موسوعة التفسير

سورةُ الكَهفِ
الآيتان (50-51)

ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ

غريب الكلمات:

عَضُدًا: أي: أعوانًا وأنصارًا، وأصلُ (عضد): يدُلُّ على عُضوٍ مِن الأعضاءِ [823] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (4/348)، ((البسيط)) للواحدي (14/51)، ((المفردات)) للراغب (ص: 571)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 215)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 219).   .

المعنى الإجمالي:

يقولُ تعالى مبينًا عداوةَ إبليسَ لآدمَ، محذرًا مِن تولِّيه وذريتِه: واذكُرْ -يا مُحَمَّدُ- حينَ أمَرْنا الملائِكةَ بالسُّجودِ لآدَمَ سُجودَ تشريفٍ وتكريمٍ، فسجَدَ الملائكةُ جَميعًا إلَّا إبليسَ كان من الجِنِّ فخرج عن طاعةِ رَبِّه، ولم يَسجُدْ معهم كِبرًا وحَسَدًا. أفتجعَلونَه -يا بني آدَمَ- وذُرِّيَّتَه أولياءَ لكم تُطيعونَهم وتَتركونَ طاعتي، وهم لكم أعداءٌ يُضِلُّونَكم؟! قَبُحَ اتخاذُ إبليسَ وليًّا مِن دونِ الرَّحمنِ بَدَلًا.
ثمَّ يذكرُ تعالى ما يدلُّ على كمالِ علمِه وقدرتِه، فيقولُ: ما أحضَرْتُ إبليسَ وذُرِّيَّتَه خَلْقَ السَّمواتِ والأرضِ فأستعينَ بهم على خَلْقِهما، ولا أشهَدْتُ بعضَهم خَلْقَ بَعضٍ، بل تفَرَّدْتُ بخلقِ جميعِ ذلك بغيرِ مُعينٍ ولا ظهيرٍ، وما كنتُ مُتَّخِذَ المُضِلِّينَ مِن الشَّياطينِ وغَيرِهم أعوانًا لي.

تفسير الآيتين:

وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآَدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا (50).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّ المقصودَ مِن ذِكرِ الآياتِ المتقَدِّمةِ الرَّدُّ على القَومِ الذين افتَخَروا بأموالِهم وأعوانِهم على فُقَراءِ المُسلِمينَ، وهذه الآيةُ المقصودُ مِن ذِكرِها عَينُ هذا المعنى؛ وذلك لأنَّ إبليسَ إنما تكبَّرَ على آدمَ لأنَّه افتخر بأصلِه ونَسَبِه، وهؤلاء المُشرِكونَ عامَلوا فُقَراءَ المُسلِمينَ بعَينِ هذه المُعاملة؛ فاللهُ تعالى ذكَرَ هذه القِصَّةَ هاهنا تنبيهًا على أنَّ هذه الطَّريقةَ هي بعينِها طريقةُ إبليسَ، ثمَّ إنَّه تعالى حَذَّرَ عنها وعن الاقتداءِ بها في قَولِه تعالى: أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ [824] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (21/471). لكن قال أبو حيان بعدَ أن ذكَر هذه المناسبةَ: (وهذا الذي ذكروه في الارتباطِ هو ظاهرٌ بالنسبةِ للآياتِ السابقةِ قبلَ ضربِ المثلينِ، وأمَّا أنَّه واضحٌ بالنسبةِ لما بعدَ المثلينِ فلا). ((تفسير أبي حيان)) (7/189).   .
وأيضًا فإنَّه لَمَّا ذكَرَ الله تعالى يومَ القيامةِ والحَشر، وذكَرَ خَوفَ المُشرِكينَ مِمَّا سُطِرَ في ذلك الكِتابِ، وكان إبليسُ هو الذي حمَلَ المُجرِمينَ على مَعاصيهم، واتِّخاذِ شُرَكاءَ مع الله؛ ناسب ذِكرُ إبليسَ والنَّهي عن اتِّخاذِ ذُرِّيتِه أولياءَ مِن دُونِ الله؛ تبعيدًا عن المعاصي، وعن امتِثالِ ما يُوسوِسُ به [825] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (7/189).   .
وأيضًا فإنَّه لَمَّا ذكر الله تعالى البَعثَ، وختَمَه بإحسانِه بالعَدلِ المثمِرِ لإعطاءِ كُلِّ أحدٍ ما يستحقُّه؛ أتبَعَه -بما له مِن الفَضلِ- بابتداءِ الخَلقِ الذي هو دليلُه، في سياقٍ مذَكِّرٍ بوَلايتِه الموجِبةِ للإقبالِ عليه، وعداوةِ الشَّيطانِ الموجِبةِ للإدبارِ عنه؛ مُبَيِّنٍ لِما قابلوا به عَدْلَه فيهم وفي عدُوِّهم من الظُّلمِ بفِعلِهم، كما فعَلَ مِن التكَبُّر على آدَمَ عليه السلامُ بأصلِه، فتكَبَّروا على فُقَراءِ المؤمنينَ بأصلِهم وأموالِهم وعشائِرِهم، فكان فِعلُهم فِعْلَه سواءً، فكان قدوتَهم وهو عدوُّهم، ولم يقتَدوا بخيرِ خَلْقِه وهو وليُّهم وهو أعرَفُ النَّاسِ به [826] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (12/74-75).   .
وأيضًا لمَّا بيَّنَ حالَ المغرورِ بالدُّنيا والمُعرِضِ عنها، وكان سبَبُ الاغترارِ بها حُبَّ الشَّهواتِ وتَسويلَ الشَّيطانِ؛ زهَّدَهم أوَّلًا في زخارفِ الدُّنيا بأنَّها عُرضةُ الزَّوالِ، والأعمالُ الصَّالحةُ خيرٌ وأبْقَى مِن أنْفَسِها وأعْلاها، ثمَّ نفَّرَهم عنِ الشَّيطانِ بتَذكيرِ ما بينهم مِن العداوةِ القديمةِ [827] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (3/284).   .
وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآَدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ.
أي: واذكُرْ -يا مُحمَّدُ- حين قُلْنا للمَلائِكةِ: اسجُدوا لآدَمَ، فسجدَ الملائِكةُ كُلُّهم لآدمَ؛ امتثالًا لأمرِ اللهِ، سُجودَ تشريفٍ وتكريمٍ، إلَّا إبليسَ لم يَسجُدْ معهم؛ استكبارًا على اللهِ، وحَسَدًا لآدمَ [828] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (15/285، 286)، ((تفسير ابن كثير)) (5/167)، ((تفسير الشوكاني)) (3/346)، ((تفسير السعدي)) (ص: 479). قال ابن جرير: (يقولُ تعالى ذِكرُه مذَكِّرًا هؤلاء المُشرِكين حسَدَ إبليسَ أباهم، ومُعْلِمَهم ما كان منه مِن كِبْرِه واستكبارِه عليه حين أمَرَه بالسُّجودِ له، وأنَّه من العداوةِ والحسَدِ لهم على مِثلِ الذي كان عليه لأبيهم: وَ اذكُرْ -يا محمَّدُ- إِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ الذي يطيعُه هؤلاء المُشرِكون ويتَّبِعون أمْرَه ويخالِفونَ أمْرَ الله). ((تفسير ابن جرير)) (15/285-286).   !
كما قال تعالى: وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ [البقرة: 34] .
وقال سُبحانَه: وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا [الإسراء: 61] .
كَانَ مِنَ الْجِنِّ.
أي: كان إبليسُ مِن صِنفِ الجِنِّ [829] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (5/167)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (12/75)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (3/290)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الكهف)) (ص: 91). قيل: لم يكُنْ إبليسُ مِن الملائكةِ، وممن رجَّح ذلك: الزجاجُ، وابنُ حزمٍ، والزمخشري، والبيضاوي، وابنُ كثيرٍ، والشنقيطي، وابنُ عثيمينَ. يُنظر: ((معاني القرآن)) للزجاج (1/114)، ((الفِصَل)) لابن حزم (4/28)، ((تفسير الزمخشري)) (2/727)، ((تفسير البيضاوي)) (3/284)، ((تفسير ابن كثير)) (5/167)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (3/290، 291)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الكهف)) (ص: 91). وممن قال بهذا القولِ مِن السلفِ: الحسنُ، وشهرُ بنُ حَوْشَب، وسعدُ بنُ مسعود، وابنُ زيدٍ، والزهري، وسعيدُ بنُ جبير. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (1/539)، ((تفسير ابن أبي حاتم)) (7/2366)، ((تفسير ابن الجوزي)) (1/54). قال ابنُ حزم: (ادَّعى قَومٌ أنَّ إبليسَ كان ملَكًا فعصى، وحاشا لله مِن هذا؛ لأنَّ الله تعالى قد كذَّب هذا القَولَ بقَولِه تعالى: إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ، وبقَولِه: أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي [الكهف: 50] ولا ذريَّةَ للملائكةِ، وبقَولِه تعالى: إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ [الأعراف: 27] ، وبإخباره أنَّه خلق إبليسَ مِن نارِ السَّمومِ، وصَحَّ عن النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم أنه قال: «خُلِقت الملائكةُ مِن نورٍ»، والنورُ غيرُ النارِ بلا شَكٍّ؛ فصحَّ أنَّ الجِنَّ غيرُ الملائكة، والملائِكةُ كُلُّهم خِيارٌ مُكْرَمون بنصِّ القرآنِ، والجِنُّ والإنسُ فيهما مذمومٌ ومحمودٌ). ((الفِصَل)) (4/28). وقيل: بل كان إبليسُ مِن الملائكةِ، وممن رجَّح ذلك: مقاتلُ بنُ سليمان، وابنُ جرير، والسمعاني، والبغوي، واستظهره القرطبي، ونسبه البغوي والقرطبي إلى جمهورِ المفسِّرين. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (2/589)، ((تفسير ابن جرير)) (1/542، 543) و (15/287)، ((تفسير ابن أبي حاتم)) (7/2366)، ((تفسير السمعاني)) (1/67)، ((تفسير البغوي)) (1/104)، ((تفسير القرطبي)) (1/294). وممن قال من السلفِ: إنَّ إبليسَ كان مِن الملائكةِ: ابنُ مسعود في روايةٍ عنه، وابنُ عباسٍ، وسعيدُ بنُ المسيب، وقتادةُ، ومحمدُ بنُ إسحاقَ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (1/535)، ((تفسير ابن أبي حاتم)) (7/2366)، ((تفسير ابن الجوزي)) (1/54). قال محمدُ بنُ إسحاق فيما رواه عنه ابنُ جرير: (أمَّا قَولُه: إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ أي: كان من الملائكةِ، وذلك أنَّ الملائكةَ اجتنُّوا فلم يُرَوا، وقد قال الله جلَّ ثناؤه: وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ [الصافات: 158] ، وذلك لِقَولِ قُريشٍ: إن الملائكةَ بناتُ الله... قال: فأبت العربُ في لغتِها إلَّا أن الجِنَّ كلُّ ما اجتَنَّ. يقول: ما سمَّى الله الجِنَّ إلا أنَّهم اجتَنُّوا فلم يُرَوا، وما سَمَّى بني آدم الإنسَ إلَّا أنَّهم ظهروا فلم يَجتنُّوا، فما ظهر فهو إنسٌ، وما اجتَنَّ فلم يُرَ فهو جِنٌّ). يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (1/539). .
عن عائِشةَ رَضِيَ اللهُ عنها، قالت: قال رَسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((خُلِقَت الملائكةُ مِن نُورٍ، وخُلِقَ الجانُّ مِن مارجٍ مِن نارٍ [830] مارِجُ النَّارِ: لَهَبُها المُختَلِطُ بسوادِها. يُنظر: ((النهاية)) لابن الأثير (4/315).   ، وخُلِقَ آدَمُ مِمَّا وُصِفَ لكم )) [831] رواه مسلم (2996).   .
فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ.
أي: فخرج عن طاعةِ رَبِّه، فلم يسجُدْ لآدَمَ كما أمَرَه اللهُ [832] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 29)، ((تفسير ابن جرير)) (15/290)، ((تفسير ابن كثير)) (5/169)، ((تفسير ابن عاشور)) (15/341)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (3/290-291). قال الشنقيطي: (وقولُه تعالَى في هذه الآيةِ الكريمةِ: فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ، أيْ: خَرَج عن طاعةِ أمرِ رَبِّه... وهذا المعنَى ظاهرٌ لا إشكالَ فيه، فلا حاجةَ لقولِ مَنْ قالَ: إِنَّ «عَنْ» سَبَبِيَّةٌ، كقولِه: وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ [هود: 53] ، أي: بسَبَبِه، وأنَّ المعنَى: ففَسَق عن أمرِ رَبِّه، أَيْ: بسببِ أمرِه حيثُ لم يمتثلْهُ، ولا غيرَ ذلك مِنَ الأقوالِ). ((أضواء البيان)) (3/291).   .
أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ.
أي: أبعْدَ ما ظهَرَ من إبليسَ مِن الفِسقِ والاستكبارِ، فرفَضَ السُّجودَ لأبيكم -يا بني آدَمَ- وحَسَدَه، وأخرَجَه من الجنَّةِ، تتَّخِذونَه وذُرِّيَّتَه من الشياطينِ أولياءَ تُطيعونَهم وتُوالونَهم في خِلافِ مَرضاتي، والحالُ أنَّهم لكم أعداءٌ يُضِلُّونَكم، بدلًا مِن طاعتي، وأنا ربُّكم الذي أنعَمَ عليكم وأكرَمَكم [833] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (15/292)، ((الجواب الكافي)) لابن القيم (ص: 83)، ((بدائع الفوائد)) لابن القيم (2/213)، ((تفسير ابن كثير)) (5/169)، ((تفسير الشوكاني)) (3/347)، ((تفسير السعدي)) (ص: 479)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (3/292).   ؟!
كما قال تعالى: أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ * وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ [يس: 60 - 62] .
بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا.
أي: بِئسَ البدلُ للظَّالِمينَ [834] قال ابنُ عثيمين: (قولُه تعالى: بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ يمكِنُ أن نقولَ: إنَّها بمعنى الكافرينَ؛ لأنَّهم هم الذين اتَّخذوا الشَّيطانَ وذُرِّيَّتَه أولياءَ على وجهِ الإطلاقِ، ويُمكِنُ أن نقولَ: إنَّها تعُمُّ الكافرينَ ومَن كان ظُلمُهم دونَ ظُلمِ الكُفرِ؛ فإنَّ لهم مِن وَلايةِ الشَّيطانِ بقَدرِ ما أعرَضوا به عن وَلايةِ الرَّحمنِ). ((تفسير ابن عثيمين- سورة الكهف)) (ص: 93). وممَّن فسَّر الظالِمينَ هنا بالكافرين: ابنُ جرير. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (15/293). وقال ابن عاشور: (الظالِمونُ: هم المُشرِكونَ). ((تفسير ابن عاشور)) (15/342). وقال الشنقيطي: (والبدلُ: العِوَضُ مِنَ الشَّيءِ). ((أضواء البيان)) (3/292). اتِّخاذُ إبليسَ وذُرِّيَتِه أولياءَ مِن دونِ اللهِ، وهم لهم أعداءٌ، فتركوا وَلايةَ الذي أنعَمَ عليهم وعلى أبيهم آدَمَ مِن قَبلُ، والذي في وَلايتِه كُلُّ الخيرِ والسَّعادةِ والفلاحِ [835] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (15/293)، ((تفسير القرطبي)) (10/420)، ((تفسير السعدي)) (ص: 479)، ((تفسير ابن عاشور)) (15/342).   .
مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا (51).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا كان الشريكُ لا يستأثِرُ بفِعلِ أمرٍ عَظيمٍ في المُشتَرَكِ فيه مِن غيرِ عِلمٍ لشريكِه به؛ قال معلِّلًا للذمِّ على الظُّلمِ المذكورِ في الآيةِ السَّابقةِ بما يدُلُّ على حقارتِهم عن هذه الرُّتبة [836] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (12/77).   :
مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ.
أي: ما أحضَرْتُ الشَّياطينَ خَلْقَ السَّمَواتِ والأرضِ؛ لأستعينَ بهم على خَلقِها أو أشاوِرَهم في ذلك، بل لم يكونوا موجودينَ حينذاك؛ فأنا المستَقِلُّ بخَلقِ السَّمواتِ والأرضِ، ومُدَبِّرُها وَحدي، ليس معي في ذلك شَريكٌ، ولا وزيرٌ، ولا مُشيرٌ [837] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (15/294)، ((تفسير ابن كثير)) (5/169)، ((تفسير السعدي)) (ص: 480)، ((تفسير ابن عاشور)) (15/342، 343)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (3/294).   .
كما قال تعالى: قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ [سبأ: 22] .
وَلَا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ.
أي: ولا أشهَدْتُ بَعضَهم خَلْقَ بَعضٍ، بل تفَرَّدتُ بخَلقِهم بغيرِ مُعينٍ ولا ظهيرٍ، فكيف تَصرِفونَ لهم حَقِّي، وتتَّخِذونَهم أولياءَ مِن دوني، وأنا خالِقُ كُلِّ شَيءٍ [838] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (15/294)، ((تفسير السعدي)) (ص: 480)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (3/294).   ؟!
وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا.
أي: وما ينبغي ولا يليقُ أن أتَّخِذَ الذين يُضِلُّونَ الخلقَ عن طريقِ الحَقِّ أعوانًا لي في أيِّ شأنٍ مِن الشُّؤونِ [839] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (15/294)، ((تفسير القرطبي)) (11/2)، ((تفسير السعدي)) (ص: 480)، ((تفسير ابن عاشور)) (15/343، 344)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (3/295). قال ابن عاشور: (المعنى: لا يليقُ بالكَمالِ الإلهيِّ أن أتَّخِذَ أهلَ الإضلالِ أعوانًا، فأشرَكَهم في تصرُّفي في الإنشاءِ؛ فإنَّ اللهَ مُفيضُ الهدايةِ، وواهبُ الدرايةِ، فكيف يكونُ أعوانُه مصادِرَ الضلالةِ، أي: لا يُعينُ المعين إلَّا على عمَلِ أمثالِه، ولا يكونُ إلَّا قرينًا لأشكالِه). ((تفسير ابن عاشور)) (15/344).   .

الفوائد التربوية:

1- قَولُ الله تعالى: وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا فيه الحثُّ على اتِّخاذِ الشَّيطانِ عَدُوًّا، والإغراءُ بذلك، وذِكرُ السَّبَبِ المُوجِبِ لذلك، وأنَّه لا يتَّخِذُ الشيطانَ وليًّا إلا ظالمٌ، وأيُّ ظُلمٍ أعظَمُ مِن ظُلمِ مَن اتَّخذ عَدُوَّه الحقيقيَّ وليًّا، وتَرَك الوليَّ الحميدَ [840] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 479).   ؟!
2- قال الله تعالى: أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ تأمَّلْ ما تحتَ هذا الخِطابِ الذي يَسلُبُ الأرواحَ حَلاوةً وعِقابًا، وجلالةً وتَهديدًا! كيف صَدَّره بإخبارِنا أنَّه أمَرَ إبليسَ بالسُّجودِ لأبينا، فأبى ذلك فطرَدَه ولعَنَه وعاداه؛ مِن أجلِ إبائِه عن السُّجودِ لأبينا، ثمَّ أنتم توالونَه مِن دوني وقد لعَنْتُه وطرَدْتُه؛ إذ لم يسجُدْ لأبيكم، وجعلتُه عدوًّا لكم ولأبيكم، فواليتُموه وتَرَكتُموني [841] يُنظر: ((بدائع الفوائد)) لابن القيم (2/213).   !! ويُشبِهُ أنْ يكونَ تحت هذا الخطابِ نوعٌ مِن العتابِ لَطيفٌ عَجيبٌ، وهو: أنِّي عاديتُ إبليسَ؛ إذ لم يسجدْ لأبيكم آدمَ مع ملائِكتي، فكانت معاداتُه لأجلِكم، ثمَّ كان عاقبةُ هذه المعاداةِ أنْ عقَدْتُم بينكم وبينه عَقْدَ المُصالحةِ [842] يُنظر: ((الجواب الكافي)) لابن القيم (ص: 83).   !! فليتأملِ اللبيبُ مواقعَ هذا الخطابِ، وشدةَ لصوقِه بالقلوبِ، والتباسه بالأرواحِ، وأكثرُ القرآنِ جاء على هذا النمطِ مِن خطابِه لعبادِه بالتوددِ والتحننِ واللطفِ والنصيحةِ البالغةِ [843] يُنظر: ((طريق الهجرتين وباب السعادتين)) لابن القيم (ص: 134).   .
3- قال الله تعالى: وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا في هذه الآيةِ الكريمةِ التَّنبيهُ على أنَّ الضَّالِّينَ المُضِلِّينَ لا تنبغي الاستعانةُ بهم [844] يُنظر: ((أضواء البيان)) للشنقيطي (3/295).   ، ولا ينبغي الاعتمادُ على السُّفَهاءِ، ولا أهلِ الأهواءِ المُنحَرفةِ؛ لأنَّهم لا خيرَ فيهم، فإذا كان اللهُ لم يتخذِ المضلِّين عَضُدًا، فنحن كذلك لا يَليقُ بنا أنْ نتَّخِذَ المضلِّينَ عَضُدًا، وفي هذا: النهيُ عن بطانةِ السُّوءِ، وعن مُرافقةِ أهلِ السُّوءِ، وأنْ يَحذرَ الإنسانُ مِن جُلَساءِ السوءِ [845] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الكهف)) (ص: 94).   .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- قَولُ الله تعالى: وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا بيَّن في سورةِ (الحِجر) وسورة (ص) أنَّ أصلَ الأمرِ بالسُّجودِ متقَدِّمٌ على خَلقِ آدَمَ مُعلَّقٌ عليه؛ قال في (الحِجر): وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ [الحجر: 28، 29]، وقال في (ص): إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ [ص: 71، 72]، ولا ينافي هذا أنَّه بعد وجودِ آدَمَ جَدَّد لهم الأمرَ بالسُّجودِ له؛ تنجيزًا [846] يُنظر: ((أضواء البيان)) للشنقيطي (3/289، 290).   .
2- قال الله تعالى: وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا الأصلُ أنَّ سُجودَ الملائِكةِ لآدَمَ كان على الجَبهةِ، وإذا وقع ذلك امتِثالًا لأمرِ اللهِ كان طاعةً مِن الطَّاعاتِ، ولم يكُنْ شِرْكًا؛ فالسُّجودُ لآدَمَ لولا أمْرُ الله لكان شِرْكًا، لكِنْ لَمَّا كان بأمرِ الله كان طاعةً لله، كما أن قَتْلَ النفسِ بغيرِ حَقٍّ مِن كبائرِ الذُّنوبِ، لكِنْ لَمَّا أُمِرَ إبراهيمُ الخَليلُ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ بذَبحِ ابنِه فامتَثَل أمْرَ اللهِ، وشَرَع في تنفيذِ الذَّبحِ؛ صار طاعةً [847] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الكهف)) (ص: 88-89).   .
3- قَولُ الله تعالى: إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ استدلَّ به الجمهورُ على أنَّ إبليسَ لم يكُنْ مِن الملائِكةِ [848] يُنظر: ((الإكليل)) للسيوطي (ص: 171). وتقدَّم ذكرُ الخلافِ في ذلك (ص: 269، 270).   .
4- قولُه تعالى:فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ أي: خانه أصلُه؛ فإنَّه خُلِقَ مِن مارجٍ مِن نارٍ، وأصلُ خَلقِ الملائكةِ مِن نورٍ، فعند الحاجةِ نضَحَ كُلُّ وعاءٍ بما فيه، وخانه الطَّبعُ عند الحاجة؛ وذلك أنَّه كان قد توسَّم بأفعالِ الملائكةِ وتشَبَّه بهم، وتعَبَّد وتنَسَّك؛ فلهذا دخَلَ في خطابِهم، وعصى بالمُخالفةِ [849] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (5/167).   .
5- قَولُ الله تعالى: وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ فيه دَليلٌ على أنَّ المَلَك لا يَعصي البتَّةَ، وإنَّما عصى إبليسُ؛ لأنَّه كان جنيًّا في أصلِه [850] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (3/284).   .
6- الفِسقُ قد يكون ناقِلًا عن المِلَّةِ، كما قال في حَقِّ إبليسَ: فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ، وقال وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ [السجدة: 20]. وقد لا يكونُ الفِسقُ ناقِلًا عن المِلَّةِ، كقوله تعالى: وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ [851] يُنظر: ((فتح الباري)) لابن رجب (1/146).   [البقرة: 282] .
7- قول الله تعالى: أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ فيه سؤالٌ: كيف قال ذلك مع أنَّ الشَّيطانَ وذُرِّيَّتَه ليسوا أولياءَ، بل أعداءٌ؛ لأنَّ الأولياءَ هم الأصدقاءُ؟
الجوابُ: المرادُ بالوَلايةِ هنا اتِّباعُ النَّاسِ لهم فيما يأمُرونَهم به من المعاصي [852] يُنظر: ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص: 344).   .
8- استَدَلَّ مَن قال بأنَّ الجِنَّ يَتناكَحونَ بقَولِه تعالى: أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي، وكذلك قولُه تعالى: لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ [الرحمن: 74]، والدَّلالةُ مِن ذلك ظاهرةٌ [853] يُنظر: ((فتح الباري)) لابن حجر (6/345).   .
9- قال الله تعالى: أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ قولُه في هذه الآيةِ الكريمةِ: وَذُرِّيَّتَهُ دليلٌ على أنَّ للشيطانِ ذريةً [854] يُنظر: ((أضواء البيان)) للشنقيطي (3/292). وقال الشنقيطي: (ولكنْ طريقةُ وجودِ نسلِه هل هي عن تزويجٍ أو غيرِه، لا دليلَ عليها مِنْ نصٍّ صريحٍ، والعلماءُ مختلِفونَ فيها). ((المصدر السابق)).   .
10- قولهُ تعالى: بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا قال: لِلظَّالِمِينَ؛ لأنَّهم اعْتاضوا من الحقِّ بالباطلِ، وجَعَلوا مكانَ ولايتِهم إبليسَ وذُرِّيَّتَه، وهذا نفْسُ الظُّلمِ؛ لأنَّه وضْعُ الشَّيءِ في غيرِ موضِعِه [855] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (7/190)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (3/292).   .
11- في قَولِه تعالى: مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ دليلٌ على أنَّ كلَّ مَن تكلَّمَ في شيءٍ مِن أمْرِ السَّمواتِ والأرضِ بدونِ دَليلٍ شَرعيٍّ أو حِسِّيٍّ، فإنَّه لا يُقبلُ قَولُه، ويقالُ له: إنَّ الله ما أشهَدَك خلْقَ السَّمَواتِ والأرضِ، ولن نقبَلَ منك أيَّ شيءٍ مِن هذا إلَّا إذا وجَدْنا دليلًا حِسِّيًّا لا مَناصَ لنا منه، حينَئذٍ نأخذُ به؛ لأنَّ القرآنَ لا يُعارِضُ الأشياءَ المحسوسةَ [856] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الكهف)) (ص: 93).   . وفيه أيضًا الرَّدُّ على الكُهَّانِ والمُنجِّمينَ وغَيرِهم ممَّن يخوضُ في هذه الأشياءِ [857] يُنظر: ((الإكليل)) للسيوطي (ص: 171).   .

بلاغة الآيتين:

1- قوله تعالى: وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا
     - تكرَّرَتْ هذه القِصَّةُ في مواضعَ كثيرةٍ من القُرآنِ، وهي في كلِّ موضعٍ تَشتمِلُ على شَيءٍ لم تَشتمِلْ عليه في الآخَرِ، ولها في كلِّ موضعٍ ذُكِرَت فيه عِبرةٌ تُخالِفُ عِبرةَ غيرِه؛ فذِكْرُها في سُورةِ البقرةِ -مثلًا- إعلامٌ بمبادئِ الأُمورِ، وذِكْرُها هنا تَنظيرٌ للحالِ، وتَوطئةٌ للإنكارِ والتَّوبيخِ [858] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (15/340).   .
     - قولُه: وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا عطْفٌ على جُملةِ وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ، بتَقديرِ: واذكُرْ إذْ قُلْنا للملائكةِ؛ تَفنُّنًا لغرَضِ الموعظةِ الَّذي سِيقَتْ له هذه الجُملُ، وهو التَّذكيرُ بعَواقبِ اتِّباعِ الهوى والإعراضِ عن الصَّالحاتِ، وبمَداحضِ الكبرياءِ والعُجْبِ، واحتقارِ الفضيلةِ، والابتهاجِ بالأعراضِ الَّتي لا تُكسِبُ أصحابَها كمالًا نَفسيًّا. وكما وُعِظُوا بآخرِ أيَّامِ الدُّنيا، ذُكِّروا هنا بالموعظةِ بأوَّلِ أيَّامِها، وهو يومُ خلْقِ آدمَ، وهذا أيضًا تَمهيدٌ وتَوطئةٌ لقولِه: وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ... الآيةَ؛ فإنَّ الإشراكَ كان من غُرورِ الشَّيطانِ ببَني آدمَ [859] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (15/340).   .
     - قولُه: كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ كلامٌ مُستأنفٌ جارٍ مَجْرى التَّعليلِ بعدَ استثناءِ إبليسَ من السَّاجدينَ، كأنَّ قائلًا قال: ما له لَمْ يسجُدْ؟ فقيلَ: كان من الجِنِّ، ففسَقَ عن أمْرِ ربِّه، والفاءُ للتَّسبيبِ أيضًا؛ جُعِلَ كونُه من الجنِّ سَببًا في فسْقِه [860] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (2/727)، ((تفسير البيضاوي)) (3/284)، ((تفسير أبي حيان)) (7/189)، ((تفسير أبي السعود)) (5/227).   .
     - وفي قولِه: عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ عُدولٌ إلى التَّعريفِ بطريقِ الإضافةِ دُونَ الضَّميرِ؛ لتَفظيعِ فِسْقِ الشَّيطانِ عن أمْرِ اللهِ بأنَّه فِسْقُ عبْدٍ عن أمرِ مَن تجِبُ عليه طاعتُه؛ لأنَّه مالكُه [861] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (5/227)، ((تفسير ابن عاشور)) (15/341).   .
     - قولُه: أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ فُرِّعَ على التَّذكيرِ بفِسْقِ الشَّيطانِ، وعلى تعاظُمِه على أصْلِ النَّوعِ الإنسانيِّ: إنكارُ اتِّخاذِه واتِّخاذِ جُندِه أولياءَ؛ لأنَّ تكبُّرَه على آدمَ يَقْتضي عداوتَه للنَّوعِ، ولأنَّ عِصيانَه أمْرَ مالِكه يَقْتضي أنَّه لا يُرْجى منه خيرٌ، وليس أهلًا لأنْ يُتَّبَعَ [862] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (15/341).   .
     - والهمزةُ في أَفَتَتَّخِذُونَهُ للتَّوبيخِ والإنكارِ والتَّعجُّبِ، أي: أبعْدَ ما ظهَرَ منه مِن الفسْقِ والعِصيانِ تتَّخِذونه وذُرِّيَّتَه أولياءَ من دُوني، مع ثُبوتِ عَداوتِه لكم تتَّخِذونه وليًّا [863] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (2/727)، ((تفسير البيضاوي)) (3/284)، ((تفسير أبي حيان)) (7/190)، ((تفسير أبي السعود)) (5/227)، ((تفسير ابن عاشور)) (15/341).   ؟!
     - قولُه: أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي و(مِن) صِلةٌ للتَّوكيدِ، أي: تتَّخِذونهم أولياءَ مُباعِدين لي، وذلك هو إشراكُهم في العِبادةِ [864] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (15/342).   .
     - في قولِه: وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ قُيِّدَ الاتِّخاذُ بالجُملةِ الحاليَّةِ لتأكيدِ الإنكارِ وتَشديدِه؛ فإنَّ مَضمونَها مانعٌ من وُقوعِ الاتِّخاذِ، ومُنافٍ له قطْعًا [865] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (5/228).   .
     - وجُملةُ: بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا مُستأنفةٌ لإنشاءِ ذَمِّ إبليسَ وذُرِّيَّتِه باعتبارِ اتِّخاذِ المُشرِكين إيَّاهم أولياءَ، أي: بئْسَ البدلُ للمُشرِكين الشَّيطانُ وذُرِّيَّتُه، فقولُه: بَدَلًا تَمييزٌ مُفسِّرٌ لاسمِ (بئس) المحذوفِ؛ لقصْدِ الاستغناءِ عنه بالتَّمييزِ، على طريقةِ الإجمالِ ثُمَّ التَّفصيلِ [866] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (15/342).   .
     - في قولِه: بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا الْتِفاتٌ إلى الغَيبةِ، وفي هذا الالتفاتِ، مع وضْعِ (الظَّالمينَ) موضعَ الضَّميرِ: مِن الإيذانِ بكَمالِ السُّخطِ، والإشارةِ إلى أنَّ ما فَعَلوه ظُلمٌ قَبيحٌ ما لا يَخْفى [867] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (5/228)، ((تفسير ابن عاشور)) (15/342).   ؛ فأبرَز اللهُ تعالى الضميرَ في قولِه: لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا، وكان الأصلُ: (لكم)؛ لتعليقِ الفِعلِ بالوصفِ والتعميمِ؛ إذ استبدلُوا مَن ليس لهم شيءٌ من الأمرِ -وهم لهم عدوٌّ- بمَن له الأمرُ كلُّه -وهو لهم وليٌّ [868] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (12/77).   .
2- قوله تعالى: مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا
     - قولُه: مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا استئنافٌ مَسوقٌ لبَيانِ عدَمِ استحقاقِهم للاتِّخاذِ المذكورِ في أنفُسِهم، بعدَ بَيانِ الصَّوارفِ عن ذلك؛ من خَباثةِ الطبع، والفِسقِ والعداوةِ، أي: ما أحضرْتُ إبليسَ وذُرِّيَّتَه [869] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (5/228).   .
     - وهذه الجُملةُ تَتنزَّلُ مَنزلةَ التَّعليلِ للجُملتينِ اللَّتينِ قبْلَها، وهما: أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ إلى قولِه: بَدَلًا؛ فإنَّهم لمَّا لم يَشْهَدوا خلْقَ السَّمواتِ والأرضِ، لم يَكونوا شُركاءَ للهِ في الخلْقِ بطريقِ الأَولى، فلم يَكونوا أحِقَّاءَ بأنْ يُعْبَدوا. وهذا احتجاجٌ على المُشرِكين بما يَعترِفون به؛ فإنَّهم يَعترِفون بأنَّ اللهَ هو المُتفرِّدُ بخلْقِ السَّمواتِ والأرضِ وخلْقِ الموجوداتِ. والإشهادُ هنا كِنايةٌ عن إحضارٍ خاصٍّ، وهو إحضارُ المُشارَكةِ في العمَلِ أو الإعانةِ عليه. ونفيُ هذا الشُّهودِ يَستلزِمُ نفْيَ المُشارَكةِ في الخلْقِ والإلهيَّةِ بالأَولى؛ فإنَّ خلْقَ السَّمواتِ كان قبْلَ وُجودِ إبليسَ وذُرِّيَّتِه، فهو استدلالٌ على انتفاءِ إلهيَّتِهم بسَبْقِ العدَمِ على وُجودِهم [870] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (15/342).   .
     - قولُه: مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا فيه إيثارُ نفْيِ الإشهادِ على نفْيِ شُهودِهم، ونفْيِ اتِّخاذِهم أعوانًا على نفْيِ كونِهم كذلك؛ للإشعارِ بأنَّهم مَقْهورون تحتَ قُدرتِه تعالى، تابِعون لمَشيئتِه وإرادتِه فيهم، وأنَّهم بمَعزلٍ من استحقاقِ الشُّهودِ والمعونةِ من تِلْقاءِ أنفُسِهم من غيرِ إحضارٍ واتِّخاذٍ، وإنَّما قُصارى ما يُتَوهَّمُ في شأْنِهم: أنْ يَبْلغوا ذلك المبلغَ بأمْرِ اللهِ عَزَّ وجَلَّ، ولم يَكَدْ ذلك يكونُ [871] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (5/228).   .
     - وقولُه: وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا فيه إظهارٌ في مَقامِ الإضمارِ، حيث لم يقُلْ: (وما كنْتُ مُتَّخِذَهم)؛ لإفادةِ الذَّمِّ، والتنبيه بذلك على وَصْفِهم القَبيحِ، وتأكيدًا لِما سبَقَ من إنكارِ اتِّخاذِهم أولياءَ [872] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (2/728)، ((تفسير البيضاوي)) (3/284)، ((الدر المصون)) للسمين الحلبي (7/508)، ((تفسير أبي السعود)) (5/228).   ، ولأنَّ التَّذييلَ يَنْبغي أنْ يكونَ كلامًا مُستقِلًّا [873] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (15/344).   ،  وفيه وجهٌ آخَرُ: أنَّه أبرَزَ الضَّميرَ إرشادًا إلى أنَّ المُضِلَّ لا يُستَعانُ به؛ لأنَّه مع عدَمِ نَفعِه يَضُرُّ [874] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (12/77).   .
     - وأيضًا في قولِه: وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا تَهكُّمٌ بهم، وإيذانٌ بكَمالِ رَكاكةِ عُقولِهم وسَخافةِ آرائِهم؛ حيث لا يَفْهمون هذا الأمْرَ الجَلِيَّ الَّذي لا يكادُ يَشتبِهُ على البُلْهِ والصِّبيانِ، فيَحْتاجون إلى التَّصريحِ به [875] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (5/228).   .
     - وكذلك في قولِه: وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا تَشبيهٌ بليغٌ؛ فقدْ شَبَّهَ المُضلِّينَ بالعضُدِ الَّذي يَتقوَّى به الإنسانُ، وأصْلُه العُضْوُ الَّذي هو المِرْفَقُ إلى الكتِفِ، ولم يَذكُرِ الأداةَ [876] يُنظر: ((إعراب القرآن وبيانه)) لدرويش (5/619).   ، والله سُبحانَه وتعالَى لا يَحتاجُ إلى عونِ أحدٍ. وخَصَّ المضلِّين بالذِّكرِ؛ لزِيادةِ الذمِّ والتوبيخِ [877] يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (11/2).   .