موسوعة التفسير

سُورةُ الأحقافِ
الآيات (4-6)

ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ

غريب الكلمات:

شِرْكٌ: أي: نَصيبٌ وشَرِكةٌ، وأصلُ (شرك): يدُلُّ على مُقارَنةٍ [23] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/265)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 311)، ((تفسير القرطبي)) (16/179). .
أَثَارَةٍ: أي: بقيَّةٍ أو عَلامةٍ أو شَيءٍ مأثورٍ مِن كُتُبِ الأوَّلينَ، واشتِقاقُه مِن: أثَرْثُ الشَّيءَ أُثِيرُه إثارةً، كأنَّها بَقيَّةٌ تُستخرَجُ فتُثارُ، أو مِن الأثَرِ الَّذي هو الرِّوايةُ أو العَلامةُ [24] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 407)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/53، 55)، ((البسيط)) للواحدي (20/160)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 352). .

المعنى الإجمالي:

يأمُرُ اللهُ تعالى نبيَّه صلَّى الله عليه وسلَّم أنْ يُوبِّخَ المشركينَ، ويُقيمَ عليهم الحُجَّةَ، ويُبيِّنَ بُطلانَ ما هم عليه، فيقولُ: قُلْ -يا محمَّدُ- لأولئك المُشرِكينَ مِن قَومِك: أرَأَيْتُم الَّذين تَدْعونَهم مِن دونِ اللهِ، أَرُوني ماذا خَلَقوا مِن الأرضِ لِتَعبدوهم مِن دونِ اللهِ تعالى؟! أمْ لهم نَصيبٌ مع اللهِ تعالى في السَّمَواتِ خَلقًا أو مِلكًا أو تدبيرًا؟! أَحْضِروا لي كتابًا مِن قَبلِ هذا القُرآنِ أو دَليلًا وبقيَّةً مِن عِلمٍ مأثورٍ يدُلُّ على صِحَّةِ دعواكم إنْ كنتُم صادِقينَ!
ثمَّ يُبيِّنُ تعالى شِدَّةَ ضلالِ المشركينَ وجهلِهم، فيقولُ: ومَن أشَدُّ ضَلالًا مِمَّن يدعو مِنْ دونِ اللهِ آلِهةً لا تُجيبُ دُعاءَه إلى يومِ القيامةِ، وهم في غَفلةٍ عن دُعائِهم؟! وإذا جَمَع اللهُ النَّاسَ يومَ القيامةِ للحِسابِ كانت هذه الآلهةُ الَّتي يَدْعوها المُشرِكونَ أعداءً لهم، وكانت جاحِدةً مُنكِرةً لِعِبادتِهم لها في الدُّنيا!

تفسير الآيات:

قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ اِئْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (4).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّ اللهَ تعالى لَمَّا قَرَّر الأصلَ الدَّالَّ على إثباتِ الإلهِ، وعلى إثباتِ كَونِه عادِلًا رَحيمًا، وعلى إثباتِ البَعثِ والقيامةِ؛ بنى عليه تفاريعَ؛ فالفَرعُ الأوَّلُ: الرَّدُّ على عَبَدةِ الأصنامِ، فقال [25] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (28/6). :
قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ.
أي: قُلْ -يا محمَّدُ- للمُشرِكينَ مِن قَومِك: أرأيتُمُ الَّذين تَدْعونَهم مِن دونِ اللهِ مِن مَعبوداتِكم، أَروني ماذا خَلَقوا مِن الأرضِ فاستَحَقُّوا بذلك عِبادتَكم لهم [26] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/112)، ((تفسير القرطبي)) (16/179)، ((تفسير الشوكاني)) (5/17)، ((تفسير السعدي)) (ص: 779)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/213). قال الشنقيطي: (على أنَّ «ما» استِفهاميَّةٌ، و«ذا» مَوصولةٌ، فالمعنى: أروني ما الَّذي خَلَقوه مِنَ الأرضِ. وعلى أنَّ «ما» و«ذا» بمَنزلةِ كَلِمةٍ واحِدةٍ يُرادُ بها الاستِفهامُ، فالمعنى: أروني أيُّ شَيءٍ خَلَقوه مِنَ الأرضِ؟). ((أضواء البيان)) (7/213). قيل: مِنَ في قوله: مِنَ الْأَرْضِ للتَّبعيضِ؛ لأنَّ كلَّ ما على وجهِ الأرضِ مِن حيوانٍ ونحوِه فهو مِن الأرضِ. وممَّن اختاره: ابنُ عطية. يُنظر: ((تفسير ابن عطية)) (5/91). وقال الواحدي: (وقال مقاتلٌ: مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ كما خلَقَ اللهُ آدَمَ، إن كانوا آلهةً. قال الفَرَّاءُ: أي أنَّهم لم يَخلُقوا شيئًا. فعلى هذا «مِن» بمعنى «في»). ((البسيط)) (18/435). ويُنظر: ((معاني القرآن)) للفرَّاء (2/370). ويُنظر أيضًا: ((بصائر ذوي التمييز)) للفيروزابادي (4/533). وقال ابن عاشور في نظيرِ هذه الآيةِ مِن سورةِ فاطرٍ، الآية (40): (ومِنَ ابتدائِيَّةٌ، أي: شيئًا ناشِئًا مِن الأرضِ، أو تبعيضِيَّةٌ على أنَّ المرادَ بالأرضِ ما عليها). ((تفسير ابن عاشور)) (22/325). ؟!
كما قال الله تعالى: قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ [فاطر: 40] .
وقال الله سُبحانَه: هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ [لقمان: 11] .
أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ.
أي: أمْ لتلك الآلهةِ المَزعومةِ نَصيبٌ مع اللهِ تعالى في السَّمَواتِ؛ خَلقًا أو مِلكًا أو تدبيرًا؛ فيَكونَ لكم بذلك حُجَّةٌ على عبادتِكم لها [27] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/112)، ((تفسير القرطبي)) (16/179)، ((تفسير أبي حيان)) (9/432)، ((تفسير ابن كثير)) (7/274)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (18/124)، ((تفسير السعدي)) (ص: 779)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/213). ؟!
كما قال الله سُبحانَه وتعالى: قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ [سبأ: 22] .
اِئْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا.
أي: أَحْضِروا لي كتابًا ممَّا أنزَلَه اللهُ على الأنبياءِ مِن قَبلِ هذا القُرآنِ، يُخبِرُ بأنَّ آلهتَكم مُستحِقَّةٌ للعبادةِ [28] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/112)، ((تفسير الزمخشري)) (4/295)، ((تفسير القرطبي)) (16/179)، ((تفسير ابن كثير)) (7/274)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (18/125)، ((تفسير ابن عاشور)) (26/10، 11). قال الرَّازي: (عُلِم بالتَّواتُرِ الضَّروريِّ إطباقُ جميعِ الكتبِ الإلهيَّةِ على المنعِ مِن عبادةِ الأصنامِ، وهذا هو المرادُ مِن قولِه تعالَى: اِئْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا). ((تفسير الرازي)) (28/7). وقال ابن جرير: (قولُه: اِئْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا يقولُ تعالى ذِكرُه: بكتابٍ جاء مِن عندِ الله مِن قبْلِ هذا القرآنِ الَّذي أُنزِل علَيَّ، بأنَّ ما تَعبُدونَ مِن الآلهةِ والأوثانِ خلَقوا مِن الأرضِ شيئًا، أو أنَّ لهم معَ الله شِرْكًا في السَّمواتِ، فيَكونَ ذلك حُجَّةً لكم على عبادتِكم إيَّاها). ((تفسير ابن جرير)) (21/112). !
كما قال تعالى: قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ أَمْ آَتَيْنَاهُمْ كِتَابًا فَهُمْ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْهُ [فاطر: 40] .
وقال الله سُبحانَه وتعالى: أَمْ آَتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ [الزخرف: 21] .
أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ.
أي: أو هاتوا دَليلًا مِن بقيَّةِ عِلمٍ مأثورٍ عن السَّابِقينَ [29] قال ابن جرير: (وقولُه: أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ ... اختَلَف أهلُ التَّأويلِ في تأويلِها؛ فقال بعضُهم: معناه: أو ائْتوني بِعِلْمٍ بأنَّ آلِهَتَكم خَلَقَتْ مِن الأرضِ شيئًا، وأنَّ لها شِرْكًا في السَّمواتِ مِن قِبَلِ الخَطِّ الَّذي تَخُطُّونَه في الأرضِ؛ فإنَّكم مَعْشَرَ العرَبِ أهلُ عِيافةٍ وزَجرٍ وكهانةٍ... وقال آخَرونَ: بل معنَى ذلك: أو خَاصَّةً مِن عِلْمٍ... وقال آخرونَ: بل معنَى ذلك: أو عِلْمٍ تُثيرُونَه فتَسْتَخْرِجونَه... وقال آخرونَ: بل معنَى ذلك: أو تَأثُرونَ ذلك عِلْمًا عن أحدٍ مِمَّنْ قَبْلَكم... وقال آخرونَ: بل معنَى ذلك: أو بِبَيِّنَةٍ مِن الأمْرِ... وقال آخرونَ: بلْ معنَى ذلك: بِبَقِيَّةٍ مِن عِلْمٍ... وأَوْلى الأقوالِ في ذلك بالصَّوابِ قولُ مَن قالَ: الأثارَةُ: البَقِيَّةُ مِن عِلْمٍ؛ لأنَّ ذلك هو المعروفُ مِن كلامِ العربِ... وإذا وُجِّه ذلك إلى ما قُلْنا فيه مِن أنَّه بَقِيَّةٌ مِن عِلْمٍ، جازَ أنْ تكونَ تلك البَقيَّةُ مِن عِلمِ الخطِّ، ومِن عِلْمٍ اسْتُثِير مِن كُتُبِ الأوَّلينَ، ومِن خاصَّةِ عِلْمٍ كانوا أُوثِروا به). ((تفسير ابن جرير)) (21/113-116). وقال ابن كثير: (أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ أي: دليلٍ بَيِّنٍ على هذا المسلكِ الَّذي سَلَكْتُموه)، ثمَّ ذكَر ما قيل في الآيةِ، وقال: (وكلُّ هذه الأقوالِ مُتقارِبةٌ، وهي راجعةٌ إلى ما قُلْناه، وهو اختيارُ ابنِ جَريرٍ). ((تفسير ابن كثير)) (7/274). وقال الرازي: (العلم الضَّرورِي حاصلٌ بأنَّ أحدًا مِن الأنبياءِ ما دعا إلى عبادةِ الأصنامِ، وهذا هو المرادُ مِن قولِه: أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ). ((تفسير الرازي)) (28/7). وممَّن خصَّ قولَه:  أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ بما يُروَى مِن عِلمٍ مأثورٍ عن الأنبياءِ عليهم السَّلامُ: الواحدي، والسعدي. يُنظر: ((الوجيز)) للواحدي (ص: 993)، ((تفسير السعدي)) (ص: 779). يدُلُّ على صِحَّةِ عِبادتِكم آلهتَكم، إنْ كنتُم صادِقينَ في دعواكم أنَّ لله تعالى شَريكًا [30] يُنظر: ((الوسيط)) للواحدي (4/103)، ((تفسير الزمخشري)) (4/295)، ((تفسير ابن عطية)) (5/92)، ((تفسير أبي حيان)) (9/432)، ((تفسير ابن كثير)) (7/274، 275)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (18/125)، ((تفسير أبي السعود)) (8/78)، ((تفسير القاسمي)) (8/437)، ((تفسير ابن عاشور)) (26/11). !
وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ (5).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّ اللهَ تعالى بَيَّنَ فيما سَبَق أنَّ القَولَ بعِبادةِ الأصنامِ قَولٌ باطِلٌ؛ مِن حيثُ إنَّها لا قُدرةَ لها البتَّةَ على الخَلقِ والفِعلِ، والإيجادِ والإعدامِ، والنَّفعِ والضُّرِّ؛ فأردَفَه بدَليلٍ آخَرَ يدُلُّ على بُطلانِ ذلك المذهَبِ، وهي أنَّها جماداتٌ؛ فلا تَسمَعُ دُعاءَ الدَّاعِينَ، ولا تَعْلمُ حاجاتِ المحتاجِينَ [31] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (28/7). .
وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ.
أي: لا أحَدَ أشَدُّ ضَلالًا مِن عَبدٍ يدعو مِنْ دونِ اللهِ آلِهةً لا تُجيبُ دُعاءَه أبدًا إلى يومِ القيامةِ [32] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/116)، ((تفسير ابن عطية)) (5/92)، ((تفسير ابن كثير)) (7/275)، ((تفسير ابن عاشور)) (26/11). قال الرَّسْعَني: (يجوزُ أن يُرادَ على قراءةِ العامَّةِ: كُلُّ مَن عُبِدَ مِن دُونِ اللهِ مِنَ الجِنِّ والإنسِ والأصنامِ، فغُلِّبَ ما يَعقِلُ. وقيل: ويجوزُ أن يُرادَ الأصنامُ وَحْدَها، فأُجرِيَت مجرى مَن يَعقِلُ؛ لِوَصفِهم إيَّاها بذلك. والجائِزُ الثَّاني أظهَرُ وأشهَرُ في التَّفسيرِ). ((تفسير الرسعني)) (7/204). .
وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ.
أي: وآلهتُهم في غَفلةٍ عن دُعائِهم، فلا يَعلَمونَ مَن يَدْعونَهم، ولا يَسمَعونَهم [33] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/116، 117)، ((تفسير القرطبي)) (16/183)، ((تفسير ابن كثير)) (7/275)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (18/128)، ((تفسير السعدي)) (ص: 779). قال البِقاعي: (فهو يدعو ما لا قُدرةَ له ولا عِلمَ، وما انتَفَت قُدرتُه وعِلمُه لم تَصِحَّ عِبادتُه ببَديهةِ العَقلِ). ((نظم الدرر)) (18/126). وقال الشنقيطي: (إنَّما كانوا غافِلينَ عنها؛ لأنَّهم جَمادٌ لا يَعقِلونَ، وإطلاقُ اللَّفظِ المُختَصِّ بالعُقَلاءِ عليهم؛ نَظرًا إلى أنَّ المُشرِكينَ نزَّلوهم مَنزِلةَ العُقَلاءِ... فقد دَلَّ قَولُه تعالى: وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ على أنَّهم لا يَعقِلونَ، ومعَ ذلك قال: وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ [الأحقاف: 6] ، وكقَولِه تعالى في العَنكبوتِ: وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا [العنكبوت: 25] ، فصَرَّح بأنَّهم أوثانٌ، ثمَّ ذَكَر أنَّهم هم وعَبَدَتُهم يَلعَنُ بَعضُهم بعضًا، وكقَولِه تعالى: كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا [مريم: 82] ... إلى غيرِ ذلك مِنَ الآياتِ). ((أضواء البيان)) (6/34). .
كما قال تعالى: ... وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ * إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ [فاطر: 13، 14].
وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ (6).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
بعدَ أن أبانَ اللهُ تعالى أنَّ آلِهَتَهم المزعومةَ لا يَنفَعونَهم فى الدُّنيا، ولا يَستَجيبونَ لهم دُعاءً- أبانَ حالَهم فى الآخِرةِ [34] يُنظر: ((تفسير المراغي)) (26/7). ، فقال:
وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً.
أي: وإذا جَمَع اللهُ النَّاسَ يومَ القيامةِ للحِسابِ، كانت هذه الآلِهةُ الَّتي يَدْعوها المُشرِكونَ أعداءً لهم [35] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/117)، ((تفسير القرطبي)) (16/183)، ((تفسير الشوكاني)) (5/17). قال القرطبي: (فالملائِكةُ أعداءُ الكُفَّارِ، والجِنُّ والشَّياطينُ يَتبَرَّؤون غدًا مِن عَبَدتِهم، ويَلعَنُ بعضُهم بعضًا. ويجوزُ أن تكونَ الأصنامُ للكُفَّارِ الَّذين عَبَدوها أعداءً، على تقديرِ خَلْقِ الحياةِ لها؛ دليلُه قولُه تعالى حكايةً عنهم: تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ [القصص: 63]. وقيل: عادَوا مَعبوداتِهم؛ لأنَّهم كانوا سَبَبَ هلاكِهم، وجَحَد المَعبودونَ عبادَتَهم). ((تفسير القرطبي)) (16/183). ويُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/12). ممَّن اختار أنَّ المرادَ بقولِه: كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً أي: الأصنامُ تكونُ أعداءً للذين عبَدوها: السَّمْعاني، وابنُ جُزَي، وهو ظاهرُ اختيارِ ابنِ كثير، واختاره العُلَيمي، والشوكاني، وهو ظاهرُ اختيارِ الشنقيطي. يُنظر: ((تفسير السمعاني)) (5/150)، ((تفسير ابن جزي)) (2/274)، ((تفسير ابن كثير)) (7/275)، ((تفسير العليمي)) (6/281)، ((تفسير الشوكاني)) (5/17)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (6/34). .
كما قال تعالى: وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ [العنكبوت: 25] .
وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ.
أي: وكانت آلِهتُهم في الآخِرةِ جاحِدةً مُنكِرةً لِعِبادةِ المُشرِكينَ لها في الدُّنيا [36] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/117)، ((البسيط)) للواحدي (20/163)، ((تفسير ابن جزي)) (2/274)، ((تفسير الشوكاني)) (5/18). قال ابن جرير: (وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ يقولُ تعالى ذِكرُه: وكانت آلهتُهم الَّتي يَعبُدونَها في الدُّنيا بعِبادتِهم جاحِدينَ؛ لأنَّهم يقولونَ يومَ القيامةِ: ما أمَرْناهم بعِبادتِنا، ولا شعَرْنا بعِبادتِهم إيَّانا، تبَرَّأْنا إليك منهم يا رَبَّنا). ((تفسير ابن جرير)) (21/117). وقال أبو السعود: وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ أي: مُكذِّبِينَ بلِسانِ الحالِ أو المقالِ على ما يُروَى أنَّه تعالى يُحيي الأصنامَ فتَتبرَّأُ عن عبادتِهم، وقد جُوِّز أن يُرادَ بهم كلُّ ما يُعبَدُ مِن دُونِ الله مِن الملائكةِ والجنِّ والإنسِ وغيرِهم، ويُبنَى إرجاعُ الضَّمائرِ وإسنادُ العداوةِ والكفرِ إليهم على التَّغليبِ، ويُرادُ بذلك تبَرُّؤُهم عنهم وعن عبادتِهم. وقيلَ: ضميرُ «كانُوا» للعَبَدةِ، وذلك قولُهم: وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ [الأنعام: 23] ). ((تفسير أبي السعود)) (8/78). !
كما قال الله تعالى: وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آَلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا * كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا [مريم: 81، 82].
وقال سُبحانَه: قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَا أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ * وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ [القصص: 63، 64].
وقال تعالى: وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ * فَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ * هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ [يونس: 28 - 30].

الفوائد التربوية:

في قَولِه تعالى: وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ * وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ أنَّه يجبُ على الإنسانِ قَطعُ جميعِ تَعلُّقاتِه إلَّا باللهِ؛ عِبادةً وخَوفًا ورَجاءً، واستِعانةً ومحبَّةً وتعظيمًا؛ حتَّى يكونَ عبدًا للهِ حقيقةً، فيَكونَ هواه وإرادتُه، وحُبُّه وبُغْضُه، ووَلاؤُه ومُعاداتُه: للهِ وفي اللهِ؛ لأنَّه مَخلوقٌ للعِبادةِ فقط [37] يُنظر: ((القول المفيد على كتاب التوحيد)) لابن عثيمين (1/340). .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- قَولُ الله تعالى: قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ اِئْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ فيه بيانُ مَسالِكِ الأدِلَّةِ بأسْرِها؛ فأوَّلُها المعقولُ، وهو قَولُه تعالى: قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ، وهو احتِجاجٌ بدَليلِ العَقلِ أنَّ الجمادَ لا يجوزُ أن يُدْعَى مِن دونِ اللهِ، وأنَّه لا يضُرُّ ولا ينفَعُ، ثمَّ قال: اِئْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ؛ ففيه بيانُ أدِلَّةِ السَّمعِ [38] يُنظر: ((أحكام القرآن)) لِلْكِيَا الهَرَّاسي (4/373). .
2- في قَولِه تعالى: أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ اِئْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إلى آخرِ الآيةِ: بيانُ أنَّ المُشرِكينَ ليس معهم على الشِّركِ لا دليلٌ عَقليٌّ ولا سَمْعيٌّ [39] يُنظر: ((النبوات)) لابن تيميَّة (1/178). .
3- في قَولِه تعالى: أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ إيرادٌ، وهو: أنَّ اللهَ تعالى أَثبَتَ أنَّ هناك خالقِينَ في قَولِه تعالى: فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ [المؤمنون: 14] ، وفي قَولِ الرَّسولِ صلَّى الله عليه وسلَّم: ((يُقالُ لهم -أي: المصوِّرِينَ-: أَحْيُوا ما خَلَقْتُم )) [40] الحديثُ أخرجه البخاري (5951)، ومسلمٌ (2108) من حديثِ عبدِ الله بنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهما. .
فالجوابُ: أنَّ الخَلْقَ الَّذي نَنسُبُه إلى اللهِ عزَّ وجلَّ هو الإيجادُ مِن عَدَمٍ، وتبديلُ الأعيانِ مِن عَينٍ لِأُخرى؛ فلا أحَدَ يُوجِدُ إلَّا اللهُ عزَّ وجلَّ، ولا أحَدَ يُبَدِّلُ عَينًا إلى عَينٍ إلَّا اللهُ عزَّ وجَلَّ، أمَّا الخَلقُ الَّذي يُنسَبُ للمَخلوقِ فهو عِبارةٌ عن تحويلِ شَيءٍ مِن صِفةٍ إلى صِفةٍ، ومِن صُورةٍ إلى صُورةٍ؛ فالمُصوِّرُ مثلًا الَّذي أخَذَ الطِّينَ وجَعَلَه على صُورةِ إنسانٍ أو غيرِ ذلك: ما خَلَقَ هذا الشَّيءَ، لكِنْ حوَّلَه مِن كَونِه كُتلةً مِن الطِّينِ إلى كَونِه صُورةً، والنَّجَّارُ إذا أَتَى على الخَشَبِ ونَجَرَه على صُورةٍ مُعَيَّنةٍ، لا نَقولُ: إنَّه خَلَقَه؛ لأنَّه لم يُوجِدْه، لكِنْ حوَّلَه مِن صورةٍ إلى أُخرى، فهذا التَّحويلُ يُسَمَّى خَلقًا، لكِنَّه ليس الخَلقَ الَّذي يختَصُّ به الخالِقُ، وهو الإيجادُ مِن العَدَمِ، أو تبديلُ العَينِ مِن عَينٍ إلى أُخرى [41] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة فاطر)) (ص: 284)، ((شرح العقيدة الواسطية)) لابن عثيمين (2/211). .
4- قَولُ الله تعالى: قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ اِئْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ جاء هذا الاستِدلالُ بأُسلوبِ المُناظَرةِ؛ فجُعِل النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم مُواجِهًا لهم بالاحتِجاجِ؛ لِيَكونَ إلجاءً لهم إلى الاعتِرافِ بالعَجزِ عن مُعارَضةِ حُجَّتِه، وكذلك جَرى الاحتِجاجُ بعْدَه ثلاثَ مرَّاتٍ بطَريقةِ أمْرِ التَّعجيزِ بقولِه: أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ اِئْتُونِي بِكِتَابٍ الآيةَ [42] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/9). .
5- قَولُ الله تعالى: اِئْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا كالتَّوراةِ والإنجيلِ والزَّبورِ، وهذا مِن أعلامِ النُّبُوَّةِ؛ فإنَّها كُلَّها شاهِدةٌ بالوحدانيَّةِ، لو أتى بها آتٍ لَشَهِدَت عليه [43] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (18/125). .
6- إنَّما يَفصِلُ بيْنَ النَّاسِ فيما تَنازَعوا فيه الكِتابُ المُنزَّلُ مِن السَّماءِ، والرَّسولُ المؤَيَّدُ بالأنباءِ، كما قال الله تعالى: اِئْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ [44] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (12/465). .
7- قولُه تعالى: قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ اِئْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ هذا مِن رُؤوسِ مَسائلِ المُناظَرةِ، وهو مُطالَبةُ المُدَّعي بالدَّليلِ على إثْباتِ دَعواهُ [45] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/9). .
8- قَولُ الله تعالى: وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ فيه سؤالٌ: ما المرادُ بقَولِه تعالى: وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ؟ وكيف يُعقَلُ وَصْفُ الأصنامِ -وهي جماداتٌ- بالغَفلةِ؟ وأيضًا كيف جاز وَصفُ الأصنامِ بما لا يَليقُ إلَّا بالعُقَلاءِ، وهي لفظةُ (مَن)، وقَولُه وَهُمْ وغَافِلُونَ؟
الجوابُ مِن وُجوهٍ:
الوَجهُ الأوَّلُ: أنَّهم لَمَّا عَبَدوها ونَزَّلوها مَنزِلةَ مَن يَضُرُّ ويَنفَعُ، صَحَّ أن يُقالَ فيها: إنَّها بمَنزلةِ الغافِلِ الَّذي لا يَسمَعُ ولا يُجيبُ، وهذا هو الجوابُ أيضًا عن قَولِه: إنَّ لَفظةَ (مَن) ولفظةَ (هم) كيف يَليقُ بها.
الوَجهُ الثَّاني: يجوزُ أنْ يُريدَ كُلَّ مَعبودٍ مِن دونِ اللهِ مِن الملائكةِ وعِيسى وعُزَيرٍ والأصنامِ، إلَّا أنَّه غَلَّب غيرَ الأوثانِ على الأوثانِ [46] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (28/8). .
الوَجهُ الثَّالِثُ: عبَّرَ بالغَفلةِ -الَّتي هي مِن أوصافِ العُقلاءِ- للجَمادِ؛ تهكُّمًا، كأنَّه قيل: هم عُلَماءُ، فإنَّكم أجَلُّ مَقامًا مِن أن تَعبُدوا ما لا يَعقِلُ، وإنَّما عدَمُ استجابتِهم لكم دائمًا غَفلةٌ دائِمةٌ، كما تقولُ لِمَن كتب كتابًا كُلُّه فاسِدٌ: (أنت عالمٌ لَكِنَّك كنتَ ناعِسًا)، ونحوَ هذا [47] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (18/128). .
الوجهُ الرَّابعُ: أنَّه عبَّرَ عن الأصنامِ باسمِ الموصولِ المُختَصِّ بالعُقلاءِ؛ مُعامَلةً للجَمادِ مُعاملةَ العُقلاءِ؛ لأنَّه شاع في كلامِ العَرَبِ إجراؤُها مجرى العُقلاءِ، فكَثُرت في القُرآنِ مُجاراةُ استِعمالِهم في ذلك، ومِثلُ هذا جَعلُ ضمائِرِ جَمعِ العُقلاءِ في قَولِه: وَهُمْ، وقَولِه: غَافِلُونَ [48] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/12). .
9- في قَولِه تعالى: وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ * وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ أنَّ تلك الدَّعوةَ سَبَبٌ لبُغضِ المَدعوِّ للدَّاعي، وعَداوتِه له [49] يُنظر: ((القول المفيد على كتاب التوحيد)) لابن عثيمين (1/280). .
10- قولُه تعالى: وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ * وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ فيه تَسميةُ تلك الدَّعوةِ عِبادةً للمَدعوِّ؛ تُؤخَذُ مِن قَولِه تعالى: وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ [50] يُنظر: ((القول المفيد على كتاب التوحيد)) لابن عثيمين (1/280). .
11- قال تعالى: وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ * وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ، قولُه: وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ فيه كُفرُ المَدعوِّ بتلك العبادةِ، ومعنى كُفرِ المَدعوِّ: ردُّه وإنكارُه، فإذا كان يومُ القيامةِ تَبَرَّأَ منه وأنكرَه [51] يُنظر: ((القول المفيد على كتاب التوحيد)) لابن عثيمين (1/280). .

بلاغة الآيات:

1- قولُه تعالى: قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ اِئْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ
- قولُه: قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ انتِقالٌ إلى الاسْتِدلالِ على بُطلانِ نَفْيِ صِفَةِ الإلهيَّةِ عن أصْنامِ المُشرِكينَ؛ فجُملةُ قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ أمْرٌ بإلْقاءِ الدَّليلِ على إبْطالِ الإشراكِ، وهو أصْلُ ضَلالِهم [52] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/9). .
- والاسْتِفهامُ في أَرَأَيْتُمْ للتَّقريرِ؛ فهو كِنايةٌ عن مَعنى: أخْبِروني [53] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/9). ، أو للتَّوبيخِ [54] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (8/77)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (9/167). .
- وقولُه: أَرُونِي تَصْريحٌ بما كنَّى عنه طَريقُ التَّقريرِ لِقَولِه: أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ [55] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/9). .
- والأمْرُ في أَرُونِي مُسْتعمَلٌ في التَّسخيرِ والتَّعجيزِ؛ كِنايةً عن النَّفيِ إنْ لم يَخْلُقوا مِن الأرضِ شَيئًا، فلا تَسْتَطيعوا أنْ تُرُوني شَيئًا خَلَقوه في الأرضِ [56] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/9). .
- وقولُه: مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ استِفهامُ تَوبيخٍ وإنْكارٍ [57] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (9/431)، ((تفسير ابن عاشور)) (26/9)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (9/167). .
- وقولُه: مِنَ الْأَرْضِ بَيانٌ للإبهامِ في مَاذَا خَلَقُوا، والظَّاهرُ أنَّه يُرِيدُ مِن أجْزاءِ الأرضِ، أي: خلْقُ ذلك إنَّما هو للهِ، أو يكونُ على حَذْفِ مُضافٍ، أي: مِن العالي على الأرضِ، أي: على وَجْهِها؛ مِن حَيوانٍ أو غَيرِه [58] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (9/432)، ((تفسير أبي السعود)) (8/77). .
- الاستِفهامُ المُقدَّرُ بعْدَ (أمْ) المُنقطِعةِ في قولِه: أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ استِفهامٌ إنْكاريٌّ، أي: ليس لهمْ شِركٌ مع اللهِ في السَّمواتِ [59] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/10). .
- وتَخصيصُ الشِّركِ بالسَّمواتِ في أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ احْتِرازٌ عمَّا يُتوهَّمُ أنَّ لِلْوسائطِ شَرِكةً في إيجادِ الحَوادثِ السُّفليَّةِ [60] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (5/111). .
- وإنَّما أُوثِرَ انْتِفاءُ الشَّرِكةِ بالنِّسبةِ لِلشَّرِكةِ في السَّمواتِ دُونَ انتِفاءِ الخَلْقِ، كما أُوثِرَ انتِفاءُ الخلْقِ بالنِّسبةِ إلى الأرضِ؛ لأنَّ مَخلوقاتِ الأرضِ مُشاهَدةٌ للنَّاسِ، ظاهرٌ تَطوُّرُها وحُدوثُها، وأنْ ليس لِمَا يَدْعُونَهم دُونَ اللهِ أدْنَى عمَلٍ في إيجادِها، وأمَّا المَوجوداتُ السَّماويَّةُ، فهي مَحجوبةٌ عن العُيونِ، لا عَهْدَ للنَّاسِ بظُهورِ وُجودِها ولا تَطوُّرِها؛ فلا يَحسُنُ الاستِدلالُ بعَدَمِ تأْثيرِ الأصنامِ في إيجادِ شَيءٍ منها، ولكنْ لَمَّا لم يَدَّعِ المُشرِكون تَصرُّفًا لِلأصنامِ إلَّا في أحوالِ النَّاسِ في الأرْضِ؛ مِن جلْبِ نفْعٍ أو دَفْعِ ضُرٍّ؛ اقتُصِرَ في نَفْيِ تَصرُّفِهم في السَّمواتِ على الاسْتِدلالِ بنَفْيِ أنْ يكونَ لِلْأصنامِ شَرِكةٌ في أُمورِ السَّمواتِ؛ لأنَّ انتِفاءَ ذلك لا يُنازِعون فيه [61] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/10). .
- قولُه: اِئْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ انتِقالٌ مِن الاستِدلالِ بالمُشاهَدةِ وبالإقرارِ إلى الاسْتِدلالِ بالأخبارِ الصَّادِقةِ، وهو اسْتِدلالٌ على إبْطالِ دَعوى المُدَّعي بانْعِدامِ الحُجَّةِ على دَعْواهُ، ويُسَمَّى الإفحامَ [62] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (5/111)، ((تفسير ابن عاشور)) (26/10). . وفيه تَبكيتٌ للمُشرِكين بتَعجيزِهم عن الإتيانِ بسَندٍ نَقْليٍّ، بعْدَ تَبْكيتِهم بالتَّعجيزِ عن الإتيانِ بسَندٍ عَقْليٍّ [63] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (8/78). .
- والإشارةُ في قَولِه: مِنْ قَبْلِ هَذَا إلى القُرآنِ؛ لأنَّه حاضرٌ في أذْهانِ أصحابِ المُحاجَّةِ؛ فإنَّه يُقرَأُ عليهم مُعاوَدةً [64] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/11). . ووَجْهُ تَخصيصِ الكِتابِ بوَصْفِ أنْ يكونَ مِن قبْلِ القُرآنِ؛ لِيُسَدَّ عليهم بابُ المُعارَضةِ بأنْ يأْتوا بكِتابٍ يُصنَعُ لهم، كما قالوا: لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ [65] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/11). [الأنفال: 31] .
- ومعنى قولِه: أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ: أو بَقيَّةٍ بَقِيَت عِندَكم تَرْوُونها عن أهْلِ العِلمِ السَّابِقينَ غيرِ مَسطورةٍ في الكُتبِ، وهذا تَوسيعٌ عليهم في أنواعِ الحُجَّةِ؛ لِيَكونَ عَجْزُهم عن الإتيانِ بشَيءٍ مِن ذلك أقطَعَ لِدَعْواهُم [66] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/11). . وقيل: المُرادُ بالأثارةِ: الخَطُّ في التُّرابِ، وذلك شَيءٌ كانت العرَبُ تَفعَلُه وتَتكهَّنُ به وتَزْجُرُ؛ فيَكونُ مِن بابِ التَّهكُّمِ بهمْ وبأقْوالِهم ودَلائلِهم [67] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (9/432). .
- وفي قولِه: إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ إلْهابٌ وإفحامٌ لهم بأنَّهم غيرُ آتِينَ بحُجَّةٍ؛ لا مِن جانِبِ العقْلِ، ولا مِن جانِبِ النَّقْلِ المَسْطورِ أو المأْثورِ، وقدْ قال تعالَى: فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ [68] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/11). [القصص: 50] .
2- قولُه تعالى: وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ اعتِراضٌ في أثْناءِ تَلْقينِ الاحْتِجاجِ؛ فلمَّا أمَرَ اللهُ تعالَى رَسولَه صلَّى الله عليه وسلَّم بأنْ يُحاجَّهم بالدَّليلِ، وَجَّهَ الخِطابَ إليه؛ تَعجيبًا مِن حالِهِم وضَلالِهم؛ لأنَّ قَولَه: وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً إلخ [الأحقاف: 6] ، لا يُناسِبُ إلَّا أنْ يكونَ مِن جانِبِ اللهِ تعالى [69] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/11). .
- والاستِفهامُ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ ... إنكارٌ وتَعجُّبٌ ونفْيٌ لأنْ يَكونَ أحدٌ يُساوي المُشركينَ في الضَّلالِ، وإنْ كانَ سَبْكُ التَّركيبِ لِنَفْيِ الأضلِّ منْهم مِن غَيرِ تَعرُّضٍ لِنَفْيِ المُساوِي، والمعنى: لا أحَدَ أشدُّ ضَلالًا وأعجَبُ حالًا ممَّن يَدْعونَ مِن دُونِ اللهِ مَن لا يَسْتجيبُ له دُعاءَه؛ فهو أقْصَى حَدٍّ مِن الضَّلالةِ. ووَجْهُ ذلك: أنَّهم ضَلُّوا عن دَلائلِ الوَحدانيَّةِ، وادَّعَوا للهِ شُركاءَ بلا دَليلٍ، واخْتاروا الشُّركاءَ مِن حِجارةٍ -وهي أبعَدُ المَوجوداتِ عن قَبولِ صِفاتِ الخلْقِ والتَّكوينِ والتَّصرُّفِ- ثمَّ يَدْعُونها في نَوائبِهم، وهم يُشاهِدون أنَّها لا تَسمَعُ ولا تُبصِرُ ولا تُجِيبُ، ثمَّ سَمِعوا آياتِ القُرآنِ تُوضِّحُ لهم الذِّكرى بنَقائصِ آلِهَتِهم، فلمْ يَعتَبِروا بها، وزَعَموا أنَّها سِحرٌ ظاهرٌ؛ فكان ضَلالُهم أقْصَى حدٍّ في الضَّلالِ [70] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/295)، ((تفسير البيضاوي)) (5/111)، ((تفسير أبي السعود)) (8/78)، ((تفسير ابن عاشور)) (26/11)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (9/167). .
- وفي قولِه: مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ وَصْفُ الأصنامِ بتَرْكِ الاستِجابةِ والغفْلةِ مع ظُهورِ حالِها؛ لِلتَّهكُّمِ بها وبعَبَدَتِها [71] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/296)، ((تفسير أبي السعود)) (8/78). .
- وأيضًا في قولِه: وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ نُكتةٌ بَلاغيَّةٌ رائعةٌ؛ وذلك أنَّه جُعِلَ يومُ القِيامةِ غايةً لِعَدَمِ الاستِجابةِ، ومِن شأْنِ الغايةِ انتِهاءُ المُغَيَّا عِندَها، لكنَّ عَدَمَ الاستجابةِ مُستمِرٌّ بعْدَ هذه الغايةِ؛ لأنَّهم في القِيامةِ أيضًا لا يَسْتجيبونَ لهم؛ فالوَجْهُ -واللهُ أعلَمُ- أنَّها مِن الغاياتِ المُشعِرةِ بأنَّ ما بعْدَها وإنْ وافَقَ ما قبْلَها، إلَّا أنَّه أزْيَدُ منه زِيادةً بَيِّنةً تُلحِقُه بالثَّاني، حتَّى كأنَّ الحالتَينِ -وإنْ كانَتَا نَوعًا واحدًا؛ لِتَفاوُتِ ما بيْنَهما- كالشَّيءِ وضِدِّه؛ وذلك أنَّ الحالةَ الأُولى الَّتي جُعِلَتْ غايَتُها القِيامةَ لا تَزِيدُ على عَدَمِ الاستِجابِة، والحالةَ الثَّانيةَ الَّتي في القِيامةِ زادَتْ على عَدَمِ الاستِجابةِ بالعَداوةِ وبالكُفْرِ بعِبادتِهم إيَّاهم [72] يُنظر: ((تفسير الزمخشري - حاشية ابن المنير)) (4/295)، ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (14/266)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (9/168). .
- وكذلك: جَعْلُ يَومِ القِيامةِ غايةً لِانتِفاءِ الاستجابةِ كِنايةٌ عن اسْتِغراقِ مُدَّةِ بَقاءِ الدُّنيا [73] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (9/433)، ((تفسير ابن عاشور)) (26/12). .
3- قولُه تعالَى: وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ عطْفٌ على ما قبْلَها؛ لِمُناسَبةِ ذِكرِ يَومِ القِيامةِ [74] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/12). .
- ضَميرا (كانُوا) في الموضعَينِ يجوزُ أنْ يَعودا إلى مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ؛ فإنَّ المشركينَ يُعادُونَ أصنامَهم يومَ القيامةِ إذْ يَجِدونَها مِن أسبابِ شقائِهم. ويجوزُ أنْ يَعودا إلى مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ؛ فإنَّ الأصنامَ يجوزُ أنْ تُعطَى حياةً يَومَئذٍ فتَنطِقَ بالتَّبرِّي عن عُبَّادِها ومِن عبادتِهم إيَّاها. ويجوزُ أنْ يكونَ قَولُه: كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ جاريًا على التَّشبيهِ البليغِ؛ لِمُشابَهتِها لِلْأعداءِ والمُنكِرينَ لِلعِبادةِ في دَلالتِها على ما يُفْضي إلى شَقائِهم وكَذِبِهم [75] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/12). .
- ويَجوزُ أنْ يُرادَ بقولِه: كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ كلُّ ما يُعبَدُ مِن دُونِ اللهِ؛ مِن الملائكةِ، والجنِّ والإنسِ، وغَيرِهم، ويُبْنى إرجاعُ الضَّمائرِ وإسْنادُ العَداوةِ والكُفرِ إليهم على التَّغليبِ [76] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) 8/78). .
- ومِن بَديعِ تَفنُّنِ القُرآنِ: تَوزيعُ مَعادِ الضَّمائرِ في هذه الآيةِ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ مع تَماثُلِها في اللَّفظِ، وهذا يَندرِجُ فيما يُعرَفُ بمُحسِّنِ الجَمْعِ مع التَّفريقِ [77] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/13). والجمعُ والتَّفريقُ: هو أنْ يجمعَ المتكلِّمُ بيْنَ شيئَينِ في حُكمٍ واحدٍ، ثمَّ يُفرِّقَ بيْنَ جِهتَيْ إدخالِهما، كأنْ يُشبِّهَ شَيئينِ بشيءٍ واحدٍ، ثمَّ يُفرِّقَ بيْنَهما في وجهِ الشَّبهِ، وبيْنَ جِهتَيِ الإدخالِ، كقولِه تعالى: يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ [هود: 105] ؛ فالجمعُ قولُه: لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ؛ لأنَّها متعدِّدةٌ معنًى؛ لأنَّ النَّكِرةَ في سِياقِ النَّفيِ تَعُمُّ، والتَّفريقُ قولُه: فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ. يُنظر: ((الإيضاح في علوم البلاغة)) للقزويني (ص: 335)، ((الإتقان)) للسيوطي (3/315)، ((جواهر البلاغة)) للهاشمي (ص: 312)، ((علوم البلاغة)) للمراغي (ص: 333). .