موسوعة التفسير

سورةُ النُّورِ
الآيات (55-57)

ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ

غريب الكلمات:

لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ: أي: ليجعَلَنَّهم خُلَفاءَ، والخِلافةُ: النِّيابةُ عن الغَيرِ، يُقالُ: خلَفَ فلانٌ فلانًا: إذا قام بالأمرِ عنه؛ إمَّا معه وإمَّا بَعْدَه، وأصلُه: يدُلُّ على مجيءِ شَيءٍ بعدَ شيءٍ يقومُ مَقامَه [1303] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/346)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/210)، ((المفردات)) للراغب (ص: 294)، ((تفسير القرطبي)) (1/264)، ((تفسير الشوكاني)) (4/55). .
وَلَيُمَكِّنَنَّ: أي: لَيُثبِّتنَّ، وليوطِّئَنَّ، والتَّمكينُ هنا: التَّثبيتُ والتَّقريرُ [1304] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/346)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 414)، ((المفردات)) للراغب (ص: 772)، ((تفسير الزمخشري)) (3/251)، ((تفسير الشوكاني)) (4/55)، ((تفسير ابن عاشور)) (18/287). .

المعنى الإجمالي:

يُبيِّنُ الله تعالى وعْدَه الذي لا يتخلَّفُ لعبادِه المؤمنينَ، فيقولُ: وعَدَ اللهُ الذين آمَنوا وعَمِلوا الصَّالحاتِ بمِيراثِ الأرضِ وخِلافتِها، كما استخلفَ المؤمِنينَ مِن قَبْلِهم، وأن يجعَلَ دينَهم الذي ارتَضاه لهم -وهو الإسلامُ- دينًا مَكينًا عزيزًا، فيَظهَرَ على غيرِه مِن الأديانِ، وأن يغَيِّرَ حالَهم مِن الخَوفِ إلى الأمنِ، يوحِّدونَ الله ويُخلِصونَ له العبادةَ، ولا يَعبُدونَ إلهًا غيرَه سُبحانَه. ومَن كفَرَ بعْدَ ذلك الاستِخلافِ والأمنِ والتَّمكينِ، فأولئك هم الخارِجونَ عن طاعةِ اللهِ.
ثمَّ يُبيِّنُ -سُبحانه وتعالى- بعدَ ذلك أهَمَّ أركانِ عبادتِه، فقال: وأقيموا الصَّلاةَ، وأدُّوا الزَّكاةَ على الوَجهِ التَّامِّ، وأطيعوا الرَّسولَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ رجاءَ رَحمةِ اللهِ.
ثم يقولُ تعالى مثَبِّتًا للمؤمنينَ، ومهَوِّنًا مِن شأنِ أعدائِهم: ولا تظُنَّنَّ -أيُّها النبيُّ- الذين كفَروا مُعجِزينَ لله في الأرضِ، بل هو قادِرٌ عليهم، ومَرجِعُهم في الآخرةِ إلى نارِ جهنَّمَ، وقبُحَ هذا المرجِعُ والمآلُ الذي يصيرونَ إليه.

تفسير الآيات:

وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ.
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
مُناسَبةُ الانتِقالِ إلى هذا الكَلامِ التعَرُّضُ إلى أحوالِ المُنافِقينَ الذين أبقاهم على النِّفاقِ تردُّدُهم في عاقبةِ أمرِ المُسلِمينَ، وخَشيتُهم ألَّا يَستَقِرَّ بالمُسلِمينَ المُقامُ بالمدينةِ حتى يَغزُوَهم المُشرِكونَ، أو يُخرِجَهم المنافِقونَ حين يَجِدونَ الفُرصةَ لذلك، مع ما لهذا الكَلامِ مِن المناسَبةِ مع قَولِه: وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا [النور: 54] ، فيكونُ المعنى: وإنْ تُطيعوه تَهتَدوا وتُنصَروا وتَأمَنوا [1305] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (18/281). .
وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ.
أي: وَعَدَ اللهُ الذين آمَنوا مِن هذه الأمَّةِ وعَمِلوا الأعمالَ الصَّالِحةَ وَعدًا جازِمًا مؤكَّدًا أنَّه سيُورِثُهم الأرضَ، فيَجعَلُهم خُلَفاءَ فيها، مُسيطرينَ عليها، متصرِّفينَ في أمورِها، والقيامِ بتَدبيرِها [1306] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/346)، ((البسيط)) للواحدي (16/343)، ((تفسير الرازي)) (24/412)، ((تفسير ابن كثير)) (6/77)، ((تفسير السعدي)) (ص: 573)، ((تفسير ابن عاشور)) (18/283). و(مِن) في قوله: مِنْكُمْ قيل: للتَّبعيضِ، أو للتَّبيينِ. يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (1/188). قال النسفي: (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ الخِطابُ للنَّبيِّ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ ولِمَن معه، مِنْكُمْ للبَيانِ، وقيل: المرادُ به المهاجِرونَ، و«مِن» للتَّبعيضِ). ((تفسير النسفي)) (2/515). وقال ابن جرير: (يقولُ تعالَى ذِكْرُه: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ ورسولِه مِنْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ). ((تفسير ابن جرير)) (17/346). وقال الشوكاني: (وهو وَعدٌ يَعُمُّ جميعَ الأُمَّةِ. وقيل: هو خاصٌّ بالصَّحابةِ، ولا وَجْهَ لذلك؛ فإنَّ الإيمانَ وعَمَلَ الصَّالحاتِ لا يختَصُّ بهم، بل يُمكِنُ وُقوعُ ذلك مِن كُلِّ واحدٍ مِن هذه الأمَّةِ، ومَن عَمِلَ بكِتابِ اللهِ وسُنَّةِ رَسولِه فقد أطاع اللهَ ورَسولَه). ((تفسير الشوكاني)) (4/55). قال ابنُ جرير: (يقولُ: لَيُورِثَنَّهم اللهُ أرضَ المشركين مِن العرَبِ والعَجَمِ، فيجعَلُهم ملوكَها وساسَتَها). ((تفسير ابن جرير)) (17/346). وقال ابن عطية: (قولُه: فِي الْأَرْضِ يريدُ في البلادِ التي تجاوِرُهم، والأصقاعِ التي قضى بامتدادِهم إليها. واستخلافُهم هو أن يُملِّكَهم البلادَ ويجعَلَهم أهلَها، كما جرى في الشَّامِ وفي العراقِ وخُراسانَ والمغربِ). ((تفسير ابن عطية)) (4/192). وقال ابن عثيمين: (كَلِمةُ الْأَرْضِ المرادُ بها الجِنسُ، ليست أرضًا واحِدةً مُعَيَّنةً، بل أرضٌ عامَّةٌ، أي: الأرضُ كُلُّها). ((تفسير ابن عثيمين - سورة النور)) (ص: 354). .
كما قال تعالى: وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ [الأنبياء: 105] .
وقال سُبحانَه: وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ [الحج: 40، 41].
وقال عزَّ وجلَّ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ [محمد: 7].
وعن ثَوْبانَ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: قال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((إنَّ اللهَ زوى [1307] زَوَى: أي: جَمَعَ. يُنظر: ((شرح النووي على مسلم)) (18/13). لي الأرضَ، فرأيتُ مَشارِقَها ومَغارِبَها، وإنَّ أمَّتي سيبلُغُ مُلْكُها ما زُوِيَ لي منها، وأُعطيتُ الكَنزَينِ: الأحمَرَ والأبيضَ، وإنِّي سألتُ رَبِّي لأمَّتي ألَّا يُهلِكَها بسَنَةٍ عامَّةٍ، وألَّا يُسَلِّطَ عليهم عدُوًّا مِن سِوى أنفُسِهم، فيَستبيحَ بَيضَتَهم [1308] بَيضَتَهم: أي: جَماعتَهم، ومَوضِعَ سُلطانِهم، ومُستَقَرَّ دَعوتِهم. يُنظر: ((النهاية)) لابن الأثير (1/172). ، وإنَّ رَبِّي قاكل: يا مُحمَّدُ، إنِّي إذا قضيتُ قضاءً فإنَّه لا يُرَدُّ، وإنِّي أعطيتُك لأمَّتِك ألَّا أُهلِكَهم بسَنَةٍ عامَّةٍ [1309] بسَنةٍ عامَّةٍ: أى: بقَحْطٍ يَعُمُّهم. يُنظر: ((شرح النووي على مسلم)) (18/14). ، وألَّا أُسَلِّطَ عليهم عدُوًّا مِن سِوى أنفُسِهم يَستبيحُ بَيضَتَهم، ولوِ اجتَمَع عليهم مَن بأقطارِها، حتى يكونَ بَعضُهم يُهلِكُ بَعضًا، ويَسبِي بعضُهم بعضً ا)) [1310] رواه مسلم (2889). .
كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ.
أي: كما ملَّك اللهُ الأرضَ لآخَرِينَ مِن قَبْلِ هذه الأُمَّةِ [1311] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/346)، ((تفسير القرطبي)) (12/299)، ((تفسير البيضاوي)) (4/113)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (5/553). ممَّن اختار أنَّ المرادَ: بنو إسرائيل: ابنُ جرير، والثعلبيُّ، ومكِّي، والواحدي، والزمخشري، وابن الجوزي، والقرطبي، والنسفي، وأبو حيان، والشنقيطي. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/346)، ((تفسير الثعلبي)) (7/114)، ((الهداية الى بلوغ النهاية)) لمكي (8/5142)، ((الوجيز)) للواحدي (ص: 768)، ((تفسير الزمخشري)) (3/251)، ((تفسير ابن الجوزي)) (3/304)، ((تفسير القرطبي)) (12/299)، ((تفسير النسفي)) (2/516)، ((تفسير أبي حيان)) (8/65)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (5/553). وممَّن اختار في الجملةِ أنَّ المرادَ: الأُممُ المؤمنةُ برُسلِها؛ بنو إسرائيلَ وغَيرُهم، وداودُ وسُلَيمانَ وغيرُهما مِنَ الأنبياءِ والمؤمنينَ: مقاتلُ بن سليمان، ويحيى بن سلام، والسمرقندي، والرازي، والخازن، والبقاعي، والقاسمي. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (3/206)، ((تفسير يحيى ابن سلام)) (1/458)، ((تفسير السمرقندي)) (2/521)، ((تفسير الرازي)) (24/412)، ((تفسير الخازن)) (3/302)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (13/304)، ((تفسير القاسمي)) (7/403). وقال الشوكاني: (وظاهِرُ قَولِه: كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كُلُّ مَنِ استَخلَفهُ اللهُ في أرضِه، فلا يُخَصُّ ذلك ببَني إسرائيلَ ولا أُمَّةٍ مِن الأمَمِ دُونَ غَيرِها). ((تفسير الشوكاني)) (4/55). وقال ابن عاشور: (يعني: الأمَمَ التي حكَمَت معظَمَ العالَمِ وأخافت جميعَه). ((تفسير ابن عاشور)) (18/286). .
كما قال تعالى حاكيًا قَولَ موسى لِقَومِه: عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ [الأعراف: 129] .
وقال سُبحانَه: وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ [القصص: 5، 6].
وقال عزَّ وجلَّ عن فِرعَونَ وقَومِه: فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ * كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ [الشعراء: 57- 59].
وقال الله عن ذي القرنين: إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآَتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا [الكهف: 84] .
وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ.
أي: ولَيُثبِّتَنَّ اللهُ للمُؤمِنينَ دينَ الإسلامِ الذي اختارَه لهم، فيَظهَرُ على غيرِه مِن الأديانِ، وينتَشِرُ ويتمَكَّنُ أتباعُه مِن إقامةِ شَرائِعِه [1312] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/346)، ((تفسير السمرقندي)) (2/521)، ((تفسير الخازن)) (3/302)، ((مراح لبيد)) للجاوي (2/119)، ((تفسير السعدي)) (ص: 573)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (5/553). .
كما قال تعالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا [المائدة: 3] .
وقال عزَّ وجلَّ: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ [التوبة: 33] .
وعن تَميمٍ الدَّاريِّ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: سَمِعتُ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقولُ: ((لَيبلُغَنَّ هذا الأمرُ ما بلغَ اللَّيلُ والنَّهارُ، ولا يَترُكُ اللهُ بَيتَ مَدَرٍ ولا وبَرٍ [1313] بَيتَ مَدَرٍ ولا وَبَرٍ: المَدَرُ: جَمَعُ مَدَرةٍ، وهي: اللَّبِنةُ، والمرادُ به هنا: البُيوتُ المُحكَمةُ المَبنيَّةُ مِن الأحجارِ والطُّوبِ واللَّبِنِ، كبُيوتِ المُدُنِ والقُرى. والوَبَرُ: شَعرُ الإبِلِ، والمرادُ به هنا: البُيوتُ غيرُ المُحكَمةِ، كبُيوتِ البوادي وأهلِ الخِيامِ. يُنظر: ((مرقاة المفاتيح)) للقاري (1/116)، ((الكوكب الوهاج شرح صحيح مسلم)) لمحمد الأمين الهَرري (26/259). إلَّا أدخَلَه اللهُ هذا الدِّينَ، بعِزِّ عزيزٍ أو بذُلِّ ذَليلٍ؛ عِزًّا يُعِزُّ اللهُ به الإسلامَ، وذُلًّا يُذِلُّ اللهُ به الكُفرَ. وكان تميمٌ الدَّاريُّ يقول: قد عرَفتُ ذلك في أهلِ بيتي؛ لقد أصابَ مَن أسلَمَ منهم الخيرُ والشَّرَفُ والعِزُّ، ولقد أصابَ مَن كان منهم كافِرًا الذُّلُّ والصَّغارُ والجِزيةُ )) [1314] أخرجه أحمد (16957) واللفظ له، والحاكم (8326)، والبيهقي (19090). صحَّحه الحاكِمُ على شَرطِ الشيخين. وقال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (6/17): (رجالُه رجالُ الصحيح). وقال الألباني في ((تحذير الساجد)) (158): (على شرطِ مُسلمٍ، وله شاهِدٌ على شَرطِ مُسلمٍ أيضًا). .
وعن المِقدادِ بنِ الأسوَدِ رَضِيَ الله عنه، قال: سَمِعتُ رَسولَ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقولُ: ((لا يَبقى على ظَهرِ الأرضِ بَيتُ مَدَرٍ ولا وَبَرٍ إلَّا أدخلَه اللهُ كَلِمةَ الإسلامِ، بعِزِّ عزيزٍ أو ذُلِّ ذليلٍ؛ إمَّا يُعِزُّهم اللهُ فيَجعَلُهم مِن أهلِها، أو يُذِلُّهم فيَدينون لها)) [1315] أخرجه أحمد (23814)، وابن حبان (6701)، والطبراني (20/255) (601). صحَّحه الحاكمُ على شرط الشيخينِ في ((المستدرك)) (4/476)، وحَسَّنه ابن عساكر في ((معجم الشيوخ)) (2/806)، وقال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (6/17): (رجالُه رجالُ الصحيحِ). وصَحَّح إسنادَه الألبانيُّ في ((تخريج مشكاة المصابيح)) (39). .
وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا.
أي: وليُغَيِّرَنَّ اللهُ حالَ المؤمِنينَ مِن الخَوفِ مِن أعدائِهم إلى الأمنِ التَّامِّ [1316] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/346)، ((تفسير السمرقندي)) (2/521)، ((الوجيز)) للواحدي (ص: 768)، ((تفسير السعدي)) (ص: 573). .
كما قال تعالى: وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآَوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [الأنفال: 26] .
وعن خَبَّابِ بنِ الأرَتِّ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: ((شَكَونا إلى رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وهو متوَسِّدٌ بُردةً [1317] مُتوَسِّدٌ بُردةً: أي: كِساءً مُخطَّطًا، والمعنى، جاعِلٌ البُردةَ وِسادةً له؛ مِن توسَّدَ الشَّيءَ: إذا جعَلَه تحتَ رأسِه. يُنظر: ((مرقاة المفاتيح)) للقاري (9/3747). له في ظِلِّ الكعبةِ، فقُلْنا: ألَا تَستنصِرُ لنا؟ ألا تدعو لنا؟ فقال: قد كان مَن قَبْلَكم يُؤخَذُ الرَّجُلُ فيُحفَرُ له في الأرضِ، فيُجعَلُ فيها، فيُجاءُ بالمنشارِ فيُوضَعُ على رأسِه فيُجعَلُ نِصفَينِ، ويُمشَطُ بأمشاطِ الحديدِ ما دونَ لَحمِه وعَظمِه، فما يَصُدُّه ذلك عن دينِه! واللهِ لَيَتِمَّنَّ هذا الأمرُ حتى يسيرَ الرَّاكِبُ مِن صَنعاءَ إلى حَضرموتَ لا يخافُ إلَّا اللهَ، والذِّئبَ على غَنَمِه، ولكِنَّكم تَستعجِلون )) [1318] رواه البخاري (6943). .
وعن عَدِيِّ بنِ حاتمٍ رَضِيَ الله عنه، قال: ((بينا أنا عندَ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إذْ أتاه رجُلٌ فشكا إليه الفاقةَ، ثمَّ أتاه آخَرُ فشكا إليه قطْعَ السَّبيلِ، فقال: يا عَدِيُّ، هل رأيتَ الحِيرةَ [1319] الحِيرةَ: مَدينةٌ كانت على ثلاثةِ أميالٍ مِنَ الكُوفةِ على مَوضِعٍ يُقالُ له: النَّجَفُ، كانت مَسكَنَ مُلوكِ العَرَبِ في الجاهِليَّةِ. يُنظر: ((معجم البلدان)) لياقوت الحموي (2/328)، ((شرح القسطلاني)) (6/50). ؟ قلتُ: لم أرَها، وقد أُنبِئتُ عنها، قال: فإنْ طالت بك حياةٌ لتَرَينَّ الظَّعينةَ [1320] الظعينةَ: أي: المرأةَ في الهَودَجِ. يُنظر: ((النهاية)) لابن الأثير (3/157). ترتحِلُ مِن الحِيرةِ حتى تطوفَ بالكعبةِ لا تخافُ أحدًا إلَّا اللهَ -قُلتُ فيما بيْني وبيْن نفْسي: فأينَ دُعَّارُ [1321] دُعَّار: أي: قُطَّاعُ الطَّريقِ. يُنظر: ((النهاية)) لابن الأثير (2/119). طَيِّئٍ الذين قد سَعَّروا [1322] سَعَّروا: أي: أوقَدوا نارَ الفِتنةِ، ومَلؤوا الأرضَ شَرًّا وفسادًا. يُنظر: ((فتح الباري)) لابن حجر (6/613). البلادَ؟!- ولئن طالت بك حياةٌ لَتُفْتَحَنَّ كنوزُ كِسرى، قلتُ: كسرى بنِ هُرمزَ؟! قال: كِسرى بنِ هُرْمُزَ، ولئن طالت بك حياةٌ لتَرَينَّ الرجُلَ يُخرِجُ مِلءَ كَفِّه مِن ذَهبٍ أو فِضَّةٍ يَطلُبُ مَن يَقبَلُه منه فلا يجِدُ أحدًا يقبَلُه منه... قال عَدِيٌّ: فرأيتُ الظَّعينةَ ترتحِلُ مِن الحِيرةِ حتى تطوفَ بالكعبةِ لا تخافُ إلَّا اللهَ، وكنتُ فيمَنِ افتتَحَ كُنوزَ كِسرى بنِ هُرْمُزَ، ولئن طالت بكم حياةٌ لتَرَوُنَّ ما قال النبيُّ أبو القاسِمِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ يُخرِجُ مِلءَ كَفِّه )) [1323] رواه البخاري (3595). .
يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا.
أي: يَعبُدُني المؤمِنونَ بإخلاصٍ آمِنينَ، ويَخضَعونَ ويتذَلَّلونَ لي بالطَّاعةِ، لا يُشرِكونَ بي شيئًا في عِبادتي [1324] يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (3/207)، ((تفسير ابن جرير)) (17/347)، ((تفسير السمعاني)) (3/545)، ((تفسير الشوكاني)) (4/56). قال الزجَّاج: (قوله: يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا يجوزُ أن يكونَ مُستأنفًا، ويجوزُ أن يكونَ في موضِعِ الحال، على معنى: وعَدَ اللهُ المؤمنينَ في حالِ عبادتِهم وإخلاصِهم لله عزَّ وجَلَّ لَيَفعلَنَّ بهم. ويجوزُ أن يكونَ استئنافًا على طريقِ الثناءِ عليهم وتثبيتًا، كأنَّه قال: يعبُدُني المؤمِنون لا يُشرِكون بي شيئًا). ((معاني القرآن)) (4/51). وقال السمرقندي: (يَعْبُدُونَنِي يعني: لكي يعبدوني لا يُشرِكونَ بي شيئًا). ((تفسير السمرقندي)) (2/521). وقال ابن عثيمين عن قوله تعالى: يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا: (لا شكَّ أنَّه تعليلٌ... لكنَّه مُتضَمِّنٌ للثَّناءِ؛ لأنَّ مَن عبَد الله استحقَّ الثناءَ). ((تفسير ابن عثيمين - سورة النور)) (ص: 365). قال الشوكاني: (جملةُ لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا في محلِّ نَصبٍ على الحالِ مِن فاعِلِ يَعْبُدُونَنِي، أي: يَعبُدونَني غيرَ مُشرِكينَ بي في العبادةِ شَيئًا مِنَ الأشياءِ. وقيل معناه: لا يُراؤونَ بعبادتي أحدًا. وقيل معناه: لا يخافونَ غَيري. وقيل معناه: لا يُحِبُّونَ غيري). ((تفسير الشوكاني)) (4/56). .
عن أُبَيِّ بنِ كَعبٍ رَضِيَ اللهُ عنه، عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((بشِّرْ هذه الأمَّةَ بالسَّناءِ [1325] بالسَّناءِ: أي: بارتِفاعِ المَنزِلةِ والقَدْرِ عندَ الله تعالى. يُنظر: ((النهاية)) لابن الأثير (2/414). والنَّصرِ والتَّمكينِ، فمَن عَمِلَ منهم عمَلَ الآخرةِ للدُّنيا، لم يكُنْ له في الآخرةِ نصيبٌ )) [1326] أخرجه أحمد (21223) واللفظ له، وابن حبان (405)، والحاكم (7862). قال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (10/223): (رجاله رجال الصحيح). ووثَّق رواتَه البوصيريُّ في ((إتحاف الخيرة المهرة)) (7/348)، وصحَّحه الألباني في ((صحيح الجامع)) (2825). .
وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ.
أي: ومَن كفَرَ بعدَ نعمةِ الاستِخلافِ والأمنِ وتمكينِ الدِّينِ [1327] ممَّن اختار أنَّ المرادَ بالكُفرِ هنا: كُفرُ النِّعمةِ: الواحديُّ، والسمعاني، والبغوي، والزمخشري، وابن الجوزي، والرازي، والقرطبي، والنسفي، والخازن، وجلال الدين المحلي. يُنظر: ((البسيط)) للواحدي (16/349)، ((تفسير السمعاني)) (3/545)، ((تفسير البغوي)) (3/427)، ((تفسير الزمخشري)) (3/252)، ((تفسير ابن الجوزي)) (3/304)، ((تفسير الرازي)) (24/414)، ((تفسير القرطبي)) (12/300)، ((تفسير النسفي)) (2/516)، ((تفسير الخازن)) (3/303)، ((تفسير الجلالين)) (ص: 467). وممَّن قال بهذا القَولِ مِن السَّلَفِ: أبو العالية. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/348)، ((تفسير ابن أبي حاتم)) (8/2630). وقيل: المرادُ به: الكُفرُ الأكبَرُ. وممَّن اختاره: الشنقيطيُّ. يُنظر: ((تفسير سورة النور)) (ص: 185). ويُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 573). وممَّن قال بنَحوِ هذا القَولِ مِنَ السَّلَفِ: حُذَيفةُ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/348). وممَّن اختار أنَّ المرادَ بقَولِه: وَمَنْ كَفَرَ أي: أقام على كُفرِه وثبتَ واستمَرَّ عليه: يحيى بنُ سلام، وأبو السعود. يُنظر: ((تفسير يحيى بن سلام)) (1/459)، ((تفسير أبي السعود)) (6/191). ، فأولئك هم الخارِجون عن طاعةِ رَبِّهم [1328] يُنظر: ((الوسيط)) للواحدي (3/327)، ((تفسير الزمخشري)) (3/252)، ((تفسير القرطبي)) (12/300)، ((تفسير البيضاوي)) (4/113)، ((تفسير ابن كثير)) (6/80)، ((تفسير السعدي)) (ص: 573). قال الواحدي: (قال المفسِّرونَ: وأوَّلُ مَن كفَر بهذه النِّعَم وجحَد حَقَّها: الذين قتَلوا عثمانَ رَضِيَ الله عنه، فلمَّا قتلوه غيَّر اللهُ ما بهم، وأدخَل عليهم الخَوفَ الذي رفَعَه عنهم حتى صاروا يقتَتِلون بعد أن كانوا إخوانًا متحابِّينَ). ((الوسيط)) (3/327). قال البيضاوي: (وَمَنْ كَفَرَ ومَن ارتدَّ، أو كفَر هذه النعمةَ بَعْدَ ذَلِكَ بعدَ الوعدِ أو حصولِ الخلافةِ. فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ الكاملونَ في فسقِهم، حيثُ ارتدُّوا بعْدَ وضوحِ مثلِ هذه الآياتِ، أو كفَروا تلك النعمةَ العظيمةَ). ((تفسير البيضاوي)) (4/113). وقال السعدي: (فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ...؛ لأنَّ الذي يتركُ الإيمانَ في حالِ عزِّه وقَهرِه، وعَدَمِ وُجودِ الأسبابِ المانعةِ منه: يدُلُّ على فَسادِ نيَّتِه، وخُبثِ طَويَّتِه؛ لأنَّه لا داعيَ له لتركِ الدِّينِ إلَّا ذلك). ((تفسير السعدي)) (ص: 573). .
كما قال تعالى: وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ [آل عمران: 105، 106].
وقال سُبحانَه: وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آَمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ [النحل: 112].
وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ.
وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ.
أي: وأقيموا -أيُّها المُؤمِنونَ- الصَّلاةَ بحُدودِها، وآتُوا الزَّكاةَ مُستَحقِّيها [1329] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/350)، ((تفسير ابن كثير)) (6/81)، ((تفسير السعدي)) (ص: 573). .
وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ.
أي: وأطيعوا رَسولَ رَبِّكم فيما يأمُرُكم به ويَنهاكم عنه؛ لِتَنالوا رحمةَ اللهِ في الدُّنيا والآخرةِ [1330] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/350)، ((تفسير ابن كثير)) (6/81)، ((تفسير السعدي)) (ص: 573)، ((تفسير ابن عاشور)) (18/289)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (5/554). (لَعَلَّ) في قَولِه: لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ إمَّا حرفُ تعليلٍ أو تَرَجٍّ؛ فعلى أنَّها حرفُ تعليلٍ فإقامةُ الصَّلاةِ وما عُطِف عليه سببٌ لرحمةِ اللَّهِ؛ لأنَّ العللَ أسبابٌ شرعيَّةٌ، وعلى أنَّ (لعلَّ) للتَّرجِّي، فالمعنى: أقيموا الصَّلاةَ، وآتُوا الزَّكاةَ على رجائِكم أَنَّ اللهَ يرحَمُكم بذلكَ؛ لأنَّ اللهَ ما أطمَعهم بتلكَ الرَّحمةِ عندَ عملِهم بمُوجبِها إلَّا ليرحَمَهم؛ لِما هو معلومٌ مِن فضلِه وكرمِه. وكونُ لعلَّ هنا للتَّرجِّي، إنَّما هو بِحَسَبِ عِلمِ المخلوقِينَ. يُنظر: ((أضواء البيان)) للشنقيطي (5/554). .
كما قال تعالى: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ [التوبة: 71] .
لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ.
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
لَمَّا كان الكُفَّارُ مِن الكَثرةِ والقُوَّةِ بمكانٍ، كان الحالُ جديرًا بتأكيدِ معنى التَّمكينِ، جوابًا لسؤالِ مَن كأنَّه قال: وهل ذلك ممكِنٌ، فقال [1331] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (13/308). :
لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ.
القِراءاتُ ذاتُ الأثَرِ في التَّفسيرِ:
قراءةُ يَحْسَبَنَّ بياءِ الغَيبةِ، وفاعِلُ الحِسبانِ هو النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فيكونُ التَّقديرُ: لا يَحسَبَنَّ محمَّدٌ الذين كفَروا مُعجِزينَ. ويحتَمِلُ أن يكونَ فاعِلُ الحِسبانِ: الذين كفَروا، ويكونَ المفعولُ الأوَّلُ مَحذوفًا، تقديرُه: لا يحسَبَنَّ الذين كفَروا أنفُسَهم مُعجِزينَ [1332] قرأ بها حمزةُ، وابنُ عامرٍ. يُنظر: ((الكشف)) لمكي (2/142). ويُنظر لمعنى هذه القراءة: ((حجة القراءات)) لابن زنجلة (ص: 505)، ((البسيط)) للواحدي (16/350). . أو: لا يَحسبنَّ الذين كفروا أحدًا يُعجِزُ الله في الأرضِ حتَّى يطمَعوا هم في مثلِ ذلك [1333] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/252). .
قِراءةُ تَحْسَبَنَّ بالتاءِ، أي: لا تحسَبَنَّ -يا محمَّدُ- الكافرينَ مُعجِزينَ [1334] قرأ بها الباقون على اختِلافٍ بينَهم في فَتحِ السِّينِ وكَسْرِها. يُنظر: ((الكشف)) لمكي (2/142). ويُنظر لمعنى هذه القراءة: ((حجة القراءات)) لابن زنجلة (ص: 505)، ((البسيط)) للواحدي (16/351). قال أبو حيان: (وقرأ الجُمهورُ لَا تَحْسَبَنَّ بتاءِ الخطابِ، والتقديرُ: لا تحسبنَّ -أيُّها المخاطَبُ-، ولا يندرجُ فيه الرَّسولُ. وقالوا: هو خِطابٌ للرَّسولِ. وليس بجَيِّدٍ؛ لأنَّ مِثلَ هذا الحِسْبانِ لا يُتصوَّرُ وُقوعُه فيه عليه السَّلامُ). ((تفسير أبي حيان)) (8/66). .
لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ.
أي: لا تظُنَّ الكافرينَ -أيُّها النبيُّ- فائتينَ في الأرضِ فلا يُدرَكونَ، ومِن الهلاكِ يُفلِتُون، فإذا أراد اللهُ هلاكَهم فهو قادرٌ عليهم، وهم مأخوذونَ لا محالةَ [1335] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/350)، ((تفسير السمرقندي)) (2/522)، ((تفسير ابن كثير)) (6/81)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (13/308)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (5/554)، ((تفسير ابن عثيمين - سورة النور)) (ص: 374). .
كما قال تعالى: أُولَئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ [هود: 20] .
وقال سُبحانَه: أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا [فاطر: 44] .
وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ.
أي: ومَسكَنُهم في الآخرةِ النَّارُ [1336] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/350)، ((تفسير ابن كثير)) (6/81)، ((السراج المنير)) للخطيب الشربيني (2/637). .
وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ.
أي: ولبِئسَ المآلُ الذي يَرجِعونَ إليه النَّارُ [1337] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/350)، ((تفسير القرطبي)) (12/301)، ((تفسير ابن كثير)) (6/81). .

الفوائد التربوية:

1- قال الله تعالى: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ يُستفادُ مِن هذه الآيةِ أنَّ الإيمانَ والعمَلَ الصَّالحَ سَبَبٌ لتمكينِ الدِّينِ في الأرضِ، وأنَّ المُخالفةَ سَبَبٌ لِنَزعِ الدِّينِ مِن الأرضِ؛ لِقَولِه تعالى: وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ فيُفهَمُ منه أنَّهم لو فَسَقُوا ولم يُؤمِنوا ولم يعمَلوا صالحًا، ما مُكِّنَ لهم الدِّينُ الذي هو لهم، والذي ارتضاه اللهُ تعالى لهم، ويتفرَّعُ على هذا: التحذيرُ البالغُ مِن المخالفةِ والفُسوقِ، وأنَّ ذلك سببٌ لنَزْعِ الدِّينِ منهم، وهذا هو المُطَّرِدُ في سُنَنِ اللهِ سُبحانه وتعالى؛ فإنَّ النِّعَمَ إذا لم تُشْكَرْ زالت، وأكبرُ نعمةٍ أنعَمَ اللهُ بها على عبادِه هي نِعمةُ الدِّينِ، فإذا لم تُشْكَرْ فإنَّها تَزولُ كغَيرِها مِن النِّعَمِ [1338] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين - سورة النور)) (ص: 366). .
2- قال الله تعالى: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ وعَدَهم اللهُ هذه الأمورَ وقتَ نزولِ الآيةِ، وهي لم تُشاهَدْ: وهي الاستِخلافُ في الأرضِ، والتَّمكينُ فيها، والتَّمكينُ مِن إقامةِ الدِّينِ الإسلاميِّ، والأمنُ التَّامُّ، بحيثُ يَعبُدونَ اللهَ، ولا يُشرِكونَ به شيئًا، ولا يخافون أحدًا إلَّا اللهَ، فقام صدرُ هذه الأُمَّةِ مِن الإيمانِ والعَمَلِ الصَّالحِ بما يفوقون على غيرِهم، فمكَّنَهم من البلادِ والعبادِ، وفُتِحَت مشارِقُ الأرضِ ومَغارِبُها، وحصل الأمنُ التَّامُّ والتَّمكينُ التامُّ، فهذا مِن آياتِ اللهِ العَجيبةِ الباهرةِ، ولا يزالُ الأمرُ إلى قيامِ السَّاعةِ: مهما قاموا بالإيمانِ والعَمَلِ الصالحِ، فلا بدَّ أن يوجَدَ ما وعَدهم اللهُ، وإنَّما يُسلِّطُ عليهم الكُفَّارَ والمنافقين، ويُديلُهم في بعضِ الأحيانِ؛ بسَبَبِ إخلالِ المسلمين بالإيمانِ والعَمَلِ الصَّالحِ [1339] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 573). ، فهذا الوَعدُ مُناسِبٌ لكُلِّ مَنِ اتَّصفَ بهذا الوَصفِ، فمَن كان أكملَ إيمانًا وعَمِلَ صالحًا، كان استِخلافُه المذكورُ أتَمَّ، فإنْ كان فيه نقصٌ وخَلَلٌ، كان في تمكينِه خَلَلٌ ونَقصٌ [1340] والقاعدةُ: أنَّ الحُكمَ المعلَّقَ على وصْفٍ يَزيدُ بزيادتِه، ويَنقُصُ بنُقصانِه. يُنظر: ((القواعد الحسان)) للسعدي (ص: 13)، ((قواعد التفسير)) لخالد السبت (2/629). ؛ وذلك أنَّ هذا جزاءُ هذا العَمَلِ، فمَن قام بذلك العمَلِ استحقَّ ذلك الجزاءَ، لكِنْ ما بقِيَ قَرنٌ مِثلُ القَرنِ الأوَّلِ؛ فلا جَرَم ما بقيَ قَرنٌ يتمكَّنُ تمكُّنَ القَرنِ الأوَّلِ [1341] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (18/302). .
3- قال الله تعالى: وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ فإقامةُ الصَّلاةِ وإيتاءُ الزَّكاةِ وطاعةُ الرَّسولِ سببٌ لرحمةِ اللهِ [1342] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين - سورة النور)) (ص: 370). ، فمَن أراد الرَّحمةَ فهذا طريقُها، ومَن رجاها مِن دونِ إقامةِ الصَّلاةِ وإيتاءِ الزَّكاةِ وطاعةِ الرَّسولِ، فهو مُتَمَنٍّ كاذِبٌ، وقد مَنَّتْه نفْسُه الأمانيَّ الكاذِبةَ [1343] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 573). .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- قَولُ اللهِ تعالى: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ يدُلُّ على أنَّه سُبحانَه متكَلِّمٌ؛ لأنَّ الوَعدَ نوعٌ مِن أنواعِ الكلامِ، والموصوفُ بالنَّوعِ مَوصوفٌ بالجِنسِ، ولأنَّه سُبحانَه مَلِكٌ مُطاعٌ، والمَلِكُ المطاعُ لا بُدَّ أن يكونَ بحيثُ يُمكِنُه وَعْدُ أوليائِه، ووعيدُ أعدائِه؛ فثبَت أنَّه سُبحانَه مُتكَلِّمٌ [1344] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (24/412). .
2- قال تعالى: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا فقد وعَدَ اللهُ الذين آمَنوا وعَمِلوا الصَّالحاتِ بالاستِخلافِ، كما وعَدَهم في تلك الآيةِ مَغفرةً وأجرًا عظيمًا، واللهُ لا يُخلِفُ الميعادَ؛ فدَلَّ ذلك على أنَّ الذين استخلَفَهم كما استخلَفَ الذين مِن قَبْلِهم، ومكَّن لهم دينَ الإسلامِ، وبَدَّلهم مِن بعدِ خَوفِهم أمنًا- لهم منه المغفرةُ والأجرُ العظيمُ.
وهذا يُستدَلُّ به مِن وَجهينِ: يُستدَلُّ به على أنَّ المُستَخلَفينَ مؤمِنون عَمِلوا الصَّالحاتِ؛ لأنَّ الوعدَ لهم لا لِغَيرِهم، ويُستدَلُّ به على أنَّ هؤلاء مَغفورٌ لهم، ولهم مغفرةٌ وأجرٌ عَظيمٌ؛ لأنَّهم آمَنوا وعَمِلوا الصَّالحاتِ، فتناولَتْهم هذه الآيةُ في سورةِ (النور)، كما تناولَتْهم آيةُ (الفتحِ): مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآَزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا [الفتح: 29] .
ومِن المعلومِ أنَّ هذه النُّعوتَ مُنطَبِقةٌ على الصَّحابةِ على زمَنِ أبي بكرٍ وعُمَرَ وعُثمانَ؛ فإنَّه إذ ذاك حصَلَ الاستِخلافُ، وتمكُّنُ الدِّينِ، والأمنُ بعدَ الخَوفِ، لَمَّا قَهَروا فارِسَ والرُّومَ، وفتَحوا الشَّامَ والعِراقَ ومِصرَ وخُراسانَ وإفريقيَّةَ.
وحينَئذٍ فقد دَلَّ القرآنُ على إيمانِ أبي بكرٍ وعُمَرَ وعُثمانَ، ومَن كان معهم في زمَنِ الاستخلافِ والتَّمكينِ والأمنِ؛ والذين كانوا في زمَنِ الاستخلافِ والتَّمكينِ والأمنِ وأدركوا زمَنَ الفِتنةِ -كعليٍّ، وطَلحةَ، والزُّبَيرِ، وأبي موسى الأشعريِّ، ومُعاويةَ، وعَمرِو بنِ العاصِ- دخلوا في الآيةِ؛ لأنَّهم استُخلِفوا ومُكِّنوا وأمِنُوا.
وأمَّا مَن حَدَث في زمَنِ الفتنةِ -كالرَّافضةِ الذين حَدَثوا في الإسلامِ في زَمَن الفِتنةِ والافتراقِ، وكالخوارجِ المارِقين- فهؤلاء لم يتناوَلْهم النَّصُّ، فلم يَدخُلوا فيمَن وُصِفَ بالإيمانِ والعَمَلِ الصَّالحِ المذكورَينِ في هذه الآيةِ؛ لأنَّهم أوَّلًا: ليسوا مِن الصَّحابةِ المُخاطَبينَ بهذا. وثانيًا: لم يحصُلْ لهم مِن الاستِخلافِ والتَّمكينِ والأمنِ بعْدَ الخَوفِ ما حصلَ للصَّحابةِ، بل لا يَزالون خائِفينَ مُقَلقَلينَ غيرَ ممكَّنينَ [1345] يُنظر: ((منهاج السنة النبوية)) لابن تيميَّة (2/36). ويُنظر أيضًا: ((تفسير الرازي)) (24/413)، ((تفسير ابن عاشور)) (18/286). .
3- التَّمكينُ في الأرضِ لا يكونُ إلَّا بعدَ تحقيقِ عبادةِ اللهِ وحْدَه، كما قال تعالى: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا، فإذا قام العبدُ بعبادةِ اللهِ مُخلِصًا له في أقوالِه وأفعالِه، لا يريدُ بها إلَّا وجهَ اللهِ والدَّارَ الآخرةَ، ولا يريدُ بها جاهًا ولا ثناءً مِن النَّاسِ، ولا مالًا ولا شيئًا مِن الدُّنيا، واستمَرَّ على هذه العبادةِ المُخلَصةِ في السَّراءِ والضَّرَّاءِ، والشِّدَّةِ والرَّخاءِ- مكَّنَ اللهُ له في الأرضِ، وإذَنْ فالتَّمكينُ في الأرضِ يَستلزِمُ وَصفًا سابقًا عليه، وهو عبادةُ اللهِ وحْدَه لا شريكَ له، وبعْدَ التَّمكينِ والإخلاصِ يكونُ الوصفُ الثاني، وهو: إقامةُ الصَّلاةِ [1346] يُنظر: ((مجموع فتاوى ورسائل العثيمين)) (20/331). .
4- قَولُ الله تعالى: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ التَّعريفُ في الصَّالِحَاتِ للاستِغراقِ، أي: عَمِلوا جميعَ الصَّالحاتِ، وهي الأعمالُ التي وصَفَها الشَّرعُ بأنَّها صلاحٌ، وتَركُوا الأعمالَ التي وصَفَها الشَّرعُ بأنَّها فَسادٌ؛ لأنَّ إبطالَ الفَسادِ صَلاحٌ [1347] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (18/283). .
5- في قَولِه تعالى: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ أنَّ الأرضَ للهِ يورِثُها مَن يشاءُ مِن عبادِه، وهو الذي يَستخلِفُ فيها النَّاسَ بَدَلَ غَيرِهم، وليس للنَّاسِ في هذه الأرضِ مُلكٌ؛ المُلكُ في الأرضِ للهِ يؤتيه مَن يَشاءُ [1348] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين - سورة النور)) (ص: 366). .
6- قال تعالى: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ تَعليقُ فِعْلِ الاستخلافِ بمجموعِ الَّذين آمَنوا وعمِلوا الصَّالحاتِ -وإنْ كان تَدبيرُ شُؤونِ الأُمَّةِ مَنوطًا بوُلاةِ الأمورِ لا بمجموعِ الأُمَّةِ- مِن حيث إنَّ لمَجموعِ الأُمَّةِ انتِفاعًا بذلك، وإعانةً عليه، كلٌّ بحسَبِ مَقامِه في المُجتمَعِ [1349] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (18/285). .
7- قال تعالى: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ ... فمتى اهتمَّ وُلاةُ الأمورِ وعُمومُ الأمَّةِ باتِّباعِ ما وضَّحَ لهم الشرعُ، تحقَّق وعدُ اللهِ إيَّاهم بهذا الوعدِ الجليلِ، وهذه التَّكاليفُ التي جعلَها اللهُ قِوامًا لصَلاحِ أمورِ الأمَّةِ، ووعَدَ عليها بإعطاءِ الخِلافةِ والتَّمكينِ والأمنِ؛ صارت بترتيبِ تلك المَوعِدةِ عليها أسبابًا لها، فلو أنَّ قومًا غيرَ مسلمين عَمِلوا في سيرتِهم وشؤونِ رعيَّتِهم بمِثلِ ما أمرَ الله به المُسلمينَ مِن الصَّالحاتِ، بحيثُ لم يُعْوِزْهم إلَّا الإيمانُ باللهِ ورَسولِه؛ لاجتَنَوا مِن سيرتِهم صوَرًا تُشبِهُ الحقائِقَ التي يَجتَنيها المسلمونَ؛ لأنَّ تلك الأعمالَ صارت أسبابًا وسُنَنًا تترتَّبُ عليها آثارُها التي جعَلَها الله سُنَنًا وقوانينَ عُمرانيَّةً، سِوى أنَّهم لِسوءِ معامَلتِهم ربَّهم، بجُحودِه، أو بالإشراكِ به، أو بعدَمِ تصديقِ رسولِه؛ يكونون بمَنأًى عن كفالتِه وتأييدِه إيَّاهم، ودَفعِ العوادي عنهم، بل يَكِلُهم إلى أعمالِهم وجهودِهم على حَسَبِ المعتادِ. ألَا ترى أنَّ القادةَ الأوروبيِّينَ بعْدَ أن اقتَبَسوا مِن الإسلامِ قوانينَه ونظامَه بما مارسُوه من شؤونِ المُسلِمينَ في خلالِ الحُروبِ الصَّليبيَّةِ، ثمَّ بما اكتَسَبوه مِن ممارسةِ كُتُبِ التاريخِ الإسلاميِّ والفقهِ الإسلاميِّ والسيرةِ النبويَّةِ؛ قد نَظَّموا ممالِكَهم على قواعِدِ العَدلِ والإحسانِ والمواساةِ، وكراهةِ البغيِ والعُدوانِ، فعَظُمَت دُوَلُهم، واستقامت أمورُهم [1350] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (18/284). ؟
8- قَولُ الله تعالى: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ يدُلُّ على أنَّه سُبحانَه يعلَمُ الأشياءَ قبلَ وقوعِها، ووجهُ الاستدلالِ به: أنَّه سُبحانَه أخبَرَ عن وقوعِ شَيءٍ في المُستقبَلِ إخبارًا على التَّفصيلِ، وقد وقع المُخبَرُ مُطابِقًا للخبرِ، ومِثلُ هذا الخبَرِ لا يَصِحُّ إلَّا مع العلمِ [1351] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (24/412). .
9- قَولُ الله تعالى: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ يدُلُّ على صِحَّةِ نبُوَّةِ محمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ لأنَّه أخبَرَ عن الغَيبِ في هذه الآيةِ، وقد وُجِدَ هذا المُخبَرُ مُوافِقًا للخَبرِ، ومِثلُ هذا الخبَرِ مُعجِزٌ، والمُعجِزُ دَليلُ الصِّدقِ؛ فدَلَّ على صِدقِ مُحمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم [1352] يُنظر: ((تفسير الرازي))  (24/413). .
10- قَولُ الله تعالى: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ يدُلُّ على أنَّ اللهَ تعالى قد مكَّن مَن قَبْلَنا واستخلفَهم في الأرضِ، كما قال موسى لقَومِه: وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ [الأعراف: 129] ، وقال تعالى: وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ [1353] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 573). [القصص: 5، 6].
11- قال الله تعالى: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا ممَّا نستفيدُه مِن الآيةِ أنَّ الإيمانَ والعمَلَ الصَّالحَ هو عبادةُ اللهِ؛ لِقَولِه: يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا، وعليه يكونُ تحقيقُ التَّوحيدِ مِن أسبابِ هذا الوَعدِ الذي وَعَد اللهُ به [1354] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين - سورة النور)) (ص: 367). .
12- قال تعالى: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ إنَّ الأمورَ الهامَّةَ ينبغي تأكيدُها بأنواعِ المؤكِّداتِ؛ فإنَّ هذا الوعدَ مِن الأمورِ الهامَّةِ؛ لِمَا يترتبُ عليه مِن المصالحِ والمنافعِ في الدُّنيا والآخرةِ؛ ولهذا أَكَّدَه اللهُ تعالى بالقَسَمِ واللامِ والنونِ، كما في قوله: لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ، وقَولِه: كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ، والمرادُ بهذا التَّشبيهِ تأكيدُ هذا الوَعدِ بذِكْرِ شواهِدِه؛ فيَكونُ ذلك أيضًا تأكيدًا معنويًّا على تأكيدٍ لَفظيٍّ، فهو سُبحانَه يَذكُرُ ما يُقوِّي القلبَ ويُثَبِّتُه [1355] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين - سورة النور)) (ص: 367). .
13- كمالُ الدِّينِ الإسلاميِّ؛ حيث قال الله تعالى: الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ، فهو الدِّينُ الذي ارتضاه لعِبادِه، وهو أكمَلُ الأديانِ؛ ولذلك خُتِمَت به الرِّسالاتُ [1356] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين - سورة النور)) (ص: 367). .
14- قولُه تعالى: وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ فيه إشارةٌ إلى أنَّ المَوصوفينَ بهذه الصِّلةِ هم الَّذين يَنشُرون هذا الدِّينَ في الأُمَمِ؛ لأنَّه دِينُهم؛ فيكونُ تمكُّنُه في النَّاسِ بواسطَتِهم [1357] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (18/287). .
15- قال الله تعالى: وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا وليس هذا الوَعدُ بمقتَضٍ ألَّا تحدُثَ حوادِثُ خَوفٍ في الأمَّةِ في بعضِ الأقطارِ، كالخَوفِ الذي اعترى أهلَ المدينةِ مِن ثَورةِ أهلِ مِصرَ الذين قادهم الضَّالُّ مالِكُ الأشتَرُ النَّخَعيُّ [1358] الأشترُ: مالكُ بنُ الحارثِ النَّخَعيُّ: كان شريفًا كبيرَ القدرِ في النخَعِ، شهِدَ اليرموك، وقُلِعَتْ عينُه يومَئذٍ، وكان ممَّن ألَّب على عُثمانَ، وقاتَلَه وحضَر حصرَه في المدينةِ. وشَهِدَ يومَ الجَمَلِ، وأيامَ صِفِّينَ مع عليٍّ، وكان خطيبًا بليغًا فارسًا. يُنظر: ((تاريخ الإسلام)) للذهبي (2/336)، ((سير أعلام النبلاء)) للذهبي (4/34)، ((الأعلام)) للزِّرِكْلي (5/259). ، ومِثلِ الخَوفِ الذي حدَثَ في المدينةِ يومَ الحَرَّةِ [1359] يوم الحَرَّةِ: أي: وَقعة الحَرَّةِ التي كانت بالمدينةِ أيَّامَ يزيدَ بنِ مُعاويةَ على يَدَي مُسلِمِ بنِ عُقبةَ لمَّا بايع أهلُ المدينةِ لعبدِ الله بنِ الزُّبيرِ، وخلَعوا بيعةَ يزيدَ، وخلَعوا واليَه في المدينةِ، وحاصروا بني أُمَيَّةَ في دارِ مرْوانَ. يُنظر: ((الروض الأُنُف)) للسهيلي (3/402). ، وغيرِ ذلك من الحوادِثِ، وإنَّما كانت تلك مُسَبَّباتٍ عن أسبابٍ بشريَّةٍ، وإلى الله إيابُهم، وعلى الله حِسابُهم [1360] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (18/287). !
16- قال الله تعالى: وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا فائِدتُه بعْدَ الخَوفِ أبلَغُ مِن ظُهورِ أمْنٍ على أمْنٍ؛ لأنَّه لا تُعرَفُ قيمةُ الأشياءِ إلَّا بضِدِّها، فإذا قُدِّرَ أنَّ هذا الإنسانَ في خَوفٍ ثم أُبدِلَ بعدَ الخَوفِ أمنًا، ظهَر لهذا الأمنِ مِن الأثَرِ في نفْسِه ما هو أبلَغُ مِمَّا لو كان أمنًا على أمنٍ [1361] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين - سورة النور)) (ص: 360). .
17- في قوله تعالى: وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ أنَّ الصَّلاةَ أفضَلُ مِن الزكاةِ؛ وذلك لتقديمِها عليها في كلِّ موضعٍ، اللهمَّ إلَّا أنْ يكونَ هناك سببٌ خاصٌّ لتقديمِ الإنفاقِ، فقد يُقَدَّمُ الإنفاقُ على الصَّلاةِ، لكنْ عندَما تُذكَرُ الصَّلاةُ والزَّكاةُ معًا فإنَّها تُقدَّمُ [1362] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين - سورة النور)) (ص: 372)، ويُنظر أيضًا: ((تفسير أبي حيان)) (2/138). .
18- في قَولِه تعالى: وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ أنَّ الذي ثَبَتَ في السنَّةِ كالذي ثَبَتَ في القُرآنِ، وهذا شامِلٌ لِما قاله النَّبيُّ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ ابتِداءً، ولِما قاله تفسيرًا للقُرآنِ، فيكونُ فيه دليلٌ على وجوبِ العمَلِ بالسنَّةِ كما يجبُ العمَلُ بالقُرآنِ [1363] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين - سورة النور)) (ص: 371). .
19- قولُه تعالى: لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ فيه إثباتُ الأسبابِ، حيثُ جَعَلَ هذه الأشياءَ الثلاثةَ -إقامَ الصلاةِ، وإيتاءَ الزكاة، وطاعةَ الرَّسولِ- سببًا للرَّحمةِ، وهذا باعتبارِ أنَّ (لعلَّ) تعليليَّةٌ [1364] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين - سورة النور)) (ص: 371). .
20- في قَولِه تعالى: وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ أنَّ أهلَ النارِ -مِن الكُفَّارِ- مخلَّدونَ فيها، ولو لم يُخَلَّدوا لكان مأواهم ما بعْدَ النارِ؛ لأنَّ المأوى معناه المرجعُ الأخيرُ، وهذا دَليلٌ على أنَّ النارَ دائمةٌ لهم، وأنَّهم مخَلَّدون فيها، وقد ثبَت في القُرآنِ الكريمِ تأبيدُ أهلِ النَّارِ في ثلاثِ آياتٍ مِن القُرآنِ؛ هي: قَولُه تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا * إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا [النساء: 168، 169]، وقَولُه تعالى: إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا * خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا [الأحزاب: 64، 65]، وقوله تعالى: وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا [الجن: 23]، فهذه ثلاثُ آياتٍ صَريحةٌ تنُصُّ على تأبيدِ خُلودِهم [1365] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين - سورة النور)) (ص: 375). .

بلاغة الآيات:

1- قَولُه تعالى: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ
قولُه: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ... استِئنافٌ مُقرِّرٌ لِمَا في قولِه: وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا مِن الوعْدِ الكريمِ، ومُعرِبٌ عنه بطريقِ التَّصريحِ، ومُبيِّنٌ لتفاصيلِ ما أُجمِلَ فيه مِن فُنونِ السَّعاداتِ الدِّينيَّةِ والدُّنيويَّةِ الَّتي هي مِن آثارِ الاهتِداءِ، ومُتضمِّنٌ لِمَا هو المُرادُ بالطَّاعةِ الَّتي نِيطَ بها الاهتِداءُ [1366] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/190). .
وأيضًا قولُه: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فيه مُناسَبةٌ حَسنةٌ؛ حيثُ وُسِّطَ الجارُّ والمجرورُ مِنْكُمْ بين المعطوفينِ؛ لإظهارِ أصالةِ الإيمانِ وعَراقَتِه في استِتباعِ الآثارِ والأحكامِ، وللإيذانِ بكَونِه أوَّلَ ما يُطلَبُ منهم، وأهمَّ ما يجِبُ عليهم. بيْنَما أُخِّرَ عنهما في قولِه تعالى: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا [الفتح: 29] ؛ وذلك لأنَّ (مِن) هناك -في سورةِ (الفتحِ)- بَيانيَّةٌ، والضَّميرُ للَّذين معه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مِن خُلَّصِ المُؤمنين، ولا ريبَ في أنَّهم جامِعونَ بيْن الإيمانِ والأعمالِ الصَّالحةِ، مُثابِرونَ عليهما؛ فلا بُدَّ مِن وُرودِ بَيانِهم بعْدَ ذِكْرِ نُعوتِهم الجليلةِ بكَمالِها، و(من) هنا تَبعيضيَّةٌ [1367] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/190). ، على قولٍ في التفسيرِ.
وقيل: فائدةُ تَوسيطِ مِنْكُمْ بيْن آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ هنا، وتأخيرِه عنهما في سُورةِ (الفتْحِ): أنَّ التَّأخيرَ دَلَّ على أنَّ وعْدَ اللهِ تعالى بالمغفرةِ والأجْرِ العظيمِ مُسبَّبانِ عن إيمانِهم المُقارَنِ بالأعمالِ الصَّالحاتِ معًا؛ لأنَّ الاتِّصافَ بالإيمانِ والعمَلِ الصَّالحِ في الظَّاهرِ مُناسِبٌ لأنْ يَكونَ عِلَّةً للمغفرةِ والأجْرِ العظيمِ، وتوسيطَه دلَّ على أنَّ الإيمانَ هو الأصلُ في الاعتبارِ، وأنَّ الأعمالَ كالتَّابعةِ له؛ فتأثيرُ العمَلِ الصَّالحِ في الاستخلافِ دونَ تأْثيرِه في إثباتِ المغفرةِ والأجْرِ العظيمِ، ونحوُه في الاعتبارِ قولُه تعالى: وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ [البقرة: 127] ، أُخِّرَ إسماعيلُ عن المفعولِ؛ ليَدُلَّ على أنَّ إبراهيمَ عليه السَّلامُ كان الأصلَ في العمَلِ، وإسماعيلُ عليه السَّلامُ كالتَّابعِ له، ولو قدَّمَه لم يكُنْ كذلك [1368] يُنظر: ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (11/132، 133). .
والخِطابُ في قولِه: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ عامٌّ، و(مِن) للتَّبعيضِ؛ وذلك أنَّ قولَه: فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ إلى آخِرِ قولِه: فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ وسَطٌ بيْن المعطوفِ -وهو قولُه: وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ- والمعطوفِ عليه -وهو قولُه: وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ- كالاعتِراضِ؛ لأنَّ أصلَ الكلامِ: قُلْ: أطِيعوا اللهَ وأطِيعوا الرَّسولَ، ولا تخَفْ مَعرَّتَهم؛ فيَنْبغي أنْ يَجرِيَ الكلُّ على سَننٍ واحدٍ، وأنْ يُقالَ: أطيعوا اللهَ وأطيعوا الرَّسولَ، فإنْ تُعرِضوا عن طاعتِهما فقد عرَّضْتُم نُفوسَكم لِسخَطِ اللهِ تعالى، وإنْ أطَعْتُموهما تَهْتدوا. ثمَّ بيَّن ما لِلمُهتدينَ منهم بقولِه: وَعَدَ اللَّهُ إلى آخِرِه، أي: أحرَزْتُم نَصيبَكم في الدُّنيا والعُقبى؛ ولهذه الفائدةِ أُخِّرَ المعطوفُ عن المعطوفِ عليه [1369] يُنظر: ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (11/132). .
قولُه: لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا جُملةُ: لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ  ... بَيانٌ لجُملةِ: وَعَدَ؛ لأنَّها عينُ المَوعودِ به. ولمَّا كانت جُملةَ قسَمٍ وهو مِن قَبيلِ القولِ، كانت إحداهما بَيانًا للأُخرى [1370] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (18/286). . وإنَّما صِيغَ الكلامُ في هذا النَّظمِ ولم يُقتصَرْ على قولِه: لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ دونَ تَقْييدٍ بقولِه: فِي الْأَرْضِ لـ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ؛ للإيماءِ إلى أنَّ الاستِخلافَ يَحصُلُ في مُعظَمِ الأرضِ، وذلك يَقبَلُ الامتدادَ والانقباضَ [1371] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (18/286). .
وقد كان المُسلِمون واثقينَ بالأمْنِ، ولكنَّ اللهَ قدَّمَ على وعْدِهم بالأمْنِ أنْ وعَدَهم بالاستِخلافِ في الأرضِ، وتَمكينِ الدِّينِ والشَّريعةِ فيهم؛ تَنبيهًا لهم بأنَّ سُنَّةَ اللهِ أنَّه لا تأمَنُ أُمَّةٌ بأسَ غَيرِها حتَّى تكونَ قويَّةً مَكينةً مُهيمِنةً على أصقاعِها؛ ففي الوعْدِ بالاستِخلافِ والتَّمكينِ وتبْديلِ الخوفِ أمْنًا: إيماءٌ إلى التَّهيُّؤِ لتَحصيلِ أسبابِه، مع ضمانِ التَّوفيقِ لهم والنَّجاحِ إنْ هم أخَذوا في ذلك، وأنَّ مِلاكَ ذلك هو طاعةُ اللهِ والرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا [النور: 54] ، وإذا حلَّ الاهتِداءُ في النُّفوسِ نشأَتِ الصَّالحاتُ، فأقبلَتْ مُسبَّباتُها تَنهالُ على الأُمَّةِ، فالأسبابُ هي الإيمانُ وعمَلُ الصَّالحاتِ [1372] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (18/282، 283). . وقيل: تأْخيرُ التمكينِ عن الاستِخلافِ مع كونِه أجَلَّ الرَّغائبِ الموعودةِ وأعظَمَها؛ لِما أنَّ النُّفوسَ إلى الحُظوظِ العاجلةِ أميَلُ؛ فتَصديرُ المواعيدِ بها في الاستِمالةِ أدخَلُ [1373] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/191). .
واللَّامُ في قولِه: لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ جوابُ قسَمٍ مَحذوفٍ، أي: وأُقسِمُ لَيسْتخلِفنَّهم، أو أجْرى وعْدَ اللهِ -لتَحقُّقِه- مُجرى القسَمِ، فجُووِبَ بما يُجاوَبُ به القسَمُ. وعلى تَقديرِ حذْفِ القسَمِ يكونُ معمولُ وَعَدَ مَحذوفًا، تقديرُه: استِخلافَكم وتَمْكينَ دِينِكم. ودلَّ عليه جوابُ القسَمِ [1374] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/251، 252)، ((تفسير البيضاوي)) (4/112)، ((تفسير أبي حيان)) (8/65)، ((تفسير أبي السعود)) (6/190). .
السِّينُ والتَّاءُ في لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ للتَّأكيدِ، وأصْلُه: (لَيُخلِفنَّهم) [1375] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (18/285). .
قولُه: وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ، أي: لَيَجعلَنَّ دِينَهم ثابتًا مُقرَّرًا، بحيثُ يَستمِرُّون على العمَلِ بأحكامِه، ويَرجِعون إليه في كلِّ ما يأتُون وما يَذَرُون. والتَّعبيرُ عن ذلك بالتَّمكينِ الَّذي هو جَعْلُ الشَّيءِ مكانًا لآخَرَ؛ للدَّلالةِ على كَمالِ ثَباتِ الدِّينِ، ورَصانةِ أحكامِه، وسَلامتِه مِن التَّغييرِ والتَّبديلِ؛ لابتِنائِه على تَشبيهِه بالأرضِ في الثَّباتِ والقرارِ، مع ما فيه مِن مُراعاةِ المُناسَبةِ بيْنَه وبيْنَ الاستخلافِ في الأرضِ [1376] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/191). .
وتَقديمُ صِلَةِ التَّمكينِ لَهُمْ على مَفعولِه الصَّريحِ دِينَهُمُ؛ للمُسارَعةِ إلى بَيانِ كَونِ الموعودِ مِن مَنافعِهم؛ تَشويقًا لهم إليه، وتَرغيبًا لهم في قَبولِه عندَ وُرودِه؛ ولأنَّ في تَوسيطِها بيْنه وبيْن وَصْفِه -وهو قولُه: الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ- وفي تأخيرِها عنه: مِن الإخلالِ بجَزَالةِ النَّظمِ الكريمِ ما لا يَخْفَى [1377] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/191). . وقيل: قُدِّمَ لَهُمْ على المفعولِ دِينَهُمُ؛ للإيماءِ إلى العِنايةِ بهم [1378] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (18/287). .
قولُه: وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ في إضافةِ الدِّينِ إليهم -وهو دِينُ الإسلامِ- ثمَّ وَصْفِه بارتضائِه لهم: تأليفٌ لقُلوبِهم، ومَزيدُ ترغيبٍ فيه، وفضْلُ تَثبيتٍ عليه [1379] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/191). . وأيضًا إضافةُ الدِّينِ إلى ضَميرِهم؛ لتَشريفِهم به؛ لأنَّه دِينُ اللهِ، كما دلَّ عليه قولُه عقِبَه: الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ، أي: الَّذي اختارَهُ ليَكونَ دِينَهم؛ فيَقْتضي ذلك أنَّه اختارَهم أيضًا ليَكونوا أتْباعَ هذا الدِّينِ [1380] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (18/287). . وقيل: أضافه إليهم؛ إشارةً إلى رسوخِ أقدامِهم فيه، وأنَّه أبَديٌّ لا يُنسخُ [1381] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (13/304). .
وإنَّما قال: وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا ولم يقُلْ: (ولَيُؤمِّنَنَّهم) كما قال في سابقَيه؛ لأنَّهم ما كانوا يَطمَحون يومَئذٍ إلَّا إلى الأمْنِ؛ فكانوا في حالةٍ هي ضدُّ الأمْنِ، ولو أُعْطوا الأمنَ دونَ أنْ يكونوا في حالةِ خوفٍ، لكانَ الأمْنُ مِنَّةً واحدةً [1382] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (18/287). .
وإضافةُ الخوفِ إلى ضَميرِهم؛ للإشارةِ إلى أنَّه خوفٌ مَعروفٌ مُقرَّرٌ [1383] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (18/287). .
وتَنكيرُ أَمْنًا للتَّعظيمِ؛ بقَرينةِ كَونِه مُبْدَلًا مِن بَعْدِ خَوْفِهِمْ المعروفِ بالشِّدَّةِ [1384] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (18/287). .
قولُه: يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا عبَّرَ بالمُضارعِ يَعْبُدُونَنِي؛ لإفادةِ استِمرارِهم على ذلك تَعريضًا بالمُنافقين؛ إذ كانوا يُؤمِنون ثمَّ يَنقلِبون [1385] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (18/288). .
وجُملةُ: يَعْبُدُونَنِي حالٌ مِن الَّذِينَ، مُفيدةٌ لتَقييدِ الوعْدِ بالثَّباتِ على التَّوحيِد، أو استِئنافٌ ببَيانِ المُقْتضي للاستِخلافِ وما انتظَمَ معه في سِلْكِ الوعْدِ [1386] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/252)، ((تفسير البيضاوي)) (4/113)، ((تفسير أبي حيان)) (8/65)، ((تفسير أبي السعود)) (6/191). . وقيل: إنَّ جُملةَ يَعْبُدُونَنِي حالٌ مِن ضَمائرِ الغَيبةِ المُتقدِّمةِ، أي: هذا الوعدُ جَرَى في حالِ عِبادتِهم إيَّايَ، وفي هذه الحالِ إيذانٌ بأنَّ ذلك الوعْدَ جَزاءٌ لهم، أي: وعَدْتُهم هذا الوعْدَ الشَّاملَ لهم، والباقيَ في خَلَفِهم؛ لأنَّهم يعبُدونَني عِبادةً خالصةً عن الإشراكِ [1387] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (18/288). .
وجُملةُ: لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا حالٌ مِن ضَميرِ الرَّفعِ في يَعْبُدُونَنِي؛ تَقييدًا للعِبادةِ بهذه الحالةِ؛ لأنَّ المُشركين قد يَعبُدون اللهَ ولكنَّهم يُشرِكون معه غيرَه [1388] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (18/288). .
قولُه: وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ تَحذيرٌ بعْدَ البِشارةِ، على عادةِ القُرآنِ في تَعقيبِ البِشارةِ بالنِّذارةِ والعكْسُ؛ دَفْعًا للاتِّكالِ [1389] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (18/288). .
وصِيغةُ الحصْرِ المأخوذةُ مِن تَعريفِ المُسنَدِ بلامِ الجِنْسِ في قولِه: فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ مُستعمَلةٌ مُبالَغةً؛ للدَّلالةِ على أنَّه الفِسْقُ الكاملُ، ووصْفُ الفاسقين لهم رَشيقُ الموقِعِ؛ لأنَّ مادَّةَ الفِسْقِ تدُلُّ على الخُروجِ مِن المكانِ مِن مَنفَذٍ ضيِّقٍ [1390] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (18/288، 289). .
2- قوله تعالى: وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ
قولُه: وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ فيه الْتِفاتٌ مِن الغَيبةِ إلى الخِطابِ [1391] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (8/66). . وقيل: إنَّه عَطفٌ على مُقدَّرٍ يَنسحِبُ عليه الكلامُ، ويَستدعيهِ النِّظامُ؛ فكأنَّه قيل: فآمِنوا واعْمَلوا صالِحًا، وأقيمُوا. أو فلا تكْفُروا وأقيمُوا [1392] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/192). . وقيل: إنَّه عطْفٌ على جُملةِ يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا [النور: 55] ؛ لِمَا فيها مِن معنى الأمْرِ بترْكِ الشِّركِ، فكأنَّه قِيل: اعْبُدوني ولا تُشرِكوا، وأقِيموا الصَّلاةَ. والخِطابُ موَجَّهٌ للَّذين آمَنوا خاصَّةً بعدَ أنْ كان مُوجَّهًا لأُمَّةِ الدَّعوةِ؛ فالطَّاعةُ المأمورُ بها هنا غيرُ الطَّاعةِ الَّتي في قولِه: قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا [النور: 54] إلخ؛ لأنَّ تلك دَعوةٌ للمُعرِضينَ، وهذه ازديادٌ للمُؤمنينَ [1393] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (18/289). . وقيل: يجوزُ أن يكونَ مَعطوفًا على أَطِيعُوا اللَّهَ [1394] لكن قال أبو السعود : (وعطفُه على أَطِيعُوا اللَّهَ ممَّا لا يليقُ بجزالةِ النَّظمِ الكريمِ). ((تفسير أبي السعود)) (6/192). ، فإنَّ الفاصِلَ وَعدٌ على المأمورِ به؛ فيكونَ تكريرُ الأمرِ بطاعةِ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لتأكيدِ وُجوبِها، وليس ببَعيدٍ أن يَقَع بيْن المعطوفِ والمعطوفِ عليه فاصِلٌ وإن طالَ؛ لأنَّ حَقَّ المعطوفِ أن يكونَ غَيرَ المعطوفِ عليه؛ لأنَّ طُولَ الفَصلِ يُحَقِّقُ المغايَرةَ المطلوبةَ بيْن المعطوفِ والمعطوفِ عليه؛ فالواجِبُ أن يكونَ بيْن المعطوفِ والمعطوفِ عليه المغايَرةُ، وعندَ القُربِ لا يتحَقَّقُ ذلك؛ فإنَّ المُجاوَرةَ مَظِنَّةُ الاتِّصالِ، بخِلافِ المضافِ والمضافِ إليه؛ فإنَّ شِدَّةَ اتِّصالِهما مانعةٌ مِن دُخولِ فَصلٍ بينهما [1395] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/252)، ((تفسير البيضاوي)) (4/113)، ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (11/137)، ((تفسير أبي حيان)) (8/66). . وللفَصلِ والتَّأخيرِ فوائِدُ؛ منها: الإشعارُ بأنَّ الجُملةَ المُتخَلِّلةَ -وهي وَعَدَ اللَّهُ الآيةَ- ممَّا هو يُهتَمُّ بشَأنِه، وأنَّها مُتَّصِلةٌ بما يَتعلَّقُ بالمعطوفِ عليه، وهو فَإِنْ تَوَلَّوْا. ومنها: أنَّ في تأخيرِ المعطوفِ عن قَولِه: وَعَدَ اللَّهُ إعلامًا بنوعِ اتِّصالٍ به، وهو: إنْ أطعتُم وآمنتُم فقد أحرَزتُم نَصيبَكم في الدُّنيا والعُقبى. ومنها: التَّوكيدُ؛ لأنَّه لو لم يؤخَّرْ لم يُحتَجْ إلى إناطةِ «أطيعوا الرَّسولَ» به؛ فإنَّه على مِنوالِ قَولِه تعالى: ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ [النحل: 119] . ومنها: الإيذانُ بشَرَفِ إقامةِ الصَّلاةِ وإيتاءِ الزَّكاةِ، ومَحلِّهما عندَ الله، وأنَّهما أُمَّا العِباداتِ، وأبعَدُهما مَرتبةً عن سائِرِ العباداتِ والطَّاعاتِ؛ لأنَّ العَطفَ مِن بابِ عَطفِ جِبريلَ على الملائِكةِ -أي: الخاصِّ على العامِّ-، ومِن ثَمَّ رَتَّب الأوَّلَ بقَولِه: فَإِنْ تَوَلَّوْا، وعلى الثَّاني بقَولِه: لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [1396] يُنظر: ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (11/137، 138). .
قولُه: وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ أمَرَهم اللهُ سُبحانَه وتعالى بالذَّاتِ بما أمَرَهُم به بواسطةِ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مِن طاعَتِه الَّتي هي طاعَتُه تعالى في الحقيقةِ؛ تأْكيدًا للأمْرِ السَّابقِ، وتَقريرًا لمَضمونِه [1397] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/192). .
وقد جمَعَتْ هذه الآيةُ جميعَ الأعمالِ الصَّالحاتِ؛ فأهَمُّها بالتَّصريحِ، وسائرُها بعُمومِ حَذْفِ المُتعلَّقِ بقولِه: وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ، أي: في كلِّ ما يأْمُرُكم ويَنْهاكم [1398] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (18/289). .
3- قولُه تعالى: لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ استِئنافٌ ابتدائيٌّ؛ لتَحقيقِ ما اقتضاهُ قولُه: وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا [النور: 55] ؛ فقد كان المُشرِكون يومَئذٍ لم يَزالوا في قُوَّةٍ وكَثرةٍ، وكان المُسلِمون لم يَزالوا يخافونَ بأْسَهم، فرُبَّما كان الوعْدُ بالأمْنِ مِن بأْسِهم مُتلقًّى بالتَّعجُّبِ والاستِبطاءِ الشَّبيهِ بالتَّردُّدِ؛ فجاء قولُه: لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ تطْمينًا وتسليةً. والنَّهيُ في قولِه: لَا تَحْسَبَنَّ قُصِدَ منه التَّنبيهُ على تَحقيقِ الخبَرِ [1399] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (18/290). .
والخِطابُ في قولِه: لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إمَّا لكلِّ أحدٍ ممَّن يَصلُحُ له كائنًا مَن كانَ، وإمَّا للرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، على مِنهاجِ قولِه: وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [الأنعام: 14] ونظائرِه؛ للإيذانِ بأنَّ الحِسبانَ المذكورَ مِن القُبحِ والمَحذوريَّةِ بحيثُ يُنْهَى عنه مَن يَمتنِعُ صُدورُه عنه؛ فكيف بمَن يُمكِنُ ذلك منه [1400] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/192). ؟!
قولُه: مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ قولُه: فِي الْأَرْضِ ظرْفٌ لـ مُعْجِزِينَ؛ لإفادةِ شُمولِ عدَمِ الإعجازِ بجميعِ أجزائِها، أي: لا تَحسبَنَّهم مُعجزينَ اللهَ عَزَّ وجَلَّ عن إدراكِهم وإهلاكِهم في قُطْرٍ مِن أقطارِ الأرضِ بما رحُبَتْ، وإنْ هرَبُوا منها كلَّ مَهرَبٍ [1401] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/192). .
وقولُه: وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ جوابُ قسَمٍ مُقدَّرٍ، والمخصوصُ بالذَّمِّ مَحذوفٌ، أي: وباللهِ لبِئْسَ المصيرُ هي، أي: النَّارُ، والجُملةُ اعتِراضٌ تَذييليٌّ مُقرِّرٌ لِمَا قبْلَه. وفي إيرادِ النَّارِ بعُنوانِ كَونِها مأوًى ومَصيرًا لهم، إثْرَ نفْيِ فَوتِهم بالهرَبِ في الأرضِ كلَّ مَهرَبٍ مِن الجَزالةِ: ما لا غايةَ وراءَهُ، فلِلَّهِ دَرُّ شأْنِ التَّنزيلِ [1402] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/192، 193). .