موسوعة التفسير

سورةُ الحَجِّ
الآيات (55-57)

ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ

غريب الكلمات :

مِرْيَةٍ: أي: شكٍّ، وقيل: المِرْيةُ: التردُّدُ في الأمرِ، وهو أخصُّ مِن الشَّكِّ [894] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (9/155)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 457)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/315)، ((المفردات)) للراغب (ص: 766)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 338). .
بَغْتَةً: أي: فجأَةً، وكلُّ ما جاءَ فجأةً فقد بَغَتَ، يقال: قد بَغَتَه الأمرُ يَبْغَتُه بغْتًا وبَغتةً، إذَا أتاه فجأةً، وأصْلُ (بغت): مُفاجأةُ الشَّيءِ مِن حيث لا يحتسِبُ [895] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 153)، ((معاني القرآن)) للزجاج (2/241)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 120)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/272)، ((المفردات)) للراغب (ص: 135)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 252). .
عَقِيمٍ : أي: لا خَيْرَ فيه للكافرينَ، كأنَّ ذلك اليومَ عليهم يومٌ لا ليلَ لهم بَعدَه؛ مِن العُقمِ: وهو القَطعُ والمَنعُ، يُقالُ: رجُلٌ عَقيمٌ: إذا مُنِعَ مِن الوَلَدِ [896] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 294)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (4/75)، ((البسيط)) للواحدي (15/475)، ((تفسير البغوي)) (5/396)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 304). .

المعنى الإجمالي:

يقول تعالى: ولا يَزالُ الكافِرونَ المُكَذِّبونَ في شَكٍّ مِنَ القُرآنِ إلى أن تأتيَهم السَّاعةُ فَجأةً، وهم على تَكذيبِهم، أو يأتيَهم عذابُ يومٍ عقيمٍ.
 المُلكُ والسُّلطانُ يومَ القيامةِ لله وَحْدَه، وهو سُبحانَه يقضي بين المُؤمِنينَ والكافرينَ؛ فالذين آمَنوا وعَمِلوا الأعمالَ الصَّالِحةَ، لهم النَّعيمُ الدَّائِمُ في الجَنَّاتِ، والذينَ كَفَروا باللهِ ورَسولِه وكذَّبوا بآياتِ القُرآنِ لهم عذابٌ مُخزٍ مُذِلٌّ في جَهنَّمَ.

تفسير الآيات:

وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ (55).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا بيَّن اللهُ سُبحانَه حالَ الكافِرينَ أوَّلًا، ثمَّ حالَ المؤمنين ثانيًا، عاد إلى شرْحِ حالِ الكافرينَ مرَّةً أخرى [897] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (23/242). .
وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ.
أي: ولا يَزالُ الذين كَفَروا في شَكٍّ ورَيبٍ مِنَ القُرآنِ؛ لإعراضِهم وعنادِهم [898] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/615)، ((تفسير ابن كثير)) (5/446)، ((تفسير السعدي)) (ص: 542). .
حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ.
أي: هم مُستَمِرُّونَ على تلك الحالِ إلى أن يأتيَهم يومُ القيامةِ فَجأةً، أو يأتيَهم عذابُ يَومٍ عقيمٍ [899] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/615 - 617)، ((البسيط)) للواحدي (15/473)، ((تفسير ابن عطية)) (4/130)، ((تفسير القرطبي)) (12/87)، ((تفسير ابن عاشور)) (17/308). اختلف المفسِّرون في المرادِ بقَولِه تعالى: عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ فقيل: المرادُ به يومُ القيامةِ. وممن قال بذلك: أبو حيان، وابن كثير، والشوكاني، والسعدي، والشنقيطي. يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (7/528)، ((تفسير ابن كثير)) (5/446- 447)، ((تفسير الشوكاني)) (3/547)، ((تفسير السعدي)) (ص: 542)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (5/291). وممن قال بهذا القَولِ مِنَ السَّلَفِ: الضَّحَّاكُ، وعِكرمةُ في روايةٍ عنه، ومجاهِدٌ في رواية عنه، والحَسَنُ البصري. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/616)، ((تفسير ابن الجوزي)) (3/246)، ((تفسير ابن كثير)) (5/446). قال الزمخشريُّ: (عن الضَّحَّاكِ أنَّه يومُ القيامةِ، وأنَّ المرادَ بالسَّاعةِ مُقَدِّماتُه، ويجوزُ أن يرادَ بالسَّاعةِ وبِيَومٍ عَقيمٍ: يومُ القيامةِ، وكأنَّه قيل: حتى تأتيَهم الساعةُ أو يأتيَهم عذابُها، فوُضِعَ يَوْمٍ عَقِيمٍ مَوضِعَ الضَّميرِ). ((تفسير الزمخشري)) (3/166). وقال ابنُ كثير: (وهذا القَولُ هو الصَّحيحُ، وإن كان يومُ بدرٍ مِن جملةِ ما أُوعِدوا به، لكِنَّ هذا هو المرادُ؛ ولهذا قال: الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ). ((تفسير ابن كثير)) (5/446، 447). وقال الشنقيطيُّ: (القرينةُ القُرآنيَّةُ هنا دلَّت على أنَّ المرادَ باليَومِ العَقيمِ: يومُ القيامةِ، لا يومُ بَدرٍ، وذلك أنَّه تعالى أتبَعَ ذِكرَ اليَومِ العَقيمِ بقَولِه: الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ، وذلك يومُ القيامةِ، وقَولُه: يَوْمَئِذٍ أي: يومَ إذْ تأتيهم السَّاعةُ، أو يأتيهم عذابٌ عَقيمٌ، وكلُّ ذلك يومَ القيامةِ. فظهر أنَّ اليَومَ العَقيمَ: يومُ القيامةِ، وإن كان يومُ بَدرٍ عَقيمًا على الكُفَّارِ؛ لأنَّهم لا خيرَ لهم فيه، وقد أصابَهم ما أصابهم). ((أضواء البيان)) (5/291). قيل: سُمِّيَ يَومُ القيامةِ عَقيمًا؛ لأنَّه لا ليلةَ بعدَه ولا يومَ، والأيَّامُ كأنَّها نتائجُ؛ لمجيءِ واحدٍ إثرَ واحدٍ، فكأنَّ آخِرَ يَومٍ قد عُقِمَ. يُنظر: ((تفسير ابن عطية)) (4/130). وقيل: المرادُ باليَومِ العَقيمِ: يومُ بَدرٍ. وممن قال بذلك: ابنُ جرير، والواحدي، والزمخشري، والرسعني -ونسبه لجمهور المفسرين-، وابن جزي، وابن عاشور. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/616، 617)، ((الوجيز)) للواحدي (ص: 738)، ((تفسير الزمخشري)) (3/166)، ((تفسير الرسعني)) (5/83)، ((تفسير ابن جزي)) (2/44)، ((تفسير ابن عاشور)) (17/308). ومن قال بهذا القَولِ مِنَ السَّلَفِ: أُبَيُّ بنُ كعبٍ، وابنُ عبَّاس، وسعيدُ بنُ جُبَير، ومجاهِدٌ في روايةٍ عنه، وعِكرمةُ في روايةٍ عنه، وقتادةُ، والسُّدِّي، وابنُ جُرَيج. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/616)، ((تفسير ابن الجوزي)) (3/246)، ((تفسير ابن كثير)) (5/446). قيل: إنَّما قيل له: يَومٌ عَقيمٌ؛ لأنَّهم لم يُنظَروا إلى اللَّيلِ، ولم يُؤَخَّروا فيه إلى المساءِ، لكِنَّهم قُتِلوا قبلَ المساءِ؛ فكان لهم عقيمًا. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/616، 617)، ((تفسير ابن عطية)) (4/130). وقيل: يومُ بَدرٍ كان عقيمًا عن أن يكونَ للكافرينَ فيه فَرَحٌ أو راحةٌ. يُنظر: ((الوجيز)) للواحدي (ص: 738). وقيل غيرُ ذلك. يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/166). .
الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (56).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
بعدَ أن بيَّن سبحانَه حالَ الفريقينِ فى الدُّنيا؛ أرشَد إلى حالِهم فى الآخرةِ [900] يُنظر: ((تفسير المراغي)) (17/131). .
الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ.
أي: السُّلطانُ يومَ القيامةِ لله وَحْدَه، لا مُنازِعَ له فيه، يَحكُمُ فيه بالعَدلِ بينَ عِبادِه المُؤمِنينَ والكافرينَ [901] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/618)، ((تفسير القرطبي)) (12/88)، ((تفسير السعدي)) (ص: 543). قال ابنُ عاشور: (الحُكمُ بينهم: الحُكمُ فيما اختَلَفوا فيه مِن ادِّعاءِ كُلِّ فَريقٍ أنَّه على الحَقِّ، وأنَّ ضِدَّه على الباطِلِ... فقد يكونُ الحُكمُ بالقَولِ، وقد يكونُ بظهورِ آثارِ الحَقِّ لفَريقٍ، وظهورِ آثارِ الباطِلِ لفريقٍ، وقد فصَّلَ الحُكمَ بقَولِه تعالى: فَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ * وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا فَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ، وهو تفصيلٌ لأثَرِ الحُكمِ يَدُلُّ على تفصيلِ أصلِه، أي: ذلك حُكمُ اللهِ بيْنهم في ذلك اليومِ). ((تفسير ابن عاشور)) (17/309). .
كما قال تعالى: مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ [الفاتحة: 4] .
وقال سُبحانَه: الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ [الفرقان: 26] .
وقال عزَّ وجَلَّ: لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ [غافر: 16] .
فَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ.
أي: فالذين آمَنوا باللهِ ورَسولِه وما جاء به مِن عندِ اللهِ تعالى، وعَمِلوا الأعمالَ الصَّالِحةَ؛ يكونونَ يَومَ القيامةِ في جنَّاتِ النَّعيمِ، يَتنَعَّمونَ فيها بأرواحِهم وأبدانِهم [902] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/618)، ((تفسير ابن كثير)) (5/447)، ((تفسير السعدي)) (ص: 543). .
وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا فَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (57).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا ذكَرَ ثوابَ المُؤمِنينَ العامِلينَ للصَّالحاتِ؛ ثَنَّى بذِكرِ مَن يُقابِلُهم [903] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (1/159). .
وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا فَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (57).
أي: والذينَ كَفَروا باللهِ ورَسولِه وكذَّبوا بآياتِ القُرآنِ، فأولئك لهم يَومَ القيامةِ عَذابٌ مُخْزٍ ومُذِلٌّ في النَّارِ؛ جزاءً لهم على استِكبارِهم عن الحَقِّ، واستِهانتِهم بآياتِ اللهِ ورُسُلِه [904] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/618)، ((تفسير السمعاني)) (3/451)، ((تفسير ابن كثير)) (5/447)، ((تفسير السعدي)) (ص: 543). قال ابنُ جرير: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا باللهِ ورَسولِه وَكَذَّبُوا بآياتِ كتابِه وتَنزيلِه، وقالوا: ليس ذلك مِن عندِ اللهِ، إنَّما هو إفكٌ افتراه مُحمَّدٌ، وأعانه عليه قَومٌ آخَرونَ). ((تفسير ابن جرير)) (16/618). وقال السعدي: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا باللهِ ورُسُلِه وَكَذَّبُوا بآياتِه الهاديةِ للحَقِّ والصَّوابِ، فأعرَضوا عنها، أو عاندوها). ((تفسير السعدي)) (ص: 543). .
كما قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ [غافر: 60] .

الفوائد التربوية:

1- قال الله عزَّ وجلَّ: فَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ، والعملُ الصالحُ مبنيٌّ على الإيمانِ، فعملٌ بلا إيمانٍ لا فائدةَ منه، فالمنافقون يَعملون، ويَذْكرون الله، ويُصَلُّون، ويتصدَّقون، ولكن ليس عندَهم إيمانٌ؛ فلا ينفعُهم، ولهذا يقدِّمُ الله عزَّ وجلَّ الإيمانَ على العملِ الصالحِ [905] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة النساء)) (1/430). .
2- الإيمانُ وحْدَه لا يكفي، بل لا بدَّ مِن عملٍ، والعملُ وحْدَه لا يكفي، بل لا بدَّ مِن إيمانٍ، فلا يستحقُّ الجنةَ إلَّا مَن جمَع بينَ الإيمانِ والعملِ الصالحِ؛ قال تعالى: فَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ، وإذا ذُكِر ثوابُ الجنةِ مقيَّدًا أو معلَّقًا بالإيمانِ وحْدَه، فالمرادُ بذلك الإيمانُ المتضمِّنُ للعملِ الصالحِ [906] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة النساء)) (2/252). .
3- العملُ لا ينفعُ صاحبَه إلَّا إذا كان صالحًا؛ قال تعالى: وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ، والعملُ الصالحُ هو: الخالصُ الصوابُ؛ أي: ما ابتُغِي به وجهُ الله، وكان على شريعةِ الله [907] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة النساء)) (2/253). .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- لَمَّا ذكَرَ عزَّ وجَلَّ أهلَ الإيمانِ وثوابَهم، ذكَرَ أصحابَ الشِّمالِ بعد ذلك، فقال: وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا فَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ؛ لأنَّ القُرآنَ مَثانٍ، تُثَنَّى فيه الأمورُ والمعاني؛ ولهذا تجِدُ القُرآنَ الكريمَ في الغالبِ إذا ذكَرَ اللهُ الجنَّةَ ذكَرَ النَّارَ، وإذا ذكَرَ أولياءَ اللهِ ذكَرَ أعداءَ الله، والحِكمةُ مِن ذلك ألَّا يَمَلَّ الإنسانُ؛ لأنَّه كُلَّما تَنقَّلَ المعنى إلى معنًى آخَرَ نَشِطَ الإنسانُ، وحِكمةٌ أُخرى: أن يكونَ الإنسانُ سائرًا إلى الله، أي: مُتعَبِّدًا إلى الله بين الخَوفِ والرَّجاءِ؛ لأنَّه إذا مَرَّت به صفاتُ المؤمِنينَ قَوِيَ جانِبُ الرَّجاءِ، وإذا ذُكِرَت أحوالُ الكافِرينَ غَلَب جانِبُ الخَوفِ [908] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين: الحجرات- الحديد)) (ص: 401). .
2- قال الله تعالى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا الكُفرُ قد يَصحَبُه التَّكذيبُ وقد لا يَصحَبُه؛ ولهذا أحيانًا يَذكُرُ اللهُ الكُفرَ فقط، مِثلُ قَولِه تعالى: وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ [آل عمران: 131] ، وأحيانًا يَذكُرُ التَّكذيبَ فقط، قال تعالى: فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ [الزمر: 32] ، وأحيانًا يَقرِنُ بينهما كما هنا؛ وذلك لأنَّ كُلًّا منهما قد يكونُ وَحْدَه مُوجِبًا للخُلودِ في النَّارِ، فإذا اجتَمَعا جميعًا صار ذلك أشَدَّ وأعظَمَ. والعياذُ باللهِ [909] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (1/162). .
3- لم يَجِئْ إعدادُ العذابِ المُهينِ في القُرآنِ إلَّا في حَقِّ الكُفَّارِ، كقَولِه تعالى: وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا [النساء: 37] ، وقَولِه: إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا [النساء: 102] ، وقَولِه: وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ [البقرة: 90] ، وقَولِه: وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا فَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ [الحج: 57] إلى غيرِ ذلك من الآياتِ، وأمَّا العذابُ العظيمُ فقد جاء وعيدًا للمُؤمِنينَ في قَولِه: لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [الأنفال: 68] ، وقَولِه: وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ [النور: 14] ، وفي المحارِبِ: ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ [910] يُنظر: ((الصارم المسلول)) لابن تيمية (ص: 52). [المائدة: 33].
4- قَولُ الله تعالى: وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً يدُلُّ على أنَّ الأعصارَ إلى قيامِ السَّاعةِ لا تخلو مِمَّن هذا وَصْفُه [911] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (23/242). .

بلاغة الآيات:

1- قولُه تعالى: وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ خَصَّ في هذه الآيةِ الكافرينَ بالقُرآنِ بعْدَ أنَّ عَمَّهم مع جُملةِ الكافرينَ بالرُّسلِ؛ فخَصَّهم بأنَّهم يَستمِرُّ شَكُّهم فيما جاء به محمَّدٌ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، ويَتردَّدونَ في الإقدامِ على الإسلامِ إلى أنْ يُحالَ بينهم وبينه بحُلولِ السَّاعةِ بَغتةً، أو بحُلولِ عَذابِ يومٍ عقيمٍ [912] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (17/307، 308). .
- قولُه: الَّذِينَ كَفَرُوا فيه وَضْعُ المُظْهَرِ مَوضِعَ المُضْمَرِ، أي: لا يَزالونَ في مِرْيةٍ، وهم الشَّاكُّون الَّذين في قُلوبهم مَرضٌ [913] يُنظر: ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (10/514). .
- قولُه: أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ المُرادُ به السَّاعةُ، كأنَّه قيل: أو يأْتِيَهم عَذابُها، فوُضِعَ ذلك مَوضِعَ ضَميرِها؛ لمَزيدِ التَّهويلِ [914] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/115). . وذلك على أحدِ القولينِ في التفسيرِ.
2- قَولُه تعالى: الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ
- قولُه: الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ استئنافٌ بَيانِيٌّ؛ فقد آذَنَتِ الغايةُ الَّتي في قولِه: حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً [الحج: 55] أنَّ ذلك وَقْتُ زَوالِ مِرْيةِ الَّذين كَفَروا، فكان ذلك مَنشَأَ سُؤالِ سائلٍ عن صُورةِ زَوالِ المِرْيَةِ، وعن ماذا يَلْقَونه عندَ زَوالِها؟ فكان المَقامُ أنْ يُجابَ السُّؤالُ بجُملةِ: الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ، إلى آخِرِ ما فيها من التَّفصيلِ [915] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (17/309). .
- والتَّعريفُ في الْمُلْكُ تَعريفُ الجِنْسِ؛ فدَلَّتْ جُملةُ الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ على أنَّ ماهيَّةَ المُلْكِ مَقصورةٌ يَومَئذٍ على الكونِ مُلْكًا للهِ، أي: لا مُلْكَ لغَيرِه يومَئذٍ [916] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (17/310). .
- والمقصودُ بالكَلامِ هو جُملةُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ؛ إذ هم البدلُ. وإنَّما قُدِّمَت جُملةُ الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ؛ تَمهيدًا لها، ولِيَقَعَ البَيانُ بالبَدلِ بعْدَ الإبهامِ الَّذي في المُبْدَلِ منه [917] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (17/310). . وقيل: جُملةُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ مُستأْنَفةٌ، وقعَتْ جَوابًا عن سُؤالٍ نشَأَ من الإخبارِ بكَونِ المُلْكِ يَومئذٍ للهِ؛ كأنَّه قيل: فماذا يُصْنَعُ بهم حينئذٍ؟ فقيل: يَحكُمُ بين فريقيِ المؤمنينَ به والمُمارينَ فيه بالمُجازاةِ [918] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/115). .
- قولُه: فَالَّذِينَ آَمَنُوا ... إلخ تَفسيرٌ للحُكمِ المذكورِ، وتَفصيلٌ له [919] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/115)، ((تفسير ابن عاشور)) (17/308). .
3- قَولُه تعالى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا فَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ
- قولُه: فَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ فيه التَّعبيرُ باسمِ الإشارةِ (أُولَئِكَ) وما فيه مِن معنى البُعدِ؛ للإيذانِ ببُعْدِ مَنزِلَتِهم في الشَّرِّ والفسادِ [920] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/115، 116). ، وللتَّنبيهِ على أنَّهم استحَقُّوا العذابَ المُهينَ؛ لأجْلِ ما تقدَّمَ مِن صِفَتِهم بالكُفْرِ والتَّكذيبِ بالآياتِ [921] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (17/310). .
- وتَصديرُ الخبرِ بالفاءِ؛ للدَّلالةِ على أنَّ تَعذيبَ الكُفَّارِ بسبَبِ أعمالِهم السَّيِّئةِ [922] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (4/76)، ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (10/516)، ((تفسير أبي السعود)) (6/115، 116). . وقيل: قُرِنَ فَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ بالفاءِ؛ لِمَا تَضمَّنَه التَّقسيمُ مِن معنى حَرفِ التَّفصيلِ وهو (أمَّا)، كأنَّه قيل: وأمَّا الَّذين كَفَروا... لأنَّه لمَّا تقدَّمَ ثَوابُ الَّذين آمَنوا، كان المَقامُ مُثيرًا لسُؤالِ مَن يَترقَّبُ مُقابَلةَ ثَوابِ المُؤمِنين بعِقابِ الكافرينَ، وتلك المُقابَلةُ مِن مَواقِعِ حَرفِ التَّفصيلِ [923] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (17/310). .
- وعَطَف التَّكذيبَ على الكُفرِ وهو نَوعٌ منه، في قَولِه: وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا؛ لأنَّه أشَدُّ، فالذي يَكفُرُ ولم يُكَذِّبْ أهوَنُ مِن الذي يَكفُرُ ويُكَذِّبُ؛ فعَطفُ وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا على كَفَرُوا مِن بابِ عَطفِ الخاصِّ على العامِّ، كعَطفِ الرُّوحِ على الملائِكةِ، وهو منهم، قال الله تعالى: تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا [القدر: 4] ، والرُّوحُ جبريلُ عليه السَّلامُ، وهو مِن الملائِكةُ [924] يُنظر: ((تفسير العثيمين: الحجرات - الحديد)) (ص: 401). .
- وفي قولِه: عَذَابٌ مُهِينٌ قابَلَ النَّعيمَ بالعذابِ، ووصَفَهُ بالمُهينِ مُبالَغةً فيه [925] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (7/528). ؛ فـ مُهِينٌ مُؤكِّدةٌ لِمَا أفادَهُ التَّنوينُ مِن الفَخامَةِ، وفيه مِن المُبالَغةِ مِن وُجوهٍ شَتَّى ما لا يَخْفَى [926] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/116). .