موسوعة التفسير

سورةُ غافِرٍ
الآيات (30-35)

ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﰎ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ

غريب الكلمات:

دَأْبِ: أي: عادةِ وشَأنِ، وأمْرِ، وفِعلِ، وأصلُ (دأب): يدُلُّ على ملازَمةٍ ودوامٍ، يُقالُ: دأبْتُ في الأمرِ دأبًا: إذا أدمنْتَ العملَ والتَّعبَ فيه [519] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 101)، ((تفسير ابن جرير)) (5/236)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 388)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/321)، ((المفردات)) للراغب (ص: 321)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 42). .
تُوَلُّونَ: أي: تهرُبونَ، والتَّولِّي: الإعراضُ بعدَ الإقبالِ [520] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/320)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/324)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 79)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 28). .
مُدْبِرِينَ: أي: هارِبينَ، والإدبارُ: الذَّهابُ إلى جِهةِ الخَلفِ، وأصلُ (دبر): يدُلُّ على خِلافِ القُبُلِ [521] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/324)، ((تفسير ابن كثير)) (7/143)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 160). .
مُرْتَابٌ: أي: شاكٌّ، والرَّيبُ: الشَّكُّ [522] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/463)، ((المفردات)) للراغب (ص: 368)، ((تفسير الزمخشري)) (1/34)، ((تفسير القرطبي)) (15/313)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 47). .
كَبُرَ مَقْتًا: أي: عَظُمَ بُغضًا، والمَقْتُ: البُغضُ الشَّديدُ لِمنْ تراه تعاطى القَبيحَ [523] يُنظر: ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 393)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/341)، ((المفردات)) للراغب (ص: 772)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 415). .

مشكل الإعراب:

قَولُه تعالى: كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ * الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آَيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آَمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ
قَولُه: الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فيه أوجُهٌ؛ أحدُها: أنَّه في مَحَلِّ نَصبٍ، بَدَلٌ مِنْ مَنْ في قَولِه: مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ، وإنَّما جُمِع الَّذِينَ اعتِبارًا بمعنَى مَنْ. الثاني: أنْ يكونَ مُبتدأً، خبَرُه كَبُرَ مَقْتًا، ويكونُ فاعلُ كَبُرَ ضَميرًا عائدًا على جِدالِهم المفهومِ مِن قَولِه: يُجَادِلُونَ، والتَّقديرُ: كَبُرَ جِدالُهم مَقْتًا. الثَّالِثُ: أنْ يكونَ مُبتدأً، خبَرُه يَطْبَعُ اللَّهُ، والعائِدُ من جُملةِ الخَبرِ على المبتَدأِ محذوفٌ، أي: على كُلِّ قلبِ مُتكبِّرٍ منهم، وكَذَلِكَ خبَرُ مُبتدأٍ مَحذوفٍ أيضًا، أي: الأمرُ كذلك. الرَّابعُ: أنْ يكونَ خبَرَ مبتدأٍ مَحذوفٍ، أي: هم الذين. الخامِسُ: أنْ يكونَ مُبتدأً، وخبَرُه مَحذوفٌ، أي: مُعانِدون ونَحوُه. السَّادِسُ: أنْ يكونَ مَنصوبًا على المفعوليَّةِ بإضْمارِ (أعني). وقيل: غيرُ ذلك [524] يُنظر: ((معاني القرآن وإعرابه)) للزجاج (4/374)، ((تفسير أبي حيان)) (9/257)، ((الدر المصون)) للسمين الحلبي (9/478)، ((المجتبى من مشكل إعراب القرآن)) للخراط (3/1102). .

المعنى الإجمالي:

يقولُ تعالى: وقال مُؤمِنُ آلِ فِرعَونَ لِقَومِه: يا قَومِ إنِّي أخافُ عليكم -إنْ قتَلْتُم موسى- يومًا مِثلَ أيَّامِ الأحزابِ الذين تحَزَّبوا على رُسُلِهم فأهلَكهم اللهُ؛ مِثلَ عادةِ قَومِ نُوحٍ وعادٍ وثَمودَ، والذين جاؤُوا بَعدَهم؛ حيثُ كَذَّبوا رسُلَهم، فأهلَكَهم اللهُ، وما يُريدُ اللهُ ظُلمًا لعِبادِه!
ويا قَومِ إنِّي أخافُ عليكم يومَ القِيامةِ؛ يومَ تَفِرُّون هارِبينَ مِن عَذابِ اللهِ، ما لكم مِنَ اللهِ مَن يَمنَعُكم مِن عَذابِه، ومَن يُضِلَّه اللهُ عن الحَقِّ فلا أحَدَ يَهْديه.
 ولقدْ جاء يُوسُفُ إلى أسْلافِكم مِن قَبلِ موسى بالحُجَجِ الواضِحةِ، فما زِلتُم -تَبَعًا لأسلافِكم- في شَكٍّ مِمَّا جاءَكم به يوسُفُ، حتى إذا مات يوسُفُ قال أسلافُكم: لن يُرسِلَ اللهُ مِن بَعدِ يوسُفَ رَسولًا غيرَه، مثلَ ذلك الإضلالِ يُضِلُّ اللهُ مَن هو مُسرِفٌ على نَفسِه، شاكٌّ مُرتابٌ في الحَقِّ!
الذين يُجادِلونَ في آياتِ اللهِ بغَيرِ دَليلٍ أتاهم، عَظُمَ بُغضُ اللهِ والمؤمِنينَ لهم، كذلك يَختِمُ اللهُ على كُلِّ قَلبِ مُتكَبِّرٍ عن الحَقِّ، جَبَّارٍ على الخَلقِ.

تفسير الآيات :

وَقَالَ الَّذِي آَمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ (30).
مناسبة الآية لما قبلها:
أنَّ هذا المؤمِنَ لَمَّا رأى ما لَحِقَ فِرعَونَ مِن الخَوَرِ -أي: الضَّعْف- والخَوفِ، أتَى بنَوعٍ آخَرَ مِن التَّهديدِ، وخَوَّفَهم أنْ يُصيبَهم ما أصابَ الأُمَمَ السَّابِقةَ مِن استِئصالِ الهَلاكِ حين كَذَّبوا رسُلَهم، وقَوِيَت نَفْسُه حتَّى سَرَد عليه ما سَرَد، ولم يَهَبْ فِرعَونَ [525] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (9/255). .
وأيضًا لَمَّا نصَحَ المؤمنُ القومَ بقولِه: أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ، وأثبَتَ أنَّ موسى عليه السَّلامُ نَبيٌّ صادِقٌ ثابتةٌ نُبوَّتُه، واجِبٌ اتِّباعُه، وما قصَّرَ في النُّصحِ، وما زاد فِرعونُ اللَّعينُ على ما بدَأَ أوَّلًا: مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى، فحينئذٍ أيِسَ المؤمِنُ واستشْعَرَ الخوفَ، وأيقَنَ أنَّ حُجَّةِ اللهِ لَزِمَتْهم؛ قال: إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ؛ لأنَّه تعالى بعَثَ إليهم الرُّسلَ بالبيِّناتِ كرَسولِكم فلمْ يُؤمِنوا، فدَمَّرَهم اللهُ [526] يُنظر: ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (13/507). .
وَقَالَ الَّذِي آَمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ (30).
أي: وقال مُؤمِنُ آلِ فِرعَونَ لِقَومِه: يا قَومِ إنِّي أخافُ عليكم -إنْ قتَلْتُم موسى- يومًا يَحُلُّ فيه هلاكُكم مِثلَ أيَّامِ الأُمَمِ التي تحَزَّبتْ على رُسُلِها، واجتَمَعَتْ على تَكذيبِهم؛ فأهلَكَهم اللهُ تعالَى [527] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/314)، ((تفسير القرطبي)) (15/310)، ((تفسير ابن كثير)) (7/142)، ((تفسير السعدي)) (ص: 737)، ((تفسير ابن عاشور)) (24/134). .
مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ (31).
مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ.
أي: مِثْلَ عادةِ قَومِ نُوحٍ وعادٍ وثَمودَ، والأُمَمِ الذين جاؤُوا بَعْدَهم، كقَومِ لُوطٍ وشُعَيبٍ؛ الذين لَزِموا تَكذيبَ رُسُلِهم، فأهلَكَهم اللهُ بعَذابِه [528] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/315)، ((تفسير ابن كثير)) (7/142)، ((تفسير السعدي)) (ص: 737)، ((تفسير ابن عاشور)) (24/134). .
وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ.
أي: ولا يُريدُ اللهُ أيَّ ظُلمٍ لعِبادِه، وإنَّما أهلَكَ أحزابَ الكُفرِ مِن الأُمَمِ الماضيةِ؛ بسَبَبِ كُفرِهم به، ومُخالفتِهم أمْرَه، وتَكذيبِهم رُسُلَه؛ فأهلَكَهم بذُنوبِهم [529] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/315)، ((تفسير ابن كثير)) (7/143)، ((تفسير ابن عاشور)) (24/135، 136). .
كما قال اللهُ تعالَى: ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ * كَدَأْبِ آَلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ [الأنفال: 51، 52].
وقال اللهُ تعالَى: إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [يونس: 44].
وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ (32).
مناسبة الآية لما قبلها:
لَمَّا خَوَّفَهم أنْ يَحُلَّ بهم في الدُّنيا ما حَلَّ بالأحزابِ، خَوَّفَهم أمْرَ الآخِرةِ [530] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (9/255). .
وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ (32).
أي: ويا قَومِ إنِّي أخافُ عليكم يومَ القِيامةِ [531] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/316، 319)، ((تفسير الماتريدي)) (9/26)، ((تفسير البغوي)) (4/112)، ((تفسير الزمخشري)) (4/165)، ((تفسير ابن عطية)) (4/558)، ((تفسير القرطبي)) (15/310، 311)، ((تفسير ابن كثير)) (7/143)، ((تفسير السعدي)) (ص: 737)، ((تفسير ابن عاشور)) (24/136). قال الرازي: (أجمع المفَسِّرون على أنَّ يومَ التَّنادِ يومُ القِيامةِ). ((تفسير الرازي)) (27/512). وقال ابن عطية: (يَحتمِلُ أنْ يكونَ المرادُ التَّذكيرَ بكلِّ نِداءٍ في القِيامةِ فيه مَشقَّةٌ على الكُفَّارِ والعُصاةِ). ((تفسير ابن عطية)) (4/558). وقال ابن عاشور: (ويَوْمَ التَّنَادِ هو يومُ الحِسابِ والحَشرِ، سُمِّي يومَ التَّنادِ؛ لأنَّ الخلقَ يَتَنادونَ يومئِذٍ: فمِن مُسْتَشْفِعٍ ومِن مُتَضَرِّعٍ، ومِن مسلِّمٍ ومُهَنِّئٍ، ومِن مُوَبِّخٍ ومِن مُعتذِرٍ، ومِن آمِرٍ ومِن مُعلِنٍ بالطَّاعةِ؛ قالَ تعالَى: وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ [فصلت: 47] ، وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ [الأعراف: 44] ، وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ [الأعراف: 50] ونحوَ ذلك). ((تفسير ابن عاشور)) (24/136) بتصرُّف. وقال الشوكاني: (المعنَى: يومَ يُنادي بعضُهم بعضًا، أو يُنادي أهلُ النَّارِ أهلَ الجنَّةِ، وأهلُ الجنَّةِ أهلَ النَّارِ، أو يُنادَى فيه بسعادَةِ السُّعداءِ، وشقاوةِ الأشقياءِ، أو يومَ يُنادَى فِيه كلُّ أُناسٍ بإمامِهم، ولا مانعَ مِن الحمْلِ على جميعِ هذه المعاني). ((تفسير الشوكاني)) (4/563). وقال ابنُ كثيرٍ بعدَ أنْ ذكَر عددًا مِن النِّداءاتِ يومَ القيامةِ: (اختار البغوِيُّ وغيرُه: أنَّه سُمِّي بذلك لمجموعِ ذلك، وهو قولٌ حسنٌ جيدٌ). ((تفسير ابن كثير)) (7/143). ويُنظر: ((تفسير البغوي)) (4/112). .
يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (33).
مناسبة الآية لما قبلها:
أنَّه لَمَّا كانتْ عادةُ المتنادِينَ الإقبالَ؛ وصَفَ ذلك اليومَ بضِدِّ ذلك لشِدَّةِ الأهوالِ [532] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (17/62). .
يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ.
أي: يومَ تَفِرُّونَ هارِبينَ مِن عَذابِ اللهِ [533] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/320، 321)، ((تفسير ابن عطية)) (4/558)، ((طريق الهجرتين)) لابن القيم (ص: 423)، ((تفسير ابن كثير)) (7/143)، ((تفسير الشوكاني)) (4/563)، ((تفسير السعدي)) (ص: 737)، ((تفسير ابن عاشور)) (24/137)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة غافر)) (ص: 271). .
مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ.
أي: ما لكم مِنَ اللهِ أيُّ مانعٍ يَمنَعُكم مِن عَذابِه [534] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/321)، ((تفسير ابن كثير)) (7/143)، ((تفسير ابن عاشور)) (24/137). .
كما قال اللهُ تعالَى: وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ [يونس: 27] .
وقال تعالَى: يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ * فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلَا نَاصِرٍ [الطارق: 9، 10].
وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ.
أي: ومَن يَخذُلْه اللهُ عن الحَقِّ فلا أحَدَ يَهديه إليه [535] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/321)، ((تفسير القرطبي)) (15/312)، ((تفسير النسفي)) (3/210)، ((تفسير الشوكاني)) (4/563)، ((تفسير ابن عاشور)) (24/137). .
كما قال اللهُ تعالَى: وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا [النساء: 88].
وقال الله عزَّ وجلَّ: مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ [الأعراف: 186] .
وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ (34).
مناسبة الآية لما قبلها:
أنَّ مُؤمِنَ آلِ فِرعَونَ لَمَّا قال: وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ [غافر: 33] ذكَرَ لهذا مَثَلًا، وهو أنَّ يُوسُفَ لَمَّا جاءهم بالبَيِّناتِ الباهِرةِ فأصَرُّوا على الشَّكِّ والشُّبهةِ، ولم يَنتَفِعوا بتلك الدَّلائِلِ، وهذا يدُلُّ على أنَّ مَن أضَلَّه اللهُ فما له مِن هادٍ [536] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (27/512). .
وأيضًا لَمَّا كان حاصِلُ ما مضَى مِن حالِهم في أمْرِ مُوسى عليه السَّلامُ: أنَّه جاءَهم بالبَيِّناتِ فشَكُّوا فيها، وخَتَم بتَحذيرِهم مِن عَذابِ الدُّنيا والآخِرةِ؛ عَطَف عليه شَكَّ آبائِهم في مِثلِ ذلك [537] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (17/64). .
وأيضًا لَمَّا تَوسَّمَ فيهم قِلَّةَ جَدوى النُّصحِ لهم، وأنَّهم مُصمِّمون على تَكذيبِ مُوسى؛ ارتَقى في مَوعظتِهم إلى اللَّومِ على ما مَضى، ولِتَذكيرِهم بأنَّهم مِن ذُرِّيَّةِ قَومٍ كذَّبوا يُوسُفَ لَمَّا جاءَهم بالبيِّناتِ؛ فتَكذيبُ المُرشِدين إلى الحقِّ شِنْشِنةٌ (عادةٌ وطبيعةٌ) مَعروفةٌ في أسلافِهم، فتكونُ سَجِيَّةً فيهم [538] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/138). .
وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ.
أي: قال مُؤمِنُ آلِ فِرعَونَ لِقَومِه: ولقدْ جاء يُوسُفُ إلى أسلافِكم مِن قَبلِ موسى بالحُجَجِ الواضِحةِ الدَّالَّةِ على تَوحيدِ اللهِ، وصِدقِ نبُوَّتِه [539] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/321)، ((تفسير السمعاني)) (5/19)، ((تفسير ابن الجوزي)) (4/37)، ((تفسير ابن كثير)) (7/143)، ((تفسير العليمي)) (6/115)، ((تفسير السعدي)) (ص: 737). قال ابنُ عاشور: (البَيِّناتُ: إخبارُه بما هو مَغِيبٌ عنهم من أحوالِهم بطريقِ الوَحيِ في تعبيرِ الرُّؤى، وكذلك آيةُ العِصمةِ التي انفرد بها مِن بينهم، وشَهِدَت له بها امرأةُ العزيزِ، وشاهِدُ أهلِها، حتى قال المَلِكُ: ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي [يوسف: 54] ، فكانت دلائِلُ نُبُوَّةِ يُوسُفَ واضِحةً، ولكِنَّهم لم يَستخلِصوا منها استِدلالًا يَقتَفونَ به أثَرَه في صلاحِ آخِرتِهم، وحَرَصوا على الانتِفاعِ به في تدبيرِ أمورِ دُنياهم؛ فأودَعوه خزائِنَ أموالهم، وتدبيرَ مملكتِهم). ((تفسير ابن عاشور)) (24/139). ويُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (3/713). وقال ابن عطية: (البَيِّناتُ التي جاء بها يوسُفُ لم تُعَيَّنَ لنا حتى نَقِفَ على مُعجِزاتهِ). ((تفسير ابن عطية)) (4/559). ويُنظر: ((تفسير ابن جزي)) (2/231). .
فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ.
أي: فما زِلتُم -تَبَعًا لأسلافِكم- تَشُكُّونَ فيما جاء به يوسُفُ مِن البَيِّناتِ، فلم تُؤمِنوا الإيمانَ الواجِبَ الخاليَ مِن الشَّكِّ [540] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/322)، ((تفسير الزمخشري)) (4/166)، ((تفسير القرطبي)) (15/313)، ((تفسير السعدي)) (ص: 737)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة غافر)) (ص: 278). .
حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا.
أي: حتَّى إذا مات يُوسُفُ قال أسلافُكم بالظَّنِّ الباطِلِ: لن يُرسِلَ اللهُ مِن بَعدِ يُوسُفَ رَسولًا غَيرَه [541] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/322)، ((تفسير ابن كثير)) (7/143)، ((تفسير السعدي)) (ص: 737)، ((تفسير ابن عاشور)) (24/140). قال البقاعيُّ: (هذا ليس إقرارًا منهم برِسالتِه، بل هو ضَمٌّ منهم إلى الشَّكِّ في رِسالتِه التَّكذيبَ برِسالةِ مَن بَعدَه، والحَجْرَ على المَلِكِ الأعظَمِ في عِبادِه وبلادِه، والإخبارَ عنه بما يُنافي كمالَه). ((نظم الدرر)) (17/65). وقال ابنُ عاشور: (أي: قال أسلافُكم في وَقتِ وفاة يُوسُفَ: لا يَبعَثُ اللهُ في المستقبَلِ أبدًا رَسولًا بعدَ يُوسُفَ، يعنون: أنَّا كُنَّا مُتردِّدين في الإيمانِ بيُوسُفَ، فقدِ استرَحْنا من الترَدُّدِ؛ فإنَّه لا يَجيءُ مَن يدَّعي الرِّسالةَ عن اللهِ مِن بَعدِه، وهذا قَولٌ جرَى منهم على عادةِ المعانِدينَ والمقاوِمينَ لأهلِ الإصلاحِ والفَضلِ: أنْ يَعتَرِفوا بفَضلِهم بعد الموتِ تندُّمًا على ما فاتهم من خيرٍ كانوا يَدعُونَهم إليه). ((تفسير ابن عاشور)) (24/140). .
كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ.
أي: قال مُؤمِنُ آلِ فِرعَونَ لِقَومِه: كما أضَلَّكم اللهُ حِينَ لم تَقبَلوا ما جاءَكم به يُوسُفُ؛ لإسرافِكم وارتيابِكم، يُضِلُّ اللهُ كُلَّ مَن هو مُسرِفٌ على نَفسِه بالكُفرِ أو الظُّلمِ أو العِصيانِ، ذو شَكٍّ ورِيبةٍ واضطِرابٍ في شأنِ الحَقِّ [542] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/322)، ((الوسيط)) للواحدي (4/12)، ((تفسير السمعاني)) (5/20)، ((تفسير القرطبي)) (15/313)، ((تفسير أبي حيان)) (9/257)، ((تفسير ابن كثير)) (7/143)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (17/65-66)، ((تفسير السعدي)) (ص: 737)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة غافر)) (ص: 279-280). استظهر ابنُ عاشورٍ أنَّ قولَه: كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ إلَى قولِه: جَبَّارٍ. كُلُّه مِنْ كلامِ اللهِ تعالَى. يُنظر:  ((تفسير ابن عاشور)) (24/141). .
كما قال تعالَى: وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ [الأنعام: 110] .
وقال الله سُبحانَه: فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ [الصف: 5] .
وقال عزَّ وجَلَّ: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الْإِسْلَامِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [الصف: 7] .
الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آَيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آَمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ (35).
مناسبة الآية لما قبلها:
أنَّه لَمَّا ظهَر ظُهورًا لا يحتَمِلُ شَكًّا بما أتَى به موسى عليه السَّلامُ مِن البَيِّناتِ: أنَّ شَكَّهم في رِسالةِ الماضي، وجَزْمَهم في الحُكمِ بنَفي رِسالةِ الآتي: أعظَمُ ضَلالٍ، وأنَّه مِن الجِدالِ الذي لا معنى له إلَّا صرْفُ المحِقِّ عَمَّا هو عليه مِن الحَقِّ إلى ما عليه المجادِلُ مِن الضَّلالِ؛ وَصَل بذلك قَولَه على سَبيلِ الاستِنتاجِ ذَمًّا لهم بعبارةٍ تَعُمُّ غَيرَهم [543] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (17/66). :
الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آَيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آَمَنُوا.
أي: الذين [544] قيل: هذا وَصفٌ لِمن سَبَق ذِكرُهم في قَولِه تعالى: كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ. وممَّن قال بهذا: ابن جرير، والسمرقندي، والقرطبي، والبقاعي، والسعدي. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/322)، ((تفسير السمرقندي)) (3/205)، ((تفسير القرطبي)) (15/313)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (17/66)، ((تفسير السعدي)) (ص: 738). وقيل: الجُملةُ هنا مُنفَصِلةٌ عمَّا قَبلَها، وليستْ الَّذِينَ بدلًا مِن (مَنْ) في قَولِه: مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ. ومِمَّن قال بهذا القول: ابن تَيميَّة. يُنظر: ((الاستقامة)) (1/19). يُجادِلون بالباطِلِ في آياتِ اللهِ وحُجَجِه التي جاءَتْ بها الرُّسُلُ بغيرِ دَليلٍ عِندَهم مِنَ اللهِ [545] عن ابنِ عبَّاسٍ رَضِيَ الله عنهما قال: (كلُّ سُلطانٍ في القرآنِ فهو حُجَّةٌ). رواه البخاري في ((صَحيحِه)) مُعَلَّقًا (6/83). : عَظُمَ بُغضُ اللهِ والمؤمِنينَ لهم ولجِدالِهم [546] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/322، 323)، ((تفسير السمرقندي)) (3/205)، ((الاستقامة)) لابن تيمية (1/18، 21، 22)، ((تفسير ابن كثير)) (7/144)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (17/ 66-67)، ((تفسير السعدي)) (ص: 738)، ((تفسير ابن عاشور)) (24/143، 144)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة غافر)) (ص: 285-287). قال القُرطبي: (قيل: هذا مِن كَلامِ مُؤمِنِ آلِ فِرعَونَ. وقيل: ابتداءُ خِطابٍ مِنَ الله تعالى). ((تفسير القرطبي)) (15/313). .
كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ.
أي: كما طبَع اللهُ على قُلوبِ هؤلاءِ المجادلينَ [547] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/323)، ((تفسير ابن الجوزي)) (4/38)، ((تفسير القرطبي)) (15/313)، ((تفسير الشوكاني)) (4/564). قال ابن كثير: (مَن كانت هذه صفتَه، يطبعُ الله على قلبِه، فلا يعرفُ بعدَ ذلك معروفًا، ولا ينكرُ منكرًا؛ ولهذا قال: كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ أي: على اتباعِ الحقِّ جَبَّارٍ). ((تفسير ابن كثير)) (7/144). يَختِمُ اللهُ على قَلبِ كُلِّ مُتكَبِّرٍ عن الحَقِّ، مُتعاظِمٍ على الخَلقِ، مُبالِغٍ في الظُّلمِ والعُدوانِ [548] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/323)، ((تفسير ابن كثير)) (7/144)، ((تفسير السعدي)) (ص: 738)، ((تفسير ابن عاشور)) (24/144، 145). قال الفرَّاء: (المعنى في تقدُّمِ القَلبِ وتأخُّرِه واحِدٌ، واللهُ أعلم. قال: سَمِعتُ بعضَ العَرَبِ: يُرَجِّلُ شَعْرَه يومَ كُلِّ جُمعةٍ، يريدُ: كُلَّ يومِ جُمُعةٍ، والمعنى واحِدٌ). ((معاني القرآن)) (3/9). ويُنظر: ((معاني القرآن)) للنحاس (6/223). وقال ابن عطية: (ويتَّجِهُ أن يكونَ المرادُ عمومَ قلبِ المتكبرِ الجبَّارِ بالطَّبْعِ، أي: لا ذرةَ فيه مِن إيمانٍ ولا مقاربة، فهي عبارةٌ عن شدةِ إظلامِه). ((تفسير ابن عطية)) (4/559). ومِمَّن رجح أن المراد: الطبع على عمومِ القلوبِ لكلِّ متكبرٍ جبارٍ، وليس عمومَ القلبِ الواحدِ: القرطبي، وابن عثيمين. يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (15/313)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة غافر)) (ص: 296-298). .

الفوائد التربوية:

1- قال اللهُ تعالَى: وَقَالَ الَّذِي آَمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ كرَّر ذلك الرَّجُلُ الذي آمَن دَعوةَ قَومِه، غيرَ آيِسٍ مِن هِدايتِهم، كما هي حالةُ الدُّعاةِ إلى اللهِ تعالَى؛ لا يزالون يَدعُونَ إلى رَبِّهم، ولا يَرُدُّهم عن ذلك رادٌّ، ولا يَثنِيهم عُتُوُّ مَن دَعَوه عن تَكرارِ الدَّعوةِ [549] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص:736). .
2- قولُه: مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ * مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ فيه تحذيرُ اللَّاحِقِ أنْ يُصيبَه ما أصاب السابقَ، ووجهُ ذلك: أنَّ اللهَ سبحانَه وتعالَى سُنَّتُه في خَلْقِه واحدةٌ، هو لا يُعَذِّبُ هؤلاء لأنَّه يَكرهُ أشخاصَهم! بلْ يُعَذِّبُ هؤلاء لأنَّه يَكْرَهُ عمَلَهم، فإذا وُجِدَ عمَلُهم في آخَرينَ؛ فالكراهةُ حاصلةٌ، وهو كقولِه تعالى: أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا [محمد: 10] ، وحَذَّرَ شُعيبٌ قومَه أنْ يُصيبَهم ما أصاب مَن قَبْلَهم؛ فالحاصلُ أنَّ الأممَ لا بُدَّ أنْ يَتَّعِظَ اللاحِقُ بالسابقِ بِناءً على أنَّ سُنَّةَ اللهِ واحدةٌ [550] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة غافر)) (ص:263). .
3- في قَولِه تعالَى: وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ أنَّه يَنبغي للإنسانِ أنْ يكونَ لديه عِلْمٌ بما سَبَقَ؛ فإنَّ التاريخَ عِبَرٌ سواءٌ في هذه المسألةِ الكبيرةِ أو في المسائلِ الصَّغيرةِ؛ اقرأِ التاريخَ يَتبيَّنْ لك ما قَدَّرَه اللهُ على العِبادِ، وأنَّ سُنَّةَ اللهِ سُبحانَه وتعالَى في السَّابِقينَ ستكونُ في اللَّاحِقينَ [551] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة غافر)) (ص:281). .
4- في قَولِه تعالى: وَعِنْدَ الَّذِينَ آَمَنُوا أنَّ ما يَكرهُه اللهُ فإنَّ المؤمنينَ يَكرهونَه، وهذه علامةُ الإيمانِ، فلتُؤخَذْ قياسًا وميزانَ عَدْلٍ؛ متَى رأَى الإنسانُ مِن نفسِه أنَّه يَكرَهُ ما يَكرهُه اللهُ، ويُحِبُّ ما يُحِبُّه اللهُ فذلك الإيمانُ، دلَّ عليه هذه الآيةُ وغيرُها مِن الآياتِ والأحاديثِ، ودلَّ عليها العقلُ أيضًا؛ لأنَّ مِن كَمالِ المحبةِ محبَّةَ ما يُحِبُّه المحبوبُ، وكراهةَ ما يَكرهُه [552] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة غافر)) (ص:294). .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- في قَولِه تعالى: وَقَالَ الَّذِي آَمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ إلى قولِه سبحانَه: وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعَالَمِينَ أنَّه لا يجوزُ أنْ يكونَ الظُّلمُ -المنفيُّ عنِ اللهِ- شيئًا ممتنِعًا غيرَ مَقدورٍ عليه! يُبَيِّنُ هذا أنَّ ذلك العِقابَ لم يكنْ ظلمًا! لاستحقاقِهم ذلك، وأنَّ اللهَ لا يريدُ الظلمَ، والأمرُ الذي لا يُمكِنُ القُدرةُ عليه لا يَصْلُحُ أنْ يُمْدَحَ الممدوحُ بعدمِ إرادتِه! وإنَّما يكونُ المدحُ بتركِ الأفعالِ إذا كان الممدوحُ قادرًا عليها، فعُلِمَ أنَّ اللهَ قادرٌ على ما نَزَّه نَفْسَه عنه مِن الظلمِ، وأنَّه لا يَفعَلُه، وبذلك يَصِحُّ قولُه في الحديثِ القدسيِّ: ((إني حَرَّمْتُ الظُّلمَ على نفْسِي )) [553] أخرجه مسلم (2577) من حديث أبي ذر الغفاري رضي الله عنه. ، وأنَّ التحريمَ هو المنعُ؛ وهذا لا يجوزُ أنْ يكونَ فيما هو ممتنِعٌ لذاتِه [554] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (18/144). .
2- في قَولِه: مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ * مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ أنَّ أخبارَ الأنبياءِ مِن عَجائبَ وآياتٍ كانتْ مُنتَشِرةً مُتواتِرةً في العالَمِ، وقد عَلِمَ النَّاسُ أنَّها آياتٌ للأنبياءِ وعُقوبةٌ لمُكذِّبِيهم؛ ولهذا كانوا يَذكُرونَها عِندَ نَظائرِها للاعتبارِ [555] يُنظر: ((النبوات)) لابن تيمية (1/515). .
3- في قَولِه: مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ أنَّ قومَ نوحٍ وعادٍ وثمودَ كانوا أوَّلَ الأحزابِ [556] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة غافر)) (ص:263). .
4- قال اللهُ تعالى حِكايةً لِقَولِ مُؤمِنِ آلِ فِرعَونَ: مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ وهذا يَقْتضي أنَّ القِبطَ كانوا على عِلمٍ بما حَلَّ بقَومِ نُوحٍ وعادٍ وثَمودَ؛ فأمَّا قَومُ نُوحٍ فكان طُوفانُهم مَشهورًا، وأمَّا عادٌ وثمودُ فلِقُربِ بلادِهم مِن البِلادِ المِصريَّةِ، وكان عظيمًا لا يَخفَى على مُجاوِريهم [557] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/135). .
5- في قَولِه: وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ أنَّ اللهَ يَتَّصِفُ بالصِّفاتِ المنفيَّةِ التي يُعَبِّرُ عنها بَعضُ العُلَماءِ بالصِّفاتِ السَّلبيَّةِ؛ لأنَّ النَّفيَ سَلْبٌ [558] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة غافر)) (ص: 264). واللهُ تعالَى يُمدَحُ بالنَّفيِ إذا تَضَمَّن أمرًا وُجودِيًّا، كمدحِه بنَفْيِ الظُّلمِ، المتضمِّنِ كمالَ عدلِه وعِلْمِه وغِناه. يُنظر: ((شرح الطحاوية)) لابن أبي العز (1/214). .
6- قولُه تعالَى حِكايةً لِقَولِ مُؤمِنِ آلِ فِرعَونَ: وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ زادَ مُؤمِنُ آلِ فِرعَونَ في الوَعظِ والتَّخويفِ، وأفصَحَ عن إيمانِه؛ إمَّا مُستَسلِمًا مُوَطِّنًا نَفسَه على القَتلِ، أو واثِقًا بأنَّهم لا يَقصِدونَه بسُوءٍ، وقدْ وقاه اللهُ شَرَّهم بِقَولِه الحَقَّ: فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا [559] يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (15/310). [غافر: 45] .
7- في قَولِه: يَوْمَ التَّنَادِ أنَّ يومَ القِيامةِ له أحوالٌ، وقدْ قالَ اللهُ تعالَى في سورةِ (طه): وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا [طه: 108] ، وهنا يَذكُرُ أنَّه يومُ تَنَادٍ -والنِّداءُ هو الصَّوتُ الرَّفيعُ- وعلى هذا فيكونُ الجَمعُ بينَ هذه الآيةِ وبينَ قَولِه: وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا هو أنَّ يومَ القيامةِ له أحوالٌ؛ لأنَّ يومَ القيامةِ مِقدارُه خمسون ألفَ سَنَةٍ؛ فلا بُدَّ أنْ تتغَيَّرَ أحوالُ النَّاسِ [560] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الزمر)) (ص: 273). .
8- في قَولِه: وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ الرَّدُّ على المعتزلةِ الَّذين يقولونَ: إنَّ الإنسانَ مُستَقِلٌّ بعَمَلِه؛ يَهدي نفْسَه ويُضِلُّ نَفسَه، ولا عَلاقةَ لِمَشيئةِ اللهِ تعالى في فِعلِه [561] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الزمر)) (ص: 272). !
9- في قَولِه: وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ أنَّ مَلِكَ مِصرَ وقَومَه زمَنَ يُوسُفَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ كانوا كُفَّارًا [562] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (20/56). .
10- في قَولِه: حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا أنَّ أولئك الَّذين بُعِثَ إليهم يُوسُفُ كانوا يُقِرُّونَ باللهِ [563] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (7/630). ، ومع ذلك لم يَنْفَعْهم إقرارُهم باللهِ؛ لأنَّ الإيمانَ بوُجودِ اللهِ لا يَكْفي في التَّوحيدِ والخَلاصِ مِن عَذابِ اللهِ [564] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة غافر)) (ص: 282). .
11- في قَولِه تعالَى: كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ أنَّ إضلالَ اللهِ عزَّ وجلَّ لا يكونُ إلَّا في مَحَلِّ مَن هو أهلٌ للإضلالِ [565] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة غافر)) (ص:283). .
12- في قَولِه تعالى: كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ أنَّ مَن لَزِمَ حَدَّه، وأيقَنَ بما يجِبُ الإيقانُ به، فإنَّه أبعدُ النَّاسِ عن الإضلالِ؛ يُؤخَذُ هذا مِن المفهومِ، فإذا كان اللهُ يُضِلُّ مَن هو مُسرِفٌ مرتابٌ فإنَّه يَهدي مَن لَزِمَ حَدَّه، وأيقَنَ في أمْرِه وآمَنَ بذلك [566] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة غافر)) (ص:283). .
13- قال تعالَى: كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ، وكذلك قال: كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ، فذكَرَ ضَلالَ الأوَّلِ، وذكَرَ تَجبُّرَ الثاني؛ وذلك لأنَّ الأوَّلَ مُرْتابٌ، ففاتَه العِلمُ حيثُ ابْتَغى الهُدى في غَيرِه، والثانيَ جبَّارٌ عمِلَ بخِلافِ ما فيه، فقصَمَه اللهُ، وهذان الوَصْفانِ يَجمَعانِ العِلمَ والعَملَ. وفي ذلك بَيانُ أنَّ كلَّ عِلمِ دِينٍ لا يُطلَبُ منَ القُرآنِ فهو ضَلالٌ، كفاسِدِ كَلامِ الفَلاسِفةِ والمُتكَلِّمةِ والمتَصوِّفةِ والمُتفَقِّهةِ، وكلُّ عاقلٍ يَترُكُ كتابَ اللهِ مُريدًا للعُلوِّ في الأرضِ والفسادِ؛ فإنَّ اللهَ يَقصِمُه، فالضَّالُّ لم يَحصُلْ له المَطلوبُ، بل يُعذَّبُ بالعمَلِ الَّذي لا فائدةَ فيه، والجبَّارُ حصَّلَ لذَّةً فقصَمَه اللهُ عليها، فهذا عَذابٌ بإزاءِ لذَّاتِه الَّتي طلَبَها بالباطِلِ، وذلك يُعذَّبُ بسَعيِه الباطِلِ الَّذي لم يُفِدْه [567] يُنظر: ((الاستقامة)) لابن تيمية (1/21) .
14- قَولُ اللهِ تعالى: الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آَيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آَمَنُوا ذَمُّه لهم بأنَّهم يُجادِلونَ بغَيرِ سُلطانٍ: فيه دَلالةٌ على أنَّ الجِدالَ بالحُجَّةِ حَسَنٌ وحَقٌّ، وفيه إبطالٌ للتَّقليدِ [568] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (27/513). .
15- قال اللهُ تعالَى: الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آَيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آَمَنُوا لا يَجوزُ لأحَدٍ أن يُعارِضَ كِتابَ اللهِ بغيرِ كِتابٍ؛ فمَن عارَضَ كِتابَ اللهِ وجادَلَ فيه بما يُسَمِّيه مَعقولاتٍ وبَراهينَ وأقيِسةً، أو ما يُسَمِّيه مُكاشَفاتٍ ومَواجيدَ وأذواقًا، مِن غيرِ أنْ يأتيَ على ما يقولُه بكِتابٍ مُنَزَّلٍ- فقدْ جادَلَ في آياتِ اللهِ بغيرِ سُلطانٍ. ومُعارضةُ القُرآنِ بمَعقولٍ أو قِياسٍ: هذا لم يكُنْ يَستَحِلُّه أحَدٌ مِن السَّلَفِ، وإنَّما ابتُدِعَ ذلك لَمَّا ظهَرَت الجَهميَّةُ والمُعتَزِلةُ ونَحوُهم ممَّن بَنَوا أُصولَ دِينِهم على ما سَمَّوه مَعقولًا، ورَدُّوا القُرآنَ إليه، وقالوا: إذا تعارَضَ العَقلُ والشَّرعُ إمَّا أنْ يُفَوَّضَ أو يُتأَوَّلَ؛ فهؤلاء مِن أعظَمِ المجادِلينَ في آياتِ اللهِ بغيرِ سُلطانٍ أتاهم [569] يُنظر: ((الاستقامة)) لابن تيمية (1/22-23). .
16- قال اللهُ تعالى: الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آَيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آَمَنُوا مِن أعظَمِ الجِدالِ في آياتِ اللهِ جِدالُ مَن يُعارِضُ النَّقلَ بالعَقلِ، ثمَّ يُقَدِّمُه عليه؛ فإنَّ جِدالَه يَتضَمَّنُ أربَعةَ مَقاماتٍ:
أحدُها: أنَّه يُبيِّنُ أنَّ الأدِلَّةَ النَّقليَّةَ مِن الكِتابِ والسُّنَّةِ لا تُفيدُ عِلمًا ولا يقينًا.
الثَّاني: أنَّ ظاهِرَها يدُلُّ على الباطِلِ والتَّشبيهِ والتَّمثيلِ.
الثَّالِثُ: أنَّ صَريحَ العَقلِ يُخالِفُها.
الرَّابعُ: أنَّه يتعَيَّنُ تقديمُه عليها، ولا يَصِلُ إلى هذه المقاماتِ إلَّا بأعظَمِ الجِدالِ.
فهو مُرادٌ بهذه الآياتِ قَطعًا، وأعمالُهم شاهِدةٌ عليهم لِمَن لم يَطَّلِعْ على حَقيقةِ أقوالِهم، وهي التكَبُّرُ والتجَبُّرُ، والفَرَحُ في الأرضِ بغيرِ الحَقِّ، والمرَحُ، وطَلَبُ العُلُوِّ في الأرضِ والفَسادِ، ولا تَجِدُ من يُعارِضُ الوَحيَ بالعَقلِ ويُقَدِّمُه عليه إلَّا بهذه المنزلةِ؛ فهذه عُلومُهم وعقائِدُهم، وهذه إرادتُهم وأعمالُهم [570] يُنظر: ((الصواعق المرسلة)) لابن القيم (3/1130-1131). .
17- في قَولِه تعالَى: الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آَيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آَمَنُوا أنَّه ليس لأحَدٍ مِن خَلْقِ اللهِ كائنًا مَن كان أنْ يُبطِلَ قَولًا، أو يُحَرِّمَ فِعلًا إلَّا بسُلطانِ الحُجَّةِ، وإلَّا كان ممَّن قال اللهُ فيه ذلك [571] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (3/245). .
18- قَولُ اللهِ تعالَى: الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آَيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ، أي: بغيرِ حُجَّةٍ وبُرهانٍ، وهذا وَصفٌ لازِمٌ لكُلِّ مَن جادَلَ في آياتِ اللهِ؛ فإنَّه مِن المُحالِ أنْ يُجادِلَ بسُلطانٍ؛ لأنَّ الحَقَّ لا يُعارِضُه مُعارِضٌ، فلا يُمكِنُ أن يُعارَضَ بدَليلٍ شَرعيٍّ أو عقليٍّ أصلًا [572] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (27/513). ؛ فقَولُه: بِغَيْرِ سُلْطَانٍ فيه أنَّه لا سُلطانَ لكلِّ إنسانٍ جادَلَ لإدحاضِ الحَقِّ وإظهارِ الباطلِ، يُؤخذُ مِن قَولِه: بِغَيْرِ سُلْطَانٍ؛ فهذا الوَصفُ وَصفٌ لبيانِ الواقعِ، وليس وَصفًا مُقَيِّدًا، والفَرقُ أنَّنا لو قُلْنا: إنَّه وَصفٌ مُقَيِّدٌ صارَ الذين يُجادِلون في آياتِ اللهِ لإبطالِها: أحيانًا يكونُ معهم سُلطانٌ، وأحيانًا لا يكونُ معهم سُلطانٌ! والواقعُ أنَّه ليس لهم سُلطانٌ، والقَيدُ المُبَيِّنُ للواقِعِ ليس له مَفهومٌ، وهذا آتٍ في القُرآنِ كَثيرًا، وإنَّما المَقصودُ به -أي: بالقَيدِ المُبَيِّنِ للواقعِ- الاستِدلالُ، يعني: فكأنَّه تعليلٌ للمَوصوفِ [573] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة غافر)) (ص: 286). .
19- قَولُه تعالَى: كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ فيه إثباتُ المَقْتِ للهِ عزَّ وجلَّ، وأنَّه يَتفاضَلُ، فيكونُ مَقْتُه على شَخصٍ أو طائفةٍ أكبرَ مِن مَقْتِه على شَخصٍ أو طائفةٍ أُخرَى [574] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة غافر)) (ص: 291). .
20- في قَولِه تعالَى: عِنْدَ اللَّهِ إثباتُ العِنْدِيَّةِ للهِ تعالَى، ثمَّ العِنْديَّةُ نوعانِ: عِنديَّةُ وَصفٍ، وعِنديَّةُ قُرْبٍ؛ فقَولُ اللهِ تبارَك وتعالَى: إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ [الأعراف: 206] هذه عِنْديَّة قُربٍ، وقولُه هنا: كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ عِنديَّةُ وَصفٍ؛ لأنَّ المَقْتَ ليس شَيئًا مُنفَصِلًا بائنًا عنِ اللهِ حتى يَكونَ عِنديَّةَ قُرْبٍ، بل هذا عِندِيَّةُ وَصفٍ، كما يُقالُ: فلانٌ عندي عزيزٌ، أي: إنَّ عِزَّتَه قائمةٌ به، فهذه عِنِديَّةُ وصفٍ، لا قُربٍ [575] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة غافر)) (ص:293). .

بلاغة الآيات:

1- قولُه تعالَى: وَقَالَ الَّذِي آَمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ لَمَّا كان هذا تَكملةً لكلامِ الذي آمَنَ، ولم يكُنْ فيه تَعريجٌ على مُحاوَرةِ فِرعونَ على قولِه: مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى ... [غافر: 29] إلخ، وكان الَّذي آمَنَ قد جعَلَ كلامَ فِرعونَ في البَينِ، واسترْسَلَ يُكمِلُ مَقالَتَه؛ عُطِفَ فِعلُ قولِه بـ(الواوِ)؛ لِيَتَّصِلَ كلامُه بالكَلامِ الذي قبْلَه، ولئلَّا يُتوهَّمَ أنَّه قَصَدَ به مُراجعةَ فِرعونَ، ولكنَّه قصَدَ إكمالَ خِطابِه، وعُبِّرَ عنه بـ الَّذِي آَمَنَ؛ لأنَّه قد عُرِفَ بمَضمونِ الصِّلةِ بعْدَ ما تقدَّمَ [576] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/133، 134). .
- وإعادَتُه نِداءَ قَومِه بقولِه: يَا قَوْمِ تأْكيدٌ لِما قصَدَه مِن النِّداءِ الأوَّلِ [577] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/134). .
- قولُه: إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ يومُ الأحزابِ مُرادٌ به الجِنسُ لا يومٌ مُعيَّنٌ؛ بقَرينةِ إضافتِه إلى جمْعٍ أزمانُهُم مُتباعِدةٌ؛ فالتَّقديرُ: مِثلَ أيَّامِ الأحزابِ؛ فإفرادُ (يوم) للإيجازِ؛ لأنَّه لَمَّا أضافَه إلى الأحزابِ، وفسَّرَهم بقَومِ نوحٍ وعادٍ وثمودَ، ومعلومٌ أنَّ كلَّ حِزبٍ كان له يَومُ دَمارٍ؛ اقتَصَرَ على الواحِدِ مِن الجمْعِ؛ لأنَّ المُضافَ إليه أغْنى عن ذلك [578] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/164)، ((تفسير البيضاوي)) (5/57)، ((تفسير أبي حيان)) (9/255)، ((تفسير أبي السعود)) (7/275)، ((تفسير ابن عاشور)) (24/134). .
وفيه وَجهٌ آخَرُ: أنَّه لَمَّا كان أقَلُّ ما يُخشَى يَكفي العاقِلَ، وكانتْ قُدرةُ اللهِ سُبحانَه عليهم كُلِّهم على حَدٍّ سَواءٍ لا تفاوُتَ فيها، فكان هلاكُهم كُلِّهم كهَلاكِ نَفْسٍ واحِدةٍ- أفردَ فقال: مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ، مع أنَّ إفرادَه أروعُ وأقوَى في التَّخويفِ وأفظَعُ؛ للإشارةِ إلى قُوَّةِ اللهِ تعالَى، وأنَّه قادِرٌ على إهلاكِهم في أقَلِّ زَمانٍ [579] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (17/59-60). .
2- قولُه تعالَى: مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ
- لَمَّا كان قولُه: مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ بَيانًا لقولِه: مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ، كان ما يُضافانِ إليه مُتَّحِدًا لا مَحالةَ، فصارَ الأحزابُ والدَّأْبُ في معنًى واحِدٍ، وإنَّما يتِمُّ ذلك بتَقديرِ مُضافٍ مُتَّحدٍ فيهما؛ فالتَّقديرُ: مِثلَ يومِ جَزاءِ الأحزابِ، مِثلَ يومِ جَزاءِ دَأْبِ قومِ نُوحٍ وعادٍ وثمودَ، أي: جَزاءِ عَمَلِهم [580] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/134). .
- قَولُه: مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَمَّا كان هؤلاء أقوَى الأُمَمِ اكتفَى بهم، وأجمَلَ مَن بَعدَهم [581] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (17/60). .
- وجُملةُ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ مُعترِضةٌ، والواوُ اعتراضيَّةٌ، وهي اعتراضٌ بيْن كلامَيه المُتعاطفَينِ، أي: أخافُ عليكم جَزاءً عادلًا مِن اللهِ، وهو جَزاءُ الإشراكِ [582] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/135). .
- قَولُه: وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ فيه مُبالَغةٌ في نَفيِ الظُّلمِ؛ حيثُ عَلَّقَه بالإرادةِ، فإذا نفاه عن الإرادةِ كان نفيُه عن الوُقوعِ أَوْلَى وأَحْرَى [583] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/165)، ((تفسير البيضاوي)) (5/57)، ((تفسير أبي حيان)) (9/255)، ((تفسير أبي السعود)) (7/257). .
- قولُه: وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ الظُّلمُ يُطلَقُ على الشِّركِ، ويُطلَقُ على المُعامَلةِ بغيرِ الحقِّ، وقدْ جمَع قولُه: وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ نفْيَ الظُّلمِ بمَعنَييهِ على طَريقةِ استِعمالِ المشترَكِ في مَعنَيْيهِ. وفيه تَقديمُ اسمِ الجَلالةِ اللَّهُ على الخبَرِ الفِعليِّ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ؛ لإفادةِ قَصرِ مَدلولِ المُسنَدِ على المُسنَدِ إليه، وإذ كان المُسنَدُ واقعًا في سِياقِ النَّفيِ، فالمعنى: قَصْرُ نفْيِ إرادةِ الظُّلمِ على اللهِ تعالى قصْرَ قلْبٍ [584] تقدم تعريفه (ص: 128). ، أي: اللهُ لا يُرِيدُ ظُلْمًا للعِبادِ، بلْ غيرُه يُرِيدونه لهم، وهم قادةُ الشِّركِ وأئمَّتُه؛ إذ يَدْعُونهم إليه، ويَزْعُمون أنَّ اللهَ أمَرَهم به؛ قال تعالَى: وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آَبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ [الأعراف: 28] ؛ هذا على المعنى الأوَّلِ للظُّلمِ، وأمَّا على المعنى الثَّاني، فالمعنى: ما اللهُ يُريدُ أنْ يَظلِمَ عِبادَه، ولكنَّهم يَظلِمون أنفُسَهم باتِّباعِ أئمَّتِهم على غيرِ بَصيرةٍ؛ فلمْ يَخرُجْ تَقديمُ المُسنَدِ إليه على الخبَرِ الفِعليِّ في سِياقِ النَّفيِ في هذه الآيةِ عن مَهْيَعِ [585] المهيع: الطَّريقُ الواسِعُ الواضِحُ. يُنظر: ((القاموس المحيط)) للفيروزابادي (ص: 765). استِعمالِه في إفادةِ قَصرِ المُسنَدِ على المُسنَدِ إليه [586] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/135، 136). .
3- قولُه تعالَى: وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ أعقَبَ تَخويفَهم بعِقابِ الدُّنيا الذي حَلَّ مِثلُه بقَومِ نُوحٍ وعادٍ وثمودَ والَّذين مِن بعْدِهم؛ بأنْ خوَّفَهم وأنْذَرَهم عذابَ الآخِرةِ، عاطِفًا جُملتَه على جُملةِ عذابِ الدُّنيا [587] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/136). .
- وأقْحَمَ بيْن حرْفِ العَطْفِ والمعطوفِ نِداءَ قَومِه وَيَا قَوْمِ؛ تأْكيدًا لِما قصَدَه مِن النِّداءِ الأوَّلِ [588] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/136). .
- ومِن بَديعِ البَلاغةِ: ذِكرُ وَصفِ يَوْمَ التَّنَادِ لليومِ في هذا المقامِ؛ لِيُذكِّرَهم أنَّه في مَوقفِه بيْنهم يُنادِيهم بـ (يا قومِ) ناصِحًا، ومُرِيدًا خَلاصَهم مِن كلِّ نِداءٍ مُفزِعٍ يومَ القِيامةِ، وتأْهِيلَهم لكُلِّ نِداءٍ سارٍّ فيه [589] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/136). .
- وعلى قِراءةِ يَوْمَ التَّنَادِ بدُونِ ياءٍ في الوصلِ والوقفِ، وهو غيرُ مُنوَّنٍ، ولكنْ عُومِلَ مُعامَلةِ المُنوَّنِ؛ فهو لِقَصْدِ الرِّعايةِ على الفواصلِ. وقُرِئَ يَوْمَ التَّنَادِي بإثْباتِ الياءِ على الأصْلِ [590] قرأ التَّنَادِي بإثباتِ الياءِ: ابنُ كثير وَيَعقوبُ، وأثبتَهما فِي الوصلِ: ورش وَابْن وردان، وقرأ الباقون بحذْفها التَّنَادِ. يُنظر: ((تحبير التيسير)) لابن الجزري (ص: 540). ؛ اعتبارًا بأنَّ الفاصلةَ هي قولُه: فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ [591] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/136، 137). .
4- قولُه تعالَى: يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ
- (مِن) الدَّاخلةُ على عَاصِمٍ صِلةٌ لِتَأكيدِ النَّفيِ [592] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/137). .
- وجُملةُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ عطْفٌ على جُملةِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ؛ لِتَضمُّنِها معنى: إنِّي أرْشَدْتُكم إلى الحَذَرِ مِن يومِ التَّنادي. وفي الكلامِ إيجازٌ بحَذْفِ جُمَلٍ تَدلُّ عليها الجُملةُ المعطوفةُ، والتَّقديرُ: هذا إرشادٌ لكمْ؛ فإنْ هَداكم اللهُ عمِلْتُم به، وإنْ أعرَضْتُم عنه فذلك لأنَّ اللهَ أضَلَّكم، ومَن يُضلِلِ اللهُ فما له مِن هادٍ، وفي هذه الجُملةِ معنَى التَّذييلِ [593] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/137). .
- والمرادُ مِن قولِه: وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ العمومُ الشَّاملُ لكلِّ مَن حرَمَه اللهُ التَّوفيقَ. وفيه تَعريضٌ بتَوقُّعِه أنْ يكونَ فِرعونُ وقومُه مِن جُملةِ هذا العُمومِ، وآثَرَ لهم هذا هنا دونَ أنْ يقولَ: وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ [الزمر: 37] ؛ لأنَّه أحسَّ منهم الإعراضَ، ولمْ يَتوسَّمْ فيهم مَخائلَ الانتفاعِ بنُصْحِه ومَوعظتِه [594] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/138). .
5- قولُه تعالَى: وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ
- قولُه: وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ تَوبيخٌ مُوجَّهٌ لهم مِن المؤمِنِ؛ بأنَّ يُوسفَ عليه السَّلامُ أتاكمْ بالمُعجِزاتِ فشَكَكْتُم فيها، ولم تَزالوا شاكِّينَ كافرينَ ... [595] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/166)، ((تفسير أبي حيان)) (9/256). .
- وتَأكيدُ الخبَرِ بـ (قدْ) ولامِ القسَمِ لِتَحقيقِه؛ لأنَّهم مَظِنَّةُ أنْ يُنكِروه لِبُعدِ عَهْدِهم به [596] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/138). .
- قولُه: فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا عُدِّيَ فِعلُ جَاءَكُمْ إلى ضَميرِ المُخاطَبينَ، وأُسنِدَ فَمَا زِلْتُمْ وقُلْتُمْ إلى ضَميرِهم أيضًا، وهمْ ما كانوا مَوجودينَ حِينئذٍ؛ قصْدًا لِحَمْلِ تَبِعةِ أسلافِهم عليهم، وتَسجيلًا عليهم بأنَّ التَّكذيبَ للنَّاصحينَ، واضطرابَ عُقولِهم في الانتفاعِ بدَلائلِ الصِّدقِ؛ قد وَرِثوه عن أسلافِهم في جِبلَّتِهم، وتَقرَّرَ في نُفوسِهم، فانتقالُه إليهم جِيلًا بعْدَ جِيلٍ [597] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/141). .
- وفي قولِه: حَتَّى إِذَا هَلَكَ كأنَّه عبَّرَ بالهَلاكِ؛ إيهامًا لهم أنَّه غيرُ مُعظِّمٍ له، وأنَّه إنَّما يقولُ ما يُشعِرُ بالتَّعظيمِ؛ لأجْلِ مَحْضِ النَّصيحةِ والنَّظرِ في العاقبةِ [598] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (17/64). .
- قولُه: كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ إلى قولِه: كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ مِن كَلامِ اللهِ تعالى -على قولٍ- مُعترِضٌ بيْن كَلامِ المؤمنِ وكلامِ فِرعونَ؛ فإنَّ هذا مِن المعاني الإسلاميَّةِ، قُصِدَ منه العِبرةُ بحالِ المُكذِّبينَ بمُوسى تَعريضًا بمُشْركي قُريشٍ، أي: كضَلالِ قَومِ فِرعونَ يُضِلُّ اللهُ مَن هو مُسرِفٌ مُرتابٌ أمْثالُكم، فكذلك يكونُ جَزاؤُكم [599] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/141). .
- والإشارةُ في قولِه: كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ إلى الضَّلالِ المأْخوذِ مِن قولِه: يُضِلُّ اللَّهُ، أي: مِثلَ ذلك الضَّلالِ يُضِلُّ اللهُ المُسرِفين المُرتابِين، أي: أنَّ ضَلالَ المُشرِكين في تَكذيبِهم محمَّدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مِثلُ ضَلالِ قَومِ فِرعونَ في تَكذيبِهم مُوسى عليه السَّلامُ [600] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/142). .
6- قولُه تعالَى: الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آَيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آَمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ
- قولُه: الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آَيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ فيه اختِيارُ التعبيرِ بالمضارِعِ يُجَادِلُونَ؛ لإفادةِ تَجدُّدِ مُجادلَتِهم وتَكرُّرِها، وأنَّهم لا يَنفَكُّون عنها، وهذا صَريحٌ في ذَمِّهم، وكِنايةٌ عن ذَمِّ جِدالِهم الذي أوجَبَ ضَلالَهم. وفي الموصوليَّةِ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ ... إيماءٌ إلى عِلَّةِ إضلالِهم، وهو تَكرُّرُ مُجادلَتِهم قَصْدًا للباطِلِ [601] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/142). .
- وهذه الصِّفةُ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آَيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ مَوجودةٌ في فِرعونَ وقومِه، وقد عدَلَ الواعظُ عن مُخاطَبتِهم إلى الاسمِ الغائِبِ؛ لِحُسْنِ مُحاوَرتِه لهم، واستِجلابِ قُلوبِهم، وأبرَزَ ذلك في صُورةٍ تُذكِّرُهم، فلم يَخُصَّهم بالخِطابِ [602] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (9/257)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (8/485). .
- وجُملةُ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ خبَرٌ، مِن بابِ الإخبارِ بالإنشاءِ، وهي إنشاءُ ذَمِّ جِدالِهم المقصودِ منه كَمُّ (أي: تَغطيةُ وسَدُّ) فَمِ الحقِّ، أي: كبُرَ جِدالُهم مَقتًا عندَ اللهِ، وفي هذا تَفظيعٌ صَريحٌ لِجِدالِهم بعْدَ أنِ استُفِيدَ مِن صِلَةِ الموصولِ أنَّ جِدالَهم هو سبَبُ إضلالِهم ذلك الإضلالَ المَكينَ؛ فحصَلَ بهذا الاستِئنافِ تَقريرُ فَظاعةِ جِدالِهم بطريقيِ الكِنايةِ والتَّصريحِ [603] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/167)، ((تفسير أبي حيان)) (9/258)، ((تفسير أبي السعود)) (7/275)، ((تفسير ابن عاشور)) (24/143)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (8/485). .
- وعُطِفَ قولُه: وَعِنْدَ الَّذِينَ آَمَنُوا على عِنْدَ اللَّهِ؛ قيل: لأنَّ كونَه مقْتًا عِندَ اللهِ لا يَحصُلُ في عِلمِ الناسِ إلَّا بالخبَرِ، فزِيدَ الخبَرُ تأْييدًا بالمُشاهَدةِ؛ فإنَّ الذين آمَنوا -على قِلَّتِهم يَومئذٍ- يَظهَرُ بيْنَهم بُغضُ مُجادَلةِ المشركينَ. والأظهرُ: أنَّ اللهَ أرادَ التَّنويهَ بالمؤمنينَ، ولم يُرِدْ إقْناعَ المشركينَ؛ فإنَّهم لا يَعْبَؤون ببُغضِ المؤمنِينَ، ولا يُصدِّقون ببُغضِ اللهِ إيَّاهم؛ فالمقصودُ الثَّناءُ على المؤمنينَ بأنَّهم يَكرَهون الباطِلَ، مع الإشارةِ إلى تَبْجيلِ مَكانتِهم بأنْ ضُمَّتْ عِنديَّتُهم إلى عِنديَّةِ اللهِ تعالى [604] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/144). .
- وفي إسنادِ كَراهيةِ الجِدالِ في آياتِ اللهِ بغيرِ سُلطانٍ في قولِه: وَعِنْدَ الَّذِينَ آَمَنُوا للمُؤمنِينَ: تَلقينٌ للمُؤمنِينَ بالإعراضِ عن مُجادَلةِ المشركينَ، على نحْوِ ما في قولِه تعالَى: وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ [605] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/144). [القصص: 55] .
- قولُه: كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ استِئنافٌ للدَّلالةِ على المُوجِبِ لِجِدالِهم [606] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (5/57). .
- وقُرِئَ قَلْبٍ بالتَّنوينِ [607] قرأ أبو عَمرو وابنُ ذَكوان بالتنوينِ، والباقون بدون تَنوينٍ. يُنظر: ((الإقناع في القراءات السبع)) لابن البَاذِش (ص: 371)، ((تحبير التيسير في القراءات العشر)) لابن الجزري (ص: 539). على وَصْفِه بالتَّكبُّرِ والتَّجبُّرِ؛ لأنَّه مَركَزُهما ومَنبَعُهما، كما تقولُ: رأَتِ العينُ، وسمِعَت الأذُنُ [608] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/167)، ((تفسير البيضاوي)) (5/57)، ((تفسير أبي السعود)) (7/276). .
- والمُتكبِّرُ: ذو الكِبْرِ المبالَغِ فيه؛ ولذلك عُبِّرَ بصِيغةِ التَّكلُّفِ (مُتفعِّل) [609] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (24/144). .