موسوعة التفسير

سُورةُ يُونُس
الآيات (31-33)

ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﰎ ﰏ ﰐ

غريب الكلمات:

حَقَّتْ: أي: وجَبَتْ وثبَتَتْ؛ يُقال مِنه: حقَّ على فُلانٍ كذا، يَحِقُّ عليه: إذا ثبَت ذلك عليه ووجَبَ، وأصلُ (حقَّ): يدلُّ على إحكامِ الشَّيءِ وصِحَّتِه [449] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (12/290)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 195)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/15)، ((المفردات)) للراغب (ص: 246)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 153)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 411). .

المعنى الإجمالي:

يأمُرُ اللهُ نبيَّه محمَّدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أن يسألَ المُشرِكينَ: مَن الذي يرزُقُكم من السَّماءِ والأرضِ، أمْ مَن يملِكُ السَّمعَ والأبصارَ، ومن يُخرِجُ الشَّيءَ الحيَّ من الشيءِ الميِّتِ بقُدرتِه العظيمةِ، ويُخرِجُ الشَّيءَ الميِّتَ من الشَّيءِ الحيِّ، ومن يدبِّرُ أمرَ جَميعِ الخلائقِ، ويتصَرَّفُ في السَّماءِ والأرضِ بما شاء، فسيقولُ المُشرِكونَ: اللهُ وَحدَه من يفعَلُ ذلك، فقُل لهم يا محمَّدُ: أفلا تتَّقونَه، وتخافونَ عِقابَه؟!
فذلكم اللهُ الذي يفعَلُ كُلَّ ذلك، هو المستحِقُّ للعبادةِ وَحدَه، وهو ربُّكم الحقُّ الذي لا شَكَّ فيه، فأيُّ شَيءٍ غيرِ الحَقِّ إلا الضَّلالُ، فأنَّى تُصرفونَ؟!
ثم بيَّنَ تعالى أنَّه كما صُرِفَ المُشرِكونَ عن الحقِّ، واستَمَرُّوا على شِركِهم، كذلك حقَّت كلمةُ اللهِ على الذين فَسَقوا أنَّهم لا يُؤمِنونَ.

تفسير الآيات:

قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ والأَبْصَارَ وَمَن يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيَّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَن يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللّهُ فَقُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ (31).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا بَيَّنَ اللهُ تعالى فضائِحَ عَبَدةِ الأوثانِ؛ أتبَعَها بذِكرِ الدَّلائلِ على فسادِ مَذهَبِهم بما يوبِّخُهم، ويَحُجُّهم بما لا يُمكِنُ إلَّا الاعترافُ به من حالِ رِزقِهم وحواسِّهم، وإظهارِ القُدرةِ الباهرةِ في الموتِ والحياةِ [450] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (6/52). .
قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ.
أي: قُل- يا مُحمَّدُ- للمُشرِكينَ: مَن الذي يرزُقُكم من السَّماءِ مياهَ الأمطارِ، ويَرزُقُكم من الأرضِ أنواعًا من الحبوبِ والثِّمارِ والبُقولِ والمعادِنِ [451] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (12/176)، ((البسيط)) للواحدي (11/186)، ((تفسير ابن عطية)) (3/117)، ((تفسير ابن كثير)) (4/266)، ((تفسير الشوكاني)) (2/504)، ((تفسير الألوسي)) (6/104)، ((تفسير السعدي)) (ص: 363). ؟!
كما قال تعالى: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ [إبراهيم: 32] .
وقال سبحانه: فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ * أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا * ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا * فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا * وَعِنَبًا وَقَضْبًا * وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا * وَحَدَائِقَ غُلْبًا * وَفَاكِهَةً وَأَبًّا * مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ [عبس: 24 - 32] .
أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ والأَبْصَارَ.
أي: أم مَن الذي يملِكُ سَمعَكم وأبصارَكم، ولو شاء لسَلَبَكم إيَّاها [452] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (12/176)، ((تفسير القرطبي)) (8/335)، ((تفسير ابن كثير)) (4/266)، ((تفسير السعدي)) (ص: 363). ؟!
كما قال تعالى: قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ [الملك: 23] .
وقال سُبحانه: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ [الأنعام: 46] .
وَمَن يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ.
أي: ومَنْ يُخرِجُ الشَّيءَ الحَيَّ مِن الشَّيءِ الميِّتِ بقُدرتِه العظيمةِ، فيُخرجُ الإنسانَ الحيَّ والأنعامَ والبهائمَ الأحياءَ من النُّطَف الميِّتةِ، ويُخرِجُ الزَّرعَ من الحَبَّةِ، والنَّخلةَ من النَّواةِ، والدَّجاجةَ مِن البيضةِ، والمؤمنَ من الكافِر، إلى غيرِ ذلك [453] يُنظر: ((البسيط)) للواحدي (11/187)، ((تفسير ابن عطية)) (3/118)، ((تفسير ابن كثير)) (4/266)، ((تفسير السعدي)) (ص: 363). ؟!
وَيُخْرِجُ الْمَيَّتَ مِنَ الْحَيِّ.
أي: ومَنْ يُخرِجُ الشَّيءَ الميِّتَ مِن الشَّيءِ الحَيِّ بقُدرتِه العظيمةِ، فيُخرجُ النُّطفةَ الميِّتةَ مِن الإنسانِ الحيِّ والأنعامِ والبهائمِ الأحياءِ، ويُخرجُ الحَبَّةَ من الزَّرع، والنَّواةَ من النَّخلةِ، والبيضةَ من الدَّجاجةِ، والكافرَ من المؤمِن، إلى غيرِ ذلك [454] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (12/176)، ((البسيط)) للواحدي (11/187)، ((تفسير ابن عطية)) (3/118)، ((تفسير ابن كثير)) (4/266)، ((تفسير السعدي)) (ص: 363). ؟!
كما قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ [الأنعام: 95] .
وَمَن يُدَبِّرُ الأَمْرَ.
أي: ومَنْ يُقدِّر أمرَ جَميعِ الخلائِقِ، ويتصَرَّفُ في السَّماءِ والأرضِ بما يشاء [455] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (12/176)، ((تفسير ابن عطية)) (3/118)، ((تفسير القرطبي)) (8/335)، ((تفسير ابن كثير)) (4/266)، ((تفسير السعدي)) (ص: 363). ؟!
كما قال تعالى: إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ [الأعراف: 54] .
وقال عزَّ وجلَّ: يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ [السجدة: 5] .
فَسَيَقُولُونَ اللّهُ.
أي: فسيقولُ المُشرِكونَ: الله وَحدَه هو الذي يرزُقُنا من السَّماءِ والأرضِ، ويَملِكُ السَّمعَ والأبصارَ، ويُخرِجُ الحَيَّ من الميِّتِ، ويُخرِجُ الميِّتَ مِن الحيِّ، ويُدَبِّرُ الأمرَ [456] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (12/176)، ((البسيط)) للواحدي (11/187)، ((تفسير ابن عطية)) (3/118)، ((تفسير القرطبي)) (8/335)، ((تفسير ابن كثير)) (4/266، 267)، ((تفسير السعدي)) (ص: 363). .
فَقُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ.
أي: فقُل- يا مُحمَّدُ- لهؤلاء المُشرِكينَ: أفلا تتَّقونَ الله، وتخافونَ عِقابَه على إصرارِكم على الشِّركِ، فتُخلِصون له العبادةَ؟! فأنتم مُقِرُّونَ أنَّه خالِقُكم ورازِقُكم، ومدبِّرُ أمورِكم [457] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (12/176)، ((تفسير ابن عطية)) (3/118)، ((تفسير الرازي)) (17/247)، ((تفسير القرطبي)) (8/335)، ((تفسير ابن كثير)) (4/267)، ((تفسير السعدي)) (ص: 363)، ((تفسير ابن عاشور)) (11/157). .
كما قال تعالى: قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ [المؤمنون: 86 - 87] .
فَذَلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلاَلُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (32).
فَذَلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ.
أي: فهذا الذي يفعَلُ هذه الأفعالَ؛ فَيرزُقُكم من السَّماءِ والأرضِ، ويَملِكُ السَّمعَ والأبصارَ، ويُخرِجُ الحَيَّ مِنَ الميِّتِ، ويُخرِجُ الميِّتَ مِن الحَيِّ، ويُدَبِّرُ الأمرَ؛ هو المستَحِقُّ للعبادةِ وَحْدَه دونَ ما سواه، وهو ربُّكم الحَقُّ الذي لا شَكَّ فيه [458] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (12/177)، ((تفسير الرازي)) (17/247)، ((تفسير القرطبي)) (8/335)، ((تفسير ابن كثير)) (4/267)، ((تفسير السعدي)) (ص: 363). .
كما قال تعالى: ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ [الحج: 62] .
وعن ابنِ عبَّاسٍ رَضِيَ الله عنهما، ((أنَّ رَسولَ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كان يقولُ إذا قام إلى الصلاةِ مِن جَوفِ اللَّيلِ: اللهمَّ لك الحمدُ، أنت نورُ السَّموات والأرضِ، ولك الحَمدُ، أنت قيَّامُ السَّمواتِ والأرضِ، ولك الحمدُ، أنت ربُّ السَّمواتِ والأرضِ ومَن فيهنَّ، أنت الحقُّ، ووَعدُك الحَقُّ، وقَولُك الحَقُّ، ولِقاؤك حَقٌّ، والجنَّةُ حَقٌّ، والنَّارُ حَقٌّ، والسَّاعةُ حَقٌّ، اللهمَّ لك أسلمتُ، وبك آمنتُ، وعليك توكَّلتُ، وإليك أنَبْتُ، وبك خاصَمتُ، وإليك حاكَمتُ، فاغفِرْ لي ما قدَّمتُ وأخَّرتُ، وأسرَرتُ وأعلَنتُ، أنت إلهي، لا إلهَ إلَّا أنت )) [459] رواه البخاري (1120)، ومسلم (769) واللفظ له. .
فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلاَلُ.
أي: فأيُّ شَيءٍ غيرِ الحقِّ إلَّا الضَّلالُ؟! فلا واسطةَ بين الحَقِّ والباطِلِ، فمن عبدَ غَيرَ اللهِ المستَحِقِّ وَحدَه للعبادةِ، فقد ضلَّ [460] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (12/177)، ((تفسير الزمخشري)) (2/345)، ((تفسير القرطبي)) (8/335، 336)، ((تفسير أبي حيان)) (6/53)، ((تفسير ابن كثير)) (4/267)، ((تفسير الألوسي)) (6/105). .
فَأَنَّى تُصْرَفُونَ.
أي: فكيف يَقَعُ صَرفُكم بعدَ وضوحِ الحقِّ، فتَعدِلونَ عن عبادةِ الله إلى عبادةِ ما سواه، وأنتم تعلمونَ أنَّ الله وَحْدَه هو المتفرِّدُ بالخَلقِ والتَّدبيرِ [461] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (17/247)، ((تفسير القرطبي)) (8/335، 336)، ((تفسير أبي حيان)) (6/53)، ((تفسير ابن كثير)) (4/267)، ((تفسير الشوكاني)) (2/504)، ((تفسير السعدي)) (ص: 363). ؟!
كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُواْ أَنَّهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ (33).
أي: كما صُرِف المُشرِكونَ عَن الحقِّ، واستمرُّوا على شِركِهم، كذلك وجب قضاءُ الله وحُكمُه السَّابِقُ الصادر عن عِلمِه، على الذين خَرَجوا عن الحقِّ إلى الباطِلِ، بأنَّهم لا يُؤمنونَ، وأنَّهم مُعَذَّبونَ [462] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (12/177)، ((البسيط)) للواحدي (11/190 - 192)، ((تفسير الرازي)) (17/248)، ((تفسير القرطبي)) (8/340)، ((تفسير الشوكاني)) (2/504، 505)، ((تفسير ابن كثير)) (4/267). .
كما قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ * وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ [يونس: 96-97] .
وقال سبحانه: وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ [هود: 119] .
وقال عزَّ وجلَّ: وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ [الزمر: 71] .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- في قولِه: قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لم يقتصِرْ برزقِ الناسِ على جهةٍ واحدةٍ؛ ليُفيضَ عليهم نعمتَه، ويوسِّعَ رحمتَه [463]  يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (2 /345). .
2- قَولُ الله تعالى: قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ يدلُّ على أنَّ المُخاطَبينَ بهذا الكلامِ كانوا يَعرِفونَ اللهَ تعالى، ويُقِرُّونَ به، وهم الذين قالوا في عبادَتِهم للأصنامِ: (إنَّها تقَرِّبُنا إلى الله زُلفى، وإنَّهم شفعاؤنا عند الله)، وكانوا يعلمونَ أنَّ هذه الأصنامَ لا تنفَعُ ولا تضُرُّ [464] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (17/247). .
3- قَولُ اللهِ تعالى: قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ * فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ فيه تقريرُ أنَّ التَّوحيدَ لا يصِحُّ مع الفَصلِ بين الربوبيَّةِ والألوهيَّة، كما كانوا يفعلونَ، فيقرُّونَ بتوحيدِ الرُّبوبيَّةِ دونَ توحيدِ الألوهيَّةِ [465] يُنظر: ((تفسير المنار)) لمحمد رشيد رضا (11/293). .
4- في قَولِه تعالى: قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ بيانُ أنَّ المُشرِكينَ لم يكونوا يُسَوُّونَ بين آلِهَتِهم وبين اللهِ في كُلِّ شَيءٍ، بل كانوا يؤمِنونَ بأنَّ اللهَ هو الخالقُ المالِكُ لهم، وهم مخلوقونَ مَملوكونَ له، ولكنْ كانوا يُسَوُّونَ بينه وبينها في المحبَّةِ والتَّعظيمِ، والدُّعاءِ والعبادةِ والنَّذرِ لها، ونحوِ ذلكِ مما يُخَصُّ به الرَّبُّ سُبحانَه [466] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (13/18). .
5- التَّدبيرُ يُضافُ إلى اللهِ تارةً؛ وإلى الملائكةِ تارةً، فيُضافُ إلى الله تعالى أمرًا وإذنًا ومَشيئةً، كقولِه تعالى عن نَفسِه: وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ، ويُضافُ إلى الملائكةِ تارةً أخرى؛ لِكَونِهم هم المباشِرينَ والمُمتَثلينَ للتَّدبيرِ، قال تعالى: فَالمُدَبِّراتِ أَمْرًا [النازعات: 5] ، وهذا كما أضاف التوفِّيَ إليهم تارةً، كقوله تعالى: تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا [الأنعام: 61] ؛ وإليه تارةً، كقوله تعالى: اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ [467] يُنظر: ((إغاثة اللهفان)) لابن القيم (2/130). [الزمر: 42] .
6- قول الله تعالى: فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ عبَّرَ عن الباطِلِ بالضَّلالِ؛ لأنَّ الضَّلالَ أشنَعُ أنواعِ الباطلِ [468] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (11/159). .
7- في قَولِه تعالى: فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ بيانُ أنَّ مَن عَبَدَ غيرَ اللهِ، فما عَبَدَ إلَّا الضلالَ المحضَ، والباطلَ البَحتَ [469] يُنظر: ((طريق الهجرتين)) لابن القيم (ص: 347). ، فاللهُ تعالى هو الإلهُ الذي يُعبَدُ بحَقٍّ، وعبادَتُه وَحْدَه هي الهُدى، فما سواها من عبادةِ الشُّركاءِ والوُسَطاءِ ضَلالٌ، فكُلُّ مَن يَعبُدُ غَيرَه معه، فهو مُشرِكٌ مُبطِلٌ ضالٌّ [470] يُنظر: ((تفسير المنار)) لمحمد رشيد رضا (11/293). .
8- قَولُ الله تعالى: فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ فيه مِن قواعِدِ العقائِدِ الدينيَّةِ، وأصولِ التَّشريعِ والعِلمِ، أنَّ الحَقَّ والباطِلَ ضِدَّانِ لا يَجتَمِعانِ، وأنَّ الهُدى والضَّلالَ ضِدَّانِ لا يجتَمِعانِ، ولهذا الأصلِ فروعٌ كثيرةٌ في الدِّينِ والعِلمِ العَقليِّ [471] يُنظر: ((تفسير المنار)) لمحمد رشيد رضا (11/293-294). .
9- الكلامُ المذكورُ في قوله تعالى: كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ هو الكلامُ الكونيُّ، ويقابلُه: الكلامُ الدينيُّ- وهو الذي يأمُرُ به ويَنهى- كما في قولِه تعالى: وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ [472] يُنظر: ((شفاء العليل)) لابن القيم (ص: 282). [التوبة: 6] .

بلاغة الآيات:

1- قوله تعالى: قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ
- قولُه تعالى: قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ استفهامٌ تقريريٌّ، وجاء الاستدلالُ بطريقِ الاستفهامِ والجوابِ؛ لأنَّ ذلك في صورةِ الحوارِ، فيكون الدَّليلُ الحاصلُ به أوقَعَ في نُفوسِ السَّامِعين [473] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (11/155). .
- وفي قولِه تعالى: قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ مُناسَبةٌ حسنةٌ، حيثُ قال اللهُ تعالى هنا: قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ.... فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ، وفي سورةِ سبَأٍ قال: قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ [سبأ: 24] ، فأفرَد لفْظَ السَّماءِ في الأولى، وجمَعه في الثَّانيةِ مع اتِّحادِ المعنى، والتَّساوي في ألفاظِ الآيتَينِ غير ما ذُكِر، وقال في يونُسَ: فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ وقال في سبأٍ قُلِ اللَّهُ ووجهُ ذلك: أنَّ الآياتِ التي في يونُسَ سِيقَت مَساقِ الاحتجاجِ عليهم بما أقَرُّوا به ولم يُمكِنْهم إنكارُه، مِن كَونِ الرَّبِّ تعالى هو رازِقَهم ومالِكَ أسماعِهم وأبصارِهم ومُدَبِّرَ أمورِهم وغيرِها، ومُخرِجَ الحَيِّ مِن المَيِّتِ، والمَيِّتِ مِن الحيِّ، فلمَّا كانوا مقِرِّينَ بهذا كُلِّه، حَسُنَ الاحتجاجُ به عليهم أنَّ فاعِلَ هذا هو اللهُ الذي لا إلهَ غَيرُه، فكيف يعبُدونَ معه غيرَه، ويجعلونَ له شُرَكاءَ لا يَملِكونَ شَيئًا من هذا، ولا يستطيعونَ فِعلَ شَيءٍ منه؟! ولهذا قال- بعد أن ذكَرَ ذلك مِن شأنِه تعالى: فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ أي: لا بُدَّ أنَّهم يُقِرُّونَ بذلك ولا يَجحَدونَه، فلا بدَّ أن يكونَ المذكورُ ممَّا يُقِرُّونَ به، والمُخاطَبونَ المحتَجُّ عليهم بهذه الآيةِ إنَّما كانوا مُقرِّينَ بنُزولِ الرِّزقِ مِن قِبَلِ هذه السَّماءِ التي يشاهِدونَها بالحِسِّ، ولم يكونوا مقِرِّينَ ولا عالِمينَ بنُزولِ الرِّزقِ مِن سَماءٍ إلى سماءٍ حتى تنتهيَ إليهم، ولم يصِلْ عِلمُهم إلى هذا، فأُفرِدَ لفظُ السَّماءِ هنا؛ فإنَّه لا يمكِنُهم إنكارُ مَجيءِ الرِّزقِ منها، لا سيَّما والرِّزقُ هاهنا إن كان هو المطرَ، فمجيئُه من السَّماءِ التي هي السَّحابُ؛ فإنَّه يُسمَّى سَماءً لعُلُوِّه، فلمَّا انتظمَ هذا بذِكرِ الاحتجاجِ عليهم، لم يصلُحْ فيه إلَّا إفرادُ السَّماءِ؛ لأنَّهم لا يُقِرُّونَ بما ينزِلُ من فوقِ ذلك من الأرزاقِ العظيمةِ للقُلوبِ والأرواحِ، ولا بُدَّ من الوحيِ الذي به الحياةُ الحقيقيَّةُ الأبديَّةُ، وهو أَولى باسمِ الرِّزقِ مِن المطَرِ الذي به الحياةُ الفانيةُ المنقَضِيةُ، فما يَنزِلُ من فوقِ ذلك مِن الوحيِ والرَّحمةِ والألطافِ والمواردِ الربَّانيَّة والتنَزُّلاتِ الإلهيَّة، وما به قِوامُ العالَمِ العُلويِّ والسُّفليِّ- مِن أعظَمِ أنواعِ الرِّزقِ، ولكِنَّ القَومَ لم يكونوا مقِرِّينَ به فخُوطِبوا بما هو أقرَبُ الأشياءِ إليهم، بحيث لا يُمكِنُهم إنكارُه.
وأمَّا الآيةُ التي في سورة سبأ فلم يَنتظِمْ بها ذِكرُ إقرارِهم بما يَنزِلُ مِن السَّمواتِ؛ ولهذا أمَرَ رسولَه بأن يتولَّى الجوابَ فيها، ولم يذكُرْ عنهم أنَّهم المُجيبونَ المُقِرُّونَ، فقال: قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ ولم يقُل: (سَيقُولونَ اللهُ) فأمرَ تعالى نبيَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أن يُجيبَ بأنَّ ذلك هو اللهُ وَحدَه الذي يُنزِلُ رِزقَه على اختلافِ أنواعِه ومنافِعِه من السَّمواتِ السَّبعِ، وأمَّا الأرضُ فلم يَدْعُ السِّياقُ إلى جَمعِها في واحدةٍ مِن الاثنتَينِ؛ إذ يُقِرُّ به كُلُّ أحدٍ؛ مُؤمِنٍ وكافرٍ، وبَرٍّ وفاجرٍ [474] يُنظر: ((بدائع الفوائد)) لابن القيم (1/117). .
وقيل: إنَّ الإفرادَ الوارِدَ في آيةِ يونُسَ مُحصِّلٌ للمعنى مع الإيجازِ، وأمَّا الواردُ في سورةِ سبَأٍ على الجمعِ فرُوعِيَ فيه ما تقَدَّم مِن قولِه تعالى: قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ [سبأ: 22] ، والمرادُ بذلك: نَفْيُ الشُّرَكاءِ له تعالى، ثمَّ عاد الكلام إلى ذلك أيضًا، فقال تعالى: قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ على الجمعِ مُناسَبةً؛ إذِ الآيةُ قبلَ هذه في قضيَّةٍ واحدةٍ، وهي نفيُ الشُّركاءِ والأندادِ، فجاءت على ما يُناسِبُ الَّتي قبلَها [475] يُنظر: ((ملاك التأويل)) لأبي جعفر الغرناطي (1/240-241). .
- قولُه تعالى: أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ فيه إفرادُ السَّمعِ؛ لأنَّه مصدَرٌ فهو دالٌّ على الجنسِ الموجودِ في جميعِ حواسِّ النَّاسِ، وأمَّا الأبصارُ فجيءَ به جمعًا؛ لأنَّه اسمٌ، فهو ليس نصًّا في إفادةِ العمومِ؛ لاحتمالِ توَهُّمِ بصَرٍ مخصوصٍ، فكان الجمعُ أدَلَّ على قصدِ العمومِ، وأنفى لاحتمالِ العهدِ [476] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (11/156). . وقيل: وحَّدَ السَّمعَ؛ لأنَّ إدراكَه لِجنسٍ واحدٍ هو الأصواتُ، وجمع البَصرَ لِتَعدُّدِ أجناسِ المُبصَراتِ [477] يُنظر: ((تفسير المنار)) لمحمد رشيد رضا (11/291). ، وأفرَد البصرَ في سورةِ الإسراءِ، في قولِه: إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا[الإسراء: 36] ؛ لأنَّ المرادَ الواحدُ لكلِّ مخاطَبٍ بقولِه: وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ [478] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (11/156). [الإسراء: 36] .
- وخَصَّ هاتين الحاسَّتينِ بالذِّكرِ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ؛ لأنَّ عليهما مدارَ الحياةِ الحيوانيَّة، وكمالَ البَشَريَّة، وتحصيلَ العلومِ الأوَّلية [479] يُنظر: ((تفسير المنار)) لمحمد رشيد رضا (11/291). . وفيه وجهٌ آخرُ: أنَّه خَصَّهما بالذِّكرِ مِن بابِ التَّنبيهِ على المفضولِ بالفاضِلِ، ولكمالِ شَرَفِهما ونَفْعِهما [480] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص:363)، وينظر أيضًا: ((تفسير أبي حيان)) (6/53). ، ولما فيهما مِن الصنعةِ العجيبةِ، والقدرةِ الباهرةِ العظيمةِ [481] يُنظر: ((تفسير الشوكاني)) (2/504). .
- قولُه: وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ: فيه الإتيانُ بالعُمومِ بعدَ الخُصوصِ [482] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (2 /345). ، فلَمَّا ذكَرَ تعالى التَّفصيلَ في قوله: قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ؛ ذكَرَ بعده كلامًا كليًّا، وهو قَولُه: وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ؛ وذلك لأنَّ أقسامَ تَدبيرِ اللهِ تعالى في العالَمِ العُلويِّ، وفي العالَم السُّفليِّ، وفي عالَمَي الأرواحِ والأجسادِ، أمورٌ لا نهايةَ لها، وذِكرُ كُلِّها كالمتعَذِّر، فلمَّا ذكَرَ بعضَ تلك التفاصيلِ؛ لا جرَمَ عَقَّبَها بالكلامِ الكُليِّ؛ لِيدُلَّ على الباقي [483] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (17/247). ، وإيثارُ صيغةِ المضارِعِ؛ للدَّلالةِ على تَجدُّدِ التَّدبيرِ واستمرارِه [484] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (4 /118). .
2- قولُه تعالى: فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ
- قولُه: فَذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ فَذْلَكةٌ لِما تقدَّم، أي: ذلكم الذي اعترَفتُم باتِّصافِه بالنُّعوتِ المذكورةِ هو اللهُ، واسمُ الإشارةِ عائدٌ إلى اسمِ الجلالةِ؛ للتَّنبيهِ على أنَّ المشارَ إليه جَديرٌ بالحُكمِ الَّذي سيُذكَرُ بعدَ اسْمِ الإشارةِ، من أجْلِ الأوصافِ المتقدِّمةِ على اسمِ الإشارةِ، وهي كونُه الرَّازِقَ، الواهبَ الإدراكِ، الخالِقَ، المدبِّرَ؛ لأنَّ اسْمَ الإشارةِ قد جمَعها [485] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (2/345)، ((تفسير أبي السعود)) (4/142)، ((تفسير ابن عاشور)) (11/158). .
- قولُه: فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ الاستفهامُ هنا إنكاريٌّ في معنى النَّفيِ، أي: إنكارُ الواقعِ ونَفيُه واستبعادُه؛ ولذلك وقَع بعدَه الاستثناءُ في قولِه: إِلَّا الضَّلَالُ؛ فلذلك دخلَت (إلَّا)، وصَحِبَه التَّقريرُ والتَّوبيخُ، والتَّقديرُ: ليس بَعْدَ الحقِّ إلَّا الضَّلالُ، فمَن تَخطَّى الحقَّ الَّذي هو عبادةُ اللهِ تعالى وقَعَ في الضَّلالِ، وفيه مِن المبالَغةِ ما ليس في توجيهِ الإنكارِ إلى نفْسِ الفِعلِ؛ لأنَّ كلَّ موجودٍ لا بدَّ مِن أن يَكونَ وُجودُه على حالٍ مِن الأحوالِ قَطعًا، فإذا انتَفى جميعُ أحوالِ وُجودِه، فقد انتَفى وجودُه، والضَّلالُ هو الباطلُ الضَّائعُ المضمَحِلُّ؛ وإنَّما سُمِّي بالمصدَرِ مُبالَغةً، كأنَّه نفْسُ الضَّلالِ والضَّياعِ [486] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (3/112)، ((تفسير أبي حيان)) (6/53)، ((تفسير أبي السعود)) (4/142)، ((تفسير ابن عاشور)) (11/158). .
- وقولُه: فَأَنَّى تُصْرَفُونَ استفهامٌ إنكاريٌّ، بمعنى إنكارِ الواقعِ واستبعادِه، والتَّعجُّبِ منه [487] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (4/142). قال الألوسي: (الإنكارُ والتعجبُ متوجِّهانِ في الحقيقةِ إلى منشأِ الصرفِ، وإلَّا فنفسُ الصرفِ منه تعالى، على ما هو الحقُّ، فلا معنَى لإنكارِه، والتعجُّبِ منه مع كونِه فعلَه جلَّ شأنُه، وإنَّما لم يُسندِ الفعلَ إلى الفاعلِ؛ لعدمِ تعلُّقِ غرضٍ به). ((تفسير الألوسي)) (6/105، 106). .
- وفي إيثارِ صيغةِ المبنيِّ للمفعولِ تُصْرَفُونَ إيذانٌ بأنَّ الانصِرافَ مِن الحقِّ إلى الضَّلالِ ممَّا لا يَصدُرُ عن العاقلِ بإرادتِه، وإنَّما يقَعُ عندَ وُقوعِه مِن جهةِ صارِفٍ خارجيٍّ [488] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (4/142). .
- قولُه: كَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ تذييلٌ للتَّعجُّبِ مِنِ استِمْرارِهم على الكفرِ بعدَما ظهَر لهم مِن الحُجَجِ والآياتِ، وتَأْييسٌ مِن إيمانِهم، بإفادةِ أنَّ انتِفاءَ الإيمانِ عنهم بتقديرٍ مِن اللهِ تعالى عليهم؛ فقد ظهَر وُقوعُ ما قدَّره مِن كلمتِه في الأزَلِ [489] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (11/159). .
- وفي قولِه تعالى: كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ مُناسَبةٌ حسَنةٌ، حيث قال اللهُ تعالى هنا: كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ، بينَما قال في سورةِ غافِرٍ: وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ [غافر: 6] ، ففي الأولى قال: كَذَلِكَ، وفي سورةِ غافرٍ قال: وَكَذَلِكَ بالواوِ، وقال في الأولى: عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا، وفي الثَّانيةِ: عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا، وقال في الأولى: أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونُ، وفي الثَّانيةِ: أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ؛ ووجهُ تركِ الواوِ في هذا الموضعِ كَذَلِكَ وإثباتِها في سورةِ غافرٍ وَكَذَلِكَ: أنَّ القصَّةَ بعد كَذَلِكَ هي الَّتي قَبْلَها؛ فهي مرتبطةٌ بها بِعَودِها إليها، وبكافِ التَّشبيهِ؛ فاستغنَت بهذين الرَّابِطَينِ عن حرفِ العطفِ، وهؤلاء الَّذين حقَّت عليهم كلمةُ اللهِ أنَّهم لا يُؤمنون، هم الَّذين خُوطبوا بقولِه: قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، وليس كذلك ما في سورةِ غافرٍ؛ لأنَّه وإن تَعلَّق به بكافِ التَّشبيهِ فإنَّه يَنقَطِعُ عنه بأنَّ المذكورين بعدَ كَذَلِكَ غيرُ المذكورين قبلَها؛ فقولُه: كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ [غافر: 5] خبرٌ عن الَّذين كانوا قبلَ النَّبيِّ، وما بعدَه مِن قولِه: وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ إنَّما هو وعيدٌ لِمَن هو في عصرِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ؛ فلمَّا انقطَع ما بعدَ (كَذَلِكَ) عمَّا قبلَها احتاج إلى الواوِ، وما في سورةِ يونُسَ لَمَّا لم ينقَطِعْ ما بعدَها عمَّا قبلَها، لم يحتَجْ إليها.
ووجهُ اختصاصِ ما في سورةِ يونُسِ بقولِه: عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا، واختصاصُ ما فيِ سورةٍ غافر بقولِه: عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا؛ فلأنَّ الأوَّلَ في ذِكرِ قومٍ أخبَر عنهم بقولِه: قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ [يونس: 31] ، فأخَذ إقرارَهم بأنَّ اللهَ تعالى هو الَّذي يَرزُقُهم مِن مطرِ السَّماءِ، ونباتِ الأرضِ، وهو الَّذي يَملِكُ أسماعَهم وأبصارَهم، وهو الَّذي يُخرِجُ الحيَّ مِن الميِّتِ، وأنَّه هو الَّذي يُدبِّرُ أمورَ الخلقِ مِن ابتداءِ أحوالِهم إلى انتهاِئها، وكانوا ممَّن أخبَر اللهُ تعالى عنهم بقولِه: وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى [الزمر: 3] ، فبايَنوا بإثباتِ الخالقِ وما زعَموه مِن معرفةِ الخالقِ، وقد أنكَروه وجحَدوا بآياتِه، وفسَقوا- بأنْ عبَدوا معه غيرَه ولم يُثبِتوا النَّبيَّ ونُبوَّتَه- الفسْقَ الَّذي هو كفرٌ، لا يَنفَعُ معه الإقرارُ الأوَّلُ، فقال تعالى: هَؤُلَاءِ الَّذين أقَرُّوا بالخالقِ وصفاتِ فِعلِه، ثمَّ خرَجوا عمَّا دخَلوا فيه بإنكارِ نُبوَّةِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وبعبادةِ آلهةٍ مع اللهِ تعالى، كان ذلك فسقًا؛ لخُروجِهم عن حُكمِ مَن يُقِرُّ بما أقَرُّوا به، والفسقُ فسقان: كفرٌ، وفسقٌ ليس بكفرٍ؛ فأخبَر عن هؤلاء بـ الَّذِينَ فَسَقُوا في سورةِ يونُسَ لذلك.
وأمَّا في سورةِ غافرٍ فإنَّه لم يتَقدَّمْه مثلُ ما تقدَّم هنا، بل قال تعالى قبلَه: مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلَادِ * كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ [غافر: 4-5] ؛ فأخبَر عن الكفَّارِ الَّذين في عصرِه بأنَّهم كفَروا بمُجادَلتِهم في آياتِ اللهِ، فشبَّههم بالقومِ الَّذين مضَوْا قبلَهم؛ حيث قال: وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ، ثمَّ قال تعالى: وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ، فلمَّا أراد الَّذين قدَّم ذِكرَهم مِن أوَّلِ القصَّةِ، كان وصفُهم بما وصَفَهم به قبلُ مِن الكفرِ أولى وأدَلَّ على أنَّ المعنَيَين بوجوبِ النَّارِ لهم.
ووجهُ مُناسبةِ قولِه تعالى هنا في سورةِ يونُسَ: أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ، وقولُه في سورةِ غافرٍ: أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ [غافر: 6] : أنَّه تعالى أراد أن يُبيِّنَ في سورةِ يونُسَ أنَّهم- وإن أقَرُّوا باللهِ تعالى، وأثبَتوه خالِقًا قادِرًا- غيرُ مؤمنين، وما داموا يَعبُدون غيرَه لا يُؤمِنون؛ فالقصدُ إلى إبطالِ ما بذَلوه بألسِنَتِهم من الإقرارِ بخالقِهم، والمرادُ في آيةِ غافرٍ توَعُّدُهم على كُفرِهم بالنَّارِ؛ إذ لم يتَقدَّمْ ذِكرُ إقرارٍ يُشبِهُ إقرارَ المؤمنين، فيَبطُلُ بتَركِهِم سائرَ ما أمر اللهُ تعالى به؛ فجاء كلٌّ على ما يُناسِبُ السِّياقَ [490] يُنظر: ((درة التنزيل وغرة التأويل)) للإسكافي (2/736-741)، ((ملاك التأويل)) لأبي جعفر الغرناطي (1/241-242). .