موسوعة التفسير

سورة هود
الآيات (50-60)

ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﰎ ﰏ ﰐ ﰑ ﰒ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ

غريب الكلمات:

مُفْتَرُونَ: أي: كاذِبونَ، والافتِراءُ: اختِلاقُ الكَذِبِ، وأصلُه مِن: (فَرْيِ الأديمِ)، وهو: قَطْعُهُ، فقيل للكَذِبِ: افتراءٌ؛ لأنَّ الكاذِبَ يقطَعُ به على التَّقديرِ، مِن غيرِ تحقيقٍ [593] يُنظر: ((البسيط)) للواحدي (5/431)، ((المفردات)) للراغب (ص: 634)، ((تفسير ابن عطية)) (3/179)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (9/120). .
فَطَرَنِي: أي: خَلَقَني، وأصلُ (فطر): يدلُّ على الشَّقِّ، فكُلُّ من أظهَرَ أمرًا اختَرَعه على غيرِ مِثالٍ، يُقال: قد فطَرَه [594] يُنظر: ((البسيط)) للواحدي (12/255)، ((المفردات)) للراغب (ص: 382)، ((تفسير البغوي)) (4/182). .
مِدْرَارًا: أي: مُتتابعًا غزيرًا، وأصلُ (درر): يدلُّ على تولُّدِ شَيءٍ عن شيءٍ [595] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 150)، ((تفسير ابن جرير)) (9/157)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 455)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/255)، ((المفردات)) للراغب (ص: 310)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 875). .
اعْتَرَاكَ: أي: أصابَك، أو ألمَّ بك، وأصلُ (عرو): يدلُّ على ثَباتٍ ومُلازمةٍ وغِشيانٍ [596] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 204)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 106)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 163)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 152). .
بِنَاصِيَتِهَا: النَّاصِيةُ: شَعرُ مُقَدَّمِ الرَّأسِ، وأصلُ (نصو): يدُلُّ على عُلُوٍّ، وسُمِّيَت النَّاصِية؛ لارتفاعِ مَنبَتِها [597] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (12/449)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 471)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/433)، ((تحفة الأريب)) لأبي حيان الأندلسي (ص: 304). .

المعنى الإجمالي:

يُخبِرُ تعالى أنَّه أرسَلَ إلى عادٍ أخاهم هودًا، فقال لهم: يا قومِ اعبُدوا اللهَ وَحدَه، ليس لكم مِن إلهٍ يستحِقُّ العبادةَ غيرُه جلَّ وعلا، فأخلِصوا له العبادةَ، فما أنتم إلَّا كاذِبونَ في إشراكِكم باللهِ، ويا قومِ لا أسألُكم على ما أدعوكم إليه- مِن إخلاصِ العِبادةِ لله، وتَركِ عبادةِ الأوثانِ- أجرًا، ما أجري على دَعوتي لكم إلَّا على اللهِ الذي خلَقَني، أفلا تَعقِلونَ فتُمَيِّزوا بين الحَقِّ والباطلِ؟! ويا قوم اطلُبوا مَغفِرةَ الله، ثمَّ تُوبوا إليه مِن ذُنوبِكم؛ يُرسِلِ المطَرَ عليكم مُتتابعًا كثيرًا، فتَكثُرْ خَيراتُكم، ويَزِدْكم قُوَّةً إلى قُوَّتِكم، بكَثرةِ ذُرِّيَّاتِكم، وتتابُعِ النِّعَمِ عليكم، ولا تُعرِضوا عمَّا دعَوتُكم إليه، مُصِرِّينَ على إجرامِكم.
قالوا: يا هودُ ما جِئتَنا بحُجَّةٍ واضحةٍ على صِحَّةِ ما تَدعونا إليه، وما نحن بتاركي آلهَتِنا مِن أجلِ قَولِك، وما نحن بمصَدِّقينَ لك فيما تدَّعيه، ما نقولُ إلَّا أنَّ بعضَ آلهتِنا أصابك بجُنونٍ؛ بسبَبِ نَهيِك عن عبادتِها. قال لهم: إني أُشهِدُ اللهَ على ما أقولُ، واشهَدوا أنَّني بريءٌ ممَّا تُشرِكونَ مِن دونِ اللهِ؛ من الأندادِ والأصنامِ، فاجتَهِدوا أنتم ومَن زعَمتُم من آلهتِكم في إلحاقِ الضَّرَرِ بي، ثمَّ لا تؤخِّروا ذلك طرفةَ عَينٍ؛ إنِّي توكلَّتُ على اللهِ ربِّي وربِّكم، مالكِ كُلِّ شَيءٍ، والمتصَرِّفِ فيه، فلا يصيبُني شيءٌ إلَّا بأمرِه تعالى، وهو القادِرُ على كلِّ شَيءٍ، فليس من شيءٍ يدِبُّ على هذه الأرضِ إلَّا واللهُ مالِكُه، وهو في سُلطانِه وتصَرُّفِه، إنَّ رَبِّي عَدلٌ في قَضائِه وشَرعِه وأمرِه، يُجازي المحسِنَ بإحسانِه، والمُسيءَ بإساءتِه، فإن تُعرِضوا عمَّا أدعوكم إليه مِن توحيدِ اللهِ، وإخلاصِ العبادةِ له؛ فقد أبلغتُكم رسالةَ رَبِّي إليكم، وقامت عليكم الحُجَّةُ، وحيث لم تُؤمِنوا بالله فسيُهلِكُكم، ويأتي بقومٍ آخرينَ يَخلُفونَكم في ديارِكم وأموالِكم، ويُخلِصونَ لله العبادةَ، ولا تَضُرُّونَه شيئًا؛ إنَّ ربِّي على كلِّ شَيءٍ حفيظٌ، فهو الذي يحفَظُني من أن تنالوني بسُوءٍ.
ولَمَّا جاء أمرُنا بعذابِ قَومِ هودٍ؛ نجَّينا هُودًا والمؤمنينَ بفَضلٍ منَّا عليهم ورحمةٍ، ونجَّيناهم من عذابٍ شديدٍ؛ عذابِ يومِ القيامةِ، وتلك عادٌ كَفَروا بآياتِ اللهِ، وعصَوا رسُلَه، وأطاعوا أمرَ كُلِّ مُستكبِرٍ على اللهِ، لا يقبَلُ الحَقَّ ولا يُذْعِنُ له، وأُتبِعوا في هذه الدُّنيا لعنةً مِن اللهِ، وسَخَطًا منه يومَ القيامةِ، ألا إنَّ عادًا جَحَدوا ربَّهم، ألا بُعْدًا وهَلاكًا لعادٍ قَومِ هُودٍ.

تفسير الآيات:

وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَـهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ مُفْتَرُونَ (50).
وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا.
أي: وأرسَلْنا إلى قبيلةِ عادٍ أخاهم في النَّسَبِ هودًا عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ [598] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (12/442)، ((تفسير القرطبي)) (9/50)، ((تفسير السعدي)) (ص: 383). .
قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَـهٍ غَيْرُهُ.
أي: قال لهم: يا قومِ اعبُدوا اللهَ وَحدَه، ليس لكم معبودٌ يستحِقُّ العبادةَ غيرُ اللهِ، فلا تُشرِكوا به شيئًا [599] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (12/442)، ((تفسير ابن كثير)) (4/329)، ((تفسير السعدي)) (ص: 383). .
إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ مُفْتَرُونَ.
أي: ما أنتم في عبادتِكم غيرَ اللهِ إلَّا كاذِبونَ على اللهِ [600] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (12/442)، ((تفسير القرطبي)) (9/51)، ((تفسير السعدي)) (ص: 383). .
يَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلاَ تَعْقِلُونَ (51).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
أنَّه بعدما أوضحَ لهم وجوبَ عبادةِ اللهِ، وفسادَ عبادةِ ما سواه؛ ذكَرَ عدمَ المانعِ لهم من الانقيادِ، فقال: يَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا أي: غرامةً مِن أموالِكم، على ما دعوتُكم إليه، فتقولوا: هذا يريدُ أن يأخذَ أموالَنا [601] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص:383). .
يَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي.
أي: يا قَومِ لا أطلبُ منكم أُجرةً على تبليغي رسالةَ اللهِ، ما ثوابي على دعوتي لكم إلَّا على اللهِ الذي خلقَني [602] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (12/443)، ((تفسير البغوي)) (2/452)، ((تفسير السعدي)) (ص: 383). .
أَفَلاَ تَعْقِلُونَ.
أي: أفلا تعقِلونَ أنِّي أدعوكم لمصلَحتِكم في الدُّنيا والآخرةِ مِن غيرِ أُجرةٍ؟! فلو كنتُ أبتغي بدعوتِكم إلى اللهِ غيرَ النَّصيحةِ لكم، لطلبتُ منكم أجرًا على ذلك [603] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (12/443)، ((تفسير ابن كثير)) (4/329). .
وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلاَ تَتَوَلَّوْاْ مُجْرِمِينَ (52).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
أنَّ هذا هو النَّوعُ الثَّاني من التَّكاليفِ التي ذكَرَها هودٌ عليه السَّلامُ لِقومِه؛ وذلك لأنَّه في المقامِ الأوَّلِ دعاهم إلى التَّوحيدِ، وفي هذا المقامِ دعاهم إلى الاستغفارِ ثمَّ إلى التوبةِ [604] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (18/363). .
وأيضًا فإنَّه لَمَّا دعا هودٌ قَومَه مُشيرًا إلى ترهيبِهم مستدِلًّا على الصِّدقِ بنفي الغَرَضِ؛ رغَّبَهم في إدامةِ الخوفِ ممَّا مضى [605] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (9/307). .
وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَارًا.
أي: ويا قومِ اطلُبوا من رَبِّكم سَترَ ذُنوبِكم الماضيةِ، والتَّجاوُزَ عن المؤاخَذةِ بها، ثمَّ توبوا إليه فيما تستقبِلونَه، وذلك بالتَّوبةِ النَّصوحِ، والرُّجوعِ إلى عبادتِه وَحدَه وطاعتِه؛ فإنَّكم إن فعلتُم ذلك يُرسِلِ المطرَ عليكم كثيرًا مُتتابعًا، فتُخصِب الأرضُ، ويكثُر خَيرُها [606] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (12/443، 444)، ((تفسير القرطبي)) (9/51)، ((تفسير ابن كثير)) (4/329)، ((تفسير السعدي)) (ص: 383). .
كما حكى الله تعالى عن نوحٍ عليه السَّلامُ أنَّه قال: فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا [نوح: 10 - 13] .
وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ.
أي: ويَزِدْكم اللهُ- إن استغفَرتُم وتُبتُم- شِدَّةً مُضافةً إلى شِدَّتِكم، وأموالًا وأولادًا [607] يُنظر: ((الوسيط)) للواحدي (2/578)، ((تفسير القرطبي)) (9/51)، ((تفسير الشوكاني)) (2/573)، ((تفسير السعدي)) (ص: 383). قال الواحدي: (وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ فُسِّرَت القوةُ هاهنا بالمالِ والولد والشِّدةِ، وكلُّ هذا ممَّا يَقوَى به الإنسانُ). ((التفسير الوسيط)) (2/578). .
وَلاَ تَتَوَلَّوْاْ مُجْرِمِينَ.
أي: ولا تُعرِضوا عمَّا أدعوكم إليه من توحيدِ اللهِ وعبادتِه، وتُصِرُّوا على الكُفرِ والعِصيانِ [608] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (12/445)، ((تفسير القرطبي)) (9/51)، ((تفسير السعدي)) (ص: 383). .
قَالُواْ يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَن قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (53).
قَالُواْ يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ.
أي: قال قومُ هودٍ: يا هودُ، ما أتيتَنا ببُرهانٍ وحُجَّةٍ واضحةٍ تشهَدُ على صِحَّةِ ما تدعونا إليه [609] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (12/446)، ((تفسير القرطبي)) (9/51)، ((تفسير ابن كثير)) (4/329)، ((تفسير السعدي)) (ص: 383). !
وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَن قَوْلِكَ.
أي: وما نحنُ- يا هودُ- بتاركي عبادةِ آلهَتِنا بمُجَرَّدِ نَهيِك لنا عن عبادتِهم، دونَ بُرهانٍ على صحَّةِ ما تقولُ [610] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (12/446)، ((تفسير ابن كثير)) (4/329)، ((تفسير السعدي)) (ص: 383). .
وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ.
أي: وما نحنُ لك بما تدَّعي من النبوَّةِ والرِّسالةِ بمُصَدِّقينَ [611] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (12/446)، ((الوسيط)) للواحدي (2/578)، ((تفسير ابن كثير)) (4/329). ومقرِّين ومنقادين ومُذْعِنين.
إِن نَّقُولُ إِلاَّ اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوَءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللّهِ وَاشْهَدُواْ أَنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ (54).
إِن نَّقُولُ إِلاَّ اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوَءٍ.
أي: ما نقولُ إلَّا أصابَك بعضُ أصنامِنا بجُنونٍ؛ بسبَبِ نهيِك عن عبادتِها، وذمِّك لها [612] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (12/446)، ((تفسير القرطبي)) (9/51)، ((تفسير ابن كثير)) (4/329، 330)، ((تفسير السعدي)) (ص: 384).  .
قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللّهِ وَاشْهَدُواْ أَنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ (54) مِن دُونِهِ.
أي: قال هودٌ لهم: إنِّي أُشهِدُ اللهَ على نفسي، وأُشهِدُكم أنِّي بَريءٌ مِن عبادتِكم للأصنامِ مِن دونِ اللهِ تعالى [613] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (12/446)، ((تفسير القرطبي)) (9/52)، ((تفسير ابن كثير)) (4/330).  .
فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لاَ تُنظِرُونِ (55).
مُناسَبتُها لما قَبلَها:
لَمَّا كانت البراءةُ من الشُّرَكاءِ تقتضي اعتقادَ عَجزِها عن إلحاقِ إضرارٍ به؛ فرَّع على البراءةِ هذه الجملةَ [614] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (12/100). ، فقال:
فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لاَ تُنظِرُونِ (55).
أي: فاحْتالوا أنتم وجميعُ آلهتِكم لتضرُّوني، ثمَّ لا تُمهِلوني، ولا تؤخِّروا ذلك [615] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (12/446)، ((تفسير القرطبي)) (9/52)، ((تفسير ابن كثير)) (4/330)، ((تفسير السعدي)) (ص: 384). .
إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللّهِ رَبِّي وَرَبِّكُم مَّا مِن دَآبَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (56).
إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللّهِ رَبِّي وَرَبِّكُم.
أي: إنِّي اعتمدتُ على اللهِ مالكي ومالِكِكم، ومدبِّرِ أمورِ خَلقِه؛ ليمنَعَني منكم، فلا تصيبوني بسُوءٍ [616] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (12/449)، ((تفسير ابن عطية)) (3/181)، ((تفسير السعدي)) (ص: 384). .
مَّا مِن دَآبَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا.
أي: ما من شيءٍ يدِبُّ على الأرضِ إلَّا وهو في قبضةِ اللهِ، وتحت قَهرِه وسُلطانِه، يُصرِّفُه كيف يشاءُ، ويمنَعُه ممَّا يشاءُ، فلا تَصِلونَ إلى إلحاقِ الضَّررِ بي [617] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (12/449)، ((تفسير القرطبي)) (9/52)، ((تفسير ابن كثير)) (4/330). .
عن أبي هريرةَ رَضِيَ الله عنه، قال: ((كان رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يأمُرُنا إذا أخذْنا مضجَعَنا أن نقول: اللهمَّ رَبَّ السَّمواتِ، وربَّ الأرضِ، وربَّ العرشِ العظيمِ، ربَّنا ورَبَّ كُلِّ شيءٍ، فالقَ الحَبِّ والنَّوى، ومُنزِلَ التَّوراةِ والإنجيلِ والفُرقانِ، أعوذُ بك من شَرِّ كُلِّ شَيءٍ أنت آخِذٌ بناصيتِه، اللهمَّ أنت الأوَّلُ فليس قبلَك شيءٌ، وأنت الآخِرُ فليس بعدك شيءٌ، وأنت الظَّاهرُ فليس فوقَك شيءٌ، وأنت الباطِنُ فليس دونك شيءٌ، اقضِ عنَّا الدَّينَ، وأغنِنا مِن الفَقرِ) ) [618] أخرجه مسلم (2713). .
إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ.
أي: إنَّ ربِّي على طريقِ الحَقِّ والعَدلِ لا يظلِمُ أحدًا، ولا تخرجُ أقوالُه وأفعالُه عن الصَّوابِ والحِكمةِ في شَرعِه وقضائِه [619] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (12/450)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (14/177)، ((إعلام الموقعين)) لابن القيم (1/125، 126)، ((تفسير السعدي)) (ص: 384). .
فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقَدْ أَبْلَغْتُكُم مَّا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلاَ تَضُرُّونَهُ شَيْئًا إِنَّ رَبِّي عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (57).
مُناسبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
أنَّه لَمَّا استوفَى تشييدَه أمْرَه، وهدمَ قَولِهم؛ أخَذ يحَذِّرُهم، فقال [620] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (9/312). :
فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقَدْ أَبْلَغْتُكُم مَّا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ.
أي: فإن تُعرِضُوا عمَّا أدعوكم إليه من عبادةِ اللهِ وحدَه، فقد قامت عليكم الحُجَّةُ بإبلاغي إيَّاكم رسالةَ اللهِ، ولم تبقَ عليَّ تَبِعَةٌ من شأنِكم [621] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (12/450)، ((تفسير القرطبي)) (9/53)، ((تفسير ابن كثير)) (4/330)، ((تفسير السعدي)) (ص: 384). .
وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلاَ تَضُرُّونَهُ شَيْئًا.
أي: ويَستبدِلُ ربِّي قومًا غيرَكم يُطيعونَه ويعبُدونَه وَحدَه بعد أن يُهلِكَكم، ولا تضُرُّونَ اللهَ شيئًا بكُفرِكم [622] يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (9/53)، ((تفسير ابن كثير)) (4/330)، ((تفسير السعدي)) (ص: 384). وذهب ابن جرير إلى أنَّ المرادَ بقَولِه تعالى: وَلَا تَضُرُّونَهُ شَيْئًا: ولا تقدِرونَ له على ضُرٍّ إذا أراد إهلاكَكم أو أهلَكَكم. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (12/451). .
إِنَّ رَبِّي عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ.
أي: إنَّ ربِّي ذو حِفظٍ لكُلِّ شَيءٍ، حافِظٌ لأقوالِ عبادِه وأفعالِهم، ويجزيهم عليها، ويحفَظُني من أن تنالوني بسوءٍ [623] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (12/451)، ((تفسير القرطبي)) (9/53)، ((تفسير ابن كثير)) (4/330). .
وَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا وَنَجَّيْنَاهُم مِّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ (58).
وَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا.
أي: ولَمَّا أتَى عذابُنا، وأهلكْنا جميعَ الكافرينَ، نجَّيْنا هودًا والمؤمنينَ معه برَحمتِنا، وبفضلٍ منَّا عليهم [624] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (12/451)، ((تفسير ابن كثير)) (4/331)، ((تفسير السعدي)) (ص: 384). .
عن أبي هريرةَ رَضِيَ الله عنه، قال: قال رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((لن يُدخِلَ أحدًا منكم عملُه الجنَّةَ، قالوا: ولا أنتَ يا رسولَ اللهِ؟! قال: ولا أنا، إلَّا أن يتغمَّدَني اللهُ منه بفضلٍ ورحمةٍ )) [625] أخرجه البخاري (6463) ومسلم (2816)، واللفظ له. .
وَنَجَّيْنَاهُم مِّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ.
أي: ونجَّيْنا المؤمنينَ من عذابِ يومِ القيامةِ [626] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (12/451)، ((البسيط)) للواحدي (11/452)، ((تفسير القرطبي)) (9/54). وممَّن ذهَب إلى أنَّ المرادَ بـ عذابٍ غليظٍ: عذابُ يوم القيامة: ابنُ جريرٍ، والواحديُّ، والقرطبيُّ. يُنظر: المصادر السابقة. قال الواحدي: (وقوله تعالى: وَنَجَّيْنَاهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ... قال بعضُهم: يعني عذابَ القيامةِ، وهذا أحسنُ؛ لأنَّ الإنجاءَ مِن عذابِ الدُّنيا قد سبَق، كما نجَّيناهم في الدنيا مِن العذابِ، كذلك نجَّيناهم في الآخرةِ مِن العذابِ). ((البسيط)) (11/452). وقيل: المرادُ: النجاةُ مِن عذابِ عادٍ. وممن قال بذلك: البغويُّ، والسعدي. يُنظر: ((تفسير البغوي)) (2/454)، ((تفسير السعدي)) (ص: 384). وقال ابنُ جزي: (وَنَجَّيْنَاهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ يحتملُ أن يريدَ به عذابَ الآخرةِ، ولذلك عطَفه على النجاةِ الأولَى التي أراد بها النجاةَ مِن الريحِ، ويحتملُ أن يريدَ بالثاني أيضًا الريحَ، وكرَّره إعلامًا بأنَّه عذابٌ غليظٌ). ((تفسير ابن جزي)) (1/373). ويُنظر: ((تفسير ابن عطية)) (3/182). .
وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُواْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْاْ رُسُلَهُ وَاتَّبَعُواْ أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (59).
وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُواْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْاْ رُسُلَهُ.
أي: وتلك عادٌ- الذين أوقعَ اللهُ بهم ما أوقعَ- كذَّبوا بالمُعجزاتِ التي أيَّد اللهُ بها الرسُلَ، وأنكَروا ما أنزل اللهُ عليهم من الحُجَجِ والبراهينِ، وعَصَوا رسُلَ اللهِ بعصيانِهم لرَسولِهم هودٍ عليه وعليهم السَّلامُ [627] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (12/451)، ((تفسير ابن كثير)) (4/331)، ((تفسير السعدي)) (ص: 384). قال القرطبي: (وَعَصَوْا رُسُلَهُ يعني هودًا وحدَه؛ لأنَّه لم يُرسلْ إليهم من الرُّسُلِ سواه... وإنما جُمِعَ هاهنا؛ لأنَّ من كذَّب رسولًا واحدًا فقد كفر بجميعِ الرُّسُل. وقيل: عصَوا هودًا والرسُلَ قبله، وكانوا بحيث لو أُرسِلَ إليهم ألفُ رَسولِ لجَحَدوا الكلَّ). ((تفسير القرطبي)) (9/54). .
وَاتَّبَعُواْ أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ.
أي: واتَّبَعوا كلَّ متكَبِّرٍ مِن كبَرائِهم ورؤسائِهم، متسَلِّطٍ على الخلقِ، طاغيةٍ معاندٍ، لا يقبَلُ الحَقَّ [628] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (12/451)، ((تفسير القرطبي)) (9/54)، ((تفسير السعدي)) (ص: 384). .
وَأُتْبِعُواْ فِي هَـذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا إِنَّ عَادًا كَفَرُواْ رَبَّهُمْ أَلاَ بُعْدًا لِّعَادٍ قَوْمِ هُودٍ (60).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
أنَّ اللهَ تعالى لَمَّا ذكر أوصافَ قَومِ عادٍ، ذكر بعد ذلك أحوالَهم [629] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (18/366)، ((تفسير الشربيني)) (2/65). ، فقال تعالى:
وَأُتْبِعُواْ فِي هَـذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ.
أي: وألحقَ اللهُ بقومِ هودٍ في هذه الدُّنيا لعنةً مِنه ومِن المؤمنينَ، وتلحَقُهم لعنةٌ أُخرَى يومَ القيامةِ [630] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (12/452)، ((تفسير ابن عطية)) (3/183)، ((تفسير القرطبي)) (9/54)، ((تفسير الخازن)) (2/491)، ((تفسير ابن كثير)) (4/331)، ((تفسير السعدي)) (ص: 384). .
أَلا إِنَّ عَادًا كَفَرُواْ رَبَّهُمْ.
أي: ألا إنَّ عادًا كفروا بربِّهم الذي خلَقَهم ورزَقَهم وربَّاهم، وعَصَوه [631] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (12/452)، ((تفسير السعدي)) (ص: 384)، ((تفسير ابن عاشور)) (12/107). .
أَلاَ بُعْدًا لِّعَادٍ قَوْمِ هُودٍ.
أي: ألا أبعَدَ اللهُ عادًا قومَ هودٍ عن كلِّ خَيرٍ [632] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (12/452)، ((تفسير القرطبي)) (9/55)، ((تفسير السعدي)) (ص: 384). .

الفوائد التربوية :

1- خاطَب نوحٌ عليه السلامُ قومَه قائلًا: يَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلَا تَعْقِلُونَ خاطبَهم بذلك إزالةً للتُّهمةِ، وتمحيضًا للنَّصيحةِ؛ فإنَّها لا تَنجَعُ ما دامت مَشوبةً بالمطامِعِ [633] يُنظر: ((تفسير الشربيني)) (2/63). .
2- في قَولِه تعالى: فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ * إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ دلالةٌ مِن كلامِ المرسَلينَ أنَّه بتوكُّلِهم على اللهِ يُدفَعُ شرُّ عدوِّهم عنهم [635] يُنظر: ((جامع الرسائل)) لابن تيمية  (1/96). .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- قال تعالى: وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا أرسلَ اللهُ إليهم أخاهم في النَّسَبِ هوداً ليتَمَكَّنوا من الأخذِ عنه، والعلم بصِدقِه [636] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 383). .
2- قولُ الله تعالى: وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا فيه سؤالٌ: وصفَ تعالى هودًا بأنَّه أخوهم، ومعلومٌ أنَّ تلك الأخوَّةَ ما كانت في الدِّينِ، وإنَّما كانت في النَّسَبِ، وقد قال تعالى في ابنِ نوحٍ: إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ، فبيَّن أنَّ قَرابةَ النَّسَبِ لا تُفيدُ إذا لم تحصُلْ قَرابةُ الدِّينِ، وهاهنا أثبتَ هذه الأخُوَّةَ مع الاختلافِ في الدِّينِ، فما الفرقُ بينهما؟
 الجواب: أنَّ المرادَ مِن هذا الكلامِ استمالةُ قَومِ محمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ لأنَّ قَومَه كانوا يستبعِدونَ في محمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- مع أنَّه واحِدٌ من قبيلتِهم- أن يكونَ رسولًا إليهم من عندِ الله، فذكرَ الله تعالى أنَّ هودًا كان واحدًا مِن عاد؛ لإزالةِ هذا الاستِبعاد [637] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (18/362)، ((تفسير الشربيني)) (2/63). .
3- دلَّ قولُه تعالى: وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ على أنَّ هؤلاء المعبودينَ مِن دونِ اللهِ إنَّما هم آلهةٌ في نفوسِ المُشرِكينَ، ليسوا آلهةً في نفسِ الأمرِ؛ ولهذا كان ما في قلوبِهم مِن الشِّركِ إفكًا [638] يُنظر: ((جامع المسائل)) لابن تيمية (3/280). .
4- دلَّ قولُه تعالى: وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ على أنَّ الأفعالَ قَبْلَ الرِّسالةِ منها الحسَنُ ومنها القبيحُ، إلَّا أنَّهم لا يستَحِقُّونَ العذابَ إلَّا بعد مجيءِ الرَّسولِ إليهم، فقد جعل هودٌ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ قومَه مُفتَرينَ قبلَ أن يحكُمَ بحُكمٍ يُخالِفونَه؛ لِكونِهم جعلوا مع الله إلهًا آخرَ [639] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (20/37). .
5- في قَولِه تعالى عن هودٍ: يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ بيانُ أنَّ عبادةَ اللهِ وحدَه هي أوَّلُ الواجباتِ، وهي مِفتاحُ دعوةِ المُرسَلينَ كلِّهم [640] يُنظر: ((مدارج السالكين)) لابن القيم (1/154). .
6- قولُ الله تعالى: وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ هذا غايةُ ما يُرادُ مِن السَّعاداتِ الدنيوية: كثرةُ النعمِ، وكمالُ القوةِ للاستمتاعِ بها؛ فقولُه تعالى: يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا إشارةٌ إلى تكثيرِ النِّعَم؛ لأنَّ مادةَ حُصولِ النِّعَمِ هي الأمطارُ المُوافِقة، وقولُه: وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ إشارةٌ إلى كمالِ حالِ القُوى التي بها يمكِنُ الانتفاعُ بتلك النِّعمةِ [641] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (18/363). .
7- (ثمَّ) في قولِه: وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ للتَّرتيبِ الرُّتْبيِّ؛ لأنَّ الدَّوامَ على الإقلاعِ أهَمُّ مِن طلَبِ العفْوِ عمَّا سلَف [642] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (12/96). .
8- كثيرًا ما يُقرن الاستغفارُ بذكر التوبةِ، كما في قولِهِ تعالى: اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ، فيكونُ الاستغفارُ حينئذٍ عبارةً عن طلبِ المغفرةِ باللسانِ، والتوبةُ عبارةٌ عن الإقلاع عن الذنوبِ بالقلوبِ والجوارح [643] يُنظر: ((جامع العلوم والحكم)) لابن رجب (2/ 407). .
9- قولُه تعالى: إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ يقتضي أنَّه- سُبحانَه- لا يقولُ إلَّا الحقَّ، ولا يأمرُ إلَّا بالعدلِ، ولا يفعلُ إلَّا ما هو مصلحةٌ ورحمةٌ وحكمةٌ وعَدْلٌ؛ فهو على الحقِّ في أقوالِه وأفعالِه، فلا يقضي على العبدِ بما يكونُ ظالِمًا له به، ولا يأخذُه بغير ذنبِه، ولا يَنقُصُه مِن حسناتِه شيئًا، ولا يَحمِلُ عليه مِن سيِّئاتِ غَيرِه- التي لم يعملْها ولم يتسبَّبْ إليها- شيئًا، ولا يؤاخِذُ أحدًا بذنبِ غيرِه، ولا يفعلُ قطُّ ما لا يُحمَدُ عليه، ويُثنَى به عليه، ويكونُ له فيه العواقبُ الحميدةُ والغاياتُ المطلوبةُ؛ فإنَّ كونَه على صراطٍ مُستقيمٍ يأبى ذلك كلَّه [644] يُنظر: ((إعلام الموقعين)) لابن القيم (1/125). .
10- قولُه تعالى: وَتِلْكَ عَادٌ فيه تأنيثُ اسمِ الإشارةِ تِلْكَ على تأويلِ الأُمَّةِ، أو أنَّث اسْمَ الإشارةِ باعتبارِ القَبيلةِ، أو لأنَّ الإشارةَ إلى قُبورِهم وآثارِهِم [645] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (4/219)، ((تفسير ابن عاشور)) (12/105). .
11-  دلَّ قولُه تعالى: وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ على إطلاقِ مَعصيةِ الرُّسُلِ عُمومًا على مَن عصى نبيَّه، فأطلقَ معصيتَهم للرُّسُلِ- بأنَّهم عصَوا هودًا- مَعصيةَ تكذيبٍ لجنسِ الرُّسُلِ، فكانت المعصيةُ لجنسِ الرُّسُلِ كمعصيةِ مَن قال: فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ [الملك: 9] ، وكمعصيةِ مَن كذَّبَ وتوَلَّى في قولِه تعالى: لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى* الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى [646] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (7/59). [الليل: 15- 16] .
12- قولُ الله تعالى: وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ عَادًا كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِعَادٍ قَوْمِ هُودٍ فيه الردُّ على الذين يصَوِّبونَ جميعَ المِلَل- وخَصُّوا عادًا هذه؛ لكونِها أغناهم بأن قالوا: إنَّهم من المقرَّبينَ إلى اللهِ، وإنَّهم بعينِ الرِّضا منه- وهم أتباعُ ابنِ عرَبي الكافرِ العنيدِ، أهلُ الاتِّحادِ، المُجاهِرونَ بعَظيمِ الإلحادِ، المستخِفُّونَ برَبِّ العبادِ [647] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (9/316). .

بلاغة الآيات:

1- قولُه تعالى: وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ
- قولُه تعالى: وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا فيه تقديمُ المجرورِ وَإِلَى عَادٍ على المنصوبِ أَخَاهُمْ؛ للتَّنبيهِ على أنَّ العطْفَ مِن عَطْفِ المفرَداتِ لا مِن عطْفِ الجُمَلِ؛ لأنَّ الجارَّ لا بدَّ له مِن متعلِّق، وقضاءً لحقِّ الإيجازِ؛ لِيَحضُرَ ذِكرُ عادٍ مرَّتَينِ بلَفْظِه ثمَّ بضَميرِه [648] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (12/94). .
- قولُه: قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ فيه افتِتاحُ دَعوتِه بنِداءِ قومِه؛ لاستِرْعاءِ أَسْماعِهم؛ إشارةً إلى أهمِّيَّةِ ما سيُلْقي إليهم، ووَجْهُ التَّصريحِ بفِعْلِ القولِ؛ لأنَّ فِعْلَ أَرْسَلْنَا محذوفٌ؛ فلو بُيِّن بجملةِ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا دون (قال) كما بُيِّن في قولِه: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ [هود: 25] ، لكان بَيانًا لمعدومٍ، وهو غيرُ جَلِيٍّ [649] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (12/94). .
- قولُه: مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ استِئْنافٌ يَجْري مَجْرى البيانِ للعِبادةِ المأمورِ بها، والتَّعليلِ للأمْرِ بها، كأنَّه قيل: خُصُّوه بالعبادةِ وَلا تُشْرِكوا بِه شَيئًا؛ إذْ ليس لكم مِن إلهٍ سِواه [650] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (4/216). .
- وجملةُ: إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ بيانٌ لِجُملَةِ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ، وفيها توبيخٌ وإنكارٌ لهم [651] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (12/95). .
2- قولُه: يَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلَا تَعْقِلُونَ
- جملةُ يَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا فيه إعادةُ النِّداءِ في أثناءِ الكلامِ، والتَّكريرُ للأهَمِّيَّةِ، ويُقصَدُ به تَهْويلُ الأمْرِ، واستِرْعاءُ السَّمْعِ اهتِمامًا بما يَستَسمِعونَه، والنِّداءُ هو الرَّابِطُ بين الجُملتَين [652] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (12/95). وهذا الوجهُ هو على أنَّ هذه الجملةَ كان قالها مع الجُملةِ التي قبلها، وإنْ كانت مقولةً في وقتٍ غيرِ الذي قِيلتْ فيه الجملةُ الأُولَى؛ فليس فيه هذا الوجهُ. .
- قولُه: إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلَا تَعْقِلُونَ فيه التَّعبيرُ بالموصولِ وصِلَتِه الَّذِي فَطَرَنِي دونَ الاسْمِ العلَمِ (فَاطِرٌ)؛ لزيادةِ تحقيقِ أنَّه لا يَسأَلُهم على الإرشادِ أجْرًا بأنَّه يَعلَمُ أنَّ الَّذي خلَقَه يَسوقُ إليه رِزقَه؛ لأنَّ إظْهارَ المتكلِّمِ عِلْمَه بالأسبابِ يُكْسِبُ كلامَه على المسبِّباتِ قوَّةً وتحقيقًا [653] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (12/95). .
- قولُه: أَفَلَا تَعْقِلُونَ استفهامٌ إنكاريٌّ عن عدَمِ تَعقُّلِهم، أي: تأمُّلِهم في دَلالةِ حالِه على صِدْقِه فيما يُبلِّغُ، ونُصْحِه لهم فيما يَأمُرُهم [654] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (12/95). .
3- قولُه تعالى: وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ
- قولُه: إِلَى قُوَّتِكُمْ مُتعلِّقٌ بـ يَزِدْكُمْ، وإنَّما عُدِّي بـ (إلى) لِتَضمينِه مَعْنى يَضُمُّ، وهذا وعْدٌ لهم بصَلاحِ الحالِ في الدُّنيا، وعُطِفَ عليه وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ؛ تحذيرًا مِن الرُّجوعِ إلى الشِّركِ [655] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (12/97). .
4- قولُه تعالى: قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ
- قولُه: قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ فيه افتِتاحُ كَلامِهم بالنِّداءِ، وهو يُشيرُ إلى الاهتمامِ بما سيَقولونَه، وأنَّه جديرٌ بأن يُتَنبَّهَ له؛ لأنَّهم نَزَّلوه مَنزِلةَ البعيدِ لِغَفلتِه فنادَوْه؛ فهو مُستعمَلٌ في معناه الكِنائيِّ [656] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (12/97). .
- قولُهم: وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ، عَنْ قَوْلِكَ للتَّعليلِ كقولِه تعالى: إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ، فتَتعلَّقُ بِتَارِكِي، كأنَّه قيل: لِقَولِك [657] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (6/167). .
- قولُه: وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ أفادت الجملةُ الاسميةُ وزيادةُ الباءِ وتقديمُ المسندِ إليه المفيدِ للتقوِّي أنَّهم لا يُرجَى منهم الإيمانُ بأيِّ وجهٍ [658] يُنظر: ((تفسير الألوسي)) (6/ 280). .
5- قولُه تعالى: إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ
- إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ استِئْنافٌ بيانيٌّ؛ لأنَّ قولَهم: وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ مِن شأنِه أن يُثيرَ للسَّامعِ ومَن معَه في أنفُسِهم أن يَقولوا: إن لم تُؤمِنوا بما جاء به أنَّه مِن عندِ اللهِ؛ فماذا تَعُدُّون دَعوتَه فيكم؟ [659] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (12/98). ، وقد جعَلوا ذلك مِن فِعْلِ بعضِ الآلهةِ؛ تهديدًا للنَّاسِ بأنَّه لو تَصدَّى له جميعُ الآلهةِ لَدَكُّوه دَكًّا [660] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (12/98). .
- والتَّنكيرُ في (سُوءٍ) للتَّقليلِ؛ كأنَّهم لم يُبالِغوا في السُّوءِ، كما يُنْبِئُ عنه نِسبةُ ذلك إلى بعضِ آلهتِهم دونَ كُلِّها [661] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (4/217). .
- قولُه: قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ جملةُ أُشْهِدُ اللَّهَ إنشاءٌ لإشهادِ اللهِ بصيغةِ الإخبارِ؛ لأنَّ كلَّ إنشاءٍ لا يَظهَرُ أثَرُه في الخَلْقِ مِن شأنِه أن يقَعَ بصيغةِ الخبَرِ؛ لِمَا في الخبَرِ مِن قصْدِ إعلامِ السَّامعِ بما يُضمِرُه المتكلِّمُ، وقال: أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا، ولم يَقُل: (وأُشْهِدُكم) لِيَكون مُوازِنًا له وبمعناه؛ لأنَّ إشهادَه اللهَ على البراءةِ مِن الشِّركِ صحيحٌ ثابتٌ، وأمَّا إشهادُهم فما هو إلَّا تَهاوُنٌ بدِينِهم، ودَلالةٌ على قِلَّةِ المبالاةِ بهم؛ ولذلك عَدَل به عن لَفْظِ الأوَّلِ؛ لاخْتِلافِ ما بَينَهما، وجيءَ به على لفْظِ الأمْرِ؛ تَهكُّمًا بهم واستِهانَةً بحالِهم؛ هذا مِن جِهَةٍ، ومِن جهةٍ ثانيةٍ: عدَل إلى صيغةِ الأمرِ وَاشْهَدُوا عن صيغةِ الخبَرِ؛ للتَّمييزِ بينَ خِطابِه اللهَ تعالى وخِطابِه إيَّاهم؛ بأن يُعبِّرَ عن خِطابِ اللهِ تعالى بصيغةِ الخبَرِ الَّتي هي أجَلُّ وأشرَفُ وأوقَرُ للمُخاطَبِ مِن صِيغةِ الأمرِ [662] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (2/404)، ((تفسير أبي حيان)) (6/168)، ((الجدول في إعراب القرآن الكريم)) لمحمود صافي (12/294)، ((تفسير ابن عاشور)) (12/99)، ((إعراب القرآن وبيانه)) لدرويش (4/382). .
6- قولُه تعالى: مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ
- الفاءُ في فَكِيدُونِي؛ لِتَفْريعِ الأمْرِ على زَعْمِهم في قدرةِ آلهتِهم على ما قالوا، وعلى البراءةِ كِلَيهِما [663] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (4/218). ، والأمرُ بـ (كِيدُونِي) مُستعمَلٌ في الإباحةِ؛ كِنايةً عن التَّعجيزِ بالنِّسبةِ للأصنامِ وبالنِّسبةِ لقومِه، وجَعَل الخطابَ لقومِه؛ لِئَلَّا يكونَ خِطابُه لِمَا لا يَعقِلُ ولا يَسمَعُ، فأمَر قومَه بأن يَكِيدوه، وأدخَلَ في ضَميرِ الكائِدين أصنامَهم؛ مُجاراةً لاعتِقادِهم، واستِقْصاءً لِتَعجيزِهم.
و(ثُمَّ) في ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ للتَّراخي الرُّتْبيِّ؛ تَحدَّاهم بأن يَكِيدوه، ثمَّ ارتَقى في رُتبَةِ التَّعجيزِ والاحتقارِ، فنَهاهم عن التَّأخيرِ بكَيدِهم إيَّاه، وذلك نِهايةُ الاستِخْفافِ بأصنامِهم وبهم، وكنايةٌ عن كَونِهم لا يَصِلون إلى ذلك [664] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (12/100). .
7- قولُه تعالى: إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ
- قولُه: إنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ تعليلٌ لمضمونِ فَكِيدُونِي، وهو للتَّعجيزِ والاحتقارِ [665] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (12/100). ، وإنَّما جِيءَ بلفظِ الماضي تَوَكَّلْتُ؛ لِكَونِه أدَلَّ على الإنشاءِ المناسِبِ للمقامِ [666] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (4/218). .
- قولُه: مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا الأخْذُ بالنَّاصيةِ هنا تَمثيلٌ للتَّمكُّنِ، تَشْبيهًا بهيئةِ إمساكِ الإنسانِ مِن ناصيتِه حيث يَكونُ رأسُه بيَدِ آخِذِه فلا يَستَطيعُ إفلاتًا، وإنَّما كان تَمثيلًا؛ لأنَّ دَوابَّ كثيرةً لا نَواصِيَ لها، فلا يَلتَئِمُ الأخْذُ بالنَّاصيةِ مع عُمومِ مَا مِنْ دَابَّةٍ، ولكنَّه لَمَّا صار مثَلًا صار بِمَنزلةِ: ما مِن دابَّةٍ إلَّا هو مُتصرِّفٌ فيها، ومِن بَديعِ هذا المثَلِ أنَّه أشَدُّ اختِصاصًا بالنَّوعِ المقصودِ مِن بينِ عُمومِ الدَّوابِّ، وهو نوعُ الإنسانِ، والمقصودُ مِن ذلك أنَّه المالِكُ القاهِرُ لِجَميعِ ما يَدِبُّ على الأرضِ؛ فكونُه مالِكًا للكُلِّ يَقتَضي ألَّا يَفوتَه أحَدٌ منهم، وكونُه قاهِرًا لهم يَقتَضي ألَّا يُعجِزَه أحَدٌ منهم [667] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (12/100-101). .
- قولُه: آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا فيه تخصيصُ النَّاصيةِ بالذِّكْرِ؛ لأنَّ العرَبَ إذا وصَفَتْ إنسانًا بالذِّلَّةِ والخُضوعِ قالت: ما ناصِيَةُ فُلانٍ إلَّا بيَدِ فُلانٍ، أي: إنَّه مُطيعٌ له، يصرفُه كيف يَشاءُ [668] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (12/449)، ((تفسير أبي حيان)) (6/168- 169). .
- وجملةُ إِنَّ رَبِّي عَلى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ تعليلٌ لِجُملةِ إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ، أي: توكَّلتُ عليه؛ لأنَّه أهلٌ لِتَوكُّلي عليه، لأنَّه متَّصِفٌ بإجراءِ أفعالِه على طريقِ العَدْلِ والتَّأييدِ لرُسلِه [669] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (12/101). .
8- قولُه تعالى: فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّونَهُ شَيْئًا إِنَّ رَبِّي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ
- قولُه: فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ جُعل جوابُ شرطِ التَّولِّي قولَه: فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ، مع أنَّ الإبلاغَ سابقٌ على التَّولِّي المجعولِ شَرطًا؛ لأنَّ المقصودَ بهذا الجوابِ هو لازمُ ذلك الإبلاغِ، وهو انتِفاءُ تَبِعَةِ تَولِّيهم عنه، وبَراءتُه مِن جُرْمِهم؛ لأنَّه أدَّى ما وجَب عليه مِن الإبلاغِ [670] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (12/102). .
- وشَيْئًا مَصدرٌ مؤكِّدٌ للفعلِ تَضُرُّونَهُ المنفيِّ، وتنكيرُه للتَّقليلِ، والمقصودُ مِن التَّأكيدِ: التَّنصيصُ على العُمومِ بنَفْيِ الضُّرِّ؛ لأنَّه نَكِرةٌ في حيِّزِ النَّفْيِ، أي: فاللهُ يُلْحِقُ بكم الاستِئْصالَ، وهو أعظَمُ الضُّرِّ، ولا تَضُرُّونه أقلَّ ضُرٍّ [671] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (12/103). .
- وجملةُ إِنَّ رَبِّي عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ تعليلٌ لِجُملةِ وَلَا تَضُرُّونَهُ شَيْئًا؛ فموقِعُ (إنَّ) فيها موقِعُ فاءِ التَّفريعِ [672] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (12/103). .
- ولما كان الأهمُّ في هذا السياقِ بيانَ استعلائِه تعالى وقدرتِه، قدَّم قولَه: عَلَى كُلِّ شَيْءٍ [673] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (9/313). .
9- قولُه تعالى: وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْنَاهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ
- قولُه: وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا الأمرُ هنا كِنايةٌ عن العذابِ، أو عن القضاءِ بهَلاكِهم [674] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (6/170). .
- وفي قولِه: نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْنَاهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ تَكرَّرَت التَّنْجيَةُ على سَبيلِ التَّوكيدِ، ولِقَلَقِ (مِنْ) في قولِه: مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ لوْ لاصَقَتْ (مِنَّا) في بِرَحْمَةٍ مِنَّا- حيثُ يكون: (بِرَحْمَةٍ مِنَّا مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ)-؛ فأُعيدَت التَّنجيةُ، وهي التَّنجيةُ الأُولى؛ فمَعْنى التَّكريرِ أنَّه سبحانه ذكَر أوَّلًا أنَّه حينَ أهْلَك عدُوَّهم نَجَّاهم، ثمَّ قال: وَنَجَّيْنَاهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ، على معنى: وكانتِ التَّنْجيةُ مِن عذابٍ غليظٍ. أو تَكونُ هذه التَّنْجيةُ هي مِن عذابِ الآخرةِ، ولا عذابَ أغلَظُ منه؛ فأُعيدَتْ لأجلِ اختِلافِ مُتَعلِّقَيها [675] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (2/405)، ((تفسير أبي حيان)) (6/170). .
- وفيه مُناسَبةٌ حسَنةٌ، حيث قال تعالى هنا في قصَّةِ هودٍ: وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا، وقال في قصَّةِ شُعيبٍ عليه السَّلامُ: وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا [هود: 94] ؛ فعُطِفَت (لَمَّا) على ما قَبْلَها بواوِ العَطْفِ في هذَينِ الموضِعَين، وخالَفَت قصَّةُ صالحٍ وقصَّةُ لوطٍ عليهما السَّلامُ في الحرفِ المعطوفِ به هذه الجملةُ المصدَّرةُ بحرفِ الوجوبِ؛ فقيل في قصَّةِ صالِحٍ عليه السَّلامُ: فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا [هود: 66] ، وفي قصَّةِ لوطٍ عليه السَّلامُ: فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا [هود: 82] ، بعَطْفِ لَمَّا على ما قَبْلَها مِن هاتَين الآيتَين بفاءِ التَّعقيبِ، ووجْهُ ذلك: أنَّ العذابَ في قصَّةِ هودٍ وشُعيبٍ تأخَّر عن وقْتِ الوعيدِ، فإنَّ في قصَّةِ هودٍ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْمًا غَيْرَكُمْ [هود: 57] ، وفي قصَّةِ شُعيبٍ سَوْفَ تَعْلَمُونَ [هود: 93] ، والتَّخويفُ قارَنَه التَّسويفُ، فجاء بالواوِ. وفي قصَّةِ صالحٍ ولوطٍ وقَع العذابُ عَقِيبَ الوعيدِ؛ فإنَّ في قصَّةِ صالحٍ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ [هود: 65] ، وفي قصَّةِ لوطٍ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ [هود: 81] ؛ فجاء الفاءُ للتَّعجيلِ والتَّعقيبِ [676] يُنظر: ((أسرار التكرار في القرآن)) للكرماني (ص: 145)، ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص:267). .
وفيه وجهٍ آخَرَ: أنَّ آيَتَيْ صالِحٍ ولوطٍ ورَد فيهما ما يَقتَضي مَعْناه أن يَربِطَ بالفاءِ المقتَضِيَةِ التَّعقيبَ، أمَّا قصَّةُ صالِحٍ مِنهُما فتَقدَّمَها قولُه تعالى: فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ [هود: 65] ، فكأنْ قد قيل: فلمَّا انقَضَتْ، فالموضوعُ للفاءِ لمقصودِ التَّعقيبِ، ومِثلُ هذا مِن غيرِ فَرْقٍ قولُه تعالى في قصَّةِ لوطٍ عليه السَّلامُ: إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ [هود: 81] ، ولا شَكَّ أنَّ المعنى يَستَدْعي تَقْديرَ (فلَمَّا أصبَح)؛ تَحقيقًا لصِدْقِ الوعيدِ، وإعقابًا لا يتَحصَّلُ بغيرِ الفاءِ؛ فهذا يوجِبُ خُصوصَ الفاءِ بهَذَينِ الموضِعَينِ. وأمَّا قصَّةُ هودٍ عليه السَّلامُ، فلم يَرِدْ فيها ما يَسْتَدعي تَعْقيبًا، بل قَبْلَها ما يَقتَضي أن يُنسَّقَ ما بعدَه عليه بواوِ العطفِ، وذلك قولُه تعالى مُخبِرًا عن قومِ هودٍ: وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّونَهُ شَيْئًا [هود: 57] ، ثمَّ قال: وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا [هود: 58] ، فعطَف هذه الجُمَلَ بَعْضَها على بعضٍ بما يُعْطي ذلك، ويُناسِبُ العطفُ بالواوِ، وعلى هذا ورَدَت آيةُ شُعَيبٍ عليه السَّلامُ؛ فورَد قبْلَها: وَيَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ [هود: 93] ، ثمَّ بعْدَ ذلك: وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ [هود: 93] ، وليس هذا ما يَقْتَضي تَعقيبًا، بل بابُه حَمْلُ الآياتِ بعضِها على بعضٍ بحَرْفِ التَّشْريكِ وهو الواوُ؛ فجاء كلٌّ على ما يُناسِبُ [677] يُنظر: ((ملاك التأويل)) لأبي جعفر الغرناطي (2/257-258). .
10- قولُه تعالى: وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ
- جملةُ جَحَدُوا وما بعْدَها تمهيدٌ للمَعطوفِ، وهو وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ [هود: 60] ؛ لزيادةِ تَسْجيلِ التَّمهيدِ بالأَجْرامِ السَّابقةِ، وهو الَّذي اقتَضاه اسمُ الإشارةِ؛ لأنَّ جميعَ ذلك مِن أسبابِ جَمْعِ العَذابَينِ لهم [678] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (12/105). .
- وجمَعَ الرُّسُلَ في قولِه: وَعَصَوْا رُسُلَهُ، وإنَّما عَصَوْا رَسولًا واحدًا، وهو هودٌ عليه السَّلامُ؛ لأنَّ المرادَ ذِكْرُ إجرامِهم؛ فناسَب أن يُناطَ الجُرْمُ بعِصْيانِ جِنْسِ الرُّسلِ؛ لأنَّ تَكْذيبَهم هودًا لم يَكُنْ خاصًّا بشَخْصِه؛ لأنَّهم قالوا له: وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ؛ فكلُّ رسولٍ جاء بأمرِ ترْكِ عبادةِ الأصنامِ فهُم مُكذِّبون به. ومِثلُه قولُه تعالى: كَذَّبَتْ عادٌ الْمُرْسَلِينَ [679] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (12/105). [الشعراء: 123] .
11- قولُه تعالى: وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ عَادًا كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِعَادٍ قَوْمِ هُودٍ
- قولُه: وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً، أي: أصابتهم إصابةً عاجِلةً دونَ تأخيرٍ كما يُتْبَعُ الماشي بمَن يَلْحَقُه، وعُبِّر عن ذلك بالتَّبعِيَّةِ للمُبالَغةِ؛ فكَأنَّها لا تُفارِقُهم وإن ذهَبوا كلَّ مذهَبٍ، بل تَدورُ معَهم حيثُما داروا، مع ما في ذلك مِن المشارَكةِ ومِن مُماثَلةِ العقابِ للجُرْمِ؛ لأنَّهم اتَّبَعوا الملعونِينَ فأُتْبِعُوا باللَّعنةِ؛ جَزاءً لِصَنيعِهم جَزاءً وِفاقًا [680] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (4/220)، ((تفسير ابن عاشور)) (12/106). .
- وبُني فِعْلُ (أُتْبِعُوا) للمفعولِ؛ إذ لا غرَضَ في بيانِ الفاعلِ، ولم يُسنَدِ الفعلُ إلى اللَّعنةِ؛ لِيَدُلَّ على أنَّ إتْباعَها لهم كان بأمرِ فاعلٍ؛ للإشعارِ بأنَّها تَبِعَتْهم عِقابًا مِن اللهِ لا مُجرَّدَ مُصادَفةٍ [681] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (12/106). .
- وفي قولِه: وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً قَرَنَ الدُّنْيَا باسْمِ الإشارةِ هَذِهِ؛ لِقَصْدِ تَهْوينِ أمْرِها بالنِّسبةِ إلى لَعْنةِ الآخِرَةِ [682] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (12/106). .
- قولُه: وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ، أي: أُتبِعوا يومَ القيامةِ أيضًا لعنةً، وحُذِفَت لِدَلالةِ الأُولى عليها، وللإيذانِ بكَوْنِ كلٍّ مِن اللَّعنتَين نوعًا برأسِه، لم تُجمَعا في قَرَنٍ واحدٍ؛ بأن يُقالَ: (وأُتبِعوا في هذه الدُّنيا ويومَ القيامةِ لَعنةً)، كما في قولِه تعالى: وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ [الأعراف: 156] ؛ إيذانًا باختِلافِ نوعَيِ الحسَنَتينِ؛ فإنَّ المرادَ بالحسنَةِ الدُّنيَويَّةِ نحْوُ الصِّحَّةِ والكَفافِ والتَّوفيقِ للخيرِ، وبالحسنَةِ الأُخرَويَّةِ الثَّوابُ والرَّحمةُ [683] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (4/220). .
- وجملةُ أَلا إِنَّ عَادًا كَفَرُوا رَبَّهُمْ مُستأنَفةٌ ابتدائيَّةٌ، افتُتِحَت بحرفِ التَّنبيهِ أَلَا؛ لِتَهويلِ الخبَرِ، وأُكِّدَت بحرفِ (إنَّ)؛ لإفادةِ التَّعليلِ بجُملَةِ وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ؛ تعريضًا بالمشرِكين؛ لِيَعتَبِروا بما أصاب عادًا [684] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (12/106). .
- ونبَّه على علَّةِ إتْباعِ اللَّعنةِ لهم في الدَّارَين بأنَّهم كَفَرُوا رَبَّهُمْ؛ فالكفرُ هو الموجِبُ للَّعنةِ [685] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (6/171). .
- قولُه: أَلَا بُعْدًا لِعَادٍ قَوْمِ هُودٍ جملةٌ ابتدائيَّةٌ؛ لإنشاءِ ذمٍّ لهم [686] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (12/107). .
- وأيضًا في قولِه: أَلَا بُعْدًا لِعَادٍ قَوْمِ هُودٍ تكريرُ حرْفِ الَّتنبيهِ أَلَا وإعادةُ (عَادٍ) في الدُّعاءِ عليهم؛ تَهْويلًا لأمرِهم، وتَفْظيعًا له، وبَعْثًا على الاعتِبارِ بهم، والحذَرِ مِن مِثلِ حالِهم، والحثِّ على الاعتبارِ بقِصَّتِهم [687] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (6/171)، ((تفسير أبي السعود)) (4/220). .
- وقَوْمِ هُودٍ عطفُ بيانٍ لـ(عَادٍ)، وفائدةُ هذا البيانِ- مع أنَّ البيانَ حاصِلٌ بدونِه-: أنْ يُوسَموا بهذه الدَّعْوةِ وَسْمًا، وتُجعَلَ فيهم أمرًا مُحقَّقًا لا شُبهَةَ فيه بوَجْهٍ مِن الوجوهِ، وفيه إيماءٌ إلى أنَّ له أثرًا في الذَّمِّ بإعراضِهم عن طاعةِ رسولِهم، والإيماءُ إلى أنَّ استِحْقاقَهم للبُعْدِ بسبَبِ ما جرَى بينَهم وبينَ هودٍ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ وهم قومُه؛ فيكونُ تَعريضًا بالمشرِكين من العرَبِ [688] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (2/406)، ((تفسير أبي حيان)) (6/171)، ((تفسير أبي السعود)) (4/220)، ((تفسير ابن عاشور)) (12/107). .
- وفيه مُناسَبةٌ حسنةٌ، حيثُ قال تعالى هنا في قصَّةِ سورةِ (هودٍ) عليه السَّلامُ وذِكْرِ قومِه: وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ عَادًا كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِعَادٍ قَوْمِ هُودٍ [هود: 60] ، وقال في قصَّةِ موسى عليه السَّلامُ في هذه السُّورةِ، وإرسالِه إلى فرعونَ ومَلَئِه: وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ [هود: 99] ؛ فحَذَف (الدُّنيا) مِن الآيةِ الثَّانيةِ، وأثبَتَها في الأولى، ووجهُ ذلك: أنَّ قِصَّةَ هودٍ عليه السَّلامُ في هذه السُّورةِ أكثَرُ استيفاءً مِن قِصَّةِ موسى عليه السَّلامُ بكَثيرٍ؛ فناسَب الطُّولُ الطُّولَ، والإيجازُ الإيجازَ، ولا يَليقُ العَكْسُ؛ فالوارِدُ عليه كلٌّ مِن الآيتَينِ لا يَحسُنُ خِلافُه ولا يُناسِبُ [689] يُنظر: ((ملاك التأويل)) لأبي جعفر الغرناطي (2/257-258)، ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص:268). .
وقيل: وجهُ ذلك أنَّ الأُولى أتى فيها بالموصوفِ والصِّفةِ جَميعًا، وهو الأصلُ الأوَّلُ، ثمَّ اكتَفى بالصِّفةِ عن الموصوفِ بعْدَه؛ لقيامِ الدَّلالةِ على الموصوفِ، فيَجوزُ لذلك حَذْفُه، وإقامةُ الصِّفةِ مَقامَه، ولَمَّا جاءَتِ الآيَتان في سورةٍ واحدةٍ وُفِّيَت الأُولى ما هو بها أَوْلى مِن الإجراءِ على الأصلِ، والإتيانِ بالموصوفِ والوصفِ، فقال تعالى: فِي هَذِهِ الدُّنْيَا، واكتَفى في الثَّانيةِ لَمَّا قامَتِ الدَّلالةُ على الموصوفِ بالصِّفةِ وحْدَها، فقال: وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ لَعْنَةً؛ فورَد الأوَّلُ على الأصلِ مِن الجمْعِ بينَ التَّابعِ نَعْتًا أو عَطْفَ بيانٍ وبينَ مَتْبوعِه، وجاء في قصَّةِ موسى عليه السَّلامُ: وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ لَعْنَةً على حَذْفِ الوصفِ؛ للاكتفاءِ باسْمِ الإشارةِ، وكلٌّ فَصيحٌ، فجيءَ بما هو في الأصلِ أوَّلًا، ثمَّ جيءَ ثانيًا بما هو ثانٍ عنه على ما يَنبَغي، ولا يَحسُنُ العكسُ؛ لأنَّ ذلك شِبْهُ التَّفسيرِ، وبابُه أن يتَقدَّمَ [690] يُنظر: ((درة التنزيل وغرة التأويل)) للإسكافي (2/759)، ((أسرار التكرار في القرآن)) للكرماني (ص:145)، ((ملاك التأويل)) لأبي جعفر الغرناطي (2/258)، ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص:268). .