موسوعة التفسير

سورةُ الإسراءِ
الآيات (12-15)

ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ

غريب الكلمات :

مَنْشُورًا: أي: مفتوحًا، والنشرُ: البسطُ، وأصلُ (نشر): يدلُّ على فتحِ شيءٍ وتَشَعُّبِه [172] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/430)، ((المفردات)) للراغب (ص: 805)، ((تفسير ابن كثير)) (5/51)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (3/61).   .
طَائِرَهُ: أي: عَمَلَه مِن خَيرٍ أو شَرٍّ، وما قُدِّرَ عليه، تقولُ العربُ: جرَى طائرُه بكذا مِن الخيرِ، وجرَى له الطائرُ بكذا مِن الشَّرِّ، فخُوطبوا بما يَستعمِلونَ، والطائرُ: الحظُّ [173] يُنظر: ((مجاز القرآن)) لأبي عبيدة (1/372)، ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 252)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 318)، ((الغريبين)) للهروي (4/1195)، ((البسيط)) للواحدي (13/275).   .
وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ: أي: ولا تحمِلُ آثِمةٌ إِثْمَ أُخرى غيرِها، والوِزْرُ هو الإثمُ والذَّنْبُ، والثِّقْلُ والحِمْلُ أيضًا. وقيل: الوِزْرُ: هو الحِمْلُ الثَّقيلُ مِن الإثمِ، وهو الإثمُ العَظيمُ، وأصلُ (وزر): يدلُّ على مَا حمَلَه الإنسانُ، وعلى الثِّقل في الشَّيء؛ ومنه سُمِّي الإثمُ وزرًا؛ لأنَّه يُثقِلُ ظهرَ مَن يَحمِلُه [174] يُنظر: ((العين)) للخليل بن أحمد (7/380)، ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 152)، ((تفسير ابن جرير)) (19/353)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 489)، ((تهذيب اللغة)) للأزهري (13/167)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (6/108)، ((البسيط)) للواحدي (8/88)، ((المفردات)) للراغب (ص: 867).   .

المعنى الإجمالي:

يقولُ تعالى: وجعَلْنا اللَّيلَ والنَّهارَ علامَتَينِ دالَّتَينِ على وَحدانيَّتِنا وقُدرتِنا، فطَمَسْنا القَمرَ؛ لِيَكونَ اللَّيلُ مُظلِمًا، وجعَلْنا الشَّمسَ مُضيئةً لكم في النَّهارِ؛ لتطلُبوا -أيُّها النَّاسُ- فيه ما تحتاجونَه مِن أمورِ معاشِكم، ولتَعلَموا -مِن مَحوِ آيةِ اللَّيلِ- عدَدَ السِّنينَ وحِسابَ الأشهُرِ والأيَّامِ، وكُلَّ شَيءٍ بَيَّناه تَبيينًا كافيًا شافيًا.
وكُلَّ إنسانٍ ألزَمْناه عملَه الذي قدَّرناه عليه، وسبَق به قضاؤُنا مِن خَيرٍ أو شَرٍّ، فيُجازَى عليه وحدَه، فلا يُحاسَبُ بعَمَلِ غَيرِه، ولا يُحاسَبُ غَيرُه بعَمَلِه، ونُخرِجُ له يومَ القيامةِ كِتابًا يراه مَفتوحًا جامعًا لِما عمِلَه، يُقالُ له: اقرأْ كِتابَ أعمالِك، تَكفيك نَفسُك اليومَ شاهِدةً عليك.
ثمَّ ذكَر سبحانَه أنَّ كلَّ إنسانٍ يتحمَّلُ نتيجةَ عملِه، فقال: مَن اهتَدى فاتَّبَع طَريقَ الحَقِّ فإنَّما ثوابُ هدايتِه لنَفسِه، ومَن ضلَّ واتَّبَع طريقَ الباطِلِ فضرَرُ ضَلالِه على نفسِه، ولا تَحمِلُ نَفسٌ مُذنِبةٌ إثمَ نَفسٍ أُخرى، ولا نعذِّبُ أحدًا إلَّا بعد إقامةِ الحُجَّةِ عليه بإرسالِ الرُّسُلِ وإنزالِ الكُتُبِ.

تفسير الآيات:

وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آَيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آَيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آَيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا (12).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
أنَّ اللهَ تعالى لَمَّا بيَّنَ في الآيةِ المتقَدِّمةِ ما أوصَلَ إلى الخَلقِ مِن نِعَمِ الدِّينِ -وهو القُرآنُ- أتبَعَه ببَيانِ ما أوصَلَ إليهم مِن نِعَمِ الدُّنيا [175] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (20/305).   .
وأيضًا فإنَّ اللهَ تعالى لَمَّا بيَّنَ في الآيةِ المتقَدِّمةِ أنَّ هذا القُرآنَ يَهدي للَّتي هي أقوَمُ، وذلك الأقوَمُ ليس إلَّا ذِكرَ الدَّلائِلِ الدَّالَّةِ على التَّوحيدِ والنبُوَّةِ؛ لا جَرَمَ أردَفَه بذِكرِ دلائِلِ التَّوحيدِ، وهو عجائِبُ العالَمِ العُلويِّ والسُّفليِّ [176] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (20/305).   .
وأيضًا لما ذكَر عجلةَ الإنسانِ وانتقالَه مِن حالٍ إلى حالٍ؛ ذكَر أنَّ كلَّ هذا العالمِ كذلك في الانتقالِ لا يثبتُ على حالٍ، فنورٌ عقِبَ ظلمةٍ، وبالعكسِ، وازديادُ نورٍ وانتقاصٌ [177] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (7/19).   .
وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آَيَتَيْنِ.
أي: وجعَلْنا بعَظَمتِنا الباهرةِ اللَّيلَ والنَّهارَ علامَتَينِ دالَّتَينِ على وُجودِ اللهِ ووحدانيَّتِه، وكمالِ قُدرتِه ورَحمتِه بعبادِه، وأنَّه المُستَحِقُّ للعبادةِ وَحْدَه لا شَريكَ له [178] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (14/515)، ((تفسير القرطبي)) (10/227)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (11/384)، ((تفسير السعدي)) (ص: 454)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (3/55). قال القرطبي: (والآيةُ فيهما: إقبالُ كُلٍّ منهما مِن حَيثُ لا يُعلَمُ، وإدبارُه إلى حيثُ لا يُعلَمُ. ونُقصانُ أحدِهما بزيادةِ الآخَرِ وبالعكس آيةٌ أيضًا. وكذلك ضَوءُ النَّهارِ، وظُلمةُ اللَّيلِ). ((تفسير القرطبي)) (10/227). ويُنظر: ((تفسير القاسمي)) (6/447).   .
كما قال تعالى: وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ * وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ * وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ * لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ [يس: 37 - 40] .
وقال سُبحانَه: وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ [فصلت: 37] .
فَمَحَوْنَا آَيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آَيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً.
أي: فطَمَسْنا القَمَرَ؛ لِيَكونَ اللَّيلُ مُظلِمًا، وجعَلْنا الشَّمسَ مُضيئةً لكم في النَّهارِ [179] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (14/515)، ((تفسير القرطبي)) (10/227)، ((تفسير السعدي)) (ص: 454)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (3/56، 57). والمرادُ بآيةِ الليلِ: القمرُ، وبآيةِ النهارِ: الشمسُ. وهو قولُ مقاتلِ بنِ سليمانَ، وظاهرُ قولِ ابنِ جريرٍ، والزجاجِ، والرازي، والقرطبي، وابنِ تيميةَ، وابنِ القيمِ. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (2/524)، ((تفسير ابن جرير)) (14/515)، ((معاني القرآن وإعرابه)) للزجاج (3/230)، ((تفسير الرازي)) (20/306)، ((تفسير القرطبي)) (10/227)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (17/506)، ((بدائع الفوائد)) لابن القيم (2/217). قال ابن كثير: (ثمَّ إنه تعالى جعل للَّيلِ آيةً، أي: علامةً يُعرَفُ بها، وهي الظلامُ وظهورُ القمَرِ فيه، وللنَّهار علامةً، وهي النورُ وظهورُ الشمس النيِّرة فيه، وفاوَتَ بين ضياء القمر وبرهانِ الشَّمسِ؛ ليُعرَفَ هذا من هذا). ((تفسير ابن كثير)) (5/50). واختُلِف في معنى محوِ القمر، فقيل: المراد به: الكَلَف الذي يظهَرُ في وجهه، على اعتبارِ أن الشمس والقمر كانا سواءً في النور ثم طُمِسَ الضوء عن القمر. وممن قال بذلك: علي بن أبي طالب، وابن عباس، ومجاهد. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (14/515-517). وقيل: المراد: أنه جُعل مظلمًا في نفسِه، مطموسَ النورِ، أي: لم يُجعل في القمرِ -منذُ أولِ خلقِه- شعاعٌ كشعاعِ الشمسِ تُرى به الأشياء رؤيةً بينةً، فنقصُ نورِ القمرِ عن نورِ الشمسِ هو معنَى الطمسِ على هذا القولِ. وهذا ما استظهره ابنُ عطيةَ، والشنقيطي. يُنظر: ((تفسير ابن عطية)) (3/442)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (3/57). قال ابن عطية: (وقالت فرقة، وهو الظاهر: إنَّ قولَه: فَمَحَوْنَا إنما يريدُ في أصل خلقتِه، وهذا كما تقولُ: بنيت داري فبدأت بالأُسِّ، ثم تابعتُ، فلا تريدُ بالفاء التعقيب). ((تفسير ابن عطية)) (3/442). وقيل: المرادُ منه: ما يظهرُ في القمرِ مِن الزيادةِ والنقصانِ في النورِ، فيبدو في أولِ الأمرِ في صورةِ الهلالِ، ثمَّ لا يزالُ يتزايدُ نورُه حتى يصيرَ بدرًا كاملًا، ثم يأخذُ في الانتقاصِ قليلًا قليلًا، وذلك هو المحوُ، إلى أن يعودَ إلى المحاقِ. ومال إليه الرازي. يُنظر: ((تفسير الرازي)) (20/306). والوجهُ الثاني في معنى آيةِ الليلِ وآيةِ النهارِ: أنَّ المرادَ بالآيتينِ نفسُ اللَّيلِ والنَّهارِ، لا الشَّمسُ والقمرُ، فتكون إِضافة الآيةِ إلى اللَّيلِ والنَّهارِ مِنْ إضافةِ الشَّيءِ إلى نفسِه معَ اختلافِ اللَّفظِ، أي: الآية التي هي الليلُ، والآية التي هي النهارُ، ومحوُ آيةِ الليلِ على هذا كونُه مظلمًا. يُنظر: ((تفسير ابن جزي)) (1/442)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (3/58). .
كما قال تعالى: هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا [يونس: 5] .
لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ.
أي: جَعَلْنا آيةَ النَّهارِ مُبصِرةً؛ لتتَوصَّلوا بضِياءِ النَّهارِ إلى طَلَبِ الرِّزقِ الذي يُيَسِّرُه لكم رَبُّكم مِنْ فَضلِه الواسِعِ [180] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (14/515)، ((البسيط)) للواحدي (13/274)، ((تفسير الشوكاني)) (3/253). وممن قال مِن المفسرينَ: إنَّ قولَه تعالى: لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ عائدٌ إلى آيةِ النهارِ المبصرةِ، أي: لتبتغوا في النهارِ: ابنُ جريرٍ، والسمرقندي، والواحدي، والسمعاني، والقرطبي، وابن جزي، وابنُ كثيرٍ، والشوكاني. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (14/515)، ((تفسير السمرقندي)) (2/304)، ((البسيط)) للواحدي (13/274)، ((تفسير السمعاني)) (3/225)، ((تفسير القرطبي)) (10/228)، ((تفسير ابن جزي)) (1/443)، ((تفسير ابن كثير)) (5/49)، ((تفسير الشوكاني)) (3/253). قال الشوكاني: (ولم يذكُرْ هنا السُّكونَ في اللَّيلِ اكتفاءً بما قاله في موضعٍ آخرَ: هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا [يونس: 67] ). ((تفسير الشوكاني)) (3/253). .
كما قال تعالى: وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [القصص: 73] .
وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ.
أي: ومَحَوْنا آيةَ اللَّيلِ؛ لِتَعلَموا عدَدَ السَّنَواتِ، وتَعلَموا حِسابَ اللَّيالي والشُّهورِ، فتَنتَفِعوا بذلك في أمورِ دِينِكم ودُنياكم [181] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (14/515)، ((تفسير القرطبي)) (10/228)، ((تفسير ابن كثير)) (5/49)، ((تفسير السعدي)) (ص: 454)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (3/56، 57). وممَّن قال بأنَّ قوله تعالى: وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ عائدٌ إلى محوِ آيةِ الليل لا آيةِ النهارِ: الواحدي، وابنُ الجوزي، وابنُ عطية. يُنظر: ((الوجيز)) للواحدي (ص: 629)، ((الوسيط)) للواحدي (3/99)، ((تفسير ابن الجوزي)) (3/13)، ((تفسير ابن عطية)) (3/442). قال ابن عطية: (وجعل الله تعالى النَّهارَ مُبصِرًا ليبتغيَ النَّاسُ الرزقَ وفضلَ اللهِ، وجعلَ القمَرَ مُخالِفًا للشَّمسِ لِيُعلمَ به العددُ مِن السنينَ والحسابِ للأشهرِ وللأيام، ومعرفةُ ذلك في الشَّرعِ إنَّما هي من جهةِ القمَرِ لا من جهةِ الشَّمسِ). ((تفسير ابن عطية)) (3/442). ومن المفسِّرين من جعَلَ قَولَه تعالى: وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ عائدًا إلى اختلافِ الليلِ والنهارِ وتعاقُبِهما. ومنهم: ابنُ جرير، وابنُ أبي زمنين، وهو ظاهرُ قولِ الرسعني، وهو قولُ ابن جُزي، والسعدي، والشنقيطي. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (14/515)، ((تفسير ابن أبي زمنين)) (3/14)، ((تفسير الرسعني)) (4/137)، ((تفسير ابن جزي)) (1/443)، ((تفسير السعدي)) (ص: 454)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (3/56-57). قال الشوكاني: (وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وهذا متعلِّقٌ بالفعلينِ جميعًا، أعني مَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لا بأحدِهما فقطْ كالأوَّلِ؛ إذ لا يكونُ علمُ عددِ السِّنينَ والحسابِ، إلَّا باختلافِ الجديدينِ، ومعرفةِ الأيَّامِ والشُّهورِ والسِّنينَ). ((تفسير الشوكاني)) (3/253). قال البقاعي: (عَدَدَ السِّنِينَ أي: مِن غيرِ حاجةٍ إلى حسابٍ؛ لأنَّ النيِّرينِ يدلَّانِ على تحوُّلِ الحَولِ بمجَرَّدِ تنقُّلِهما. ولَمَّا كانا أيضًا يدلَّانِ على حسابِ المطالع والمغارب، والزيادةِ والنقصان، وغير ذلك من الكوائنِ، لِمَن أمعن النظَرَ، وبالغَ في الفِكرِ- قال تعالى: وَالْحِسَابَ). ((نظم الدرر)) (11/385). وقال ابن عاشور: (ثم ذُكِرَت حكمةٌ أخرى حاصلةٌ مِن كلتا الآيتين، وهي حكمةُ حِسابِ السنينَ، وهي في آيةِ اللَّيلِ أظهَرُ؛ لأنَّ جمهورَ البشَرِ يَضبِطُ الشهورَ والسنينَ بالليالي، أي: حسابِ القمَرِ). ((تفسير ابن عاشور)) (15/45). .
كما قال تعالى: هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ [يونس: 5] .
وقال سُبحانَه: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ [البقرة: 189] .
وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا.
أي: وكلَّ شَيءٍ تَحتاجونَ -أيُّها النَّاسُ- إلى بيانِه مِن مَصالحِ دِينِكم ودُنياكم بيَّنَّاه لكم في القُرآنِ بَيانًا واضِحًا شافيًا لا لَبْسَ فيه ولا نَقْصَ بوجهٍ مِنَ الوُجوهِ [182] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (14/515)، ((تفسير ابن الجوزي)) (3/13)، ((تفسير الرازي)) (20/307)، ((تفسير الشوكاني)) (3/253).   .
كما قال تعالى: وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ [النحل: 89] .
وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا (13).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
لَمَّا قال الله تعالى: وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا [الإسراء: 12] كان معناه: أنَّ كلَّ ما يُحتاجُ إليه مِن شَرحِ دلائِلِ التوحيدِ والنبُوَّةِ والمعادِ، فقد صار مذكورًا، وكُلَّ ما يُحتاجُ إليه من شرحِ أحوالِ الوَعدِ والوعيدِ والتَّرغيبِ والترهيب، فقد صار مذكورًا، وإذا كان الأمرُ كذلك فقد أزيحت الأعذارُ، وأزيلت العِلَلُ؛ فلا جرم كُلُّ مَن ورد عَرصةَ القيامةِ فقد ألزَمْناه طائِرَه في عنُقِه، ونقولُ له: اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا [183] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (20/308).   .
وأيضًا فإنَّه لَمَّا كان سياقُ الكلامِ جاريًا في طريقِ التَّرغيبِ في العَمَلِ الصَّالحِ، والتَّحذيرِ مِن الكُفرِ والسَّيِّئاتِ، ابتداءً مِن قَولِه تعالى: إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ إلى قَولِه تعالى: عَذَابًا أَلِيمًا [الإسراء: 9- 10] وما عقَّبه ممَّا يتعلَّقُ بالبِشارةِ والنِّذارة، وما أُدمِجَ في خلالِ ذلك مِن التذكيرِ، ثمَّ بما دلَّ على أنَّ عِلمَ اللهِ مُحيطٌ بكُلِّ شَيءٍ تفصيلًا، وكان أهمُّ الأشياءِ في هذا المقامِ إحاطةَ عِلمِه بالأعمالِ كُلِّها- فأعقب ذِكرَ ما فصَّله اللهُ مِن الأشياء بالتَّنبيهِ على تفصيلِ أعمالِ النَّاسِ تَفصيلًا لا يقبَلُ الشَّكَّ ولا الإخفاءَ، وهو التَّفصيلُ المشابِهُ للتَّقييدِ بالكتابةِ، فعطفَ قَولَه: وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ على قَولِه: وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا [الإسراء: 12] عَطْفَ خاصٍّ على عامٍّ؛ للاهتمامِ بهذا الخاصِّ [184] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (15/46).   .
وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ.
أي: وكلَّ إنسانٍ منكم ألزَمْناه عملَه الذي قدَّرْناه عليه؛ وسبَق به قضاؤُنا مِن خَيرٍ أو شَرٍّ، الصادرَ منه باختيارِه، فيُجازَى عليه وَحْدَه، فلا يُحاسَبُ بعَمَلِ غَيرِه، ولا يُحاسَبُ غَيرُه بعَمَلِه [185] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (14/518، 523)، ((تفسير ابن عطية)) (3/442)، ((شفاء العليل)) لابن القيم (ص: 61)، ((تفسير ابن كثير)) (5/50، 51)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (11/386)، ((تفسير الألوسي)) (8/30)، ((تفسير السعدي)) (ص: 455)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (3/60). وممن اختَار أنَّ المعنى: ألزَمْناه ما قدِّر له في الأزلِ مِن عملٍ وشقاوةٍ أو سعادةٍ: ابنُ جرير، والسمعاني، وابنُ عطيةَ، والرسعني. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (14/523)، ((تفسير السمعاني)) (3/225)، ((تفسير ابن عطية)) (3/442)، ((تفسير الرسعني)) (4/137). وممن اختار أنَّ المعنى: ألزَمْناه عملَه يُجازَى به وحدَه لا غيرُه: الماتريدي، وابنُ جزي، وابنُ كثير، والعليمي، والسعدي . يُنظر: ((تفسير الماتريدي)) (7/17)، ((تفسير ابن جزي)) (1/443)، ((تفسير ابن كثير)) (5/50) ، ((تفسير العليمي)) (4/86)، ((تفسير السعدي)) (ص: 455). وممن جمَع بينَ المعنيين: البقاعي، والألوسي. يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (11/386)، ((تفسير الألوسي)) (8/30). قال الشنقيطي: (في قولِه جل وعلا في هذه الآيةِ الكريمةِ: وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ  وجهانِ معروفانِ مِن التفسيرِ: الأول: أنَّ المرادَ بالطائرِ: العملُ، مِن قولِهم: «طار له سهمٌ»؛ إذا خرَج له، أي: ألزمناه ما طار له مِن عملِه. الثاني: أنَّ المرادَ بالطائرِ: ما سبَق له في علمِ الله مِن شقاوةٍ أو سعادةٍ، والقولانِ متلازمانِ؛ لأنَّ ما يطيرُ له مِن العملِ هو سببُ ما يَئولُ إليه مِن الشقاوةِ أو السعادةِ... والوجهانِ المذكورانِ في تفسيرِ هذه الآيةِ الكريمةِ كلاهما يشهدُ له قرآنٌ. أمَّا على القولِ الأولِ بأنَّ المرادَ بطائرِه عملُه، فالآياتُ الدالةُ على أنَّ عملَ الإنسانِ لازمٌ له كثيرةٌ جدًّا؛ كقولِه تعالى: لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ الآية [النساء: 123] ، وقولِه: إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [الطور: 16]، وقوله تعالى: يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ [الانشقاق: 6] ، وقوله: مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا [فصلت: 46] ، وقوله: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ [الزلزلة: 7، 8]. والآياتُ بمثلِ هذا كثيرةٌ جدًّا. وأمَّا على القولِ بأنَّ المرادَ بطائرِه نصيبُه الذي طار له في الأزلِ مِن الشقاوةِ أو السعادةِ، فالآياتُ الدالةُ على ذلك أيضًا كثيرةٌ؛ كقولِه: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِن [التغابن: 2]، وقوله: فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ [الأعراف: 30] ، وقوله: فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ [الشورى: 7] ، إلى غيرِ ذلك مِن الآياتِ). ((أضواء البيان)) (3/60). .
كما قال تعالى: يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا [آل عمران: 30] .
وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا.
أي: ونُظهِرُ لكُلِّ إنسانٍ يومَ القيامةِ كِتابَ أعمالِه، يَجِدُه مَفتوحًا، حاويًا لكلِّ ما عَمِلَه في الدُّنيا مِن خَيرٍ أو شَرٍّ [186] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (14/523)، ((تفسير ابن كثير)) (5/51)، ((تفسير القاسمي)) (6/449)، ((تفسير السعدي)) (ص: 455)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (3/61).   .
كما قال تعالى: وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَاوَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا [الكهف: 49] .
وقال سُبحانَه: فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ * فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا * وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا * وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ * فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا * وَيَصْلَى سَعِيرًا [الانشقاق: 7-12] .
اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا (14).
أي: يُقالُ لكلِّ إنسانٍ يومَ القيامةِ: اقرأْ كِتابَ أعمالِك التي كَتَبَها الحَفَظةُ فيه، ويَكفي لإحصاءِ أعمالِك نَفسُك؛ فهي الشَّاهِدةُ بأنَّك لم تُظلَمْ، ولم يُكتَبْ عليك سِوى ما عَمِلْتَ [187] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (14/525)، ((تفسير ابن كثير)) (5/51)، ((تفسير السعدي)) (ص: 455)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (3/62).   .
مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا (15).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
أنَّ اللهَ تعالى لَمَّا قال في الآيةِ الأولى: وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ [الإسراء: 13] ومعناه: أنَّ كُلَّ أحَدٍ مُختَصٌّ بعَمَلِ نَفسِه، عبَّرَ عن هذا المعنى بعبارةٍ أخرى أقرَبَ إلى الأفهامِ، وأبعَدَ عن الغَلَطِ [188] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (20/311).   .
فهذه الجُملةُ بَيانٌ أو بدَلُ اشتِمالٍ مِن جُملةِ وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ مع توابِعِها، وفيه تَبيينُ اختِلافِ الطَّائِرِ بين نافعٍ وضارٍّ؛ فطائِرُ الهدايةِ نَفْعٌ لصاحبِه، وطائِرُ الضَّلالِ ضُرٌّ لصاحِبِه [189] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (15/49).   .
مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ.
أي: مَن اهتَدى فاتَّبَعَ الحقَّ فإنَّما ينفَعُ نَفْسَه بالجزاءِ الحَسَنِ، والعاقبةِ الحَميدةِ في الدُّنيا والآخرةِ [190] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (14/525)، ((تفسير القرطبي)) (10/230)، ((تفسير ابن كثير)) (5/52)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (3/63).   .
كما قال تعالى: مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [النحل: 97] .
وقال سُبحانَه: مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ [فصلت: 46] .
وقال عزَّ وجلَّ: مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ * لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ [الروم: 44، 45].
وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا.
أي: ومَن ضلَّ عن الحَقِّ فإنَّما يجني على نَفسِه، فيَقَعُ ضَرَرُ ذلك عليه في الدُّنيا والآخرةِ [191] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (14/525)، ((تفسير ابن كثير)) (5/52)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (3/63).   .
وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى.
أي: ولا تَحمِلُ نَفسٌ آثِمةٌ إثمَ نَفسٍ أُخرى، ولا يَحمِلُ أحدٌ ذَنْبَ غَيرِه [192] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (14/526)، ((تفسير ابن كثير)) (5/52)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (3/64).   .
كما قال تعالى: وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى [فاطر: 18].
وقال سُبحانَه: وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى [الأنعام: 164] .
وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا.
أي: وما كُنَّا مُعَذِّبينَ قَومًا إلَّا بعدَ إقامةِ الحُجَّةِ عليهم بإرسالِ رَسولٍ إليهم، فإذا رَدُّوا الحَقَّ عذَّبْناهم بما يَستَحِقُّونَ [193] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (14/526)، ((تفسير ابن كثير)) (5/52)، ((تفسير ابن جزي)) (1/443)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (11/388)، ((تفسير الشوكاني)) (3/254)، ((تفسير السعدي)) (ص: 455). قال ابنُ جزي: (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا قيل: إنَّ هذا في حُكمِ الدُّنيا، أي: أنَّ اللهَ لا يُهلِكُ أمَّةً إلَّا بعد الإعذارِ إليهم بإرسالِ رَسولٍ إليهم. وقيل: هو عامٌّ في الدُّنيا والآخرةِ، وأنَّ اللهَ لا يُعَذِّبُ قَومًا في الآخرة إلَّا وقد أرسَلَ إليهم رسولًا فكَفَروا به وعَصَوه، ويدُلُّ على هذا قَولُه تعالى: كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ * قَالُوا بَلَى [الملك: 8- 9] ). ((تفسير ابن جزي)) (1/443). وقال الشوكاني: (الظاهِرُ أنَّه لا يُعَذِّبُهم لا في الدُّنيا ولا في الآخرةِ إلَّا بعد الإعذارِ إليهم بإرسالِ الرُّسُلِ). ((تفسير الشوكاني)) (3/254). .
كما قال تعالى: وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ [القصص: 59] .
وقال سُبحانَه: وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَهَا مُنْذِرُونَ * ذِكْرَى وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ [الشعراء: 208، 209].
وقال عزَّ وجلَّ: وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ [فاطر: 37].
وقال تبارك وتعالى: وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ * قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ [الزمر: 71- 72] .
وقال جلَّ جلاله: كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ * قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ * وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ * فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ [الملك: 8 - 11] .

الفوائد التربوية:

1- قال تعالى: لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ والابتِغاءُ: هو طلَبُ الشَّيءِ بسَعيٍ إليه ومحبَّةٍ فيه، ويُسمِّي تعالى طلَبَ أسبابِ الحياةِ ابتغاءً؛ تَنبيهًا على هذا السَّعيِ وهذه المحبَّةِ، فهُما الشَّرطانِ اللَّازمانِ للفوزِ بالمطلوبِ، كما يسمِّي تعالى المطلوبَ بالابتغاءِ فَضلًا مِن الرَّبِّ، وفَضلُه من رحمتِه، ورحمتُه واسِعةٌ لا تَضبِطُها حدودٌ، ولا تَحصُرُها الأعدادُ؛ تنبيهًا على سَعةِ هذا الفَضلِ لِيَذهَبَ الخَلقُ في جميعِ نواحيه، ويأخذوا بجَميعِ أسبابِه ممَّا أذِنَ لهم فيه، وليكونوا إذا ضاق بهم مذهَبٌ آخذين بمذهبٍ آخَرَ مِن مَسالكِ هذا الفَضلِ الربَّاني الواسِعِ غيرِ المحصورِ، وتنبيهًا أيضًا على قوَّةِ الرجاءِ في الحُصولِ على البُغيةِ؛ لأنَّ طلَبَهم طلَبٌ لِفَضلِ رَبٍّ كريمٍ، ويقولُ تعالى: مِنْ رَبِّكُمْ والربُّ: المالِكُ المدَبِّرُ لمملوكِه بالحِكمةِ، فيُعطيه في كلِّ حالٍ مِن أحوالِه ما يليقُ به؛ ليَكونَ الخَلقُ بعد قيامِهم بالعمَلِ راضين بما ييسِّرُه الله من أسبابٍ، وما يقسِمُه لهم مِن رزقٍ؛ ثِقةً بعَدلِه وحِكمتِه، فلا يبغي أحدٌ على أحدٍ بتعَدٍّ أو حسَدٍ، فجَمَعت هذه الآيةُ جَميعَ أصولِ السَّعادةِ في هذه الحَياةِ:
- بالعَمَلِ مع الجِدِّ فيه، والمحبَّةِ له والرَّجاءِ في ثَمَرتِه، الذي به قِوامُ العُمرانِ.
- وبالرِّضا والتَّسليم للمَولى، الذي به طُمأنينةُ القَلبِ وراحةُ الضَّميرِ.
- وبالكَفِّ للقَلبِ واليَدِ عن النَّاسِ، الذي به الأمنُ والسَّلامُ [195] يُنظر: ((تفسير ابن باديس)) (ص: 48).   .
2- قال تعالى: وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا فكُلُّ ما يحتاجُ إليه العِبادُ لتَحصيلِ السَّعادتينِ من عقائِدِ الحَقِّ، وأخلاقِ الصِّدقِ، وأحكامِ العَدلِ، ووجوهِ الإحسانِ، كُلُّ هذا فُصِّل في القُرآنِ تَفصيلًا، وهذا دُعاءٌ وترغيبٌ للخَلقِ أن يَطلُبوا ذلك كُلَّه مِن القرآنِ الذي يهدي للتي هي أقومُ في العِلمِ والعَمَلِ، ويأخُذوا منه ويهتَدوا به؛ فهو الغايةُ التي ما وراءها غايةٌ في الهُدى والبيانِ [196] يُنظر: ((تفسير ابن باديس)) (ص: 49).   .
3- قال الله تعالى: وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا * اقْرَأْ كَتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا إذا عرف الإنسانُ هذا وعنده مُسكةٌ مِن عَقلٍ، يَجِبُ عليه في دارِ الدُّنيا -وقتَ إمكانِ الفُرصةِ- ألَّا يُخزيَ نَفسَه ويُخجِلَها على رؤوسِ الأشهادِ خِزيًا وخَجَلًا يجُرُّه إلى النَّارِ؛ فالرَّحيلُ قَريبٌ والمحاسَبةُ حَقٌّ، وكُلُّ ما فعله الإنسانُ مُسَجَّلٌ عليه، وسيُقرأُ على رؤوسِ الأشهادِ، وسيَجِدُه في كتابٍ مَنشورٍ؛ فعلينا ألَّا نفضَحَ أنفُسَنا يومَ القيامةِ، ففَضيحةُ الآخرةِ وخِزيُها ليست كفَضيحةِ الدُّنيا؛ وألَّا نُفوِّتَ الفُرصةَ وأن ننتَهِزَها قبل أن يَضيعَ الوَقتُ ويُجرَّ الإنسانُ إلى القبرِ ليس عنده حَسَناتٌ؛ وألَّا نُفرِّطَ لئلَّا نندَمَ حيث لا ينفَعُ النَّدمُ [197] يُنظر: ((العذب النمير)) للشنقيطي (3/63).   !

الفوائد العلمية واللطائف:

1- قَولُ الله تعالى: وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ أصلٌ في عِلمِ المَواقيتِ والهَيئةِ والتَّاريخِ [198] يُنظر: ((الإكليل)) للسيوطي (ص: 166).   .
2- في قوله تعالى: وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ حجةٌ على المعتزلةِ والقَدَرِيَّةِ في إلزامِ الطائرِ، والطائرُ: ما قُضِي عليهم مِن الشقاوةِ والسعادةِ [199] يُنظر: ((النكت الدالة على البيان)) للقصاب (2/108).   ، وذلك على أحدِ القولينِ في التفسيرِ.
3- قَولُ الله تعالى: وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا -على أحدِ القولينِ في تفسيرِ الآيةِ- مِن أدَلِّ الدَّلائِلِ على أنَّ كُلَّ ما قدَّرَه اللهُ تعالى للإنسانِ وحَكَمَ عليه به في سابِقِ عِلْمِه، فهو واجِبُ الوُقوعِ، مُمتَنِعُ العَدَمِ، وتَقريرُه مِن وَجهَينِ:
الوجهُ الأوَّلُ: أنَّ تقديرَ الآيةِ: وكُلَّ إنسانٍ ألزَمْناه عَمَلَه في عُنُقِه، فبيَّن تعالى أنَّ ذلك العَمَلَ لازِمٌ له، وما كانَ لازِمًا للشَّيءِ كانَ مُمتَنِعَ الزَّوالِ عنه، واجِبَ الحُصولِ له، وهو المقصودُ.
الوجهُ الثَّاني: أنَّه تعالى أضاف ذلك الإلزامَ إلى نَفْسِه؛ لأنَّ قَولَه: أَلْزَمْنَاهُ تصريحٌ بأنَّ ذلك الإلزامَ إنَّما صدَرَ منه، ونظيرُه قَولُه تعالى: وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى [الفتح: 26] وهذه الآيةُ دالَّةٌ على أنَّه لا يَظهَرُ في الأبَدِ إلَّا ما حَكَمَ اللهُ به في الأزَلِ [200] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (20/309).   .
4- قَولُ الله تعالى: اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا لا ينافي قولَه تعالى: وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ [الأنبياء: 47] ؛ لأنَّ في يَومِ القيامةِ مَواقِفَ مُختَلِفةً؛ ففي موقِفٍ يَكِلُ اللهُ حِسابَهم إلى أنفُسِهم، وعِلمُه مُحيطٌ بهم، وفي مَوقِفٍ يُحاسِبُهم هو تعالى. وقيل: إنَّ اللهَ تعالى هو الذي يُحاسِبُهم لا غيرُ، وقَولُه: كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا أي: يكفيك أنَّك شاهِدٌ على نَفسِك بذُنوبِها، فهو توبيخٌ وتَقريعٌ، لا تَفويضُ حِسابِ العَبدِ إلى نَفسِه. وقيل غيرُ ذلك [201] يُنظر: ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص: 320).   .
5- قَولُ الله تعالى: مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى هذه الآيةُ تدُلُّ على أنَّ ثَوابَ العَمَلِ الصَّالحِ مُختَصٌّ بفاعِلِه، وعِقابَ الذَّنبِ مُختَصٌّ بفاعِلِه، لا يتعَدَّى منه إلى غَيرِه؛ كقَولِه تعالى: وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى [202] يُنظر: ((تفسير ابن عادل)) (12/228).   [النجم: 39-40] .
6- قال اللهُ تعالى: وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى أي: لا يَحمِلُ أحَدٌ ذَنْبَ أحَدٍ، ولا يَجني جانٍ إلَّا على نَفسِه، كما قال تعالى: وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ [فاطر: 18] . ولا مُنافاةَ بين هذا وبينَ قَولِه تعالى: وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ [العنكبوت: 13] ، وقَولِه تعالى وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ [النحل: 25] ؛ فإنَّ الدُّعاةَ عليهم إثمُ ضَلالِهم في أنفُسِهم، وإثمٌ آخَرُ بسَبَبِ ما أضَلُّوا مَن أضَلُّوا مِن غَيرِ أن يَنقُصَ مِن أوزارِ أولئك، ولا يَحمِلوا عنهم شيئًا، وهذا مِن عَدلِ اللهِ ورَحمتِه بعِبادِه [203] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (5/52).   .
7- قَولُه تعالى: مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا حكَمَ سُبحانَه لعبادِه بأربعةِ أحكامٍ هي غايةُ العَدلِ والحِكمةِ:
أحدُها: أنَّ هُدى العبدِ بالإيمانِ والعَمَلِ الصَّالحِ لِنَفسِه لا لِغَيرِه.
الثاني: أنَّ ضَلالَه بفَواتِ ذلك وتخَلُّفِه عنه على نَفسِه لا على غَيرِه.
الثالث: أنَّ أحدًا لا يُؤاخَذُ بجَريرةِ غَيرِه.
الرابع: أنَّه لا يُعَذِّبُ أحدًا إلَّا بعدَ إقامةِ الحُجَّةِ عليه برسُلِه. فتأمَّلْ ما في ضِمْنِ هذه الأحكامِ الأربعةِ مِن حِكمَتِه تعالى وعَدْلِه وفَضْلِه [204] يُنظر: ((الروح)) لابن القيم (ص: 127).   .
8- العُقوبةُ قبلَ الحُجَّةِ ليسَت مَشروعةً؛ قال تعالى: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا؛ ولهذا قال الفُقَهاءُ في البُغاةِ: إنَّ الإمامَ يُراسِلُهم، فإنْ ذَكَروا شُبهةً بَيَّنَها، وإن ذَكَروا مَظلِمةً أزالَها، كما أرسَلَ عليٌّ ابنَ عَبَّاسٍ إلى الخوارِجِ، فناظَرَهم حتى رجَعَ منهم أربعةُ آلافٍ، وكما طلَبَ عُمَرُ بنُ عبدِ العَزيزِ دُعاةَ القَدَريَّةِ والخوارِجِ، فناظَرَهم حتى ظهَرَ لهم الحَقُّ وأقَرُّوا به [205] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (3/240).   .
9- في قَولِه تعالى: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا دَلالةٌ على أنَّ الحَدَّ لا يَجِبُ إلَّا على مَن بَلَغَه التَّحريمُ [206] يُنظر: ((منهاج السنة النبوية)) لابن تيمية (6/88).   .
10- قال تعالى: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا فالله تعالى أعدَلُ العادلينَ لا يعَذِّبُ أحدًا حتى تقومَ عليه الحُجَّةُ بالرِّسالةِ ثمَّ يعانِدَ الحُجَّةَ، وأمَّا من انقاد للحُجَّةِ أو لم تبلُغْه حُجَّةُ الله تعالى، فإنَّ اللهَ تعالى لا يعَذِّبُه. واستُدِلَّ بهذه الآيةِ على أنَّ أهلَ الفَتراتِ وأطفالَ المُشرِكين لا يعَذِّبُهم اللهُ حتى يبعَثَ إليهم رسولًا؛ لأنَّه مُنزَّهٌ عن الظُّلمِ [207] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 455). قال ابن تيمية: (ومَن لم تَقُم عليه الحُجَّةُ في الدنيا بالرِّسالةِ، كالأطفالِ والمجانينِ وأهلِ الفتراتِ، فهؤلاء فيهم أقوالٌ أظهَرُها ما جاءت به الآثارُ: أنَّهم يُمتحَنون يومَ القيامة، فيُبعَثُ إليهم من يأمُرُهم بطاعتِه، فإن أطاعوه استحقُّوا الثوابَ، وإن عصَوه استحقُّوا العذابَ). ((الجواب الصحيح)) (1/312). ويُنظر: ((طريق الهجرتين)) لابن القيم (ص: 369)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (3/73).   .
11- قولُه تعالى: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا استدلَّ أهلُ السنةِ به على أنَّ التكليفَ لا يلزمُ العبادَ إلَّا مِن الشرعِ، لا مِن مجردِ العقلِ [208] يُنظر: ((تفسير ابن جزي)) (1/443).   .

بلاغة الآيات:

1- قَولُه تعالى: وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا
- قولُه: وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً فيه فَنُّ الجمْعِ مع التَّفريقِ، وهو أنْ يجمَعَ المُتكلِّمُ بين شَيئينِ في حكْمٍ واحدٍ، ثمَّ يُفرِّقُ بينهما في ذلك الحُكْمِ [209] يُنظر: ((إعراب القرآن وبيانه)) لدرويش (5/402).   .
- وفيه تَقديمُ اللَّيلِ؛ لمُراعاةِ التَّرتيبِ الوُجوديِّ؛ إذ منه ينسلِخُ النَّهارُ، وفيه تَظهَرُ غُرَرُ الشُّهورِ، ولتَرتيبِ غايةِ آيةِ النَّهارِ عليها بلا واسطةٍ [210] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (5/159).   .
- قولُه: فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ، أي: جعَلْناها لا تُبْصَرُ المرئيَّاتُ فيها، كما لا يُبْصَرُ ما مُحِيَ من الكتابِ، وهذا من البلاغةِ الحَسنةِ جِدًّا [211] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (7/20).   .
- قولُه: وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً نسَبَ الإبصارَ إلى آيةِ النَّهارِ، كما يُقالُ: ليلٌ قائمٌ ونائمٌ، أي: يُقام فيه ويُنامُ فيه؛ فهو من إسنادِ الفعلِ إلى زمانِه. وقيل: معنى مُبْصِرَةً مُضيئةٌ؛ لأنَّ النَّهارَ لا يُبصِرُ [212] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (7/20)، ((فتح الرحمن)) للأنصاري (1/320)، ((إعراب القرآن وبيانه)) لدرويش (5/401).   . وقيل أيضًا: لما كانت في غايةِ الضياءِ يُبصِرُ بها كلُّ مَن له بصرٌ، أسندَ الإبصارَ إليها مبالغةً، فقال: مُبْصِرَةً [213] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (11/385).   .
- وفي قولِه: وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ مُناسبةٌ حَسنةٌ، حيث ثَنَّى الآيةَ هنا، وأفرَدَها في سُورةِ (الأنبياءِ) في قولِه: وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً [الأنبياء: 91] ؛ ووجْهُ ذلك: أنَّه لتَبايُنِ اللَّيلِ والنَّهارِ من كلِّ وجْهٍ، ولتَكرُّرِهما؛ فناسَبَهما التَّثنيةُ، بخلافِ عيسى مع أُمِّه عليهما السَّلامُ، فإنَّه جُزءٌ منها، ولا تَكرُّرَ فيهما؛ فناسَبَهما الإفرادُ [214] يُنظر: ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص: 320).   .
- قَولُه: وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ جاء التَّعليلُ لحِكمةِ آيةِ النَّهارِ خاصَّةً دون ما يقابِلُها مِن حِكمةِ اللَّيلِ، فلم يذكُرِ السُّكونَ فيه؛ لأنَّ المنَّةَ بها أوضَحُ، ولأنَّ من التنَبُّهِ إليها يحصُلُ التنبُّهُ إلى ضِدِّها، وهو حِكمةُ السُّكونِ في اللَّيلِ، فاكتفى بما ذُكِرَ في النَّهارِ [215] يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (10/228)، ((تفسير ابن عاشور)) (15/44-45).   .
- قولُه: عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ فيه تَقديمُ العددِ على الحسابِ، مع أنَّ التَّرتيبَ بين مُتعلِّقَيهما وُجودًا وعدمًا على العكسِ؛ للتَّنبيهِ من أوَّلِ الأمْرِ على أنَّ مُتعلِّقَ الحسابِ ما في تَضاعيفِ السِّنينَ من الأوقاتِ، أو لأنَّ العلْمَ المُتعلِّقَ بعدَدِ السِّنينَ علْمٌ إجماليٌّ بما تعلَّقَ به الحسابُ تَفصيلًا، أو لأنَّ العددَ من حيث إنَّه لم يُعْتَبَرْ فيه تَحصُّلُ شَيءٍ آخرَ منه حسْبما ذُكِرَ نازلٌ من الحسابِ المُعتبَرِ فيه ذلك منزلةَ البسيطِ من المُركَّبِ، أو لأنَّ العلْمَ المُتعلِّقَ بالأوَّلِ أقْصى المراتِبِ، فكان جَديرًا بالتَّقديمِ في مقامِ الامتنانِ [216] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (5/160).   .
والحسابُ يشملُ حسابَ الأيامِ والشهورِ والفصولِ، فعطفُه على عددِ السنينَ مِن عطفِ العامِّ على الخاصِّ للتعميمِ بعدَ ذكرِ الخاصِّ؛ اهتمامًا به [217] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (15/45).   .
- قولُه: وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا ذُكِرَ المصدَرُ، وهو قَولُه: تَفْصِيلًا؛ لأجلِ تأكيدِ الكلامِ وتقريرِه، كأنَّه قال: وفصَّلْناه حقًّا، وفصَّلْناه على الوَجهِ الذي لا مَزيدَ عليه [218] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (20/307).   .
2- قوله تعالى: وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا
- قولُه: أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ أخبَرَهم اللهُ تَعالى في أوجَزِ لَفظٍ وأبلَغِ إشارةٍ أنَّ جميعَ ما يَلْقى الإنسانُ من خيرٍ وشَرٍّ، فقد سبَقَ به القضاءُ، وأُلْزِمَ حظُّه وعمَلُه ومكسَبُه في عُنقِه-على أحدِ القولينِ في تفسيرِ الآيةِ-، فعُبِّرَ عن الحظِّ والعمَلِ -إذ هما مُتلازِمانِ- بالطَّائرِ. وهو تَعبيرٌ مَسوقٌ على عادةِ العربِ، حيث كانوا لا يُباشِرون عملًا من الأعمالِ الهامَّةِ إلَّا إذا اعْتَبروا أحوالَ الطَّيرِ؛ ليَتَبيَّنوا إذا كانت مَغبَّةُ العملِ خيرًا أمْ شَرًّا، فإذا طارتِ الطَّيرُ بنفْسِها أو بإزعاجٍ من أحدٍ مُتيامنةً، تَفاءلوا وأقْدَموا على عمَلِهم، وإذا طارت مُتياسرةً، تَشاءموا وأحْجَموا عن عمَلِهم، ولمَّا كثُرَ منهم ذلك سَمَّوا نفْسَ الخيرِ والشَّرِّ بالطَّائرِ؛ تَسميةً للشَّيءِ باسمِ لازِمِه [219] يُنظر: ((تفسير ابن عطية)) (3/442)، ((تفسير أبي حيان)) (7/21)، ((إعراب القرآن وبيانه)) لدرويش (5/401- 402).   .
- قوله: وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ العُنقُ هو موضعُ السِّماتِ، وموضعُ القلائِدِ والأطوقَةِ، وغير ذلك مِمَّا يزينُ أو يَشينُ؛ فجرَى كلامُ العربِ بنسبةِ الأشياءِ اللَّازمةِ بني آدَمَ وغَيْرَهم مِنْ ذلك إِلى أعناقِهم، وكَثُرَ اسْتِعْمالُهم ذلك حَتَّى أضافُوا الأشياءَ اللَّازمةَ سائرَ الأبدانِ إلى الأعناقِ، كما أضافوا جناياتِ أعضاءِ الأبدانِ إلى اليدِ، فقالوا: ذلك بما كسَبتْ يَداه [220] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (14/521).   . أو: خُصَّ العُنُقُ مِن بينِ سائِرِ الأعضاءِ بهذا المعنى؛ لأنَّ الذي يكونُ عليه إمَّا أن يكونَ خَيرًا يَزينُه أو شَرًّا يَشينُه، وما يَزينُ يكونُ كالطَّوقِ والحَلْيِ، والذي يَشينُ فهو كالغُلِّ، فهاهنا عَمَلُه إن كان مِن الخيراتِ كان زينةً له، وإن كان مِنَ المعاصي كان كالغُلِّ على رَقَبتِه [221] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (20/309).   . ويجوزُ أنْ يكونَ قولُه: فِي عُنُقِهِ كِنايةً عن المُلازمةِ والقُربِ، أي: عمَلُه لازمٌ له لُزومَ القِلادةِ [222] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (5/161).   ، ومنه قولُ العرَبِ: تَقَلَّدَها طوقَ الحمامةِ؛ فلذلك خُصَّت بالعُنقِ؛ لأنَّ القِلادةَ تُوضَعُ في عُنقِ المرأةِ. ويجوزُ أنْ يكونَ فِي عُنُقِهِ تَمثيلًا بالبعيرِ الَّذي يُوسَمُ في عُنقِه بسِمةٍ؛ كيْلَا يختلِطَ بغيرِه، أو الَّذي يُوضَعُ في عُنقِه جُلْجُلٌ [223] الجُلْجُلُ: الجَرَسُ الصَّغيرُ. يُنظر: ((تاج العروس)) للزبيدي (28/223).   ؛ لكيْلا يضِلَّ عن صاحبِه [224] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (15/47).   .
3- قوله تعالى: اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا
- جُملةُ اقْرَأْ كِتَابَكَ مقولُ قولٍ مَحذوفٍ دَلَّ عليه السِّياقُ، أي: يُقال له: اقْرَأْ... [225] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (15/48).   .
- والأمْرُ في اقْرَأْ مُستعملٌ في التَّسخيرِ، ومُكَنًّى به عن الإعذارِ لهم والاحتجاجِ عليهم، كما دَلَّ عليه قولُه: كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا؛ ولذلك كان معرفةُ تلك الأعمالِ من ذلك الكتابِ حاصِلةً للقارِئِ [226] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (15 /48).   .
- قولُه: كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا حَسِيبٌ بمعنى حاسِبٍ، ويجوزُ أنْ يكونَ بمعنى الكافي؛ وُضِعَ موضِعَ الشَّهيدِ، فعُدِّيَ بـ(على)؛ لأنَّ الشَّاهدَ يَكْفي المُدَّعِيَ ما أهَمَّه، وذكَرَ حَسِيبًا؛ لأنَّه بمنزلةِ الشَّهيدِ والقاضي والأميرِ؛ لأنَّ الغالِبَ أنَّ هذه الأمورَ يتولَّاها الرِّجالُ، فكأنَّه قيل: كَفى بنفْسِك رجُلًا حسيبًا، ويجوزُ أنْ يُتَأوَّلَ النَّفسُ بالشَّخصِ، كما يُقال: ثلاثةُ أنفُسٍ [227] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (2/653)، ((تفسير أبي حيان)) (7/23)، ((تفسير أبي السعود)) (5/161).   .
- والباءُ في قولِه: بِنَفْسِكَ مَزيدةٌ للتَّأكيدِ، داخِلةٌ على فاعلِ (كفى) [228] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (15/49).   .
4- قوله تعالى: مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا
- قولُه: مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ فَذلكةٌ [229] الفَذْلكة: كلمةٌ منحوتةٌ كالبَسملةِ والحوقلةِ، من قولهم: (فذَلِك كذا)، ومعناها: ذكرُ مُجمَل ما فُصِّل أولًا وخلاصته. وقد يُراد بالفذلكة النتيجة لِمَا سبَق من الكلام، والتفريع عليه، ومنها فذلكة الحساب، أي: مُجمَل تفاصيله، وإنهاؤه، والفراغ منه، كقوله تعالى: تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ بعدَ قوله: فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ [البقرة: 196] . يُنظر: ((كناشة النوادر)) لعبد السلام هارون (ص: 17)، ((مفاتيح التفسير)) لأحمد سعد الخطيب (ص: 638 - 639).   لِما تقدَّمَ من بَيانِ كونِ القُرآنِ هاديًا لأقومِ الطَّرائقِ ولُزومِ الأعمالِ لأصحابِها، أي: مَن اهْتَدى بهدايتِه، وعمِلَ بما في تَضاعيفِه من الأحكامِ، وانْتَهى عمَّا نَهاه عنه؛ فإنَّما تَعودُ منفعةُ اهتدائِه إلى نفْسِه، لا تَتخطَّاه إلى غيرِه ممَّن لم يَهتدِ [230] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (5/161- 162).   .
- قولُه: وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى واقعةٌ موقعَ التَّعليلِ لمَضمونِ جُملةِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا؛ لِما في هذه من عُمومِ الحكمِ؛ فإنَّ عمَلَ أحدٍ لا يلحَقُ نفْعُه ولا ضَرُّه بغيرِه [231] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (15/49).   . وقيل: إنَّ قولَه: وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى تأكيدٌ للجُملةِ الثَّانيةِ: وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا، أي: لا تحمِلُ نفْسٌ حاملةٌ للوِزْرِ وِزْرَ نفْسٍ أُخرى حتَّى يمكِنَ تخلُّصُ النَّفسِ الثَّانيةِ عن وِزْرِها، ويختَلَّ ما بين العامِلِ وعمَلِه من التَّلازُمِ، بل إنَّما تحمِلُ كلٌّ منها وِزْرَها، وهذا تَحقيقٌ لمعنى قولِه عَزَّ وجَلَّ: وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ...، وإنَّما خَصَّ التَّأكيدَ بالجُملةِ الثَّانيةِ؛ قطعًا للأطماعِ الفارغةِ، حيث كانوا يَزْعمون أنَّهم إنْ لم يَكونوا على الحقِّ، فالتَّبِعةُ على أسلافِهم الَّذين قَلَّدوهم [232] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (5/162).   .
- قولُه: وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى الوِزْرُ: الإثمُ، شُبِّهَ بالحِمْلِ الثَّقيلِ؛ لِما يجُرُّه من التَّعبِ لصاحبِه في الآخرةِ [233] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (15/51).   .