موسوعة التفسير

سورةُ الحاقَّةِ
الآيات (25 - 37)

ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﰎ ﰏ ﰐ ﰑ ﰒ ﰓ ﰔ ﰕ ﰖ ﰗ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ

غَريبُ الكَلِماتِ:

فَغُلُّوهُ: أي: فشُدُّوه بالأغلالِ، واجعَلوها في عُنقِه، وقَيِّدوه، أو: اجمَعوا يدَه إلى عُنقِه بالأغلالِ، وأصلُ (غلل): يدُلُّ على تخَلُّلِ شَيءٍ وثَباتِ شَيءٍ [203] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (4/375، 376)، ((الوسيط)) للواحدي (4/347)، ((المفردات)) للراغب (ص: 610)، ((تفسير ابن عطية)) (5/361)، ((تفسير القرطبي)) (18/272)، ((تفسير ابن كثير)) (8/216). قال البخاريُّ في ((صحيحه)) عقبَ حديث (7017): (لا تَكونُ الأغلالُ إلَّا في الأعناقِ). قال ابن حجر: (كأنَّه يُشيرُ إلى الرَّدِّ على مَن قال: قد يكونُ الغُلُّ في غيرِ العُنقِ كاليَدِ والرِّجْلِ، والغُلُّ بضَمِّ المُعجَمةِ وتشديدِ اللَّامِ: واحدُ الأغلالِ، قال: وقد أطلَق بعضُهم الغُلَّ على ما تُربَطُ به اليدُ، وممَّن ذكره أبو عليٍّ القالي وصاحِبُ «المُحكَمِ» وغيرُهما، قالوا: الغُلُّ جامعةٌ تُجعلُ في العُنقِ أو اليدِ، والجمعُ أغلالٌ، ويدٌ مَغلولةٌ: جُعِلت في الغُلِّ، ويؤيِّدُه قولُه تعالى: غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ [المائدة: 64] ، كذا استشهد به الكرمانيُّ، وفيه نظرٌ؛ لأنَّ اليدَ تُغَلُّ في العُنقِ). ((فتح الباري)) (12/409). ويُنظر: ((المحكم والمحيط الأعظم)) لابن سِيدَه (5/370)، ((الكواكب الدراري)) للكرماني (24/121). .
صَلُّوهُ: أي: اغمُروه فيها وأَورِدُوه، يُقالُ: أصلَيْتُه النَّارَ وصلَّيتُه: إذا أورَدْتَه إيَّاها، وصَلِيَ النَّارَ وصَلِيَ بها صُلِيًّا، وصِلِيًّا، وصلًى: قاسَى حَرَّها وشِدَّتَها، وأصلُ الصَّلَى: الإيقادُ بالنَّارِ [204] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/237)، ((البسيط)) للواحدي (14/292) و(22/177)، ((المفردات)) للراغب (ص: 490)، ((تفسير القرطبي)) (18/272)، ((تفسير ابن كثير)) (8/ 216). .
فَاسْلُكُوهُ: أي: فاجْعَلُوه فيها، وأصلُ (سلك): يدُلُّ على نُفوذِ شَيءٍ في شَيءٍ [205] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/97)، ((البسيط)) للواحدي (22/179)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/370). .
حَمِيمٌ: أي: قَريبٌ مُشفِقٌ، وحميمُ الرَّجُلِ: خاصَّتُه، مِنْ (حَمَّ): إذا دنا وقَرُبَ، فهو أخصُّ مِن الصَّديقِ، وأصلُ (حمم) هنا: الدُّنوُّ والحُضورُ [206] يُنظر: ((مجاز القرآن)) لأبي عبيدة (2/197)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/23)، ((الغريبين في القرآن والحديث)) للهروي (2/497)، ((المفردات)) للراغب (ص: 255)، ((تفسير ابن عاشور)) (19/155). .
غِسْلِينٍ: أي: غُسالةِ أهلِ النَّارِ مِن قَيحِهم وصَديدِهم، سُمِّيَ غِسْلِينًا؛ لسَيَلانِه مِن أبدانِهم، كأنَّه يَنغَسِلُ منهم، وأصلُ (غسل): يدُلُّ على تطهيرِ الشَّيءِ وتَنقيتهِ [207] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/240)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (4/424)، ((البسيط)) للواحدي (22/184)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/372). .
الْخَاطِئُونَ: أي: الآثِمونَ أصحابُ الخَطايا، وهم الكافِرون، والخاطئُ هو القاصدُ الذَّنْبِ، يُقالُ: خَطِئ الرَّجُلُ: إذا تعمَّدَ الذَّنْبَ، وأخْطَأَ: إذا لم يَتعمَّدْ، وقيل غيرُ ذلك. وأصلُه يدُلُّ على تَعَدِّي الشَّيءِ، والذَّهابِ عنه [208] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/241)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/198)، ((الغريبين)) للهروي (2/567)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 413)، ((تفسير الرازي)) (30/632)، ((النهاية في غريب الحديث والأثر)) لابن الأثير (2/44)، ((بصائر ذوي التمييز)) للفيروزابادي (2/553). .

المعنى الإجماليُّ:

يُبيِّنُ الله تعالى عاقِبةَ مَن أُوتيَ كتابَه بشِمالِه يومَ القيامةِ، وشدَّةَ ندَمِه، فيقولُ: وأمَّا مَن أُعطِيَ كِتابَ أعمالِه بشِمالِه فيَقولُ نادِمًا مُتحَسِّرًا: يا لَيْتَني لم أُعْطَ كتابَ أعمالِي السَّيِّئةِ! ولم أعلَمْ ما حِسابي؟! يا لَيْتَ مَوْتَتي في الدُّنيا كانت نهايةَ حَياتي، ما دفَعَ عنِّي مالي الَّذي جمَعْتُه في الدُّنيا! زال عنِّي مُلْكي وجاهي، وذهَبَتْ حُجَّتي!
 ويأتي الأمرُ مِن الله تعالى بإنزالِ العذابِ به، فيقولُ لمَلائكتِه: خُذُوا هذا الكافِرَ فضَعُوا القَيدَ في عُنُقِه، ثمَّ اغمِسُوه في النَّارِ، ثمَّ اجعَلوه في سِلْسلةٍ طُولُها سَبعونَ ذِراعًا.
ثمَّ يُبيِّنُ الله تعالى الأسبابَ الَّتي أدَّت بهذا الشَّقيِّ إلى هذا العذابِ، فيقول: إنَّه كان في الدُّنيا لا يُؤمِنُ باللهِ العَظيمِ، ولا يَحُثُّ غَيرَه على إطعامِ المساكينِ؛ فليس لهذا الكافِرِ في هذا اليَومِ قَريبٌ يَنفَعُه، ولا طَعامٌ إلَّا مِن صَديدِ أهلِ النَّارِ، لا يأكُلُ هذا الطَّعامَ إلَّا الواقِعونَ في الخَطايا عَمْدًا مِن الكافرينَ.

تَفسيرُ الآياتِ:

وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ (25).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا كانت العادةُ جاريةً بأنَّ أهْلَ العرْضِ يَنقَسِمونَ إلى قِسمَينِ: مَقبولٍ ومَردودٍ، وذَكَر اللهُ سُبحانَه وتَعالى المقبولَ بادئًا به؛ تَشويقًا إلى حالِه، وتَغبيطًا بعاقبتِه، وحُسنِ مآلِه- أتْبَعَه المردودَ؛ تَنفيرًا عن أعمالِه، بما ذُكِرَ مِن قَبائحِ أحوالِه [209] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/366). .
وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ (25).
أي: وأمَّا مَن أُعطِيَ كِتابَ أعمالِه بيَدِه الشِّمالِ، فإنَّه يَقولُ نادِمًا مُتحَسِّرًا: يا ليتَني لم أُعْطَ كتابَ أعمالِي السَّيِّئةِ [210] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/235)، ((الوسيط)) للواحدي (4/347)، ((تفسير ابن كثير)) (8/215)، ((تفسير السعدي)) (ص: 884)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/135). !
وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ (26).
أي: ولم أعلَمْ ما حِسابي [211] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/235)، ((تفسير السمرقندي)) (3/491)، ((الوسيط)) للواحدي (4/347). قيل: هذه الجُملةُ جاءت عَطفًا على التَّمَنِّي، أي: يا لَيْتَني لم أدْرِ ما حِسابِيَه، أي: لم أعرِفْ حقيقتَه أو نتيجتَه. وممَّن قال بهذا المعنى في الجملةِ: ابنُ جرير، والواحديُّ، والبِقاعي. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/235)، ((الوسيط)) للواحدي (4/347)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/366). ويُنظر أيضًا: ((تفسير الماوردي)) (6/84). وقيل: هذه الجُملةُ في موضعِ الحالِ مِن ضميرِ (ليتني)، والمعنى: أنَّه كان مكَذِّبًا بالحِسابِ. وذهب إلى هذا المعنى: ابنُ عاشور. يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/135). ؟!
يَا ‎لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ (27).
أي: يا ليتَ مَوْتَتي في الدُّنيا كانت نهايةَ حَياتي، ولم أُبعَثْ للحِسابِ والجَزاءِ [212] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/235)، ((الوسيط)) للواحدي (4/347)، ((تفسير الشوكاني)) (5/340)، ((تفسير السعدي)) (ص: 884). قال الشوكانيُّ: (يَا ‎لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ، أي: لَيتَ المَوتةَ الَّتي مِتُّها كانت القاضيةَ، ولم أُحْيَ بعْدَها، ومعنى الْقَاضِيَةَ: القاطِعةَ للحياةِ، والمعنى: أنَّه تَمنَّى دَوامَ الموتِ، وعدَمَ البعثِ لِما شاهَدَ مِن سُوءِ عَمَلِه وما يَصيرُ إليه مِن العذابِ، فالضَّميرُ في «لَيْتَهَا» يَعودُ إلى المَوتةِ الَّتي قد كان ماتَها وإنْ لم تكُنْ مَذكورةً؛ لأنَّها -لظُهورِها- كانت كالمذكورةِ). ((تفسير الشوكاني)) (5/340). وممَّن قال بنحْوِ هذا القولِ مِن السَّلفِ: الضَّحَّاكُ، ومحمدُ بنُ كعبٍ، والرَّبيعُ، والسُّدِّيُّ. يُنظر: ((تفسير الماوردي)) (6/84)، ((تفسير ابن كثير)) (8/215). والوجهُ الثَّاني في تفسيرِ الآيةِ: أنَّه تمنَّى أنْ يموتَ في الحالِ، ولم يكُنْ في الدُّنيا أكرهُ إليه مِن الموتِ، قاله قَتادةُ. يُنظر: يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/235)، ((تفسير الماوردي)) (6/84). !
مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ (28).
أي: لم يَدفَعْ عنِّي مالي الَّذي جمَعْتُه في الدُّنيا شيئًا مِن عذابِ الآخِرةِ [213] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/236)، ((البسيط)) للواحدي (22/175)، ((تفسير ابن كثير)) (8/215)، ((تفسير السعدي)) (ص: 884). قال ابن عطية: (مَا أَغْنَى يحتَمِلُ أن يريدَ الاستفهامَ على معنى التَّقريرِ لِنَفْسِه والتَّوبيخِ، ويحتَمِلُ أن يريدَ النَّفيَ المحضَ). ((تفسير ابن عطية)) (5/360). ويُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/ 367)، ((تفسير الشوكاني)) (5/340). !
كما قال تعالى: يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ [الشعراء: 88] .
وقال سُبحانَه: وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى [الليل: 11] .
هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ (29).
أي: زال عنِّي مُلْكي وجاهي، وذهَبَتْ حُجَّتي [214] يُنظر: ((الوجيز)) للواحدي (ص: 1129)، ((تفسير الزمخشري)) (4/604)، ((تفسير ابن جزي)) (2/407)، ((تفسير ابن كثير)) (8/215)، ((تفسير السعدي)) (ص: 884)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/136). وممَّن ذهَبَ في الجُملةِ إلى أنَّ معْنى سُلْطَانِيَهْ: مُلْكي وجاهي وقُدْرتي وتَسلُّطي على النَّاسِ: الزمخشريُّ، والنَّسفيُّ، وابنُ جُزَي. يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/604)، ((تفسير النسفي)) (3/532)، ((تفسير ابن جزي)) (2/407). وممَّن قال بهذا القولِ مِن السَّلفِ: ابنُ زَيدٍ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/237)، ((تفسير ابن الجوزي)) (4/332). وذهَبَ مُقاتلُ بنُ سُليمانَ، وابنُ جريرٍ، والزَّجَّاجُ، والسَّمرقنديُّ، وأبو حيان، ونسَبَه الثَّعلبيُّ لأكثَرِ المفسِّرينَ: أنَّ المرادَ: ذهَبَت عنِّي حُجَّتي، فلا حُجَّةَ لي يومَ القيامةِ. يُنظر: ((تفسير مقاتل ابن سليمان)) (4/424)، ((تفسير ابن جرير)) (23/236)، ((معاني القرآن وإعرابه)) للزجاج (5/217)، ((تفسير السمرقندي)) (3/491)، ((تفسير الثعلبي)) (10/31)، ((تفسير أبي حيان)) (10/262). ويُنظر أيضًا: ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/368). وممَّن قال بهذا القولِ مِن السَّلفِ: ابنُ عبَّاسٍ، وعِكرمةُ، ومجاهدٌ، والضَّحَّاكُ، والسُّدِّيُّ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/236)، ((تفسير ابن الجوزي)) (4/332). قال أبو حيان: (الراجحُ قولُ ابنِ عباسٍ ومَن ذُكِر معه: أنَّ السلطانَ هنا هو الحجةُ التي كان يحتجُّ بها في الدُّنيا؛ لأنَّ مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ ليس مختصًّا بالملوكِ، بل هو عامٌّ في جميعِ أهلِ الشَّقاوةِ). ((تفسير أبي حيان)) (10/262). وجمَعَ الواحديُّ وجلالُ الدِّينِ المحلِّيُّ بيْن القولَينِ؛ فقال الواحديُّ: (ذهَبَ عنِّي حُجَّتي، وزال عنِّي مُلْكي وقُوَّتي). ((الوجيز)) (ص: 1129). وقال جلالُ الدِّين المحلِّي: (سُلْطَانِيَهْ: قُوَّتي وحُجَّتي). ((تفسير الجلالين)) (ص: 763). ويُنظر: ((المفردات)) للراغب (ص: 420). وقال ابن عطيَّة: (سلطانُ كُلِّ أحدٍ ما لَه في الدُّنيا مِن عَدَدٍ وعُدَدٍ). ((تفسير ابن عطية)) (5/361). !
خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (30).
أي: يقولُ اللهُ تعالى لمَلائكتِه: خُذُوا هذا الكافِرَ فضَعُوا القَيدَ في عُنُقِه [215] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/237)، ((تفسير ابن كثير)) (8/216)، ((تفسير السعدي)) (ص: 884)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/137). قال الواحدي: (خُذُوهُ فَغُلُّوهُ: اجمَعوا يَدَه إلى عُنُقِه). ((الوسيط)) (4/347). وقال البِقاعي: (اجمَعوا يَدَيه إلى عُنُقِه ورِجْلَيه مِن وراءِ قَفاه إلى ناصيتِه!). ((نظم الدرر)) (20/ 368). وقال السعدي: (اجعَلوا في عُنُقِه غُلًّا يَخنُقُه!). ((تفسير السعدي)) (ص: 884). .
كما قال الله سبحانه وتعالى: إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلَاسِلَ وَأَغْلَالًا وَسَعِيرًا [الإنسان: 4] .
ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (31).
أي: ثمَّ اغمِسُوه واغْمُروه في النَّارِ [216] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/237)، ((تفسير القرطبي)) (18/272)، ((تفسير ابن كثير)) (8/216)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/368، 369)، ((تفسير السعدي)) (ص: 884). .
ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ (32).
أي: ثمَّ اجعَلوه في سِلْسلةٍ طُولُها سَبعونَ ذِراعًا، فيتعَذَّبُ بها [217] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/237)، ((الوجيز)) للواحدي (ص: 1129)، ((تفسير الكوراني)) (ص: 224)، ((تفسير الشوكاني)) (5/340)، ((تفسير السعدي)) (ص: 884)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/137). قال الشوكاني: (السِّلْسِلةُ: حِلَقٌ مُنتَظِمةٌ). ((تفسير الشوكاني)) (5/340). قيل: إنَّها تدخُلُ في دُبُرِه، ثمَّ تَخرُجُ مِن مَنخِرَيه. وقيل: تدخُلُ في فيه، وتخرجُ مِن دُبُرهِ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/237). قال الفرَّاءُ: (والمعنى: ثمَّ اسْلُكوا فيه سِلسلةً، ولكنَّ العرَبَ تَقولُ: أدخَلْتُ رَأسي في القَلَنْسُوةِ، وأدخَلْتُها في رَأْسي، والخاتَمِ؛ يُقالُ: الخاتمُ لا يَدخُلُ في يَدي، واليدُ هي الَّتي فيه تَدخُلُ). ((معاني القرآن)) (3/182). وقيل: معنى سَلْكِه فيها: أن تُلَفَّ عليه مع ذلك الطُّولِ المُفرِطِ؛ مُبالَغةً في التَّضييقِ عليه. يُنظر: ((تفسير الكوراني)) (ص: 224)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/137). ويُنظر أيضًا: ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/370). قال ابنُ جُزَي: (واختُلِفَ في هذا الذِّراعِ؛ فقيل: إنَّه الذِّراعُ المعروفُ، وقيل: بذِراعِ الملَكِ، وقيل: في الذِّراعِ سَبعونَ باعًا، كلُّ باعٍ ما بيْن مكَّةَ والكوفةِ، وللهِ دَرُّ الحسَنِ البصريِّ في قولِه: اللهُ أعلَمُ بأيِّ ذِراعٍ هي. وجَعَلَها سَبعينَ ذِراعًا لإرادةِ وَصْفِها بالطُّولِ؛ فإنَّ السَّبعينَ مِن الأعدادِ الَّتي تَقصِدُ بها العرَبُ التَّكثيرَ. ويَحتمِلُ أنْ تكونَ هذه السِّلسلةُ لكلِّ واحدٍ مِن أهلِ النَّارِ، أو تكونَ بيْنَ جَميعِهم). ((تفسير ابن جزي)) (2/407). وقال ابن جرير: (ثمَّ اسلُكوه في سِلسلةٍ ذَرْعُها سَبعونَ ذراعًا، بذِراعٍ اللهُ أعلَمُ بقدرِ طُولِها). ((تفسير ابن جرير)) (23/237). !
كما قال تعالى: إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ * فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ [غافر: 71، 72].
إِنّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ (33).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّ اللهَ تَعالى لَمَّا شرَحَ هذا العذابَ الشَّديدَ؛ ذكَرَ سَببَه [218] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (30/631). ، فقال:
إِنّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ (33).
أي: استَحَقَّ هذا الكافِرُ ذلك العذابَ الشَّديدَ؛ لأنَّه كان في الدُّنيا لا يُؤمِنُ باللهِ ذي العَظَمةِ التَّامَّةِ الكامِلةِ [219] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/239)، ((الوسيط)) للواحدي (4/348)، ((تفسير ابن كثير)) (8/216)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/370)، ((تفسير السعدي)) (ص: 884)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/138). .
وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (34).
أي: ولأنَّه كان لا يَحُثُّ غَيرَه على إطعامِ المحتاجِينَ [220] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/239)، ((تفسير القرطبي)) (18/272، 273)، ((تفسير السعدي)) (ص: 884)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/139). قال ابنُ عاشور: (نفْيُ حَضِّه على طعامِ المِسكينِ يَقتَضي بطريقِ الفَحوى أنَّه لا يُطعِمُ المِسكينَ مِن مالِه؛ لأنَّه إذا كان لا يأمُرُ غَيرَه بإطعامِ المسكينِ فهو لا يُطعِمُه مِن مالِه، فالمعنى: لا يُطعِمُ المِسكينَ ولا يأمُرُ بإطعامِه). ((تفسير ابن عاشور)) (29/139). ويُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/371). .
كما حكى اللهُ تعالى سؤالَ أصحابِ اليَمينِ للمُجرِمينَ: مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ [المدثر: 42 - 44].
فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ (35).
أي: فليس لهذا الكافِرِ في هذا اليَومِ في الدَّارِ الآخِرةِ أيُّ قَريبٍ يَنفَعُه، فيَدفَعُ عَذابَ اللهِ عنه [221] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/239، 240)، ((الوسيط)) للواحدي (4/348)، ((تفسير ابن كثير)) (8/217). قال القُرطبي: (الحميمُ هاهنا القريبُ، أي: ليس له قَريبٌ يَرِقُّ له، ويدفَعُ عنه، وهو مأخوذٌ مِن الحَميمِ، وهو الماءُ الحارُّ، كأنَّه الصَّديقُ الَّذي يَرِقُّ ويحتَرِقُ قَلبُه له). ((تفسير القرطبي)) (18/273). !
كما قال تعالى: مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ [غافر: 18] .
وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ (36).
أي: وليس لهذا الكافِرِ طَعامٌ إلَّا مِن صَديدِ أهلِ النَّارِ [222] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/240)، ((الوسيط)) للواحدي (4/348)، ((تفسير القرطبي)) (18/273)، ((تفسير ابن كثير)) (8/217). ممَّن قال بأنَّ الغِسلينَ هو صديدُ أهلِ النَّارِ: ابنُ جرير، والزَّجَّاجُ، والواحديُّ، والقرطبي، والسعدي. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/240)، ((معاني القرآن وإعرابه)) للزجاج (5/218)، ((الوسيط)) للواحدي (4/348)، ((تفسير القرطبي)) (18/273)، ((تفسير السعدي)) (ص: 884). ويُنظر أيضًا: ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/372، 373). وممَّن قال بهذا القولِ مِن السَّلفِ: ابنُ عبَّاسٍ في رِوايةٍ عنه، والكلْبيُّ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/240)، ((البسيط)) للواحدي (22/183). قال القرطبي: (الغِسْلِينُ: فِعْلِينٌ مِنَ الغَسلِ، فكأنَّه يَنغَسِلُ مِن أبدانِهم، وهو صديدُ أهلِ النَّارِ، السَّائِلُ مِن جروحِهم وفُروجِهم!). ((تفسير القرطبي)) (18/273). وقال السعدي: (هو في غايةِ الحَرارةِ، ونَتْنِ الرِّيحِ، وقُبحِ الطَّعمِ ومَرارتِه!). ((تفسير السعدي)) (ص: 884). وقال الضَّحَّاكُ، والرَّبيعُ: (شجرٌ يأكُلُه أهلُ النَّارِ). يُنظر: ((تفسير ابن الجوزي)) (4/333)، ((الدر المنثور)) للسيوطي (8/275). وقيل غيرُ ذلك. يُنظر: ((تفسير الماوردي)) (6/85). وقال ابن عاشور: (الغِسْلِينُ -بكَسرِ الغَينِ-: ما يَدخُلُ في أفواه أهلِ النَّارِ مِن الموادِّ السَّائِلةِ مِنَ الأجسادِ، وماءِ النَّارِ، ونحوِ ذلك ممَّا يَعلَمُه اللهُ!). ((تفسير ابن عاشور)) (29/140). .
لَا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ (37).
أي: لا يأكُلُ هذا الطَّعامَ إلَّا الواقِعونَ في الخَطايا عَمْدًا، مِنَ الكافِرينَ باللهِ تعالى والمُشرِكينَ به [223] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/241)، ((تفسير القرطبي)) (18/273)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/373)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/140). وقال القرطبي: (ويجوزُ أن يُرادَ الَّذين يتخَطَّونَ الحَقَّ إلى الباطِلِ، ويتعَدَّونَ حُدودَ اللهِ عزَّ وجَلَّ). ((تفسير القرطبي)) (18/274). وقال السعدي: (لا يأكُلُ هذا الطَّعامَ الذَّمِيمَ إِلَّا الْخَاطِئُونَ الَّذين أخطَؤوا الصِّراطَ المستقيمَ، وسَلَكوا سُبُلَ الجَحيمِ؛ فلذلك استحَقُّوا العذابَ الأليمَ). ((تفسير السعدي)) (ص: 884). وقال ابن عاشور: (أي: المُرتَكِبونَ أشَدَّ الخطَأِ، وهو الإشراكُ). ((تفسير ابن عاشور)) (29/140). وقال ابن عطيَّة: (الخاطئُ: الَّذي يفعلُ ضدَّ الصوابِ متعمِّدًا، والمُخطئُ الَّذي يفعلُه غيرَ متعمِّدٍ). ((تفسير ابن عطية)) (5/362). .

الفَوائِدُ التَّربَويَّةُ:

1- قال اللهُ تعالى: إِنّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ * وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ للهِ على العِبادِ أن يُوحِّدوه ولا يُشرِكوا به شيئًا، وللعبادِ بَعضِهم على بَعضٍ حَقُّ الإحسانِ والمُعاوَنةِ على البِرِّ والتَّقْوى [224] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (8/216). .
2- قَولُه تعالى: ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ * إِنّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ * وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ عن أبي الدَّرْداءِ رَضِي اللهُ عنه: (أنَّه كان يحُضُّ امرأتَه على تكثيرِ المَرَقِ لأجْلِ المساكِينِ، وكان يقولُ: خلَعْنا نِصفَ السِّلسِلةِ بالإيمانِ، أفلا نخلَعُ نِصفَها الآخَرَ؟!) [225] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/605)، ((تفسير الرسعني)) (8/265). ويُنظر أيضًا: ((الدر المنثور في التفسير بالمأثور)) للسيوطي (8/274). .
3- قال اللهُ تعالى: إِنّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ * وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ فيه إشارةٌ إلى أنَّ شَرَّ الخِصالِ بعْدَ الكُفرِ: البُخلُ، وقَسوةُ القَلبِ [226] يُنظر: ((تفسير الكوراني)) (ص: 225). .
4- قال اللهُ تعالى: إِنّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ * وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ مدارُ السَّعادةِ ومادَّتُها أمْرانِ: الإخلاصُ للهِ -الَّذي أصلُه الإيمانُ باللهِ-، والإحسانُ إلى الخَلقِ بوُجوهِ الإحسانِ الَّتي مِن أعظَمِها دَفعُ ضَرورةِ المحتاجِينَ بإطعامِهم [227] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 884). .
5- قَولُ اللهِ تعالى: وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ فيه دليلانِ قَويَّانِ على عِظَمِ الجُرمِ في حِرمانِ المساكينِ:
أحَدُهما: عَطْفُه على الكُفرِ، وجَعْلُه قرينةً له!
والثَّاني: ذِكرُ الحَضِّ دونَ الفِعلِ؛ لِيُعلَمَ أنَّ تارِكَ الحَضِّ بهذه المنزلةِ، فكيف بمَن يترُكُ الفِعلَ [228] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (30/632). ؟!
6- قَولُ اللهِ تعالى: وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ فيه مَوعِظةٌ للمُؤمِنينَ زاجِرةٌ عن مَنعِ المساكينِ حَقَّهم في الأموالِ، وهو الحَقُّ المعروفُ في الزَّكاةِ والكفَّاراتِ وغَيرِها [229] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/139). .

الفَوائِدُ العِلميَّةُ واللَّطائِفُ:

1- في قَولِه تعالى: وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ سؤالٌ: أنَّ في سورةِ (الانشقاقِ) يقولُ اللهُ تعالى: وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ [الانشقاق: 10] ، فكيف يمكنُ الجَمعُ بيْن قَولِه: كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ، وقولِه: كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ؟
الجوابُ: أنَّه يأخُذُه بشِمالِه، لكنْ تُخْلَعُ الشِّمالُ إلى الخَلفِ مِن وراءِ ظهْرِه، والجزاءُ مِن جنسِ العملِ، فكما أنَّ هذا الرَّجُلَ جَعَل كتابَ اللهِ وراءَ ظهْرِه، أُعطيَ كتابَه يومَ القيامةِ مِن وراءِ ظهْرِه؛ جزاءً وِفاقًا [230] يُنظر: ((مجموع فتاوى ورسائل العثيمين)) (3/180). !
2- قَولُ اللهِ تعالى: وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ بيَّن أنَّه لَمَّا نَظَر في كتابِه، وتذكَّرَ قبائِحَ أفعالِه، خَجِلَ منها، وصار العذابُ الحاصِلُ مِن تلك الخَجالةِ أَزْيَدَ مِن عَذابِ النَّارِ، فقال: لَيْتَهم عذَّبوني بالنَّارِ، وما عَرَضوا هذا الكتابَ الَّذي ذكَّرَني قبائِحَ أفعالي؛ حتَّى لا أقَعَ في هذه الخَجالةِ، وهذا يُنَبِّهُ على أنَّ العذابَ الرُّوحانيَّ أشَدُّ مِن العذابِ الجُسمانيِّ [231] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (30/630). .
3- قَولُه تعالى: وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ استُدِلَّ به على أنَّ الكافرَ يُحاسَبُ؛ لقَولِه في آخِرِ الكلامِ: إِنّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ [232] يُنظر: ((النكت الدالة على البيان)) للقصاب (4/396). قال ابنُ تَيميَّةَ -بعْدَ أنْ ذكَرَ الخلافَ في الكفَّارِ هل يُحاسَبون يومَ القيامةِ أو لا-: (وفصْلُ الخِطابِ: أنَّ الحِسابَ يُرادُ به عَرْضُ أعمالِهم عليهم، وتَوبيخُهم عليها، ويُرادُ بالحِسابِ مُوازَنةُ الحَسَناتِ بالسَّيِّئاتِ. فإنْ أُريدَ بالحِسابِ المعنى الأوَّلُ، فلا رَيبَ أنَّهم يُحاسَبون بهذا الاعتبارِ. وإنْ أُرِيدَ المعنى الثَّاني؛ فإنْ قُصِدَ بذلك أنَّ الكُفَّارَ تَبْقى لهم حَسناتٌ يَستحِقُّون بها الجنَّةَ، فهذا خطَأٌ ظاهرٌ. وإنْ أُرِيدَ أنَّهم يَتفاوَتون في العِقابِ؛ فعِقابُ مَن كَثُرَت سيِّئاتُه أعظَمُ مِن عِقابِ مَن قلَّت سَيِّئاتُه، ومَن كان له حَسناتٌ خُفِّفَ عنه العذابُ... فإذا كان بعضُ الكفَّارِ عَذابُه أشدَّ عَذابًا مِن بَعضٍ -لكَثرةِ سيِّئاتِه وقِلَّةِ حَسَناتِه- كان الحِسابُ لبَيانِ مَراتبِ العَذابِ، لا لأجْلِ دُخولِهم الجنَّةَ). ((مجموع الفتاوى)) (4/305). .
4- في قَولِه تعالى: إِنّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ * وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ أنَّه قد يُنْفَى الشَّيءُ الَّذي نَفْيُه يَستلزِمُ نفْيَ غيرِه، لكنْ تُذكَرُ تلك اللَّوازمُ على سبيلِ التَّصريحِ؛ للفَرقِ بيْن دَلالةِ اللَّوازِمِ ودلالةِ المُطابَقةِ، كما في قَولِه تعالى: وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ [البقرة: 42] ؛ فإنَّ كلَّ مَن لَبَّسَ بالباطلِ فلا بُدَّ أنْ يَكتُمَ بعضَ الحقِّ، وهذا ليس مِن بابِ النَّهيِ عنِ المجموعِ المقتضِي لجوازِ أحدِهما! ولا مِن بابِ النَّهيِ عن فِعلَينِ مُتباينَينِ حتَّى لا يُعادَ فيه حرفُ النَّفيِ، بل هو مِن بابِ النَّهيِ عنِ المتلازِماتِ،كما يُقالُ: لا تَكْفُرْ وتُكَذِّبْ بالرَّسولِ، ولا تُجادِلْ في اللهِ بغيرِ عِلْمٍ ولا هدًى ولا كتابٍ منيرٍ [233] يُنظر: ((درء تعارض العقل والنقل)) لابن تيمية (5/266). !
5- قَولُ اللهِ تعالى: وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ دَلَّت الآيةُ على أنَّ الكُفَّارَ يُعاقَبونَ على تَركِ الصَّلاةِ والزَّكاةِ، وهو المرادُ مِن قَولِ: إنَّ الكُفَّارَ مُخاطَبونَ بفُروعِ الشَّرائعِ [234] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (30/632). والمرادُ أنَّهم يُعاقَبون عليها إذا ماتوا على الكفرِ، لا أنَّهم مُلزَمون بها في حالِ الكفرِ؛ لأنَّنا نَدْعوهم أوَّلًا إلى الإسلامِ، ثمَّ نُلزِمُهم بأحكامِه. وأيضًا ليس معنى كَونِهم مُخاطَبينَ بها أنَّهم يُؤْمَرونَ بقضائِها. يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين: الفاتحة والبقرة)) (1/149) و(2/235). قال ابن عاشور: (معنَى قولِ مَن قال مِن العلماءِ بأنَّ الكفَّارَ مُخاطَبونَ بفروعِ الشَّريعةِ يَعْنونَ خِطابَ المُؤاخَذةِ على ما نُهُوا عن ارتكابِه، وليس المرادُ أنَّهم يُطلَبُ منهم العملُ؛ إذْ لا تُقْبَلُ منهم الصَّالحاتُ بدونِ الإيمانِ). ((تفسير ابن عاشور)) (19/75). ، فقد عطَف عدمَ الحضِّ على طعامِ المسكينِ، على عدمِ الإيمانِ باللهِ العظيمِ، مِمَّا يُشيرُ إلى أنَّ الكافرَ يُعَذَّبُ على الفروعِ؛ فالإيمانُ يَزيدُ بالطَّاعةِ، والمؤمنُ يُثابُ على إيمانِه وعلى طاعتِه، وكذلك الكفرُ يَزدادُ بالمعاصي، ويُجازَى الكافرُ على كفرِه وعلى عصيانِه [235] يُنظر: ((تتمة أضواء البيان)) لعطية سالم (8/261). .
6- قَولُ اللهِ تعالى: وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ فيه سؤالٌ: ما التَّوفيقُ بيْنه وبيْن قَولِه تعالى: لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ [الغاشية: 6] ، وفي آخَرَ: إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ * طَعَامُ الْأَثِيمِ [الدخان: 43، 44]، وفي آخَرَ: أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ [البقرة: 174]؟
الجوابُ مِن وُجوهٍ؛ منها:
الأوَّلُ: لا مُنافاةَ؛ إذ يجوزُ أن يكونَ طعامُهم جميعَ ذلك.
الثَّاني: أنَّ العذابَ أنواعٌ، والمعذَّبينَ طَبَقاتٌ؛ فمنهم أكَلَةُ غِسلِينٍ، ومنهم أكَلَةُ الضَّريعِ، ومنهم أكَلَةُ الزَّقُّومِ، ومنهم أكَلَةُ النَّارِ؛ لكُلِّ بابٍ مِنهم جزءٌ مَقسومٌ [236] يُنظر: ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص: 579). . فالاختِلافُ بحسَبِ مَن يَطْعَمُ مِن أهلِ النَّارِ؛ فمَنِ اتَّصَفَ بالصِّفةِ الأُولى فطَعامُه مِن غِسْلِينٍ، ومَنِ اتَّصَف بالثَّانيةِ فطعامُه مِن ضَريعٍ [237] يُنظر: ((فتح الباري)) لابن حجر (6/331). قال ابنُ قُتَيبة: (النَّارُ دَرَكاتٌ، والجنَّةُ دَرَجاتٌ، وعلى قَدْرِ الذُّنوبِ والحَسَناتِ تَقَعُ العُقوباتُ والمَثوباتُ؛ فمِن أهلِ النَّارِ مَن طَعامُه الزَّقُّومُ، ومنهم مَن طعامُه غِسلينٌ!). ((تأويل مشكل القرآن)) (ص: 48). . وقيل غيرُ ذلك [238] يُنظر: ((دفع إيهام الاضطراب)) للشنقيطي (ص: 244). .

بلاغةُ الآياتِ:

1- قولُه تعالَى: وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ * يَا ‎لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ * مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ
- جُملةُ وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ قيل: هي في مَوضعِ الحالِ مِن ضَميرِ (لَيتني)، والمعْنى: أنَّه كان مُكذِّبًا بالحسابِ، وهو مُقابلُ قولِ الَّذي أُوتِيَ كتابَه بيَمينِه: إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ [الحاقة: 20] ، وجُملةُ الحالِ مُعترِضةٌ بيْن جُملتَي التَّمنِّي. ويجوزُ أنْ يكونَ عطْفًا على التَّمنِّي، أي: يا لَيتني لم أدْرِ ما حِسابِيَهْ، أي: لم أعرِفْ كُنْهَ حِسابي، أي: نَتيجتَه، وهذا وإنْ كان في معْنى التَّمنِّي الَّذي قبْلَه فإعادتُه تَكريرٌ مِن أجْلِ التَّحسُّرِ والتَّحزُّنِ [239] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/135). .
- والاستِفهامُ في مَا حِسَابِيَهْ معْناهُ التَّعظيمُ والتَّهويلُ [240] يُنظر: ((إعراب القرآن)) لدرويش (10/201). .
- وقوله: يَا ‎لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ تمَنٍّ آخَرُ، ولم يُعطَفْ على التَّمنِّي الأوَّلِ؛ لأنَّ المقصودَ التَّحسُّرُ والتَّندُّمُ [241] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/135). .
- وجُملةُ يَا ‎لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ مِن الكلامِ الصَّالحِ لأنْ يكونَ مَثلًا؛ لإيجازِه، ووَفْرةِ دَلالتِه، ورَشاقةِ معْناه، عبَّرَ بها عمَّا يقولُه مَن أُوتِيَ كتابَه بشِمالِه مِن التَّحسُّرِ بالعبارةِ الَّتي يَقولُها المتحسِّرُ في الدُّنيا بكلامٍ عَربيٍّ يُؤدِّي المعْنى المقصودَ [242] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/136). .
- قولُه: مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ يَجوزُ أنْ يكونَ نفْيًا مَحضًا، ومَفعولُ أَغْنَى مَحذوفٌ للتَّعميمِ؛ أخبَرَ بذلك مُتأسِّفًا على مالِه حيثُ لم يَنفَعْه. ويجوزُ أنْ يكونَ استِفهامًا للإنكارِ والتَّوبيخِ؛ وبَّخَ به نفْسَه، وقرَّرها عليه [243] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/604)، ((تفسير البيضاوي)) (5/241)، ((تفسير أبي حيان)) (10/261)، ((تفسير أبي السعود)) (9/26)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/136)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (10/201، 202). .
- قولُه: مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ يقولُ ذلك مَن كان ذا مالٍ وذا سُلطانٍ مِن ذلك الفريقِ مِن جميعِ أهلِ الإشراكِ والكفْرِ، فما ظنُّك بحسرةِ مَنِ اتَّبَعوهم واقتَدَوا بهم إذا رَأَوهم كذلك؟! وفي هذا تَعريضٌ بسادةِ مُشرِكي العرَبِ مِثلِ أبي جَهلٍ وأُميَّةَ بنِ خلَفٍ؛ قال الله تبارك وتعالَى: وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ [244] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/136). [المزمل: 11] .
- وضُمِّنَ (هَلَكَ) معْنى (غاب)؛ فعُدِّيَ بـ (عن)، أي: لم يَحْضُرني سُلْطاني الَّذي عهِدْتُه [245] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/136). .
2- قولُه تعالَى: خُذُوهُ فَغُلُّوهُ * ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ * ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ
- قولُه: خُذُوهُ فَغُلُّوهُ مَقولٌ لقولٍ مَحذوفٍ مَوقعُه في مَوقعِ الحالِ مِن ضَميرِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ [الحاقة: 25] ، والتَّقديرُ: يُقالُ: خُذُوه. ومَعلومٌ مِن المقامِ أنَّ المأمورينَ بأنْ يَأخُذوه هم الملائكةُ الموكَّلونَ بسَوقِ أهلِ الحسابِ إلى ما أُعِدَّ لهم [246] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/137). . أو جُملةٌ مُستأنَفةٌ مَسوقةٌ للإجابةِ عن سُؤالٍ مُقدَّرٍ؛ كأنَّه قِيل: وما يُفعَلُ به بعْدَ هذا التَّحسُّرِ الصَّادرِ عنه؟ فقِيل: يُقالُ: خُذُوه [247] يُنظر: ((إعراب القرآن)) لدرويش (10/202). .
- وقولُه: فَغُلُّوهُ عُطِفَ بفاءِ التَّعقيبِ؛ لإفادةِ الإسراعِ بوَضْعِه في الأغلالِ عَقِبَ أخْذِه [248] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/137). .
- قولُه: ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ فيه تَقديمُ الجحيمِ على عامِلِه؛ لتَعجيلِ المَساءةِ، مع الرِّعايةِ على الفاصلةِ، وكذلك تَقديمُ فِي سِلْسِلَةٍ على عامِلِه [249] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/138). . أو تَقديمُ الجَحيمِ للدَّلالةِ على التَّخصيصِ، والاهتِمامِ بذِكرِ أنواعِ ما يُعذَّبُ به، وكذلك تَقديمُ فِي سِلْسِلَةٍ، أي: لا تَسلُكوه إلَّا في هذه السِّلسلةِ [250] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/604، 605)، ((تفسير البيضاوي)) (5/242)، ((تفسير أبي حيان)) (10/261، 262)، ((تفسير أبي السعود)) (9/26)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (10/204). .
ثُمَّ مِن قولِه: ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ للتَّراخي الرُّتبيِّ بالنِّسبةِ لمَضمونِ الجُملتينِ قبْلَها؛ لأنَّ مَضمونَ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا أعظَمُ مِن مَضمونِ فَغُلُّوهُ، ومَضمونَ فَاسْلُكُوهُ دلَّ على إدخالِه الجحيمَ، فكان إسلاكُه في تلك السِّلسلةِ أعظَمَ مِن مُطلَقِ إسلاكِه الجحيمَ [251] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/605)، ((تفسير البيضاوي)) (5/242)، ((تفسير أبي حيان)) (10/262)، ((تفسير أبي السعود)) (9/26)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/137)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (10/202). .
- أو يُمكِنُ بَقاءُ (ثُمَّ) على مَوضوعِها مِن الدَّلالةِ على المهْلةِ الزَّمانيَّةِ، وأنَّه أوَّلًا يُؤخَذُ فيُغَلُّ، ولَمَّا لم يُعذَّبْ بالعَجَلةِ، صارت له استراحةٌ، ثمَّ جاء تَصليةُ الجَحيمِ، فكان ذلك أبلَغَ في عَذابِه؛ إذ جاءَه ذلك وقد سَكَنَت نفْسُه قليلًا، ثمَّ جاء سَلْكُه بعْدَ ذلك بعْدَ كَونِه مَغلولًا مُعذَّبًا في النَّارِ، لكنَّه كان له انتقالٌ مِن مكانٍ إلى مكانٍ، فيَجِدُ بذلك بَعضَ تَنفُّسٍ، فلمَّا سُلِكَ في السِّلسلةِ كان ذلك أشدَّ ما عليه مِن العذابِ، حيثُ صار لا حِراكَ له ولا انتقالَ، وأنَّه يُضيَّقُ عليه غايةً، فهذا يَصِحُّ فيه أنْ تكونَ (ثُمَّ) على مَوضوعِها مِن المهْلةِ الزَّمانيَّةِ [252] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (10/262). .
- وجُملةُ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا صِفةُ سِلْسِلَةٍ، وهذه الصِّفةُ وَقَعَت مُعترِضةً بيْن المجرورِ ومُتعلَّقِه؛ للتَّهويلِ على المشرِكين المكذِّبين بالقارعةِ، وليست الجُملةُ ممَّا خُوطِبَ الملائكةُ الموكَّلونَ بسَوقِ المجْرِمين إلى العَذابِ؛ قيل: ولذلك فعَدَدُ السَّبعينَ مُستعمَلٌ في معْنى الكثرةِ على طَريقةِ الكِنايةِ [253] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/138). .
- قيل: وفي تَخصيصِ الطُّولِ بسَبعينَ ذِراعًا مُبالَغةٌ في إرادةِ الوصْفِ بالطُّولِ؛ لأنَّ السِّلسلةَ كلَّما طالت كان الإرهاقُ أشَدَّ، والعذابُ أمَضَّ، كأنَّ السِّلسةَ أفظَعُ مِن سائرِ أدواتِ الإرهاقِ؛ لأنَّها لَمَّا الْتَفَّت عليه تَضاعيفُها، صارت كأنَّها وِعاءٌ له [254] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/605)، ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (15/626)، ((تفسير أبي حيان)) (10/262)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (10/204). .
- واقترانُ فِعلِ فَاسْلُكُوهُ بالفاءِ؛ إمَّا لتَأكيدِ الفاءِ الَّتي اقتَرَنَت بفِعلِ فَغُلُّوهُ، وإمَّا للإيذانِ بأنَّ الفِعلَ مُنزَّلٌ مَنزلةَ جَزاءِ شرْطٍ مَحذوفٍ، وهذا الحذْفُ يُشعِرُ به تَقديمُ المعمولِ غالبًا، كأنَّه قِيل: مهْما فعَلْتُم به شَيئًا فاسْلُكوه في سِلسلةٍ، أو مهْما يكُنْ شَيءٌ فاسْلُكوه، والمقصودُ تأْكيدُ وُقوعِ ذلك، والحثُّ على عدَمِ التَّفريطِ في الفعلِ، وأنَّه لا يُرْجى له تَخفيفٌ [255] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/138). .
3- قولُه تعالَى: إِنّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ * وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ * فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ * وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ * لَا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ
- جُملةُ إِنّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ بدَأَ بأقْوى أسبابِ تَعذيبِه، وهو كفْرُه باللهِ، وهو في مَوضعِ العِلَّةِ للأمْرِ بأخْذِه وإصلائِه الجحيمَ على طَريقةِ الاستِئنافِ للمُبالَغةِ -لأنَّ السُّؤالَ المقدَّرَ فيه تَكثيرٌ للمعْنى مع تَقليلِ لَفظِه-، كأنَّ قائلًا قال: لِمَ يُعذَّبُ هذا العذابَ البليغَ الشَّديدَ؟ فأُجِيبَ وقيل: إنَّه كان لا يُؤمِنُ [256] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/605)، ((تفسير البيضاوي)) (5/242)، ((تفسير أبي حيان)) (10/262)، ((تفسير أبي السعود)) (9/26)، ((حاشية الشهاب على البيضاوي)) (8/239)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/138)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (10/202، 203). .
- ووصْفُ اللهِ سُبحانَه بالعظيمِ هنا إيماءٌ إلى مُناسَبةِ عِظَمِ العذابِ للذَّنْبِ؛ إذ كان الذَّنْبُ كُفرانًا بعَظيمٍ، فكان جَزاءً وِفاقًا [257] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/138). .
- وقدْ جُعِل عدَمُ الحضِّ على طَعامِ المسكينِ مُبالَغةً في شُحِّ هذا الشَّخصِ عن المساكينِ بمالِ غيرِه، وكِنايةً عن الشُّحِّ عنهم بمالِه [258] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/139). .
- ولعلَّ تَخصيصَ الأمْرَينِ بالذِّكرِ؛ لأنَّ أقبحَ العقائدِ الكفرُ باللهِ تَعالى، وأشنعَ الرَّذائلِ البُخلُ وقَسوةُ القلبِ [259] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (5/242)، ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (15/627)، ((تفسير أبي السعود)) (9/26). .
- وأضافَ الطَّعامَ إلى المسكينِ مِن حيث لم يَنسُبْه إليه؛ إذ يَستحِقُّ المسكينُ حقًّا في مالِ الغنيِّ الموسِرِ ولو بأدْنى يَسارٍ [260] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (10/263). .
- قولُه: فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ مِن تَمامِ الكلامِ الَّذي ابتُدِئَ بقولِه: خُذُوهُ، وتَفريعٌ عليه، والمقصودُ منه أنْ يَسمَعَه مَن أُوتِيَ كِتابَه بشِمالِه، فيَيأَسَ مِن أنْ يَجِدَ مُدافِعًا يَدفَعُ عنه بشفاعةٍ، وتَنديمٌ له على ما أضاعَهُ في حَياتِه مِن التَّزلُّفِ إلى الأصنامِ وسَدَنتِها، وتَمويهِهم عليه أنَّه يَجِدُهم عندَ الشَّدائدِ وإلْمامِ المصائبِ، وهذا وجْهُ تَقييدِ نفْيِ الحميمِ باليومِ؛ تَعريضًا بأنَّ أحِمَّاءَهُم في الدُّنيا لا يَنفَعونَهم اليومَ، كما قال تعالَى: ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ [الأنعام: 22] ، وقولُه عنهم: فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا [الأعراف: 53] ، وغيرُ ذلك ممَّا تفرَّقَ في آيِ القرآنِ الكريمِ [261] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/139). .
- والحميمُ: القريبُ، قيل: هو هنا كِنايةٌ عن النَّصيرِ؛ إذ المتعارَفُ عندَ العرَبِ أنَّ أنصارَ المرْءِ هم عَشيرتُه وقَبيلتُه [262] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/140). .
- وتَعريفُ الْخَاطِئُونَ للدَّلالةِ على الكَمالِ في الوَصْفِ، أي: المرْتَكِبون أشدَّ الخطَأِ، وهو الإشراكُ [263] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/140). .