موسوعة التفسير

سورةُ القيامةِ
الآيات (36-40)

ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ

غريب الكلمات:

سُدًى: أي: هَمَلًا لا يُؤمَرُ ولا يُنْهَى، وأصلُ (سدو): يدُلُّ على إهمالٍ وذَهابٍ على وَجهٍ [227] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 501)، ((تفسير ابن جرير)) (23/526)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 278)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/150)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 430)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 438). .
نُطْفَةً: النُّطفةُ: الماءُ الصَّافي، ويُعَبَّرُ بها عن ماءِ الرَّجُلِ والمرأةِ، وأصلُ (نطف): يدُلُّ على نَدوةٍ وبَلَلٍ [228] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/440)، ((المفردات)) للراغب (ص: 811)، ((تفسير القرطبي)) (12/6)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 300). .
عَلَقَةً: العَلَقةُ: الدَّمُ الجامِدُ، وأصلُ (علق): يدُلُّ على تعلُّقِ شَيءٍ بشَيءٍ [229] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/21)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (4/125)، ((تفسير القرطبي)) (12/6)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 300). .
فَسَوَّى: عدَّل، وأتقَن، والتَّسويةُ: جعلُ الشَّيءِ سواءً، أي: مُعَدَّلًا مُقَوَّمًا، وأصْلُ (سوي): يَدُلُّ على استقامةٍ واعْتِدالٍ بينَ شيئَيْنِ [230] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/311)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/112)، ((تفسير القرطبي)) (19/117)، ((تفسير العليمي)) (7/340)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/368). .

المعنى الإجمالي:

يُشيرُ الله تعالى إلى الحكمةِ مِن البَعثِ والجزاءِ، ويُبيِّنُ جانبًا مِن مَظاهِرِ قُدرتِه، فيقولُ: أيَظُنُّ الإنسانُ أن يَترُكَه اللهُ في الدُّنيا مُهمَلًا لا يُؤمَرُ ولا يُنهَى، ولا يُبعَثُ بعدَ موتِه للثَّوابِ أو العِقابِ؟! ألم يكُنْ هذا الإنسانُ في أوَّلِ أمْرِه ماءً قَليلًا مَهِينًا مِن مَنيٍّ يُراقُ؟! ثمَّ صار قِطْعةَ دَمٍ جامِدةً، فخَلَقَه اللهُ وسَوَّاه، فجَعَل منه الصِّنفَينِ: الذُّكورَ والإناثَ، أليس الَّذي فَعَل ذلك كُلَّه بقادِرٍ على إحياءِ الموتى، وإعادتِهم كما كانوا؟! سُبحانَك اللَّهُمَّ فبَلَى!

تفسير الآيات:

أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى (36).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا ذكَرَ حالَ الإنسانِ في الموتِ وما كان مِن حالِه في الدُّنيا؛ قرَّرَ له أحوالَه في بِدايتِه ليَتأمَّلَها، فلا يُنكِرَ معها جَوازَ البَعثِ مِن القبورِ [231] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (10/353). .
وأيضًا فإنَّ اللهَ تعالى لَمَّا ذَكَر في أوَّلِ السُّورةِ قَولَه: أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ [القيامة: 3] ، أعاد في آخِرِ السُّورةِ ذلك، وذكَرَ في صِحَّةِ البَعثِ والقيامةِ دَليلَينِ؛ الأوَّلُ [232] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (30/737). :
أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى (36).
أي: أيظُنُّ الإنسانُ أن يَترُكَه اللهُ في الدُّنيا مُهمَلًا لا يُؤمَرُ ولا يُنهَى، ولا يُبعَثُ بعدَ موتِه للثَّوابِ أو العِقابِ [233] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/526)، ((تفسير القرطبي)) (19/116)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (16/299)، ((مفتاح دار السعادة)) لابن القيم (2/12)، ((تفسير ابن كثير)) (8/ 283)، ((تفسير السعدي)) (ص: 900)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/365، 366). قال الشَّافعيُّ: (لم يختَلِفْ أهلُ العِلمِ بالقُرآنِ -فيما عَلِمْتُ- أنَّ السُّدَى: الَّذي لا يُؤمَرُ ولا يُنهَى). ((الأم)) (7/313). ويُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (17/174). قال ابن كثير: (قولُه: أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى قال السُّدِّيُّ: يعني: لا يُبعَثُ. وقال مجاهدٌ، والشَّافعيُّ، وعبدُ الرَّحمنِ بنُ زَيدِ بنِ أسْلَمَ: يعني: لا يُؤْمَرُ ولا يُنهَى. والظَّاهرُ أنَّ الآيةَ تعُمُّ الحالَينِ، أي: ليس يُترَكُ في هذه الدُّنيا مُهمَلًا لا يُؤمَرُ ولا يُنهى، ولا يُترَكُ في قبرِه سُدًى لا يُبعَثُ، بل هو مأمورٌ مَنهيٌّ في الدُّنيا، مَحشورٌ إلى الله في الدَّارِ الآخرةِ). ((تفسير ابن كثير)) (8/283). ؟!
كما قال الله تبارك وتعالى: أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ [المؤمنون: 115] .
وقال سُبحانَه: وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ [ص: 27] .
أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى (37).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّها الدَّليلُ الثَّاني على صِحَّةِ القَولِ بالحَشْرِ: الاستِدلالُ بالخِلْقةِ الأُولى على الإعادةِ [234] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (30/737). .
أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى (37).
أي: ألم يكُنْ في أوَّلِ أمْرِه ماءً قَليلًا مِن مَنيٍّ يُراقُ [235] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/527)، ((الوسيط)) للواحدي (4/396)، ((تفسير القرطبي)) (19/117)، ((تفسير ابن كثير)) (8/283)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/367). ؟!
كما قال الله تبارك وتعالى: أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ * أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ [الواقعة: 58، 59].
وقال سُبحانَه: أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ * فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ * إِلَى قَدَرٍ مَعْلُومٍ [المرسلات: 20 - 22].
وقال عزَّ وجلَّ: فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ * خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ [الطارق: 5، 6].
ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى (38).
أي: ثمَّ صار الإنسانُ بعدَ النُّطفةِ قِطْعةَ دَمٍ جامِدةً، فخَلَقَه اللهُ وسَوَّاه، فأتقَنَه وأحكَمَه، فصار في غايةِ الاعتدالِ [236] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/527)، ((تفسير القرطبي)) (19/117)، ((تفسير النسفي)) (3/574)، ((تفسير الخازن)) (4/374)، ((تفسير ابن كثير)) (8/283)، ((تفسير السعدي)) (ص: 900)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/368). !
كما قال تعالى: يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ * الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ [الانفطار: 6، 7].
فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (39).
أي: فجَعَل اللهُ منه الصِّنفَينِ: الذُّكورَ والإناثَ [237] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/527)، ((تفسير القرطبي)) (19/117)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (21/117، 118)، ((تفسير الشوكاني)) (5/412). قال البِقاعي: (فَجَعَلَ أي: بسَبَبِ النُّطفةِ مِنْهُ أي: هذا الماءِ الدَّافِقِ، أو المخلوقِ المسَوَّى، وهما شيءٌ واحِدٌ الزَّوْجَيْنِ أي: القرينَينِ اللَّذَينِ لا يمكِنُ الانتفاعُ بأحَدِهما إلَّا بالآخَرِ). ((نظم الدرر)) (21/117). .
كما قال الله تبارك وتعالى: وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى * مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى [النجم: 45، 46].
أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى (40).
أي: أليس الَّذي فَعَل ذلك كُلَّه بقادِرٍ على إحياءِ الموتى، وإعادتِهم كما كانوا؟! سُبحانَك اللَّهُمَّ فبَلَى [238] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/527)، ((تفسير القرطبي)) (19/117)، ((تفسير ابن كثير)) (8/283)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (21/118)، ((تفسير السعدي)) (ص: 900)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/368). !
كما قال تعالى: وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ * أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ * إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [يس: 78 - 82].
وعن بُسرِ بنِ جِحاشٍ القُرَشيِّ رَضِيَ الله عنه، ((أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بزَقَ يومًا في كَفِّه، فوضع عليها أُصبُعَه، ثمَّ قال: قال الله: ابنَ آدمَ، أنَّى تُعجِزُني، وقد خلقتُك مِن مِثلِ هذه؟! حتى إذا سَوَّيتُك وعَدَّلتُك، مَشَيتَ بينَ بُردَينِ [239] البُرْدُ: نوعٌ من الثيابِ. يُنظر: ((النهاية)) لابن الأثير (1/116). وللأرضِ مِنك وَئيدٌ [240] الوئيدُ: صوتُ شِدَّةِ الوطءِ على الأرضِ. يُنظر: ((النهاية)) لابن الأثير (5/143). ، فجَمَعْتَ ومَنَعْتَ، حتى إذا بلَغَتِ التَّراقيَ، قلتَ: أتصَدَّقُ! وأنَّى أوانُ الصَّدَقةِ؟! ) [241] أخرجه ابن ماجه (2707)، وأحمد (17844)، والطبراني في ((المعجم الكبير)) (2/32) (1193)، والحاكم في ((المستدرك)) (3855). صحَّح إسنادَه الحاكم، والبوصيري في ((مصباح الزجاجة)) (3/143)، وصحَّح الحديثَ الألباني في ((صحيح الجامع)) (8144). .
وعن ابنِ عبَّاسٍ رضِيَ الله عنهما: (أنَّه كان إذا قَرأ: أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى [القيامة: 40] قال: سُبحانَك اللَّهُمَّ بلَى، وإذا قرأ: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى [الأعلى: 1] قال: سبحانَ ربِّيَ الأعلَى) [242] أخرجه عبد الرَّزَّاق (4051) واللَّفظُ له، والبَيْهَقيُّ في ((شُعَب الإيمان)) (2100). صحَّحه ابنُ حجر في ((نتائج الأفكار)) (2/48)، وصحَّح إسنادَه الألبانيُّ في ((صفة الصلاة)) (ص: 105). .

الفوائد التربوية:

1- قال الله تعالى: أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى * أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى * ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى * فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى * أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى، وقال تعالى: أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ * فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ * إِلَى قَدَرٍ مَعْلُومٍ * فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ [المرسلات: 20 - 23] ، وقال تعالى: أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ [يس: 77] ، وقال تعالى: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آَخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ [المؤمنون: 12 - 14] وهذا كثيرٌ في القرآنِ؛ يدعو العبدَ إلى النَّظَرِ والفِكْرِ في مبدأِ خَلْقِه ووَسَطِه وآخِرِه، إذْ نَفْسُه وخَلْقُه مِن أعظمِ الدَّلائلِ على خالقِه وفاطرِه، وأقربُ شَيءٍ إلى الإنسانِ نفْسُه، وفيه مِن العجائبِ الدَّالَّةِ على عَظَمةِ اللهِ ما تنقضي الأعمارُ في الوقوفِ على بَعضِه، وهو غافلٌ عنه، مُعْرِضٌ عن التَّفَكُّرِ فيه! ولو فَكَّرَ في نفْسِه لَزَجَرَه ما يَعْلَمُ مِن عجائبِ خَلْقِها عن كُفْرِه؛ قال اللهُ تعالى: قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ * مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ * مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ * ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ * ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ * ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ [عبس: 17 - 22] ، فلَمْ يُكَرِّرْ سُبحانَه على أسماعِنا وعقولِنا ذِكْرَ هذا لِنَسمَعَ لفظَ النُّطْفةِ والعَلَقةِ والمُضغةِ والتُّرابِ، ولا لِنتكَلَّمَ بها فقط، ولا لمجرَّدِ تَعريفِنا بذلك، بل لأمرٍ وراءَ ذلك كلِّه هو المقصودُ بالخِطابِ، وإليه جرى ذلك الحديثُ [243] يُنظر: ((مفتاح دار السعادة)) لابن القيم (1/188). .
2- تأمَّلْ قَولَه تعالى: أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى * ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى فمَن لَمْ يَتْرُكِ الإنسانَ -وهو نُطفةٌ- سُدًى، بل قَلَّبَ النُّطفةَ وصَرَّفَها حتَّى صارتْ أكمَلَ ممَّا هي، وهي العَلَقةُ، ثُمَّ قَلَّبَ العَلَقةَ حتَّى صارتْ أكملَ ممَّا هي، حتَّى خَلَقَها فسَوَّى خَلْقَها، فدَبَّرَها بتصريفِه وحِكمتِه في أطوارِ كَمالاتِها، حتَّى انتهَى كَمالُها بَشَرًا سَوِيًّا! فكيف يَترُكُه سُدًى لا يَسُوقُه إلى غايةِ كمالِه الَّذي خُلِقَ له؟! فإذا تأمَّلَ العاقلُ البصيرُ أحوالَ النُّطفةِ مِن مَبدَئِها إلى منتهاها دَلَّتْه على المَعادِ والنُّبُوَّاتِ، كما تدُلُّه على إثباتِ الصَّانعِ وتوحيدِه وصفاتِ كمالِه، فكما تدُلُّ أحوالُ النُّطفةِ مِن مَبدَئِها إلى غايتِها على كَمالِ قدرةِ فاطرِ الإنسانِ وبارئِه، فكذلك تدُلُّ على كمالِ حِكمتِه وعِلْمِه ومُلْكِه، وأنَّه المَلِكُ الحقُّ المتعالي عن أنْ يَخْلُقَها عَبَثًا، ويَترُكَها سُدًى بعدَ كَمالِ خَلْقِها [244] يُنظر: ((بدائع الفوائد)) لابن القيم (4/165). !

الفوائد العلمية واللطائف:

1- في قَولِه تعالى: أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى أنَّ هذا مُنافٍ لكَمالِ حكمةِ الله عزَّ وجلَّ، وأنَّ ربوبيَّتَه وعِزَّتَه وحِكمتَه تأبى ذلك؛ ولهذا أخْرَجَ الكلامَ مُخرَجَ الإنكارِ على مَن زَعَمَ ذلك، وهو يدُلُّ على أنَّ قُبْحَ تَرْكِه سُدًى مُعَطَّلًا مُستقِرٌّ في الفِطَرِ، فكيف يُنْسَبُ الى الرَّبِّ ما قُبْحُه مُستقِرٌّ في فِطَرِكم وعُقولِكم [245] يُنظر: ((مفتاح دار السعادة)) لابن القيم (1/7). ؟!
فإنَّ الَّذي خلَقَ الإنسانَ في أحسَنِ تَقويمٍ، وأبدَع تَركيبَه، ووَهَبَه القُوى العَقليَّةَ الَّتي لم يُعْطِها غيرَه مِن أنواعِ الحيوانِ؛ لِيَستعمِلَها في مَنافِعَ لا تَنحصِرُ، أو في ضِدِّ ذلك مِن مَفاسِدَ جَسيمةٍ؛ لا يَليقُ بحِكمتِه أنْ يُهمِلَه مِثلَ الحيوانِ، فيَجعَلَ الصَّالحينَ كالمُفسِدين، والطَّائعينَ لربِّهم كالمُجْرِمين، وهو العليمُ القديرُ المتمكِّنُ بحِكمتِه وقُدرتِه أنْ يَجعَلَ إليه المصيرَ، فلو أهْمَلَه لَفاز أهلُ الفَسادِ في عالَمِ الكَسادِ، ولم يُلاقِ الصَّالِحونَ مِن صَلاحِهم إلَّا الأنكادَ، ولا يُناسِبُ حِكمةَ الحكيمِ إهمالُ النَّاسِ يَهِيمون في كلِّ وادٍ [246] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/365، 366). . فتَرْكُ الإنسانِ كالبهائمِ مُهمَلًا مُعَطَّلًا مُضادٌّ للحِكمةِ؛ فإنَّه خُلِق لغايةِ كمالِه، وكمالُه أن يكونَ عارفًا برَبِّه، محِبًّا له، قائمًا بعُبوديَّتِه [247] يُنظر: ((شفاء العليل)) لابن القيم (ص: 266). .
2- قولُه تعالى: أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى تضمَّن الدَّلالةَ على وُقوعِ الحشرِ؛ مِن حيث إنَّ الحِكمةَ تَقْتضي الأمرَ بالمحاسِنِ، والنَّهيَ عن القَبائحِ، والتَّكليفُ لا يَتحقَّقُ إلَّا بالمُجازاةِ، وهي قدْ لا تكونُ في الدُّنيا، فتَكونُ في الآخِرةِ [248] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (5/268)، ((تفسير الألوسي)) (15/165). .
3- في قَولِه تعالى: أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى إلى قَولِه: أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى أنَّ الَّذي خَلَقَ الإنسانَ على هذه الصِّفةِ أَولى بأنْ يكونَ قادِرًا على إحيائِه، وذلك معلومٌ بالفِطرةِ الضَّروريَّةِ العَقْليَّةِ [249] يُنظر: ((بيان تلبيس الجهمية)) لابن تيمية (5/429). .
4- قَولُ اللهِ تعالى: أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى فيه سُؤالٌ: ما الفائِدةُ في يُمْنَى؟
 الجوابُ: فيه إشارةٌ إلى حَقارةِ حالِه، كأنَّه قيل: إنَّه مخلوقٌ مِن المنِيِّ الَّذي جرى على مَخرَجِ النَّجاسةِ؛ فلا يليقُ بمِثلِ هذا الشَّيءِ أن يتمَرَّدَ عن طاعةِ اللهِ تعالى، إلَّا أنَّه عَبَّرَ عن هذا المعنى على سبيلِ الرَّمزِ، كما في قَولِه تعالى في عيسى ومَريمَ عليهما السَّلامُ: كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ [المائدة: 75] ، والمرادُ منه قضاءُ الحاجةِ [250] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (30/737). .
5- قَولُ اللهِ تعالى: فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى استُدِلَّ به على أنَّ الخُنْثَى أحَدُهما، لا صِنفٌ ثالِثٌ [251] يُنظر: ((الإكليل)) للسيوطي (ص: 278). .
6- في قَولِه تعالى: فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى * أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى أنَّه سُبحانَه خَلَقَ الزَّوجَينِ مِن شَيءٍ واحدٍ، وهذا يدُلُّ على كَمالِ قُدرتِه جلَّ وعلا؛ إذْ إنَّه خَلَقَ صِنفَينِ مُختَلِفَينِ في كلِّ الأحوالِ: في القوَّةِ البدنيَّةِ، والعَقليَّةِ، والفِكريَّةِ، والتَّنظيميَّةِ، يختلِفُ الذَّكَرُ عن الأنثى، وبذلك نَعرِفُ ضلالَ أولئك القَومِ الَّذين يُريدون أنْ يُلْحِقوا المرأةَ بالرَّجُلِ في أعمالٍ تختصُّ بالرَّجُلِ؛ فإنَّهم سُفَهاءُ العُقولِ، ضُلَّالُ الأديانِ، فكيف يمكنُ أنْ نسَوِّيَ بيْن صِنفَينِ فَرَّقَ اللهُ بيْنَهما خِلْقةً وشَرعًا؟! فهناك أحكامٌ يُطالَبُ بها الرَّجُلُ، ولا تُطالَبُ بها المرأةُ، وأحكامٌ تُطالَبُ بها المرأةُ، ولا يُطالَبُ بها الرَّجُلُ، وأمَّا قَدَرًا وخِلْقةً فالأمرُ واضحٌ؛ لكنَّ هؤلاء الَّذين لم يُوَفَّقوا -وسَلَبَ اللهُ عقولَهم، وأَضْعَفَ أديانَهم- يُحاوِلونَ الآنَ أنْ يُلْحِقوا النِّساءَ بالرِّجالِ، وهذه لا شكَّ أنَّها فكرةٌ خاطئةٌ مُخالِفةٌ للفِطرةِ، ومخالِفةٌ للطَّبيعةِ، كما أنَّها مخالِفةٌ للشَّريعةِ [252] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين: الحجرات - الحديد)) (ص: 249). .

بلاغة الآيات :

قولُه تعالَى: أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى * أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى * ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى * فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى * أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى
- قولُه: أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى استِئنافٌ ابتدائيٌّ، عاد به الكلامُ إلى الاستِدلالِ على إمكانِ البَعثِ، وهو ما ابتُدِئَ به، فارتبَطَ بقولِه: أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ [القيامة: 3] ، فكأنَّه قِيل: أيحسَبُ أنْ لن نَجمَعَ عِظامَه؟! ويَحسَبُ أنْ نَترُكَه في حالةِ العدَمِ؟! وزِيدَ هنا أنَّ مُقْتضى الحكمةِ الإلهيَّةِ إيقاعُه بقولِه: أَنْ يُتْرَكَ سُدًى [253] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/364). .
- والاستفهامُ إنكاريٌّ [254] يُنظر: ((تفسير الألوسي)) (15/165)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/364)، ((إعراب القرآن وبيانه)) لدرويش (10/306). .
- وعُدِلَ عن بِناءِ فِعلِ يُتْرَكَ للفاعلِ، فبُنِيَ للنَّائبِ إيجازًا؛ مِن أجْلِ العِلمِ بالفاعلِ مِن قولهِ السَّابقِ: أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ [القيامة: 3] ، فكأنَّه قال: أيحسَبُ الإنسانُ أنْ نَترُكَه دونَ بَعثٍ، وأنْ نُهمِلَ أعْمالَه سُدًى؟! فجاء ذِكرُ سُدًى هنا على طَريقةِ الإدماجِ [255] الإدماجُ: أنْ يُدمِجَ المتكلِّمُ غرضًا في غَرضٍ، أو بديعًا في بديعٍ بحَيثُ لا يَظهرُ في الكلامِ إلَّا أحدُ الغرَضينِ أو أحدُ البَديعينِ؛ فهو مِن أفانينِ البَلاغةِ، ويكونُ مرادُ البليغِ غَرَضينِ فيَقرِنُ الغرضَ المَسوقَ له الكلامُ بالغرضِ الثَّاني، وفيه تَظهرُ مَقدرةُ البليغِ؛ إذ يأتي بذلك الاقترانِ بدونِ خروجٍ عن غَرَضِه المسوقِ له الكلامُ ولا تَكلُّفٍ، بمعنى: أن يَجعلَ المتكلِّمُ الكلامَ الَّذي سِيق لِمعنًى -مِن مَدحٍ أو غيرِه- مُتضمِّنًا معنًى آخَرَ. يُنظر: ((الإتقان)) للسيوطي (3/298)، ((علوم البلاغة البيان المعاني البديع)) للمراغي (ص: 344)، ((تفسير ابن عاشور)) (1/339)، ((البلاغة العربية)) لعبد الرحمن حَبَنَّكَة الميداني (2/427). فيما سِيقَ له الكلامُ، إيماءً إلى أنَّ مُقْتضى حِكمةِ خلْقِ الإنسانِ ألَّا يَترُكَه خالقُه بعْدَ الموتِ، فلا يُحْيِيَه ليُجازِيَه على ما عَمِلَه في حَياتِه الأُولى [256] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/365). .
- وفي إعادةِ أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ تَهيئةٌ لِما سيُعقَبُ مِن دَليلِ إمكانِ البعثِ مِن جانبِ المادَّةِ بقولِه: أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى إلى آخِرِ السُّورةِ، فقولُه: أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى تَكريرٌ وتَعدادٌ للإنكارِ على الكافِرين تَكذيبَهُم بالبعثِ؛ ألَا تَرى أنَّه وقَعَ بعْدَ وصْفِ يومِ القيامةِ وما فيه مِن الحِسابِ على ما قدَّمَ الإنسانُ وأخَّرَ [257] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/365). ؟
- وقولُه: أَنْ يُتْرَكَ سُدًى كِنايةٌ عن الجزاءِ؛ لأنَّ التَّكليفَ في الحياةِ الدُّنيا مَقصودٌ منه الجَزاءُ في الآخرةِ [258] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/365، 366). .
- قولُه: أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى استِئنافٌ واردٌ لإبطالِ الحِسبانِ المذكورِ؛ فإنَّ مَدارَه لَمَّا كان استِبعادَهم للإعادةِ استُدِلَّ على تَحقُّقِها ببَدْءِ الخلْقِ. واستئنافٌ هو عِلَّةٌ وبَيانٌ للإنكارِ المَسوقِ للاستدلالِ بقولِه: أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى الَّذي جُعِلَ تَكريرًا وتَأييدًا لمَضمونِ قولِه: أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ [القيامة: 3] ، أي: أنَّ خلْقَ الإنسانِ مِن مادَّةٍ ضَعيفةٍ، وتَدرُّجَه في أطوارِ كِيانِه: دَليلٌ على إثباتِ القُدرةِ على إنشائِه إنشاءً ثانيًا بعْدَ تَفرُّقِ أجزائِه واضْمحلالِها، فيَتَّصِلُ معْنى الكلامِ هكذا: أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ ويَعُدُّ ذلك مُتعذِّرًا؟! ألمْ نَبدَأْ خَلْقَه؛ إذ كَوَّنَّاهُ نُطفةً، ثمَّ تَطوَّرَ خَلْقُه أطوارًا، فماذا يُعجِزُنا أنْ نُعيدَ خلْقَه ثانيًا كذلك [259] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (9/69)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/366). ؟!
- وهذه الجُمَلُ أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى * أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى * ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى * فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى تَمهيدٌ لقولِه: أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى، وهذا البَيانُ خاصٌّ بأحَدِ مَعْنَيَيِ التَّركِ في الآيةِ، وهو تَرْكُه دونَ إحياءٍ، واكْتُفِيَ ببَيانِ هذا عن بَيانِ المعنى الآخَرِ الَّذي قيَّدَه قولُه: سُدًى [القيامة: 36] ، أي: تَرْكُه بدونِ جزاءٍ على أعمالِه؛ لأنَّ فائدةَ الإحياءِ أنْ يُجازى على عمَلِه، والمعنى: أيحسَبُ أنْ يُترَكَ فانيًا ولا تُجدَّدَ حَياتُه [260] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (9/69)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/366، 367). ؟!
- ووقَعَ وصْفُ سُدًى في خِلالِ ذلك مَوقعَ الاستِدلالِ على لُزومِ بَعثِ النَّاسِ مِن جانبِ الحِكمةِ، وانتُقِلَ بعْدَه إلى بَيانِ إمكانِ البَعثِ مِن جانبِ المادَّةِ؛ فكان وُقوعُه إدماجًا [261] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/367). .
- قولُه: أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى الهمزةُ للاستِفهامِ التَّقريريِّ الإنكاريِّ [262] يُنظر: ((إعراب القرآن وبيانه)) لدرويش (10/307). .
- وعُطِفَ فِعلُ كَانَ عَلَقَةً بحرْفِ (ثُمَّ)؛ للدَّلالةِ على التَّراخي الرُّتبيِّ؛ فإنَّ كَوْنَه عَلَقةً أعجَبُ مِن كَونِه نُطفةً؛ لأنَّه صار عَلَقةً بعْدَ أنْ كان ماءً، فاختَلَطَ بما تُفرِزُه رَحِمُ الأُنثى مِن البُويضاتِ، فكان مِن مَجموعِهما عَلَقةً، ولَمَّا كان تَكوينُه عَلَقةً هو مَبدَأَ خلْقِ الجسْمِ، عُطِفَ عليه قولُه: فَخَلَقَ بالفاءِ؛ لأنَّ العلَقةَ يَعقُبُها أنْ تَصيرَ مُضغةً إلى أنْ يَتِمَّ خلْقُ الجسَدِ وتُنفَخَ فيه الرُّوحُ [263] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/367، 368). .
- ومَفعولُ (خلَقَ) ومَفعولُ (سَوَّى) مَحذوفانِ؛ لدَلالةِ الكلامِ عليهما، أي: فخلَقَه فسوَّاه [264] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/368). .
- وبُنِيَ فِعلُ يُمْنَى إلى المَجهولِ؛ لأنَّ النُّطفةَ تَدفَعُها قوَّةٌ طَبيعيَّةٌ في الجِسمِ خَفيَّةٌ، فكان فاعلُ الإمناءِ مَجهولًا؛ لعدَمِ ظُهورِه [265] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/146) و(29/368). . أو لأنَّه وقتَ صَبِّها في الرَّحمِ تَنصَبُّ منه بغيرِ اختيارِه، حتَّى كأنَّه لا فِعلَ له فيها أصلًا [266] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (21/116). .
- قولُه: أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى تَوقيفٌ وتَوبيخٌ لمنكِرِ البَعثِ [267] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (10/354). .
- والاستِفهامُ إنكارٌ للمَنفيِّ إنكارَ تَقريرٍ بالإثباتِ. وهذا غالِبُ استِعمالِ الاستفهامِ التَّقريريِّ؛ أنْ يقَعَ على نفْيِ ما يُرادُ إثباتُه؛ لِيَكونَ ذلك كالتَّوسعةِ على المقرَّرِ إنْ أراد إنكارًا؛ كِنايةً عن ثِقةِ المتكلِّمِ بأنَّ المخاطَبَ لا يَستطيعُ الإنكارَ [268] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/368)، ((إعراب القرآن وبيانه)) لدرويش (10/307). .
- وهذه الجُملةُ أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى واقعةٌ مَوقعَ النَّتيجةِ مِن الدَّليلِ؛ لأنَّ خلْقَ جِسمِ الإنسانِ مِن عدَمٍ -وهو أمرٌ ثابتٌ بضَرورةِ المُشاهَدةِ- أحقُّ بالاستبعادِ مِن إعادةِ الحَياةِ إلى الجِسمِ بعْدَ الموتِ، سواءٌ بقِيَ الجِسمُ غيرَ ناقصٍ، أو نقَصَ بَعضُه أو مُعظَمُه، فهو إلى بَثِّ الحياةِ فيه، وإعادةِ ما فَنِيَ مِن أجزائِه أقرَبُ مِن إيجادِ الجِسمِ مِن عدَمٍ [269] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/368). .
- وتَعميمُ الموتى بعْدَ جَرَيانِ أُسلوبِ الكلامِ على خُصوصِ الإنسانِ الكافرِ أو خُصوصِ كافرٍ مُعيَّنٍ؛ يَجعَلُ جُملةَ أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى تَذييلًا [270] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/368). .
- وقدْ جاء في هذا الخِتامِ أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بمُحسِّنِ رَدِّ العجُزِ على الصَّدرِ [271] رَدُّ العَجُزِ على الصَّدرِ: هو جَعْلُ أحدِ اللَّفظَينِ المُكرَّرَينِ -المتَّفِقَينِ في اللَّفظِ والمعنَى، أو المُتجانِسَينِ المُتَّفِقَينِ في اللَّفظِ دون المعنى، أو المُلحقَينِ بهما، بأنْ جمَعَهما اشتِقاقٌ أو شبهُه- في أوَّلِ الكلامِ، ثمَّ إعادةُ ذلك في آخِرِ الكلامِ، كقولِه تعالى: وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ [الأحزاب: 37] ، وقولِه تعالى: اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا [نوح: 10] ، وهو مِن جِهاتِ الحُسنِ في الكَلامِ. يُنظر: ((مفتاح العلوم)) للسكاكي (ص: 430)، ((جواهر البلاغة)) للهاشمي (ص: 333)، ((علوم البلاغة)) للمراغي (ص: 358). ؛ فإنَّ السُّورةَ افتُتِحت بإنكارِ أنْ يَحسَبَ المشرِكون استحالةَ البَعثِ، وتَسلسَلَ الكلامُ في ذلك بأفانينَ مِن الإثباتِ والتَّهديدِ والتَّشريطِ والاستدلالِ، إلى أنْ أفْضى إلى استِنتاجِ أنَّ اللهَ قادرٌ على أنْ يُحيِيَ الموتى، وهو المطلوبُ الَّذي قُدِّمَ في قولِه: أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ * بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ [272] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/368). [القيامة: 3، 4].