موسوعة التفسير

سورةُ الانشِقاقِ
الآيات (7-15)

ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ

غريب الكلمات:

ثُبُورًا: أي: هَلاكًا، والثُّبُورُ: الهَلاكُ والفَسادُ، وأصلُ (ثبر): يدُلُّ على هَلاكٍ [48] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 310)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 171)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/400)، ((المفردات)) للراغب (ص: 171)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 330). .
وَيَصْلَى سَعِيرًا: أي: يَدخُلُ النَّارَ، ويذُوقُ حَرَّها، والصَّلَى أصلُه: الإيقادُ بالنَّارِ، وأصلُ (صلى) هنا: النَّارُ، وأصلُ (سعر): يَدُلُّ على اشتعالِ الشَّيءِ واتِّقادِه وارتِفاعِه [49] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/75، 300)، ((المفردات)) للراغب (ص: 490)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 166). .
يَحُورَ: أي: يَرجِعَ ويُبعَثَ، وأصلُ (حور) هنا: يدُلُّ على رُجوعٍ [50] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 521)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 527)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/115)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 456)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 987). .

المعنى الإجمالي:

يقولُ تعالى مفصِّلًا عاقِبةَ ذلك الكَدْحِ مُبتَدِئًا بحالِ السُّعداءِ: فأمَّا المؤمِنُ الَّذي يُعطَى كِتابَ أعمالِه بيَمينِه، فسَوْفَ يُحاسَبُ يومَ القيامةِ حِسابًا سَهْلًا يَسيرًا بلا مناقَشةٍ، ويَنصَرِفُ إلى أهلِه في الجَنَّةِ مَسرورًا.
 ثمَّ يبيِّنُ سُبحانَه حالَ الأشقياءِ، فيقولُ: وأمَّا الكافِرُ الَّذي يُعطَى كِتابَ أعمالِه بشِمالِه مِن خَلْفِ ظَهْرِه، فسَوْفَ يُنادي على نَفْسِه بالهَلاكِ والخُسْرانِ، ويَدخُلُ النَّارَ فيَحتَرِقُ فيها.
ثمَّ يبيِّنُ سُبحانَه الأسبابَ الَّتي أدَّتْ به إلى هذه العاقِبةِ، فيقولُ: إنَّه كان في الدُّنيا مسرورًا في أهلِه باتِّباعِ هَواه وفِعْلِه المعاصيَ، فَرِحًا بدُنْياه وشَهَواتِها، إنَّه ظَنَّ في الدُّنيا أنَّه لن يَرجِعَ إلى رَبِّه بعْدَ مَوتِه؛ لِيُحاسِبَه على أعمالِه، وليس الأمرُ كما يَظُنُّه هذا المكَذِّبُ بالبَعْثِ؛ فإنَّه سيُبعَثُ حَيًّا بعدَ مَوتِه، إنَّ اللهَ بصيرٌ به ومُطَّلِعٌ على أعمالِه، وسيُجازيه عليها.

تفسير الآيات:

فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ (7).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا كان مِن المعلومِ أنَّ عَبيدَ المَلِكِ إذا عُرِضوا عليه كان فيهم المقبولُ والمردودُ؛ بسَبَبِ أنَّ كَدْحَهم تارةً يكونُ حَسَنًا، وتارةً يكونُ سَيِّئًا؛ قال مُعَرِّفًا أنَّ الأمرَ في لقائِه كذلك على ما نَعهَدُ؛ فمَن كان مقبولًا أُعطِيَ كِتابَه بيمينِه، ومَن كان مردودًا أُعطِيَ كتابَه بشِمالِه؛ فتَرْجَمَ هذا الغَرَضَ [51] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (21/339). بقولِه:
فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ (7).
أي: فأمَّا المؤمِنُ الَّذي يُعطَى كِتابَ أعمالِه، فيَتَسلَّمُه بيَدِه اليُمْنى [52] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/236)، ((تفسير القرطبي)) (19/272)، ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 113). .
فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا (8).
أي: فسوف يُحاسَبُ يومَ القيامةِ حِسابًا سَهْلًا، فتُعرَضُ عليه سَيِّئاتُه المكتوبةُ بلا مناقَشةٍ وتدقيقٍ وإطالةٍ، ولا يُؤاخَذُ بها [53] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/236، 239)، ((الوسيط)) للواحدي (4/452)، ((تفسير القرطبي)) (19/272)، ((درء تعارض العقل والنقل)) لابن تيمية (7/48)، ((تفسير ابن كثير)) (8/356)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (21/340)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/223). .
كما قال تعالى: يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولَئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا [الإسراء: 71] .
وعن عائِشةَ رَضِيَ الله عنها، أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((مَنْ حُوسِبَ عُذِّبَ. فقُلتُ: أوَلَيس يقولُ اللهُ تعالى: فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا؟! فقال: إنَّما ذلكِ العَرضُ، ولكِنْ مَن نُوقِشَ [54] نُوقِشَ: استُقصِيَ عليه. يُنظر: ((شرح النووي على مسلم)) (17/208). الحِسابَ يَهلِكْ)) [55] رواه البخاريُّ (103) واللَّفظُ له، ومسلمٌ (2876). .
وعن عبدِ اللهِ بنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهما، قال: سَمِعتُ رَسولَ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقولُ: ((إنَّ اللهَ يُدْنِي المؤمِنَ فيَضَعُ عليه كَنَفَه [56] كَنَفَه: سَتْرَه. يُنظر: ((خلق أفعال العباد)) للبخاري (ص: 78)، ((شرح النووي على مسلم)) (17/87). ويَستُرُه، فيقولُ: أتَعْرِفُ ذَنْبَ كذا؟ أتعرِفُ ذَنْبَ كذا؟ فيقولُ: نَعَمْ، أيْ رَبِّ! حتَّى إذا قَرَّره بذُنُوبِه، ورأى في نَفْسِه أنَّه هَلَك، قال: ستَرْتُها عليك في الدُّنيا، وأنا أغفِرُها لك اليَومَ، فيُعطَى كِتابَ حَسَناتِه )) [57] رواه البخاريُّ (2441) واللَّفظُ له، ومسلمٌ (2768). .
وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا (9).
أي: ويَنصَرِفُ إلى أهلِه في الجَنَّةِ مَسرورًا بنَجاتِه مِن الجَحِيمِ، وبما أعطاه اللهُ مِن النَّعيمِ العَظيمِ [58] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/239)، ((الوسيط)) للواحدي (4/453)، ((تفسير ابن كثير)) (8/357)، ((تفسير السعدي)) (ص: 917)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/223). قيل: المرادُ بـ أَهْلِهِ: زَوجاتُه مِنَ الحُورِ العِينِ، والآدَمِيَّاتِ. ومِمَّن قال بهذا: الواحديُّ، والبغويُّ، وابنُ الجَوزيِّ، والخازنُ. يُنظر: ((الوسيط)) للواحدي (4/453)، ((تفسير البغوي)) (5/229)، ((تفسير ابن الجوزي)) (4/420)، ((تفسير الخازن)) (4/409). وقيل: هم: أزواجُه مِنَ الحُورِ العِينِ. ومِمَّن قال بهذا: ابنُ أبي زَمَنِين، والقرطبيُّ. يُنظر: ((تفسير ابن أبي زمنين)) (5/112)، ((تفسير القرطبي)) (19/272). وقال الألوسي: (وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا أي: عَشيرتِه المؤمنينَ). ((تفسير الألوسي)) (15/289). وقال ابنُ عاشور: (الأهلُ: العَشيرةُ مِن زَوجةٍ وأبناءٍ وقَرابةٍ). ((تفسير ابن عاشور)) (30/223). وقال أبو السعود: (وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا أي: عشيرتِه المؤمنينَ، أو فريقِ المؤمنينَ). ((تفسير أبي السعود)) (9/132). وقال الشوكاني: (وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا أي: ويَنصَرِفُ بعدَ الحِسابِ اليَسيرِ إلى أهلِه الَّذين هم في الجنَّةِ مِن عَشيرتِه، أو إلى أهلِه الَّذين كانوا له في الدُّنيا مِن الزَّوجاتِ والأولادِ وقد سَبَقوه إلى الجنَّةِ، أو إلى مَن أعَدَّه اللهُ له في الجنَّةِ مِنَ الحُورِ العِينِ والوِلْدانِ المخَلَّدينَ، أو إلى جميعِ هؤلاء، مسرورًا مُبتَهِجًا بما أُوتِيَ مِنَ الخَيرِ والكرامةِ). ((تفسير الشوكاني)) (5/493). .
كما قال تعالى: فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ * إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ * فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ * قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ * كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ [الحاقة: 19 - 24] .
وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ (10).
أي: وأمَّا الكافِرُ الَّذي يُعطَى كِتابَ أعمالِه، فيَتسَلَّمُه بشِمالِه مِن خَلْفِ ظَهْرِه [59] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/240)، ((الوسيط)) للواحدي (4/453)، ((تفسير ابن كثير)) (8/358)، ((تفسير السعدي)) (ص: 917)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/223). .
كما قال تعالى: وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ * يَا ‎لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ * مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ [الحاقة: 25 - 29] .
فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا (11).
أي: فسوف يُنادي على نَفْسِه بالهَلاكِ والخُسْرانِ؛ نَدامةً وحَسرةً مِمَّا يَرى في كتابِه من السَّيِّئاتِ [60] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/240)، ((الوسيط)) للواحدي (4/453)، ((تفسير القرطبي)) (19/272)، ((تفسير ابن كثير)) (8/358)، ((تفسير السعدي)) (ص: 917)، ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 114). .
كما قال تعالى: وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا [الكهف: 49] .
وَيَصْلَى سَعِيرًا (12).
أي: ويَنغَمِسُ في النَّارِ المُلتَهِبةِ الشَّديدةِ التَّوَقُّدِ، فيَحتَرِقُ فيها [61] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/241)، ((الوجيز)) للواحدي (ص: 1187)، ((تفسير القرطبي)) (19/272)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (21/344). .
كما قال تعالى: وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا * إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآَيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ [النساء: 55-56] .
إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا (13).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا ذَكَر العَذابَ الَّذي لا يُطاقُ؛ أتْبَعَه سَبَبَه؛ تَرهيبًا منه، وحثًّا على التَّوبةِ [62] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (21/344). .
إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا (13).
أي: إنَّه كان في الدُّنيا مسرورًا في أهلِه باتِّباعِ هَواه، ورُكوبِ شهوتِه، واقترافِ المعاصي، فَرِحًا بدُنْياه، لا يُفَكِّرُ في عاقِبةِ أعمالِه، ولا يَخافُ عَذابَ الآخِرةِ [63] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/241)، ((الوسيط)) للواحدي (4/454)، ((تفسير ابن كثير)) (8/358)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (21/344). قال ابن عطية: (وقولُه تعالى: فِي أَهْلِهِ يريدُ: في الدُّنيا). ((تفسير ابن عطية)) (5/458). .
إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ (14).
أي: إنَّ هذا الكافِرَ قد ظَنَّ في الدُّنيا أنَّه لن يَرجِعَ إلى رَبِّه بعْدَ مَوتِه؛ لِيُحاسِبَه ويُجازِيَه على أعمالِه، فلَمْ يَكُنْ يَخشَى عِقابًا أو يَرجو ثَوابًا [64] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/242)، ((تفسير القرطبي)) (19/273)، ((تفسير ابن كثير)) (8/358)، ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 115). .
كما قال تعالى: وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ [الجاثية: 24] .
بَلَى إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيرًا (15).
أي: ليس الأمرُ كما يَظُنُّه هذا المكَذِّبُ بالبَعْثِ؛ فإنَّه سيُبعَثُ حَيًّا بعدَ مَوتِه، واللهُ بصيرٌ به ومُطَّلِعٌ على أعمالِه، فلا يخفى عليه كُفْرُه أو عِصيانُه، وسيُجازيه على ذلك [65] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/243)، ((الوسيط)) للواحدي (4/454)، ((تفسير القرطبي)) (19/274)، ((تفسير ابن كثير)) (8/358)، ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 115). قال البِقاعي: (بَصِيرًا أي: ناظِرًا له وعالِمًا به أبلَغَ نَظَرٍ وأكمَلَ عِلمٍ؛ فتَرْكُه مُهمَلًا -مع العِلمِ بأعمالِه- مُنافٍ للحِكمةِ والعَدْلِ والمُلْكِ؛ فهو شَيءٌ لا يمكِنُ في العَقْلِ بوَجهٍ). ((نظم الدرر)) (21/345). .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- قال تعالى: فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ الكِتابُ: صَحيفةُ الأعمالِ، وجُعِلَ إيتاؤُه إيَّاه بيَمينِه شِعارًا للسَّعادةِ؛ لِما هو مُتَعارَفٌ مِن أنَّ اليَدَ اليُمْنى تَتناوَلُ الأشياءَ الزَّكيَّةَ [66] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/222). .
2- قَولُه تعالى: وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا دَلالةٌ على أنَّه سبحانه أعَدَّ له ولأهلِه في الجَنَّةِ ما يَليقُ به مِنَ الثَّوابِ [67] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (31/98). .
3- اربِطْ بيْن قَولِه تعالى فيمَن أُوتِيَ كِتابَه بيَمينِه: وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا، وهذا: كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا تجِدْ فرقًا بيْن السُّرورَينِ؛ فسُرورُ الأوَّلِ سرورٌ دائِمٌ -نسألُ اللهَ أن يجعَلَنا منهم-، وسرورُ الثَّاني سُرورٌ زائِلٌ [68] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 115). .
4- في قَولِه تعالى: وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ سُؤالٌ عن وَجهِ الجَمعِ مع قَولِه تعالى: وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ [الحاقة: 25] ؟
الجوابُ: يُؤتَى كِتابَه بشِمالِه، فيكونُ الأخذُ بالشِّمالِ، ولكِنْ تُلوى يَدُه الشِّمالُ إلى الخَلْفِ حتَّى تكونَ مِن وراءِ ظهْرِه، والجزاءُ مِن جنسِ العملِ؛ فكما أنَّ هذا الرَّجُلَ جَعَلَ كتابَ اللهِ وراءَ ظَهْرِه، أُعطِيَ كتابَه يومَ القيامةِ مِن وراءِ ظَهْرِه؛ جَزاءً وِفاقًا [69] يُنظر: ((مجموع فتاوى ورسائل العثيمين)) (3/180)، ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 114). ويُنظر أيضًا: ((نظم الدرر)) للبقاعي (21/343). . وقيل: بَعضُهم يُعطَى بشِمالِه، وبعضُهم مِن وَراءِ ظَهرِه [70] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (31/99). .
5- في قَولِه تعالى: وَيَصْلَى سَعِيرًا * إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا بيانُ نتيجةِ سُرورِ أولئك في الدُّنيا، بأنَّهم يَصْلَونَ سَعيرًا، ولم يُبَيِّنْ سَبَبَ سُرورِ الآخَرِينَ، ولكِنْ بَيَّنَه في موضِعٍ آخَرَ: وهو خَوفُهم مِنَ اللهِ في قَولِه تعالى: قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ * فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ * إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ [الطور: 26 - 28]، وهنا يقالُ: إنَّ اللهَ سُبحانَه لم يجمَعْ على عَبْدِه خَوفَينِ، ولم يُعْطِه الأمْنَينِ معًا؛ فمَن خافه في الدُّنيا أمَّنَه في الآخِرةِ: وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ [الرحمن: 46]، وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى [النازعات: 40-41] ، ومَنْ أَمِنَ مَكْرَ اللهِ، وقضى كُلَّ شَهَواتِه، وكان لا يُبالي؛ فيُؤتى كِتابَه بشِمالِه، ويَصلَى سَعيرًا، كما في قَولِه تعالى: وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ * فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ * وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ * لَا بَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ * إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ * وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ * وَكَانُوا يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ [الواقعة: 41 - 47] تكذيبًا للبَعْثِ، وقَولُه هذا هو بعَينِه المذكورُ في هذه الآياتِ: إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ [71] يُنظر: ((تتمة أضواء البيان)) لعطية سالم (8/470). .
6- السُّرورُ ورَد فى القرآنِ على أَوجهٍ؛ منها: سُرورُ أهلِ الدُّنيا بدُنْياهم، كما في قَولِه تعالى: إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا، ومنها سرورُ المطيعينَ بنَعيمِ العُقْبَى، كما في قولِه: وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا، وفيه تنبيهٌ على أنَّ سُرورَ الآخرةِ يُضادُّ سُرورَ الدُّنيا [72] يُنظر: ((بصائر ذوي التمييز)) للفيروزابادي (3/209). .
7- في قَولِه تعالى: إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا * إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ أنَّ السُّرورَ في الدُّنيا، وعدَمَ الخَوفِ مِنَ اللهِ: سَبَبُ العَذابِ يومَ القيامةِ، وقد تقَرَّر في مَسلَكِ الإيماءِ والتنبيهِ [73] دلالةُ الإيماءِ والتَّنبيهِ: أن يُذكرَ وصْفٌ مُقتَرِنٌ بحُكمٍ في نصٍّ مِن نصوصِ الشَّرعِ على وجهٍ لو لم يكُنْ ذلك الوصفُ علَّةً لذلك الحُكمِ لَكان الكلامُ معيبًا. يُنظر: ((مذكرة في أصول الفقه)) للشنقيطي (ص: 283)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (5/360). أنَّ «إنَّ» المكسورةَ المشَدَّدةَ مِن حُروفِ التَّعليلِ، فقَولُه: إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا عِلَّةٌ لِقَولِه: فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا * وَيَصْلَى سَعِيرًا [74] يُنظر: ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/457). .
8- قَولُه تعالى: إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ يُشعِرُ أنَّ عدَمَ الإيمانِ بالبَعثِ أو الشَّكَّ فيه: هو الدَّافِعُ لكُلِّ سُوءٍ، والمُضَيِّعُ لكُلِّ خَيرٍ، وأنَّ الإيمانَ باليَومِ الآخِرِ هو المُنطَلَقُ لكُلِّ خيرٍ، والمانِعُ لكُلِّ شَرٍّ، والإيمانُ بالبَعْثِ هو مُنطَلَقُ جميعِ الأعمالِ الصَّالحةِ كما في مُستَهَلِّ المُصحَفِ: هُدًى لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآَخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ [75] يُنظر: ((تتمة أضواء البيان)) لعطية سالم (8/471). [البقرة: 2- 4] .
9- في قَولِه تعالى: بَلَى إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيرًا إشارةٌ إلى حِكمةِ البَعْثِ للجَزاءِ؛ لأنَّ رَبَّ النَّاسِ عَليمٌ بأحوالِهم؛ فمنهم المصلِحُ، ومنهم المفسِدُ، والكُلُّ متفاوِتونَ في ذلك؛ فليس مِن الحِكمةِ أن يَذهَبَ المُفسِدُ بفَسادِه وما ألحَقَه بالموجوداتِ مِن مَضَارَّ، وأن يُهمَلَ صَلاحُ المُصلِحِ؛ فجَعَل اللهُ الحياةَ الأَبَديَّةَ، وجَعَلَها للجَزاءِ على ما قَدَّم صاحِبُها في حياتِه الأُولى [76] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/225). .

بلاغة الآيات:

1- قولُه تعالَى: فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ * فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا * وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا هذا تَفصيلُ الإجْمالِ الَّذي في قولِه: إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ [الانشقاق: 6] ، أي: رُجوعُ جَميعِ النَّاسِ أولئك إلى اللهِ؛ فمَنْ أُوتيَ كِتابَه بيَمينِه فَريقٌ مِن النَّاسِ هم المُؤمِنون، ومَن أُوتيَ كِتابَه وَراءَ ظَهْرِه فَريقٌ آخَرُ، وهم المُشرِكون، وبيْنَ مُنتهاهُما مَراتبُ، وإنَّما جاءَتْ هذه الآيةُ على اعتِبارِ تَقسيمِ النَّاسِ يَومَئذٍ بيْنَ أَتقِياءَ ومُشرِكين [77] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/222). .
- في قَولِه تعالى: فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ إلى قَولِه: وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ احتباكٌ [78] الاحْتِبَاك: هو الحذفُ مِن الأوائلِ لِدَلالةِ الأواخِرِ، والحذفُ مِن الأواخِرِ لدَلالةِ الأوائلِ، إذا اجتمَع الحذفانِ معًا، وله في القرآنِ نظائرُ، وهو مِن إبداعاتِ القُرآنِ وعناصِرِ إعجازِه، وهو مِن ألْطفِ الأنواعِ. يُنظر: ((الإتقان)) للسيوطي (3/204)، ((البلاغة العربية)) لعبد الرحمن حَبَنَّكَة الميداني (1/347). : ذِكرُ اليَمينِ أوَّلًا يدُلُّ على الشِّمالِ ثانيًا، وذِكرُ الوراءِ ثانيًا يدُلُّ على الأمامِ أوَّلًا، وسِرُّ ذلك أنَّه ذَكَر دليلَ المَوَدَّةِ والرِّفْقِ بالمُصافَحةِ ونَحوِها في السَّعيدِ، ودليلَ الغَدْرِ والاغتيالِ في الشَّقيِّ [79] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (21/343). .
- قولُه: فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا حرفُ (سوفَ) أصْلُه لحُصولِ الفِعلِ في المُستَقبَلِ، والأكثرُ أنْ يُرادَ به المستقبَلُ البعيدُ، ويُقصَدُ به في الاستِعمالِ البَليغِ تَحقُّقُ حُصولِ الفِعلِ واستِمرارِه، وهو هُنا مُفيدٌ للتَّحقُّقِ والاستِمرارِ بالنِّسبةِ إلى الفِعلِ القابِلِ للاستِمرارِ، وهو وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا، وهو المَقصودُ مِن هذا الوَعدِ [80] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/222، 223). .
- والحِسابُ اليَسيرُ: هو عَرْضُ أعمالِه عليه دونَ مُناقَشةٍ، فلا يَطولُ زَمَنُه، فيُعَجَّلُ به إلى الجَنَّةِ، وذلك إذا كانت أعمالُه صالحةً؛ فالحِسابُ اليَسيرُ كِنايةٌ عن عدَمِ المُؤاخَذةِ [81] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/223). .
- وفي قَولِه: فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا * وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا احتِباكٌ: ذِكرُ الحِسابِ اليَسيرِ -الَّذي هو الثَّمَرةُ والمسَبَّبُ- أوَّلًا يدُلُّ على حَذفِ ضِدِّه ثانيًا، وذِكرُ السُّرورِ في الأهلِ -الَّذي هو السَّبَبُ في الثَّاني- يدُلُّ على حَذفِ ضِدِّه، وهو سَبَبُ السَّعادةِ، وهو الغَمُّ، ومحاسَبةُ النَّفْسِ في الأوَّلِ. فهو احتِباكٌ في احتِباكٍ [82] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (21/344). .
2- قولُه تعالَى: وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ * فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا * وَيَصْلَى سَعِيرًا
- قولُه: فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا المُرادُ بالدُّعاءِ هنا: النِّداءُ، أي: يُنادي الثُّبورَ بأنْ يَقولَ: يا ثُبورِي، أو يا ثُبورًا، كما يُقالُ: يا وَيْلِي، ويا وَيْلَتَنا، والثُّبورُ: الهَلاكُ وسُوءُ الحالِ، وهي كَلِمةٌ يَقولُها مَن وَقَعَ في شَقاءٍ وتَعْسٍ، والنِّداءُ في مِثلِ هذه الكَلماتِ مُستَعمَلٌ في التَّحسُّرِ والتَّوجُّعِ مِن مَعْنى الاسمِ الواقِعِ بعْدَ حرفِ النِّداءِ [83] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/224). .
3- قولُه تعالَى: إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا * إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ * بَلَى إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيرًا
- جُملةُ إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا استِئنافٌ لبَيانِ عِلَّةِ ما يُلاقيه [84] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (9/133)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (10/423). . وقيل: هذه الجُملةُ مُعترِضةٌ. وهذا القولُ مُستعمَلٌ في التَّعجيبِ مِن حالِهم؛ كيف انقَلَبَتْ مِن ذلك السُّرورِ الَّذي كان لهم في الحَياةِ الدُّنيا، المَعروفِ مِن أحوالِهم بِما حُكِيَ في آياتٍ كَثيرةٍ، فآلُوا إلى ألَمِ النَّارِ في الآخِرةِ حتَّى دَعَوا بالثُّبورِ؟! وتأكيدُ الخَبَرِ مِن شأْنِ الأخبارِ المُستعمَلةِ في التَّعجيبِ [85] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/224). .
- قولُه: إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ تَعليلٌ لسُرورِه في الدُّنيا، أي: ظَنَّ أنْ لن يَرجِعَ إلى اللهِ تعالى تَكْذيبًا للمَعادِ؛ فهو تَعليلٌ لمَضمونِ جُملةِ وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ ... [الانشقاق: 10] إلى آخِرِها. وحرفُ (إنَّ) فيها مُغْنٍ عن (فاءِ) التَّعليلِ، فالمَعْنى: يَصْلى سَعيرًا؛ لأنَّه ظَنَّ أنْ لنْ يَحُورَ، أي: لن يَرجِعَ إلى الحَياةِ بعدَ المَوتِ، أي: لأنَّه يُكَذِّبُ بالبَعثِ [86] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (9/133)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/224). .
- وجِيءَ بحرْفِ (لَن) الدَّالِّ على تَأكيدِ النَّفيِ وتَأييدِه؛ لحِكايةِ جَزْمِهم وقَطْعِهم بنَفيِه [87] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/225). .
- قولُه: بَلَى إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيرًا بَلَى إيجابٌ لِما بعْدَ لَنْ، وقولُه تعالَى: إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيرًا تَحقيقٌ وتَعليلٌ له، أيْ: بَلى لَيَحورَنَّ البَتَّةَ؛ إنَّ ربَّه الَّذي خَلَقَه كان به وبأعمالِه الموجِبةِ للجَزاءِ بَصيرًا، بحَيثُ لا يَخْفى منها خافِيةٌ، فلا بُدَّ مِن رَجْعِه وحِسابِه وجَزائِه عليها حَتْمًا؛ فأُجِيبَ بقولِه: بَلَى الكلامُ المنفيُّ لإبطالِ نفْيِه، ومَوقعُه الاستئنافُ، وجُملةُ إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيرًا مُبيِّنةٌ للإبْطالِ الَّذي أفادَه حرفُ بَلَى على وَجْهِ الإجْمالِ، يَعني: إنَّ ظَنَّه باطِلٌ؛ لأنَّ رَبَّه أنْبأَه بأنَّه يُبعَثُ، والمَعنى: إنَّ رَبَّه عَليمٌ بمآلِه. وتأكيدُ ذلك بحرْفِ (إنَّ)؛ لِرَدِّ إنْكارِه البَعثَ الَّذي أَخبَرَ اللهُ به على لِسانِ رَسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فآلَ المَعنى الحاصِلُ مِن حَرفِ الإبْطالِ ومِن حرفِ التَّأكيدِ إلى مَعنى: أنَّ رَبَّه بَصيرٌ به، وأمَّا هو فغَيرُ بَصيرٍ بحالِه، كقوله: وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ [88] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/727)، ((تفسير البيضاوي)) (5/298)، ((تفسير أبي حيان)) (10/438)، ((تفسير أبي السعود)) (9/133). [البقرة: 216] .
- وتَقديمُ المَجرورِ بِهِ على مُتَعلَّقِه بَصِيرًا؛ للاهتِمامِ بهذا المَجرورِ، أي: بَصيرٌ به لا مَحالةَ، مع مُراعاةِ الفَواصِلِ [89] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/226). .