ولا شكَّ، ونقصانُ عقْلِه بحسَبِ نَقْصِه مِن التَّذَكُّرِ، ووجْهُ ذلك مِن الناحيةِ العقليَّةِ النَّظريَّةِ: أنَّ الإنسانَ العاقلَ لا يمكِنُ أنْ يَختارَ لنفْسِه إلَّا ما فيه النجاةُ؛ ولا نجاةَ مِن عذابِ اللهِ إلَّا بالتَّذَكُّرِ والاتِّعاظِ؛ فلهذا كان العقلُ السَّليمُ يَستلزِمُ أنْ يَتذكَّرَ الإنسانُ ويَتَّعِظَ مِن أجْلِ طَلَبِ ما هو أحَظُّ للنَّفْسِ وأنفعُ وَلَلْآَخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى [291] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الزمر)) (ص: 110). [الضحى: 4] .
11- قَولُه تعالى: قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ فيه أنَّه لا بُدَّ مع الإيمانِ مِن التَّقْوى [292] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الزمر)) (ص: 119). .
12- قال الله تعالى: وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ هناك بِشارةٌ نَصَّ عليها النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، بقَولِه: ((لا يَزالُ مِن أمَّتي أُمَّةٌ قائمةٌ بأمرِ الله، لا يَضُرُّهم مَن خَذَلهم ولا مَن خالَفَهم، حتَّى يأتيَهم أمرُ الله وهم على ذلك )) [293] أخرجه البخاري (3641) واللفظ له، ومسلم (1037) من حديث معاويةَ بنِ أبي سُفيانَ رضي الله عنهما. ، تُشيرُ إليه هذه الآيةُ، وتَرمي إليه مِن قَريبٍ، وهو أنَّه تعالى أخبَرَ أنَّ أرضَه واسِعةٌ، فمهما مُنِعتُم مِن عبادتِه في مَوضِعٍ فهاجِروا إلى غَيرِها، وهذا عامٌّ في كُلِّ زَمانٍ ومَكانٍ؛ فلا بُدَّ أن يكونَ لكُلِّ مُهاجِرٍ مَلجأٌ مِن المُسلِمينَ يَلجَأُ إليه، ومَوضِعٌ يَتمَكَّنُ مِن إقامةِ دينِه فيه [294] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 720، 721). .
13- في قَولِه تعالى: وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ حَثٌّ على الهِجرةِ مِن البَلَدِ الَّذي تَظهَرُ فيه المعاصي، ونَظيرُه قَولُه تعالى: قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا [النساء: 97] [295] يُنظر: ((تفسير الشربيني)) (3/437). . وفيه أيضًا أنَّ الإنسانَ إذا كان في محَلٍّ لا يَتمَكَّنُ فيه مِن إقامةِ دِينِه على الوَجهِ المطلوبِ؛ فعليه أن يُهاجِرَ منه في مَناكِبِ أرضِ اللهِ الواسِعةِ؛ حتَّى يجِدَ محَلًّا تُمكِنُه فيه إقامةُ دينِه [296] يُنظر: ((أضواء البيان)) للشنقيطي (6/355). ويُنظر أيضًا: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الزمر)) (ص: 119). .
14- كَرَمُ اللهِ عزَّ وجَلَّ؛ حيثُ جَعَل الثَّوابَ بمَنزلةِ الأجرِ، كأنَّه مُعاوَضةٌ يُعاوِضُ به العامِلُ؛ لِقَولِه: أَجْرَهُمْ [297] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الزمر)) (ص: 120). .

بلاغة الآيتين:

1- قولُه تعالَى: أَمْ مَنْ هُوَ قَانِتٌ آَنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآَخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ
- قولُه: أَمْ مَنْ هُوَ قَانِتٌ آَنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا على قِراءةِ أَمْ مَنْ هُوَ قَانِتٌ بتَشديدِ مِيمِ (مَن)، على أنَّه لَفظٌ مُركَّبٌ مِن كَلمتَينِ (أمْ) و(مَن)؛ فأُدْغِمَت مِيمُ (أمْ) في مِيمِ (مَن)؛ ففي معناهُ وَجهانِ؛ أحدُهما: أنْ تكونَ (أمْ) مُعادِلةً لِهَمزةِ استِفهامٍ مَحذوفةٍ مع جُملَتِها، دلَّت عليها (أمْ)؛ لاقتِضائِها مُعادِلًا. ودلَّ عليها تَعقيبُه بـ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ؛ لأنَّ التَّسويةَ لا تكونُ إلَّا بيْن شَيئينِ؛ فالتَّقديرُ: أهذا الجاعلُ للهِ أندادًا الكافرُ خيرٌ أمَّن هو قانتٌ؟ والاستِفهامُ حقيقيٌّ، والمقصودُ لازمُه، وهو التَّنبيهُ على الخطَأِ عندَ التَّأمُّلِ. والوجهُ الثَّاني: أنْ تكونَ (أمْ) مُنقطعةً لِمُجرَّدِ الإضرابِ الانتقاليِّ. و(أمْ) تَقْتضي استِفهامًا مُقدَّرًا بعْدَها، ومعنى الكلامِ هنا: دعْ تَهديدَهم بعذابِ النَّارِ، وانتقِلْ بهم إلى هذا السُّؤالِ: الَّذي هو قانتٌ وقائمٌ، ويَحذَرُ اللهَ ويَرْجو رحمتَه. والمعنى: أذَلِكَ الإنسانُ الَّذي جعَلَ للهِ أندادًا هو قانتٌ... إلخ، والاستِفهامُ مُستعمَلٌ في التَّهكُّمِ؛ لِظُهورِ أنَّه لا تَتلاقى تلك الصِّفاتُ الأربعُ -القُنوتُ، والسُّجودُ والقيامُ، والحَذَرُ، ورَجاءُ رَحمةِ اللهِ- مع صِفةِ جَعْلِه للهِ أندادًا. و(أَمْ) إمَّا مُتَّصِلةٌ قد حُذِفَ مُعادِلُها؛ ثِقةً بدَلالةِ مَساقِ الكَلامِ عليه، كأنَّه قيلَ له -تَأكيدًا لِلتَّهديدِ وتَهَكُّمًا به-: أأنتَ أحسَنُ حالًا ومَآلًا، أمَّن هو قائِمٌ بمَواجِبِ الطَّاعاتِ، ودائمٌ على أداءِ وظائفِ العِباداتِ في ساعاتِ اللَّيلِ حالَتَيِ السَّرَّاءِ والضَّرَّاءِ، لا عِندَ مَساسِ الضُّرِّ فقطْ كدَأبِكَ؟! وإمَّا مُنقَطِعةٌ، وما فيها مِنَ الإضْرابِ؛ لِلانتِقالِ مِنَ التَّهديدِ إلى التَّبكيتِ بتَكليفِ الجَوابِ المُلجِئِ إلى الاعتِرافِ بما بَيْنَهما مِنَ التَّبايُنِ البَيِّنِ، كأنَّه قيلَ: بلْ أمَّن هو قانِتٌ... إلخ، أفْضَلُ أمَّن هو كافِرٌ مِثلُكَ.
وعلى قِراءةِ أمَنْ بتَخفيفِ الميمِ -على أنَّ الهمزةَ دخَلَت على (مَن) الموصولةِ-؛ فيجوزُ أنْ تكونَ الهمزةُ همزةَ استِفهامٍ، و(مَن) مُبتدأٌ، والخبَرُ مَحذوفٌ دلَّ عليه الكلامُ قبْلَه مِن ذِكرِ الكافرِ في قولِه: وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا إلى قولِه: مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ [الزمر: 8] . والاستِفهامُ إنكاريٌّ، والقَرينةُ على إرادةِ الإنكارِ تَعقيبُه بقولِه: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ؛ لِظُهورِ أنَّ (هل) فيه للاستِفهامِ الإنكاريِّ، وبقَرينةِ صِلَةِ الموصولِ. تَقديرُه: أمَن هو قانتٌ أفْضَلُ أمَّن هو كافرٌ؟ والاستِفهامٌ حينَئذٍ تَقريريٌّ، ويُقدَّرُ له مُعادلٌ مَحذوفٌ دلَّ عليه قولُه عَقِبَه: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ [298] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (9/188، 189)، ((تفسير أبي السعود)) (7/245)، ((تفسير ابن عاشور)) (23/345، 346). .
- وتَخصيصُ اللَّيلِ بقُنوتِ القانِتينَ؛ لِأنَّ العِبادةَ باللَّيلِ أعْوَنُ على تَمَحُّضِ القَلبِ لِذِكرِ اللهِ، وأبْعَدُ عن مُداخَلةِ الرِّياءِ، وأدَلُّ على إيثارِ عِبادةِ اللهِ على حَظِّ النَّفْسِ مِنَ الرَّاحةِ والنَّومِ؛ فإنَّ اللَّيلَ أدْعى إلى طَلَبِ الرَّاحةِ، فإذا آثَرَ المَرءُ العِبادةَ فيه، استَنارَ قَلبُه بحُبِّ التَّقَرُّبِ إلى الله؛ قال تعالى: إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا [المزمل: 6] ، فلا جَرَمَ كان تَخصيصُ اللَّيلِ بالذِّكرِ دالًّا على أنَّ هذا القانِتَ لا يَخلو مِنَ السُّجودِ والقِيامِ آناءَ النَّهارِ، بدَلالةِ فَحوى الخِطابِ [299] فحْوى الخِطابِ: هو إثباتُ حُكمِ المنطوقِ به للمَسكوتِ عنه بطَريقِ الأَولى، وهو نوعانِ: الأوَّلُ: تَنبيهٌ بالأقَلِّ على الأكثَرِ، كقَولِه تعالى: فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ [الإسراء: 23] ؛ فإنَّه نَبَّه بالنَّهيِ عن قَولِ أُفٍّ على النَّهيِ عن الشَّتمِ والضَّربِ وغيرِ ذلك، ومِثلُه قَولُه تعالى: مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ [آل عمران: 75]. الثَّاني: تنبيهٌ بالأكثَرِ على الأقَلِّ، كقَولِه تعالى: مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ [آل عمران: 75]. يُنظر: ((تقريب الوصول إلى علم الأصول)) لابن جُزَي (ص: 163). ؛ قال تَعالى: إِنَّ لَكَ فِي اَلنَّهَارِ سَبْحًا [المزمل: 7]، وبذلك يَتِمُّ انطِباقُ هذه الصِّلةِ على حالِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ [300] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/346). .
- وتَقديمُ السُّجودِ على القِيامِ في قولِه: سَاجِدًا وَقَائِمًا؛ لِكَونِه أدْخَلَ في مَعنى العِبادةِ [301] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (7/245). .
- وأيضًا قَولُه: سَاجِدًا وَقَائِمًا حالانِ مُبَيِّنانِ لِـ قَانِتٌ، ومُؤَكِّدانَ لِمَعناه. وجُملةُ يَحْذَرُ الْآَخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ حالانِ؛ فالحالُ الأوَّلُ والثَّاني لِوَصفِ عَمَلِه الظَّاهِرِ، والجُملَتانِ اللَّتانِ هما ثالِثٌ ورابِعٌ لِوَصفِ عَمَلِ قَلبِه، وهو أنَّه بيْنَ الخَوفِ مِن سَيِّئاتِه وفَلَتاتِه، وبيْنَ الرَّجاءِ لِرَحمةِ رَبِّه أنْ يُثِيبَه على حَسَناتِه. وفي هذا تَمامُ المُقابَلةِ بيْنَ حالِ المُؤمِنينَ الجاريةِ على وَفْقِ حالِ نَبيِّهم صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وبيْنَ حالِ أهلِ الشِّركِ الَّذين لا يَدْعونَ اللهَ إلَّا في نادِرِ الأوقاتِ، وهي أوقاتُ الاضطِرارِ، ثمَّ يُشرِكونَ به بعدَ ذلك؛ فلا اهتِمامَ لهم إلَّا بعاجِلِ الدُّنيا، لا يَحذَرونَ الآخِرةَ ولا يَرجونَ ثَوابَها [302] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/346، 347). !
- وقَولُه: سَاجِدًا وَقَائِمًا فيه احتِباكٌ [303] تقدم تعريفه (ص: 37). ؛ فذكَرَ السُّجودَ دَليلًا على الرُّكوعِ، والقيامَ دَليلًا على القُعودِ، والسِّرُّ في ذِكرِ ما ذُكِرَ، وتَركِ ما تُرِكَ: أنَّ السُّجودَ يدُلُّ على العِبادةِ، وقَرْنُ القيامِ به دالٌّ على أنَّه قيامٌ منه، فهو عِبادةٌ، وذلك مع الإيذانِ بأنَّهما أعظَمُ الأركانِ؛ فهو نَدبٌ إلى تطويلِهما على الرُّكنَينِ الآخَرَينِ [304] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (16/466). .
- وقولُه: يَحْذَرُ الْآَخِرَةَ قيل: هو استِئنافٌ لِلتَّعليلِ، وَقَع جَوابًا عَمَّا نَشَأ مِن حِكايةِ حالِه مِنَ القُنوتِ والسُّجودِ والقِيامِ، كأنَّه قيلَ: ما بالُه يَفعَلُ ذلك؟ فقيلَ: يَحذَرُ عَذابَ الآخِرةِ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ، فيَنجُو بذلك مِمَّا يَحذَرُه، ويَفوزُ بما يَرجوه، كما يُنبئُ عنه التَّعَرُّضُ لِعُنوانِ الرُّبوبيَّةِ المُنبِئةِ عنِ التَّبليغِ إلى الكَمالِ، مع الإضافةِ إلى ضَميرِ الرَّاجي، لا أنَّه يَحذَرُ ضُرَّ الدُّنيا ويَرجُو خَيرَها فَقطْ [305] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (5/38)، ((تفسير أبي السعود)) (7/245). .
- قولُه: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ استِئنافٌ بَيانيٌّ مَوقِعُه كمَوقِعِ قَولِه: قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا [الزمر: 8] ، أثارَه وَصْفُ المُؤمِنِ الطَّائِعِ، والمَعنى: أعلِمْهم -يا أيُّها الرَّسولُ- بأنَّ هذا المُؤمِنَ العالِمَ بحَقِّ رَبِّه ليس سَواءً لِلكافِرِ الجاهِلِ برَبِّه. وإعادةُ فِعلِ قُلْ؛ لِلاهتِمامِ بهذا المَقولِ، ولِاستِرعاءِ الأسماعِ إليه [306] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/348). .
- والاستِفهامُ في قَولِه: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مُستَعمَلٌ في الإنكارِ، والمَقصودُ: إثباتُ عَدَمِ المُساواةِ بيْن الفَريقَينِ، وعَدَمُ المُساواةِ يُكنَّى به عن التَّفضيلِ، والمُرادُ: تَفضيلُ الَّذين يَعلَمونَ على الَّذين لا يَعلَمونَ، كقولِه تعالى: لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ [النساء: 95] الآيةَ، فيُعرَفُ المُفضَّلُ بالتَّصريحِ، كما في آيةِ لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ [النساء: 95] ، أو بالقَرينةِ، كما في قولِه هنا: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ إلخ؛ لِظُهورِ أنَّ العِلمَ كَمالٌ، ولِتَعْقيبِه بقولِه: إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ [307] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/348). . أو الاستِفهامُ للتَّنبيهِ على أنَّ كَوْنَ الأَوَّلينَ في أعلَى مَعارجِ الخَيرِ، وكَوْنَ الآخَرينَ في أقْصَى مَدارجِ الشَّرِّ، مِنَ الظُّهورِ بحيثُ لا يَكادُ يَخْفَى على أحدٍ؛ مِن مُنصفٍ ومُكابرٍ. وقيل: واردٌ على سَبيلِ التَّشبيهِ، أيْ: كما لا يَستَوي العالِمونَ والجاهِلونَ، كذلك لا يَستَوي القانِتونَ والعاصونَ [308] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/117)، ((تفسير البيضاوي)) (5/38)، ((تفسير أبي السعود)) (7/245). .
- ووُقوعُ فِعلِ يَسْتَوِي في حَيِّزِ النَّفيِ يَكسِبُه عُمومَ النَّفيِ لِجَميعِ جِهاتِ الاستِواءِ، وإذْ قد كان نَفْيُ الاستِواءِ كِنايةً عنِ الفَضلِ، آلَ إلى إثباتِ الفَضلِ لِلَّذين يَعلَمونَ على وَجهِ العُمومِ [309] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/349). .
- وأرادَ بـ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ العامِلينَ مِن عُلَماءِ الدِّيانةِ، كأنَّه جَعَل مَن لا يَعمَلُ غَيرَ عالِمٍ، وفيه ازدِراءٌ عَظيمٌ بالَّذين يَقتَنونَ العُلومَ ثم لا يَقنُتونَ، ويَفْتَنُّون فيها ثم يُفتَنونَ بالدُّنيا؛ فهم عِندَ اللهِ جَهَلةٌ، حيثُ جَعَلَ القانِتينَ همُ العُلماءَ باعتِبارِ القُوَّةِ العِلميَّةِ، بَعدَ نَفيِه باعتِبارِ القُوَّةِ العَمَليَّةِ على وَجهٍ أبلَغَ؛ لِمَزيدِ فَضلِ العِلْمِ [310] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/117)، ((تفسير البيضاوي)) (5/38)، ((تفسير أبي حيان)) (9/188). .
- وفِعلُ يَعْمَلُونَ في المَوضِعَينِ مُنزَّلٌ مَنزلةَ اللَّازِمِ؛ فلم يُذكَرْ له مَفعولٌ، والمَعنى: الَّذين اتَّصَفوا بصِفةِ العِلْمِ، وليس المَقصودُ الَّذين عَلِموا شَيئًا مُعَيَّنًا حتَّى يَكونَ مِن حَذفِ المَفعولَينِ اختِصارًا؛ إذْ ليس المَعنى عليه [311] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/348). .
- وعَدَل في قولِه: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ عن أنْ يَقولَ: (هل يَستَوي هذا وذاك) إلى التَّعبيرِ بالمَوصولِ؛ إدْماجًا لِلثَّناءِ على فَريقٍ، ولِذَمِّ فَريقٍ بأنَّ أهلَ الإيمانِ أهلُ عِلْمٍ، وأهلَ الشِّركِ أهلُ جَهالةٍ، فأغنَتِ الجُملةُ بما فيها مِن إدماجٍ [312] الإدماجُ: أنْ يُدمِجَ المتكلِّمُ غرَضًا في غرضٍ، أو بديعًا في بديعٍ، بحَيثُ لا يَظهرُ في الكلامِ إلَّا أحدُ الغرَضينِ أو أحدُ البَديعَينِ، بمعنى: أن يَجعلَ المتكلِّمُ الكلامَ الَّذي سِيق لمعنًى -مِن مَدحٍ أو غيرِه- مُتضمنًا معنًى آخَرَ، كقولِه تعالى: لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآَخِرَةِ [القصص: 70] ؛ فهذا مِن إدماجِ غرَضٍ في غَرَضٍ؛ فإنَّ الغرَضَ منها تَفرُّدُه تعالى بوصْفِ الحمدِ، وأُدمِجَ فيه الإشارةُ إلى البعثِ والجزاءِ. وقيل: أُدمِجتِ المُبالَغةُ في المُطابَقةِ؛ لأنَّ انفِرادَه بالحمدِ في الآخِرَةِ -وهي الوقتُ الَّذي لا يُحمَدُ فيه سِواهُ- مُبالَغةٌ في الوَصفِ بالانفرادِ بالحمدِ. يُنظر: ((الإتقان)) للسيوطي (3/298)، ((علوم البلاغة البيان المعاني البديع)) للمراغي (ص: 344)، ((البلاغة العربية)) لعبد الرحمن حَبَنَّكَة الميداني (2/427). عن ذِكرِ جُملَتَينِ؛ فالَّذين يَعلَمونَ هم أهلُ الإيمانِ؛ قال تعالى: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [فاطر: 28] ، والَّذين لا يَعلَمونَ هم أهلُ الشِّركِ الجاهِلونُ؛ قال تعالى: قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ [الزمر: 64] . وفي ذلك إشارةٌ إلى أنَّ الإيمانَ أخو العِلْمِ؛ لِأنَّ كِلَيْهما نُورٌ ومعرفةٌ حقٌّ، وأنَّ الكُفرَ أخو الضَّلالِ؛ لِأنَّه والضَّلالَ ظُلمةٌ وأوهامٌ باطِلةٌ [313] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/349). .
- قولُه: إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ كَلامٌ مُستقِلٌّ غيرُ داخلٍ في الكلامِ المأمورِ به، واردٌ مِن جِهَتِه تعالى بعْدَ الأمْرِ بما ذُكِرَ مِن القَوارعِ الزَّاجرةِ عن الكُفْرِ والمعاصِي؛ لِبَيانِ عدَمِ تأْثيرِها في قُلوبِ الكَفرةِ؛ لاختلالِ عُقولِهم، وهو أيضًا كالتَّوطئةِ لإفرادِ المؤمِنينَ بالخِطابِ، والإعراضِ عن غيرِهم؛ أي: إنَّما يَتَّعِظُ بهذه البياناتِ الواضحةِ أصحابُ العقولِ الخالصةِ عن شوائبِ الخَللِ، وأمَّا هؤلاءِ فبمَعزلٍ عن ذلك [314] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (7/245)، ((حاشية الشهاب على البيضاوي)) (7/330)، ((تفسير الألوسي)) (12/237). .
- وقيل: قولُه: إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ واقِعٌ مَوقِعَ التَّعليلِ لِنَفيِ الاستِواءِ بيْنَ العالِمِ وغَيرِه، والمَقصودُ منه تَفضيلُ العالِمِ والعِلْمِ؛ فإنَّ كلمةَ (إنَّما) مُركَّبةٌ مِن حرفَينِ: (إنَّ) و(ما) الكافَّةِ، أو النَّافيةِ؛ فكانت (إنَّ) فيه مُفِيدةً لِتَعليلِ ما قبْلَها، مُغْنيةً غَناءَ فاءِ التَّعليلِ؛ إذ لا فرْقَ بيْن (إنَّ) المفرَدةِ و(إنَّ) المركَّبةِ مع (ما)، بلْ أفادَها التَّركيبُ زِيادةَ تأْكيدٍ، وهو نفْيُ الحُكمِ الَّذي أثبَتَتْه (إنَّ) عن غيرِ مَن أثبَتَتْه له. وقد أُخِذَ في تَعليلِ ذلك جانِبُ إثباتِ التَّذَكُّرِ للعالِمينَ، ونَفيِه مِن غَيرِ العالِمينَ، بطَريقِ الحَصرِ؛ لِأنَّ جانِبَ التَّذكُّرِ هو جانِبُ العَمَلِ الدِّينيِّ، وهو المَقصدُ الأهَمُّ في الإسلامِ؛ لِأنَّ به تَزكيةَ النَّفْسِ والسَّعادةَ الأبَديَّةَ، والألبابُ: العُقولُ، وأُولو الألبابِ: هم أهلُ العُقولِ الصَّحيحةِ، وهم أهلُ العِلْمِ، فلَمَّا كان أهلُ العِلْمِ هم أهلَ التَّذكُّرِ دُونَ غَيرِهم، أفادَ عَدَمَ استِواءِ الَّذين يَعلَمونَ والَّذين لا يَعلَمونَ، فليس قَولُه: إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ كَلامًا مُستَقِلًّا [315] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/351). .
2- قولُه تعالَى: قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ
- قولُه: قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ ... أُمِرَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بتَذكيرِ المُؤمِنينَ، وحَمْلِهم على التَّقْوى والطَّاعةِ، إثْرَ تَخصيصِ التَّذكُّرِ بأُولي الألبابِ؛ إيذانًا بأنَّهم هم، كما سيُصَرَّحُ به، أيْ: قُل لهم قَولي هذا بعَينِه [316] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (7/246). .
- وابتِداءُ المَقولِ بالنِّداءِ وبوَصفِ العُبوديَّةِ المُضافِ إلى ضَميرِ اللهِ تَعالى فيه تَشريفٌ لهم، ومَزيدُ اعتِناءٍ بشَأنِ المَأمورِ به؛ فإنَّ نَقْلَ عَينِ أمْرِ اللهِ أدخَلُ في إيجابِ الامتِثالِ به، وهذا وضْعٌ لهم في مَقامِ المُخاطَبةِ مِنَ اللهِ، وهي دَرَجةٌ عَظيمةٌ [317] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (7/246)، ((تفسير ابن عاشور)) (23/352). .
- وقولُه: قُلْ يَا عِبَادِ فيه مُناسَبةٌ حسَنةٌ، حيثُ قرَأَه العَشَرةُ بدُونِ ياءٍ في الوصْلِ والوقْفِ [318] يُنظر: ((النشر في القراءات العشر)) لابن الجزري (2/138). ، بخِلافِ قولِه تعالى: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ [الزمر: 53] الآتي في هذه السُّورةِ؛ فالمُخالَفةُ بيْنَهما مُجرَّدُ تَفنُّنٍ. وقد يُوجَّهُ هذا التَّخالُفُ بأنَّ المخاطَبينَ في هذه الآيةِ همْ عِبادُ اللهِ المتَّقون؛ فانتِسابُهم إلى اللهِ مُقرَّرٌ، فاستُغْنِيَ عن إظهارِ ضَميرِ الجَلالةِ في إضافتِهم إليه، بخِلافِ الآيةِ الآتيةِ، فليس في كَلمةِ يَا عِبَادِ مِن هذه الآيةِ إلَّا وَجهٌ واحدٌ باتِّفاقِ العشَرةِ؛ ولذلك كتَبَها كُتَّابُ المصحَفِ بدُونِ ياءٍ بعْدَ الدَّالِ [319] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/352). .
- وفي استِحضارِ عِبادِ اللهِ بالمَوصولِ وصِلَتِه الَّذِينَ آَمَنُوا: إيماءٌ إلى أنَّ تَقرُّرَ إيمانِهم مِمَّا يَقتَضي التَّقْوى والامتِثالَ لِلمُهاجَرةِ [320] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/353). .
- والأمْرُ بالتَّقْوى في قولِه: اتَّقُوا رَبَّكُمْ مُرادٌ به الدَّوامُ على المَأمورِ به؛ لِأنَّهم مُتَّقونَ مِن قَبْلُ، وهو يُشعِرُ بأنَّهم قد نَزَل بهم مِنَ الأذَى في الدِّينِ ما يُخشَى عليهم معه أنْ يُقَصِّروا في تَقْواهم، وهذا الأمْرُ تَمهيدٌ لِمَا سَيُوجَّهُ إليهم مِن أمْرِهم بالهِجرةِ؛ لِلسَّلامةِ مِنَ الأذى في دِينِهم، وهو ما عَرَّضَ به في قَولِه: وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ [321] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/352). .
- وجُملةُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وما عُطِفَ عليها: استئنافٌ بَيانيٌّ؛ لأنَّ إيرادَ الأمْرِ بالتَّقوى للمتَّصفينَ بها يُثِيرُ سُؤالَ سائلٍ عن المقصودِ مِن ذلك الأمْرِ، فأُرِيدَ بَيانُه بقولِه: (أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ)، ولكن جُعِل قَولُه: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ تَمهيدًا؛ لِقَصدِ تَعجيلِ التَّكَفُّلِ لهم بمُوافَقةِ الحُسْنى في هِجرَتِهم. ويَجوزُ أنْ تَكونَ جُملةُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ مَسوقةً مَساقَ التَّعليلِ لِلأمْرِ بالتَّقْوى الواقِعِ بَعدَها [322] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/353). ، أو لِوُجوبِ الامتِثالِ به، وإيرادُ الإحسانِ في حَيِّزِ الصِّلةِ دُونَ التَّقْوى؛ لِلإيذانِ بأنَّه مِن بابِ الإحسانِ، وأنَّهما مُتَلازِمانِ، والمُرادُ بـ (الَّذين أحسَنوا): الَّذين اتَّقَوُا اللهَ، وهمُ المُؤمِنونَ الموصوفون بما تقدَّم مِن قولِه: أَمْ مَنْ هُوَ قَانِتٌ [الزمر: 9] الآيةَ، فعَدَلَ عن التَّعبيرِ بضَميرِ الخِطابِ بأنْ يُقالَ: لَكم في الدُّنيا حَسَنةٌ، إلى الإتيانِ باسمِ المَوصولِ الظَّاهِرِ، وهو (الَّذين أحسَنوا)؛ لِيَشملَ المُخاطَبينَ وغَيرَهم مِمَّن ثَبَتتْ له هذه الصِّلةُ، وذلك في مَعنى: اتَّقوا رَبَّكم لِتَكونوا مُحسِنينَ؛ فإنَّ لِلَّذين أحسَنوا حَسَنةً عَظيمةً؛ فكونوا منهم. وتَقديمُ المُسنَدِ في لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ؛ لِلاهتِمامِ بالمُحسَنِ إليهم، وأنَّهم أحْرياءُ بالإحسانِ [323] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (7/246)، ((تفسير ابن عاشور)) (23/353). .
- وتَوسيطُ قولِه: فِي هَذِهِ الدُّنْيَا بيْن لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا وبيْن حَسَنَةٌ نَظْمٌ بليغٌ حسَنٌ ممَّا اختُصَّ به القُرآنُ في مَواقعِ الكَلِمِ؛ لإكثارِ المعاني الَّتي يَسمَحُ بها النَّظْمُ، وهذا مِن طُرُقِ إعجازِ القرآنِ؛ فيَجوزُ أنْ يَكونَ قَولُه: فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حالًا مِن حَسَنَةٌ قُدِّمَ على صاحِبِ الحالِ؛ لِلتَّنبيهِ مِن أوَّلِ الكَلامِ على أنَّها جَزاؤُهم في الدُّنيا؛ لِقِلَّةِ خُطورِ ذلك في بالِهم، ضَمِنَ اللهُ لهم تَعجيلَ الجَزاءِ الحَسَنِ في الدُّنيا قبْلَ ثَوابِ الآخِرةِ، على نحوِ ما أثْنى على مَن يقولُ: رَبَّنَا آَتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآَخِرَةِ حَسَنَةً [البقرة: 201] ، ويجوزُ أنْ يكونَ قولُه: فِي الدُّنْيَا مُتَعَلِّقًا بفعلِ أَحْسَنُوا على أنَّه ظرفٌ لُغَوِيٌّ [324] الظَّرْفُ اللُّغويُّ: هو ما كان العاملُ فيه مذكورًا، نحو: زيدٌ حصَل في الدَّارِ. ينظر: ((التعريفات)) للجرجاني (ص: 143). ، أي: فَعَلوا الحسناتِ في الدُّنيا، فيكونُ المقصودُ التَّنبيهَ على المبادرةِ بالحسناتِ في الحياةِ الدُّنيا قبلَ الفواتِ، والتَّنبيهَ على عدمِ التَّقصيرِ في ذلك [325] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/353، 354). .
- وفي قولِه: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ مُناسَبةٌ حسَنةٌ، حيثُ جاء في نَظيرِ هذه الجُملةِ في سُورةِ (النَّحلِ) قولُه: وَلَدَارُ الْآَخِرَةِ خَيْرٌ [النحل: 30] ، أي: خيرٌ مِن أُمورِ الدُّنيا، ويَكونَ الاقتِصارُ على حَسَنةِ الدُّنيا في آيةِ (الزُّمَر) هنا؛ لِأنَّها مَسوقةٌ لِتَثبيتِ المُسلِمينَ على ما يُلاقونَه مِنَ الأذَى، ولِأمْرِهم بالهِجرةِ عن دارِ الشِّركِ والفِتنةِ في الدِّينِ، فأمَّا ثَوابُ الآخِرةِ فأمْرٌ مُقَرَّرٌ عِندَهم مِن قبْلُ، ومُومأٌ إليه بقَولِه بَعدَه: إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ، أيْ: يُوَفَّوْنَ أجرَهم في الآخِرةِ [326] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/354). .
- وأيضًا قولُه: فِي هَذِهِ الدُّنْيَا فيه نُكتةٌ، وهي أنَّ اسمَ الإشارةِ لِلإشعارِ بأنَّ الدَّارَ الدُّنيا نِعْمَ الدَّارُ إنْ جُعِلَتْ مَكانًا لِلعَمَلِ، وحَرثًا لِلآخِرةِ [327] يُنظر: ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (13/355). .
- وتَنوينُ حَسَنَةٌ لِلتَّعظيمِ، وهو بالنِّسبةِ لِحَسَنةِ الآخِرةِ لِلتَّعظيمِ الذَّاتيِّ، وبالنِّسبةِ لِحَسَنةِ الدُّنيا تَعظيمٌ وَصْفيٌّ، أيْ: حَسَنةٌ أعظَمُ مِنَ المُتَعارَفِ، وأيًّا ما كان فاسْمُ الإشارةِ في قَولِه: فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لِتَمييزِ المُشارِ إليه، وإحضارِه في الأذهانِ، وعليه فالمُرادُ بـ حَسَنَةٌ يَحتمِلُ حَسَنةَ الآخِرةِ، ويَحتمِلُ حَسَنةَ الدُّنيا [328] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/354). .
- وقولُه: وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ مُتَّصِلٌ بقَولِه: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ، مُستَأنَفٌ لِتَعليلِ الأمْرِ بالتَّقْوى، وإنَّما قُيِّدَ الفِعلُ بالظَّرفِ -وهو فِي هَذِهِ الدُّنْيَا- لِلإشعارِ بأنَّ الدُّنيا مَكانُ الإحسانِ، ومَزرَعةٌ لِحَرثِ الآخِرةِ، فأُريدَ تَتميمُ ذلك المَعنى، فقيلَ: وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ؛ لِئلَّا يَعتَذِرَ العامِلُ لِتَفريطِه في الأعمالِ بالاعتِلالِ بالأوطانِ، وأنَّه لم يَكُنْ مُتَمكِّنًا مِنَ الإحسانِ في أرضِه، كأنَّه قيلَ لهم: اتَّقوا رَبَّكم فيما تَأتونَ به وتَذَرونَ، وتَيَقَّنوا بحُصولِ أمْرَيْنِ: جَزاءِ الإحسانِ، وفُسحةِ المَكانِ، فهاجِروا وتَحَوَّلوا إنْ لم تَتَمكَّنوا مِنَ التَّقْوى في أرضِكم، ثمَّ اتَّجَه لهم أنْ يَسألوا ويَقولوا: فماذا يَكونُ بَعدَ تلك الحَسَنةِ لنا مِنَ الأجْرِ حِينَئِذٍ؟ فأُجيبوا: إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ، يعني أنَّ اللهَ تعالى وَفَّي أجْرَ مَن سَبَق عليكم مِنَ الأنبياءِ والصَّالِحينَ بصَبرِهم على مُهاجَرَتِهم إلى غَيرِ بِلادِهم؛ لِيَزدادوا إحسانًا إلى إحسانِهم، وطاعةً إلى طاعَتِهم، فلَكُمُ الأجْرُ وتَوفيَتُه إذا اقتَفَيتُم أثَرَهم، واقتَدَيتُم بهُداهم [329] يُنظر: ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (13/354)، ((تفسير أبي حيان)) (9/190). .
- وأيضًا قولُه: وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ عَطفٌ على قَولِه: قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ عَطفَ المَقصودِ على التَّوطِئةِ، وهو خَبَرٌ مُستعمَلٌ في التَّعريضِ بالحَثِّ على الهِجرةِ في الأرضِ؛ فِرارًا بدِينِهم مِنَ الفِتَنِ، بقَرينةِ أنَّ كَونَ الأرضِ واسِعةً أمْرٌ مَعلومٌ، لا يَتعَلَّقُ الغَرَضُ بإفادَتِه، وإنَّما كُنِّيَ به عن لازِمِ مَعناه، والوَجهُ أنْ تَكونَ جُملةُ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ مُعتَرِضةً، والواوُ اعتِراضيَّةٌ؛ لِأنَّ تلك الجُملةَ جَرَتْ مَجرى المَثَلِ، ونُكتةُ الكِنايةِ هنا: إلقاءُ الإشارةِ إليهم بلُطفٍ وتَأنيسٍ دُونَ صَريحِ الأمْرِ؛ لِمَا في مُفارَقةِ الأوطانِ مِنَ الغَمِّ على النَّفْسِ، وأمَّا الآيةُ الَّتي في سُورةِ (النِّساءِ): قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا [النساء: 97] ؛ فإنَّها حِكايةُ تَوبيخِ المَلائِكةِ لِمَن لم يُهاجِروا [330] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/354، 355). .
- ومَوقِعُ جُملةِ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ مَوقِعُ التَّذييلِ لِجُملةِ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا وما عُطِفَ عليها؛ لِأنَّ مُفارَقةَ الوَطَنِ والتَّغرُّبَ والسَّفَرَ مَشاقُّ لا يَستَطيعُها إلَّا صابِرٌ؛ فذَيَّلَ الأمْرَ به بتَعظيمِ أجْرِ الصَّابِرينَ لِيَكونَ إعلامًا للمُخاطَبينَ بأنَّ أجرَهم على ذلك عَظيمٌ؛ لِأنَّهم حِينَئذٍ مِنَ الصَّابِرينَ الَّذين أجْرُهم بغَيرِ حِسابٍ. وصِيغةُ العُمومِ في قَولِه: الصَّابِرُونَ تَشمَلُ كُلَّ مَن صَبَر على مَشَقَّةٍ في القِيامِ بواجِباتِ الدِّينِ، وامتِثالِ المَأموراتِ، واجتِنابِ المَنهيَّاتِ، ومَراتِبُ هذا الصَّبرِ مُتفاوِتةٌ، وبقَدْرِها يَتفاوَتُ الأجْرُ [331] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/355). .
- وفي قَولِه: إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ تَرغيبٌ في التَّقْوى المَأمورِ بها. وإيثارُ (الصَّابِرينَ) على (المُتَّقينَ)؛ لِلإيذانِ بأنَّهم حائِزونَ لِفَضيلةِ الصَّبرِ كحيازَتِهم لِفَضيلةِ الإحسانِ؛ لِمَا أُشيرَ إليه مِن استِلزامِ التَّقْوى لهما، مع ما فيه مِن زيادةِ حثٍّ على المُصابَرةِ والمُجاهَدةِ في تَحمُّلِ مَشاقِّ المُهاجَرةِ ومَتاعِبِها [332] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (7/246). .
- والحَصرُ المُستَفادُ مِن إِنَّمَا مُنصَبٌّ على القَيدِ، وهو بِغَيْرِ حِسَابٍ، والمَعنى: ما يُوَفَّى الصَّابِرونَ أجْرَهم إلَّا بغَيرِ حِسابٍ، وهو قَصرُ قَلبٍ [333] القصرُ أو الحَصرُ في اصطِلاحِ البلاغيِّينَ هو: تَخصيصُ شَيءٍ بشَيءٍ وحصْرُه فيه، ويُسمَّى الأمرُ الأوَّلُ: مَقصورًا، والثَّاني: مقصورًا عليه؛ مثل: إنَّما زَيدٌ قائمٌ، و: ما ضرَبتُ إلَّا زيدًا. وينقسِمُ إلى قَصْرٍ حقيقيٍّ، وقصرٍ إضافيٍّ، وادِّعائيٍّ، وقصرِ قَلْبٍ؛ فالحقيقيُّ هو: أن يختصَّ المقصورُ بالمقصورِ عليه بحسَبِ الحقيقةِ والواقِعِ، بألَّا يتعدَّاه إلى غيرِه أصلًا، مِثل: لا إلهَ إلَّا اللهُ، حيثُ قُصِر وصْفُ الإلَهيَّةِ الحقِّ على موصوفٍ هو اللهُ وحْدَه، وهذا مِن قصرِ الصِّفةِ على المَوصوفِ، وهو قصرٌ حقيقيٌّ. والقصرُ الإضافيُّ: أن يكونَ المقصورُ عنه شيئًا خاصًّا، يُرادُ بالقصرِ بيانُ عدَمِ صحَّةِ ما تصوَّره بشأنِه أو ادَّعاه المقصودُ بالكلامِ، أو إزالةُ شكِّه وترَدُّدِه، إذا كان الكلامُ كلُّه منحصرًا في دائرةٍ خاصَّةٍ؛ فليس قصرًا حقيقيًّا عامًّا، وإنَّما هو قصرٌ بالإضافةِ إلى موضوعٍ خاصٍّ، يَدورُ حوْلَ احتمالَينِ أو أكثرَ مِن احتمالاتٍ محصورةٍ بعددٍ خاصٍّ، ويُستدَلُّ عليها بالقرائنِ. مِثلُ قولِه تعالى: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ [آل عمران: 144]. والقصرُ الادِّعائيُّ: ما كان القصرُ الحقيقيُّ فيه مبنيًّا على الادِّعاءِ والمبالَغةِ؛ بتنزيلِ غيرِ المذكور منزلةَ العدَمِ، وقصْر الشَّيءِ على المذكورِ وحْدَه. وقصْرُ القَلبِ: أن يَقلِبَ المتكلِّمُ فيه حُكمَ السامعِ؛ كقولِك: ما شاعرٌ إلَّا زيدٌ، لِمَن يَعتقِدُ أنَّ شاعرًا في قبيلةٍ معيَّنةٍ أو طرَفٍ مُعَيَّنٍ، لكنَّه يقولُ: ما زيدٌ هناك بشاعِرٍ. وللقَصرِ طُرُقٌ كثيرةٌ؛ منها: القصرُ بالنَّفيِ والاستثناءِ، والقصرُ بـ (إنَّما)، والقصرُ بتقديمِ ما حَقُّه التأخيرُ، وغيرُ ذلك. يُنظر: ((مفتاح العلوم)) للسكَّاكي (ص: 288)، ((الإيضاح في علوم البلاغة)) للقزويني (1/118) و(3/6)، ((التعريفات)) للجُرْجاني (1/175، 176)، ((الإتقان)) للسيوطي (3/167)، ((جواهر البلاغة)) للهاشمي (ص: 167، 168)، ((البلاغة العربية)) لعبد الرحمن حَبَنَّكَة الميداني (1/525).. مَبنيٌّ على قَلبِ ظَنِّ الصَّابرينَ أنَّ أجْرَ صَبرِهم بمِقدارِ صَبرِهم، أيْ: أنَّ أجْرَهم لا يَزيدُ على مِقدارِ مَشَقَّةِ صَبرِهم [334] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/356). .
- وفي ذِكرِ التَّوفيةِ وإضافةِ الأجْرِ إلى ضَميرِهم أَجْرَهُمْ، تَأنيسٌ لهم بأنَّهمُ استَحَقُّوا ذلك، لا مِنَّةَ عليهم فيه، وإنْ كانتِ المِنَّةُ للهِ على كُلِّ حالٍ [335] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/356). .
- وقولُه: بِغَيْرِ حِسَابٍ كِنايةٌ عنِ الوَفرةِ والتَّعظيمِ؛ لِأنَّ الشَّيءَ الكثيرَ لا يُتصَدَّى لِعَدِّه، والشَّيءَ العظيمَ لا يُحاطُ بمِقدارِه؛ فإنَّ الإحاطةَ بالمِقدارِ ضَربٌ مِنَ الحِسابِ، وذلك شَأنُ ثَوابِ الآخِرةِ الَّذي لا يَخطُرُ على قَلبِ بَشَرٍ [336] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/355). .