موسوعة التفسير

سورةُ الحَجِّ
الآيتان (61-62)

ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ

غريب الكلمات:

يُولِجُ: أي: يُدخِلُ، وأصلُ (ولج): يدُلُّ على دُخولِ شَيءٍ [967] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 103)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 161)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (6/142)، ((المفردات)) للراغب (ص: 882، 883))، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 120). .

المعنى الإجمالي:

يقولُ تعالى: ذلك النَّصرُ المَذكورُ كائِنٌ بسَبَبِ أنَّه سُبحانَه قادِرٌ لا يَعجِزُ عن نُصرةِ مَن شاء نُصرَتَه، ومِن قُدرتِه أنَّه يُدخِلُ اللَّيلَ في النَّهارِ، ويُدخِلُ النَّهارَ في اللَّيلِ، فيَزيدُ في أحَدِهما ما يَنقُصُه مِنَ الآخَرِ، وبالعَكسِ، وأنَّ اللهَ سَميعٌ لكُلِّ صَوتٍ، بصيرٌ بكُلِّ فِعلٍ، لا يخفى عليه شَيءٌ. ذلك بأنَّ اللهَ هو الإلهُ الحَقُّ الذي لا تنبغي العبادةُ إلَّا له، وأنَّ ما يَعبُدُه المُشرِكونَ مِن دُونِه مِنَ الأصنامِ والأندادِ هو الباطِلُ الذي لا يَنفَعُ ولا يَضُرُّ، وأنَّ اللهَ هو العليُّ الكبيرُ.

تفسير الآيتين:

ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (61).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
تعَلُّقُ هذه الآيةِ بما قَبلَها مِن ثلاثةِ أوجهٍ:
الأوَّل: ذَلِكَ أي: ذلك النَّصرُ بسَبَبِ أنَّه قادِرٌ، ومِن آياتِ قُدرتِه البالغةِ كَونُه خالِقًا لِلَّيلِ والنَّهارِ، ومتصَرِّفًا فيهما؛ فوجَبَ أن يكونَ قادِرًا عالِمًا بما يَجري فيهما، وإذا كان كذلك كان قادِرًا على النَّصرِ مُصيبًا فيه.
الثاني: المرادُ أنَّه سُبحانَه مع ذلك النَّصرِ يُنعِمُ في الدُّنيا بما يَفعَلُه مِن تعاقُبِ اللَّيلِ والنَّهارِ، وولوجِ أحَدِهما في الآخَرِ [968] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (23/245). .
الثالث: أنَّه لَمَّا ختَمَ بهَذينِ الوَصفَينِ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ، ذكَرَ مِنَ الدَّليلِ عليهما أمرًا جامِعًا للمَصالحِ، عامًّا للخلائِقِ، يكونُ فيه وبه الإحسانُ بالخَلقِ والرِّزقِ؛ فقال [969] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (13/80). :
ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ.
أي: ذلك النَّصرُ المَذكورُ [970] ممَّن اختار أنَّ الإشارةَ بـ ذَلِكَ إشارةٌ إلى نَصرِ المَظلومِ على الظَّالمِ، المذكورِ في الآياتِ السَّابقةِ: ابنُ جرير، وابن الجوزي، والرسعني، والرازي، والقرطبي، والشوكاني، وابن عاشور. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/621)، ((تفسير ابن الجوزي)) (3/248)، ((تفسير الرسعني)) (5/87)، ((تفسير الرازي)) (23/245)، ((تفسير القرطبي)) (12/90)، ((تفسير الشوكاني)) (3/550)، ((تفسير ابن عاشور)) (17/315). وقيل: المرادُ بالإشارةِ: مَعرِفةُ اتِّصافِه سُبحانَه بالوَصفَينِ المَذكورينِ في الآيةِ السَّابقةِ: إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ. وممَّن قال بهذا المعنى: البقاعي. يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (13/80). وقيل: المرادُ: ذلك الذي شرَعَ لكم تلك الأحكامَ الحَسَنةَ العادِلةَ، هو حَسَنُ التصَرُّفِ في تقديرِه وتَدبيرِه، الذي يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ. وممن قال بهذا المعنى: السعديُّ. يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 543). واختار الشنقيطيُّ أنَّ الإشارةَ ترجِعُ لقولِه: الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ [الحج: 56] ، إلى ما ذَكَره مِن نُصرةِ المظلومِ، أي: ذلك المذكورُ مِن كونِ الملكِ له وحْدَه يومَ القيامةِ، وأنَّه الحاكمُ وحْدَه بيْن خَلْقِه، وأنَّه المُدخِلُ الصَّالحين جنَّاتِ النَّعيمِ، والمُعذِّبُ الَّذين كفَروا العذابَ المُهينَ، والنَّاصرُ مَن بُغيَ عليه مِن عِبادِه المؤمِنين؛ بسببِ أنَّه القادرُ على كلِّ شَيءٍ، ومِن أدلَّةِ ذلك: أنَّه يولِجُ الليلَ في النهارِ... إلخ. يُنظر: ((أضواء البيان)) (5/293). كائِنٌ بسَبَبِ أنَّه سُبحانَه قادِرٌ لا يَعجِزُ عن نُصرةِ مَن شاء نُصرَتَه، ومِن علاماتِ قُدرتِه الباهِرةِ أنَّه يُدخِلُ اللَّيلَ في النَّهارِ، ويُدخِلُ النَّهارَ في اللَّيلِ، فيَزيدُ في أحَدِهما ما يَنقُصُه مِنَ الآخَرِ، وبالعَكسِ؛ فتارةً يَطولُ النَّهارُ ويَقصُرُ اللَّيلُ، وتارةً يكونُ بعَكسِ ذلك [971] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/621)، ((تفسير ابن كثير)) (5/449)، ((تفسير الشوكاني)) (3/550)، ((تفسير السعدي)) (ص: 543)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (5/293). وممَّن اختار المعنى المذكورَ لإيلاجِ كلٍّ مِن اللَّيلِ والنَّهارِ في الآخَرِ: ابنُ جرير، وابن كثير، والشوكاني، والسعدي، واستظهره الشنقيطي. يُنظر: المصادر السابقة. وقيل: المراد: إدخالُ ظُلْمةِ هذا في مكانِ ضياءِ ذاك بغيبوبةِ الشَّمسِ، وضياءِ ذاك في مكانِ ظُلمةِ هذا بطُلوعِها. وممَّن قال بهذا المعنى في الجملةِ: الزمخشريُّ، وابن جزي، وابن عاشور. يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/167، 168)، ((تفسير ابن جزي)) (2/45)، ((تفسير ابن عاشور)) (17/315). .
وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ.
أي: وذلك أيضًا بسَبَبِ أنَّه سَميعٌ لِما يقولُ عِبادُه، بَصيرٌ بأحوالِهم وأعمالِهم، حافِظٌ لكُلِّ ذلك، ثمَّ يجازيهم جَميعًا على ما قالوا وما عَمِلوا [972] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/621)، ((تفسير القرطبي)) (12/90)، ((تفسير ابن كثير)) (5/449). قال البِقاعي: (وَأَنَّ اللَّهَ بجَلالِه وعظَمتِه سَمِيعٌ لِما يُمكِن أنْ يُسمع، بَصِيرٌ أي: مُبصِرٌ عالِم لِما يُمكِنُ أنْ يُبصَر، دائمُ الاتِّصافِ بذلك، فهو غَيرُ مُحتاجٍ إلى سُكونِ اللَّيلِ ليَسمعَ، ولا لضياءِ النَّهارِ ليُبصِرَ... وهو لتَمامِ قُدرتِه وعِلمِه لا يَخافُ في عَفْوِه غائلةً، ولا يُمكِنُ أنْ يَفوتَه أمْرٌ). ((نظم الدرر)) (13/80). .
ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (62).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّ ذلك الوَصفَ الَّذي تَقدَّمَ ذِكرُه مِنَ القدرةِ على هذه الأمورِ إنَّما حَصَل لأجْلِ أنَّ اللهَ هو الحقُّ؛ فلا جَرَمَ أتَى بالوعدِ والوعيدِ [973] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (23/246). ، فلمَّا وصَف نفْسَه سُبحانَه بما ليس لغيرِه؛ علَّله بقولِه [974] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (13/80). :
ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ.
أي: ذلك الفِعلُ الذي فعَل -مِن إيلاجِ اللَّيلِ في النَّهارِ، وإيلاجِ النَّهارِ في اللَّيلِ-، واتِّصافُه سبحانَه بكمالِ القدرةِ وتمامِ العلمِ؛ بسَبَبِ أنَّ اللهَ هو الإلهُ الحَقُّ الثَّابِتُ الإلهيَّةِ، الذي يَستحِقُّ العِبادةَ وَحْدَه دونَ ما سِواه [975] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/622)، ((تفسير ابن كثير)) (5/449)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (13/81)، ((تفسير الشوكاني)) (3/550)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (5/293). قال القرطبيُّ: (قولُه تعالى: ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ أي: ذو الحقِّ، فدِينُه الحقُّ، وعِبادتُه حقٌّ. والمؤْمِنون يستحقُّون منه النَّصرَ بحُكمِ وعْدِه الحقِّ). ((تفسير القرطبي)) (12/91). .
وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ.
أي: وأنَّ ما يَدْعوه المُشرِكونَ مِن دُونِ اللهِ مِن الأصنامِ وغَيرِها: هو الباطلُ الذي لا يَنفَعُ ولا يَستَحِقُّ العِبادةَ [976] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/622)، ((تفسير القرطبي)) (12/91)، ((تفسير ابن كثير)) (5/449). قال ابن تيميَّة: (الآلهةُ مَوجودةٌ، ولكِنْ عِبادتُها ودعاؤُها باطِلٌ لا ينفَعُ، والمقصودُ منها لا يَحصُلُ؛ فهو باطِلٌ، واعتِقادُ ألوهيَّتِها باطِلٌ، أي: غيرُ مُطابقٍ، واتِّصافُها بالإلهيَّةِ في أنفُسِها باطِلٌ لا بمعنى أنَّه معدومٌ). ((مجموع الفتاوى)) (5/516). وقال أيضًا: (هو مِن جِهةِ كَونِه مَعبودًا: باطِلٌ لا يُنتَفَعُ به، ولا يحصُلُ لعابِدِه مَقصودُ العبادةِ، وإنْ كان مِن جهةٍ أخرى هو شَمسٌ وقَمرٌ يُنتفَعُ بضيائِه ونُورِه، وهو يَسجُدُ لله ويُسَبِّحُه). ((الرد على الإخنائي)) (ص: 493). .
وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ.
أي: وأنَّ اللهَ هو العالي على كُلِّ شَيءٍ بذاتِه وقَهرِه وقَدْرِه، الكبيرُ في ذاتِه وأسمائِه وصفاتِه، وكلُّ شَيءٍ دُونَه [977] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/622)، ((تفسير البغوي)) (3/349، 350)، ((تفسير ابن كثير)) (5/449)، ((تفسير السعدي)) (ص: 544)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (5/293). .
كما قال تعالى: وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ [البقرة: 255] .
وقال سُبحانَه: الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ [الرعد: 9] .

الفوائد التربوية:

مِن أسماءِ اللهِ تعالى (السَّميعُ البَصيرُ): يَسمَعُ كُلَّ شَيءٍ، ويرى كُلَّ شَيءٍ، لا يخفى عليه دَبيبُ النَّملةِ السَّوداءِ، على الصَّخرةِ الصَّمَّاءِ، في اللَّيلةِ الظَّلماءِ؛ إنْ جهَرْتَ بقَولِك سَمِعَه، وإن أسرَرْتَ به لصاحِبِك سَمِعَه، وإن أخفَيتَه في نَفْسِك سَمِعَه، وأبلَغُ من ذلك أنَّه يَعلَمُ ما تُوسوِسُ به نَفْسُك وإن لم تَنطِقْ به! وإذا آمَنَ الإنسانُ بهذه الصِّفةِ العَظيمةِ -صِفةِ السَّمعِ- فإنَّ إيمانَه بذلك يقتَضي ألَّا يُسمِعَ اللهَ تعالى ما يكونُ سَببًا لغَضَبِه على عَبدِه.
وهو سُبحانَه البَصيرُ: فإنْ فعَلْتَ فِعلًا ظاهِرًا رآك، وإن فعَلْتَ فِعلًا باطِنًا ولو في جَوفِ بَيتٍ مُظلمٍ رآك، وإن تحرَّكْتَ بجَميعِ بدَنِك رآك، وإن حرَّكْتَ عُضوًا مِن أعضائِك رآك، وأبلَغُ مِن ذلك أنَّه يَعلَمُ خائِنةَ الأعيُنِ وما تُخفي الصُّدُورُ [978] يُنظر: ((مجموع فتاوى ورسائل العثيمين)) (6/172). ! فإذا آمَنَ العَبدُ بذلك انبَعَث منه قُوَّةُ الحياءِ، فيَسْتَحِي مِن رَبِّه أن يرَاهُ على مَا يَكرَهُ، أو يَسمَعَ منه ما يَكرَهُ، أو يُخفيَ في سَريرتِه ما يَمقُتُه عليه؛ فتبقى حَرَكاتُه وأقوالُه وخواطِرُه مَوزونةً بميزانِ الشَّرعِ، غيرَ مُهمَلةٍ ولا مُرسَلةٍ تحت حُكمِ الطَّبيعةِ والهَوى [979] يُنظر: ((الفوائد)) لابن القيم (ص: 70). .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- قَولُ اللهِ تعالى: ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ فيه سُؤالٌ: أيُّ تعَلُّقٍ لقَولِه: وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ بما تقَدَّمَ؟
 الجوابُ: المرادُ أنَّه كما يَقدِرُ على ما لا يَقدِرُ عليه غَيرُه، فكذلك يُدرِكُ المَسموعَ والمُبصَرَ، ولا يجوزُ المنعُ عليه، ويكونُ ذلك كالتَّحذيرِ مِنَ الإقدامِ على ما لا يجوزُ في المَسموعِ والمُبصَرِ [980] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (23/246). . وفيه وجهٌ آخَرُ: أنَّ عَطفَ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ على السَّبَبِ؛ للإشارةِ إلى عِلمِ اللهِ بالأحوالِ كُلِّها؛ فهو يَنصُرُ مَن يَنصُرُه بعِلمِه وحِكمَتِه، ويَعِدُ بالنَّصرِ مَن عَلِمَ أنَّه ناصِرُه لا محالةَ، فلا يَصدُرُ منه شَيءٌ إلَّا عن حِكمةٍ [981] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (17/316). .
2- في قَولِه تعالى: ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ دَلالةٌ على أنَّ الحقَّ مِن أسماءِ الله الحُسنى [982] يُنظر: ((لقاء الباب المفتوح)) لابن عثيمين (اللقاء رقم: 143). .

بلاغة الآيتين:

1- قَولُه تعالى: ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ
- قولُه: ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ ذَلِكَ إشارةٌ إلى الكَلامِ السَّابقِ الدَّالِّ على تَكفُّلِ النَّصرِ؛ فإنَّ النَّصرَ يَقْتضي تَغليبَ أحَدِ الضِّدَّينِ على ضِدِّهِ، وإقحامِ الجيشِ في الجيشِ الآخَرِ في المَلْحمةِ، فضَرَب له مثَلًا بتَغليبِ مُدَّةِ النَّهارِ على مُدَّةِ اللَّيلِ في بَعْضِ السَّنةِ، وتَغليبِ مُدَّةِ اللَّيلِ على مُدَّةِ النَّهارِ في بَعضِها؛ لِمَا تَقرَّرَ مِن اشتهارِ التَّضادِّ بينَ اللَّيلِ والنَّهارِ. ويجوزُ أنْ يكونَ اسمُ الإشارةِ تَكريرًا لشَبِيهِه السَّابقِ؛ لقَصرِ تَوكيدِه؛ لأنَّه مُتَّصِلٌ به؛ لأنَّ جُملةَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ ... إلخ، مُرتبِطةٌ بجُملةِ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ  ... إلخ [983] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (17/316). . وما في اسمِ الإشارةِ ذَلِكَ مِن معنى البُعدِ؛ للإيذانِ بعُلُوِّ رُتْبَةِ ذلك النَّصرِ [984] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/117). .
- والجَمْعُ بين ذِكْرِ إيلاجِ اللَّيلِ في النَّهارِ وإيلاجِ النَّهارِ في اللَّيلِ؛ للإشارةِ إلى تقلُّبِ أحوالِ الزَّمانِ؛ فقد يَصِيرُ المغلوبُ غالِبًا، ويَصيرُ ذلك الغالِبُ مَغلوبًا، مع ما فيه مِن التَّنبيهِ على تَمامِ القُدرةِ بحيث تَتعلَّقُ بالأفعالِ المُتضادَّةِ، ولا تَلزَمُ طَريقةً واحدةٍ كقُدرةِ الصُّنَّاعِ من البشَرِ. وفيه: إدماجُ التَّنبيهِ بأنَّ العذابَ الَّذي استبطأَهُ المُشرِكون مَنوطٌ بحُلولِ أجَلِه، وما الأجَلُ إلَّا إيلاجُ ليلٍ في نَهارٍ، ونَهارٍ في لَيلٍ. وفي ذِكْرِ اللَّيلِ والنَّهارِ في هذا المَقامِ: إدماجُ تَشبيهِ الكُفْرِ باللَّيلِ، والإسلامِ بالنَّهارِ؛ لأنَّ الكُفْرَ ضَلالةُ اعتقادٍ، فصاحِبُه مِثْلُ الَّذي يَمْشي في ظُلمةٍ، ولأنَّ الإيمانَ نُورٌ يَتجلَّى به الحقُّ والاعتقادُ الصَّحيحُ، فصاحِبُه كالَّذي يَمْشي في النَّهارِ، ففي هذا إيماءٌ إلى أنَّ الإيلاجَ المقصودَ هو ظُهورُ النَّهارِ بعْدَ ظُلمةِ اللَّيلِ، أي: ظُهورُ الدِّينِ الحقِّ بعْدَ ظُلمةِ الإشراكِ؛ ولذلك ابتُدِئَ في الآيةِ بإيلاجِ اللَّيلِ في النَّهارِ، أي: دُخولِ ظُلمةِ اللَّيلِ تحْتَ ضَوءِ النَّهارِ. وقولُه: وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ تَتميمٌ [985] التَّتميم: من أنواعِ إطنابِ الزِّيادةِ، وهو الإتيانُ بكلمةٍ أو كلامٍ مُتمِّمٍ للمقصودِ، أو لزِيادةٍ حَسنةٍ، بحيثُ إذا طُرِحَ من الكلام نقَصَ معناه في ذاتِه، أو في صِفاتِه. أو هو الإتيانُ في كلامٍ لا يُوهِمُ غيرَ المرادِ بفَضلةٍ تُفيدُ نُكتةً. أو هو إردافُ الكلامِ بكَلمةٍ تَرفعُ عنه اللبسَ، وتُقرِّبُه للفَهمِ، ومِن أمثلةِ التتميمِ قوله تعالى: وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ [النساء: 124] ؛ فقوله: وَهُوَ مُؤْمِنٌ تتميمٌ في غايةِ الحُسنِ. ومنه قولُه تعالى: وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ [البقرة: 206] ؛ وذلك أنَّ العِزَّةَ محمودةٌ ومذمومةٌ، فلمَّا قال: بِالْإِثْمِ اتَّضحَ المعنى وتَمَّ، وتبيَّن أنَّها العزةُ المذمومةُ المُؤثَّمُ صاحِبُها. يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (1/120) و(2/333)، ((إعراب القرآن وبيانه)) لمحيي الدين درويش (1/44)، ((مفاتيح التفسير)) لأحمد سعد الخطيب (1/49 - 51) و(1/240، 241). ؛ لإظهارِ صَلاحيَّةِ القُدرةِ الإلهيَّةِ [986] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (17/315، 316). .
- وقولُه: وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ مِن بابِ التَّكميلِ [987] التكميلُ هو الاحتراسُ، والفَرقُ بينه وبين التَّتميم: أنَّ الاحتراسَ يجبُ أنْ يكونَ لرَفْعِ إيهامِ خِلافِ المقصودِ، وأمَّا التتميم فإنَّه يكونُ في كلامٍ لا يُوهِمُ خِلافَ المقصودِ؛ فالنِّسبةُ بيْنهما إذَنْ هي التباينُ. يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (1/120) و(2/333)، ((إعراب القرآن وبيانه)) لمحيي الدين درويش (1/44)، ((مفاتيح التفسير)) لأحمد سعد الخطيب (1/49 - 51) و(1/240، 241). ، إذا كان المعنى: ذلك النَّصرُ بسبَبِ أنَّه قادِرٌ، ومِن آياتِ قُدرتِه البالغةِ أنَّه يُولِجُ اللَّيْلَ... أو مِن بابِ التَّتميمِ، إذا كان المعنى: ذلك بسبَبِ أنَّه خالِقُ اللَّيلِ والنَّهارِ [988] يُنظر: ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (10/520). .
2- قَولُه تعالى: ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ
- قولُه: ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ ذَلِكَ إشارةٌ إلى الاتِّصافِ بما ذُكِرَ مِن كَمالِ القُدرةِ والعِلْمِ، وما فيه مِن معنى البُعدِ؛ للإيذانِ بعُلُوِّ رُتْبَتِه [989] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/117). .
- والقَصرُ المُسْتفادُ مِن ضَميرِ الفَصلِ في قولِه: ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ قَصرٌ حَقيقيٌّ. وأمَّا القَصرُ في وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ؛ فهو قَصرٌ ادِّعائيٌّ لعدَمِ الاعتدادِ بباطِلٍ غَيرِها، حتَّى كأنَّه ليس من الباطلِ. وهذا مُبالَغةٌ في تَحقيرِ أصنامِهم [990] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (17/316). .
- وفيه مُناسبةٌ حَسَنةٌ؛ حيث قال هنا: وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ، وقال في سُورةِ لُقمانَ: وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ [لقمان:30] ؛ فخُصَّتْ سُورةُ الحجِّ بالتَّوكيدِ بضَميرِ الفَصلِ، ولم يُؤْتَ به في سُورةِ لُقمانَ. ووَجْهُه: أنَّ ما في سُورةِ الحجِّ وقَعَ بعْدَ عشْرِ آياتٍ، كلُّ آيةٍ مُؤكَّدةٌ مرَّةً أو مرَّتينِ [991] يُنظر: ((درة التنزيل وغرة التأويل)) للإسكافي (ص:930، 931)، ((أسرار التكرار في القرآن)) للكرماني (ص: 182)، ((بصائر ذوي التمييز)) للفيروزابادي (1/327)، ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص: 386). . وقيل: وَجْهُ ذلك: أنَّه لمَّا تقدَّمَ في هذه السُّورة ذِكْرُ اللهِ سُبحانَه وذِكْرُ الشَّيطانِ، أكَّدَهما؛ فإنَّه خبَرٌ وقَعَ بين خَبرينِ، ولم يَتقدَّمْ في لُقمانَ ذِكْرُ الشَّيطانِ؛ فأُكِّدَ ذِكْرُ اللهِ تعالى، وأُهْمِلَ ذِكْرُ الشَّيطانِ، وهذه دَقيقةٌ [992] يُنظر: ((أسرار التكرار في القرآن)) للكرماني (ص: 183). .
وقيل: وَجْهُ ذلك: أنَّه لم يتقدَّمْ هنا من الدَّليلِ على بُطلانِ الأوثانِ مِثْلُ ما ذَكَرَه في لُقمانَ لداعي الحالِ إلى التَّأكيدِ بضَميرِ الفَصلِ؛ فقال: هُوَ الْبَاطِلُ؛ لأنَّه مُمكِنٌ وُجودُه وعدَمُه، فليس له مِن ذاتِه إلَّا العدَمُ كغيرِه من المُمْكِناتِ [993] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (13/80). .