موسوعة التفسير

سورةُ يس
الآيات (55-58)

ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ

غَريبُ الكَلِماتِ:

فَاكِهُونَ: أي: ناعِمونَ فَرِحونَ مَسرورونَ، وأصلُ (فكه): يدُلُّ على طِيبٍ واستِطابةٍ [606] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 366)، ((تفسير ابن جرير)) (19/463)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 364)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (4/446)، ((تفسير القرطبي)) (15/44). .
الْأَرَائِكِ: أي: السُّرُرِ الَّتي عليها الحِجَالُ [607] الحِجَالُ جمعُ حَجَلَةٍ: وهي كالقُبَّةِ، وموضعٌ يُزَيَّنُ بالثِّيابِ والسُّتورِ للعَروسِ. يُنظر: ((القاموس المحيط)) للفيروزابادي (ص: 982). ، واحِدُها: أريكةٌ، وأصلُ (أرك) هنا: يدُلُّ على إقامةٍ [608] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 366)، ((تفسير ابن جرير)) (19/465)، ((المفردات)) للراغب (ص: 73)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 213)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 274)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 80). .
يَدَّعُونَ: أي: يَتَمَنَّوْنَ، والعربُ تقولُ: ادَّعِ علَيَّ ما شِئتَ، أي: تَمَنَّ علَيَّ ما شِئتَ [609] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 367)، ((تفسير ابن جرير)) (19/466). قال ابنُ عاشور: (وزنُ يَدَّعُونَ «يَفْتَعِلونَ»، أصلُه «يَدْتَعْيُونَ» نُقِلَتْ حركةُ الياءِ إلى العينِ طَلَبًا للتَّخفيفِ... وهذا الافتعالُ لك أنْ تجعلَه مِنْ «دَعَا»، والافْتِعالُ هنا يجعلُ فعلَ «دَعَا» قاصِرًا فينبَغي تعليقُ مجرورٍ به. والتَّقديرُ: ما يَدْعونَ لأنفسِهم... وإنْ جَعلْتَه مِن «الادِّعاءِ» فمعناه: أنَّهم يَدَّعونَ ذلك حقًّا لهم، أي: تتحدَّثُ أنفسُهم بذلك فيَؤُولُ إلى معنَى: ويتمَنَّوْنَ في أنفسِهم دونَ احتياجٍ إلى أنْ يَسْأَلوا بالقولِ فلذلك قيلَ: معنَى يَدَّعُونَ: يَتمنَّوْنَ). ((تفسير ابن عاشور)) (23/43). ويُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/22). .

مُشكِلُ الإعرابِ:

قَولُه تعالى: سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ
قَولُه تعالى: سَلَامٌ: مُبتدأٌ خبَرُه الفِعلُ النَّاصِبُ لـ قَوْلًا أي: سلامٌ يُقالُ لهم قَولًا. أو التَّقديرُ: سلامٌ عليكم. أو هو مُبتدَأٌ وخبَرُه مِنْ رَبٍّ، وقَوْلًا مَصدرٌ مؤكِّدٌ لِمَضمونِ الجُملةِ، وهو مع عاملِه مُعتَرِضٌ بينَ المبتدأِ والخبَرِ. أو هو خبَرُ مُبتدَأٍ محذوفٍ، والجملةُ بعدَه صِفتُه، أي: هو سلامٌ يُقالُ قولًا مِن رَبٍّ رحيمٍ. وقيل غيرُ ذلك. قَوْلًا إمَّا: مَفعولٌ مُطلَقٌ لفِعلٍ محذوفٍ كما مضَى، وإمَّا منصوبٌ على الاختِصاصِ، والجملةُ كُلُّها استِئنافٌ بيانيٌّ لا محلَّ لها [610] يُنظر: ((التبيان في إعراب القرآن)) للعكبري (2/1085)، ((الدر المصون)) للسمين الحلبي (9/279)، ((الجدول في إعراب القرآن)) لمحمود صافي (23/24). .

المعنى الإجماليُّ:

يقولُ تعالى مبيِّنًا ما أعدَّه بفضلِه وكرمِه للمؤمنينَ: إنَّ أهلَ الجنَّةِ اليَومَ مُشتَغِلونَ بالنَّعيمِ المُقيمِ في الجنَّاتِ، فَرِحون مَسرورون هم وأزواجُهم في ظِلالِ الجنَّةِ على سُرُرٍ مُتَّكِئون، لهم في الجنَّةِ فواكِهُ كَثيرةٌ، ولهم فيها ما يَطلُبونَ ويَشتَهونَ، ولهم سَلامٌ مِن ربٍّ رَحيمٍ بهم، يقولُه قولًا؛ مُبالَغةً في تكريمِهم.

تَفسيرُ الآياتِ:

إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ (55).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا ذَكَر اللهُ سبحانَه حالَ الكافرينَ؛ أتْبَعه بحكايةِ حالِ عِبادِه الصَّالِحينَ [611] يُنظر: ((تفسير الشوكاني)) (4/431). .
وأيضًا لَمَّا ذَكَر تَعالى أهوالَ يَومِ القِيامةِ؛ أعقَبَ ذلك بحالِ السُّعداءِ والأشقياءِ [612] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (9/75). .
وأيضًا لَمَّا قَرَّر أنَّ الجزاءَ مِن جِنسِ العَمَلِ؛ شَرعَ في تفصيلِه، وبدأ بأشرَفِ الحِزبَينِ في جوابِ مَن سألَ عن هذا الجزاءِ [613] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (16/145). .
إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ (55).
أي: إنَّ أهلَ الجنَّةِ في هذا اليَومِ مُشتَغِلونَ بما هم مُنغَمِسونَ فيه مِنَ اللَّذائِذِ والنِّعَمِ، بلا هَمٍّ يُصيبُهم، ولا تعَبٍ يَلحَقُهم، وإنَّما هم مُتلَذِّذونَ فَرِحونَ مَسرورونَ [614] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/461 - 463)، ((تفسير ابن عطية)) (4/458، 459)، ((حادي الأرواح)) لابن القيم (ص: 239، 240)، ((تفسير ابن كثير)) (6/582)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (16/145، 146)، ((تفسير السعدي)) (ص: 697)، ((تفسير ابن عاشور)) (23/41)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة يس)) (ص: 198، 199). قال الرسعني: (والمرادُ بالشُّغُلِ: افتِضاضُ الأبكارِ؛ في قولِ ابنِ مسعودٍ، وسعيدِ بنِ جُبيرٍ، والحَسَنِ، وقَتادةَ، وعامَّةِ المفسِّرينَ). ((تفسير الرسعني)) (6/348). وقال ابنُ جرير بعدَ أن ذكَرَ الأقوالَ في الآيةِ: (وأَولى الأقوالِ في ذلك بالصَّوابِ: أن يُقالَ كما قال اللهُ جَلَّ ثناؤه: إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ وهم أهلُها فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ بنِعَمٍ- بأنَّهم في شُغُلٍ، وذلك الشُّغُلُ الَّذي هم فيه: نِعمةٌ، وافتِضاضُ أبكارٍ، ولَهْوٌ، ولَذَّةٌ، وشُغُلٌ عمَّا يَلْقَى أهلُ النَّارِ). ((تفسير ابن جرير)) (19/461، 462). وقال ابنُ عطيَّة: (واختَلَف النَّاسُ في تعيينِ هذا الشُّغُلِ؛ فقال ابنُ مَسعودٍ وابنُ عبَّاسٍ وابنُ المسَيِّبِ: في افتِضاضِ الأبكارِ. وحكى النَّقَّاشُ عن ابنِ عبَّاسٍ: سماعُ الأوتارِ. وقال مجاهِدٌ: معناه نعيمٌ قد شَغَلَهم. وهذا هو القَولُ الصَّحيحُ، وتعيينُ شَيءٍ دونَ شَيءٍ لا قياسَ له). ((تفسير ابن عطية)) (4/458). .
هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلَالٍ عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ (56).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا كانت النَّفْسُ لا يَتِمُّ سُرورُها إلَّا بالقرينِ الملائِمِ؛ قال [615] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (16/146). :
هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلَالٍ عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ (56).
أي: هم مع أزواجِهم [616] قال ابنُ عاشور: (المرادُ بأزواجِهم: الأزواجُ اللَّاتي أُعِدَّت لهم في الجنَّةِ، ومنهنَّ مَن كُنَّ أزواجًا لهم في الدُّنيا إن كنَّ غيرَ ممنوعاتٍ مِن الجنَّةِ؛ قال تعالى: جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آَبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ [الرعد: 23] ). ((تفسير ابن عاشور)) (23/42). يَتمتَّعونَ في ظِلالِ الجنَّةِ على السُّرُرِ الَّتي أُرخِيَ عليها ما يَستُرُها ويُزَيِّنُها، وهم مُتَّكِئونَ عليها في راحةٍ وطُمأنينةٍ ولَذَّةٍ [617] يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (3/582)، ((تفسير ابن جرير)) (19/464، 465)، ((تفسير ابن كثير)) (6/583)، ((تفسير السعدي)) (ص: 697)، ((تفسير ابن عاشور)) (23/42). .
لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ (57).
لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ.
أي: لأهلِ الجنَّةِ فيها فواكِهُ كَثيرةٌ مِن جميعِ أنواعِها، يأكُلونَ منها تَلَذُّذًا [618] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/466)، ((تفسير ابن كثير)) (6/583)، ((تفسير السعدي)) (ص: 698)، ((تفسير ابن عاشور)) (23/43). .
كما قال تعالى: لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْهَا تَأْكُلُونَ [الزخرف: 73] .
وقال سُبحانَه: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلَالٍ وَعُيُونٍ * وَفَوَاكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ * كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [المرسلات: 41 - 43] .
وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ.
أي: ولهم فيها ما يَطلُبونَ ويَشتَهونَ ويَتمَنَّونَ [619] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/466)، ((تفسير القرطبي)) (15/45)، ((تفسير ابن كثير)) (6/583)، ((تفسير العليمي)) (5/492)، ((تفسير السعدي)) (ص: 698)، ((تفسير ابن عاشور)) (23/43). قال ابن الجوزي: (قوله تعالى: وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ قال ابنُ قُتَيْبةَ: ما يَتَمَنَّوْنَ، ومنه يقولُ النَّاسُ: هو في خَيرِ ما ادَّعى، أي: ما تَمَنَّى، والعربُ تقولُ: ادَّعِ ما شِئتَ، أي: تَمَنَّ ما شِئتَ. وقال الزَّجَّاجُ: وهو مأخوذٌ مِن الدُّعاءِ، والمعنى: كلُّ ما يدعو به أهل الجنة يأتيهم). ((تفسير ابن الجوزي)) (3/528). ويُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 367)، ((معاني القرآن وإعرابه)) للزجاج (4/292). .
كما قال تعالى: وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ [فصلت: 31] .
سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ (58).
أي: ولهم نَعيمٌ آخَرُ بالسَّلامِ عليهم مِن رَبٍّ رَحيمٍ بهم، يقولُه قولًا [620] يُنظر: ((تفسير البغوي)) (4/17)، ((تفسير ابن كثير)) (6/583)، ((تفسير السعدي)) (ص: 698). قال الماوَرْديُّ: (قولُه عزَّ وجَلَّ: سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ فيه وجْهانِ؛ أحدُهما: أنَّه سلامُ الله تعالى عليهم؛ إكرامًا لهم. قاله محمَّدُ بنُ كعبٍ. الثَّاني: أنَّه تبشيرُ الله تعالى لهم بسَلامتِهم). ((تفسير الماوردي)) (5/26). .

الفَوائِدُ العِلميَّةُ واللَّطائِفُ:

1- في قَولِه تعالى: إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ كمالُ نَعيمِ أهلِ الجنَّةِ؛ لأنَّه كلَّما كَمَل النَّعيمُ كَمَل التَّفكُّهُ بهذه النِّعمةِ الَّتي يَتنعَّمُ بها الإنسانُ [621] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة يس)) (ص: 200). .
2- في قَولِه تعالى: هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ إشارةٌ إلى عدَمِ الوَحشةِ [622] يُنظر: ((تفسير الشربيني)) (3/357). .
3- في قَولِه تعالى: فِي ظِلَالٍ سؤالٌ: كيف قال سُبحانَه في صِفةِ أهلِ الجنَّةِ ذلك، والظِّلُّ إنَّما يكونُ لِما يقَعُ عليه الشَّمسُ، ولا شَمسَ في الجنَّةِ؛ لِقَولِه تعالى: لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا [الإنسان: 13] ؟!
الجوابُ عن ذلك مِن أوجُهٍ:
الأوَّلُ: أنَّ الظِّلالَ في الجنَّةِ عبارةٌ عن تكاثُفِ الأشجارِ وجَودةِ المباني، وإلَّا فلا شَمسَ تُؤذي هنالك حتَّى يكونَ ظِلٌّ يُجيرُ مِن حَرِّها [623] يُنظر: ((تفسير ابن عطية)) (5/421). .
الثَّاني: أنَّ الظِّلَّ هو ما يَدفَعُ أذَى الحَرِّ عَن الإنسانِ، وهواءُ الجنَّةِ يُنافِي كُلَّ أذًى، فهو ظِلٌّ على هذا المعنى، وإن لم يكُنْ هناك شَمسٌ [624] يُنظر: ((تفسير السمعاني)) (6/132). .
الثَّالِثُ: أنَّ المرادَ بالظِّلالِ نَعيمُها وراحتُها، ومنه قَولُهم: عَيشٌ ظَليلٌ [625] يُنظر: ((فتح الباري)) لابن حجر (6/326). .
الرَّابِعُ: أنَّ المرادَ به الوِقايةُ عن مَكانِ الألمِ؛ فإنَّ الجالِسَ تحت كِنٍّ لا يَخشى المطرَ ولا حَرَّ الشَّمسِ؛ فيَكونُ به مُستَعِدًّا لِدَفعِ الألمِ [626] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (26/294). .
الخامِسُ: أنَّه قيل: إنَّ ظِلُّ أشجارِ الجنَّةِ مِن نُورِ قناديلِ العَرشِ -أو مِن نُورِ العَرشِ-؛ لِئلَّا تَبهَرَ أبصارَهم؛ فإنَّه أعظَمُ مِن نورِ الشَّمسِ [627] يُنظر: ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص: 474). .
4- في قَولِه تعالى: عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ كمالُ راحةِ أهلِ الجنَّةِ؛ فإنَّ المُتَّكِئَ عادةً يكونُ مُستريحًا مُطمئِنًّا، وكلَّما اطمأنَّ الإنسانُ ازدادتْ راحتُه، والاتِّكاءُ على الأرائكِ لا شكَّ أنَّه دليلٌ على راحةِ البالِ وعدمِ الانشغالِ [628] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة يس)) (ص: 202). .
5- في قَولِه تعالى: لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ إشارةٌ إلى أنْ لا جوعَ هناك؛ لأنَّ التَّفَكُّهَ لا يكونُ لدفعِ الجوعِ [629] يُنظر: ((تفسير الشربيني)) (3/357). ، وإنَّما يكونُ للتَّلَذُّذِ!
6- قال الله تعالى: سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ في هذه الآيةِ الكريمةِ دَليلٌ على ما يَتمتَّعُ به أهلُ الجنَّةِ مِن السَّلامةِ مِن كلِّ الآفاتِ، ومِن الأمراضِ، ومِن الموتِ، ومِن غيرِه؛ لأنَّ اللهَ تعالى يقولُ لهم: سَلَامٌ، وهذا اللَّفظُ الصَّادِرُ مِن اللهِ عزَّ وجلَّ ليس دُعاءً، ولكِنَّه خَبَرٌ مِن اللهِ، وإنَّما يكونُ مِثلُ هذا دُعاءً إذا وقَعَ مِن المخلوقِ، أمَّا إذا كان مِن الخالقِ فهو خَبَرٌ، أي: أنَّ اللهَ تعالى يُخبِرُهم بأنَّه سيُسَلِّمُهم مِن كلِّ آفةٍ [630] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة يس)) (ص: 207). .
7- قَولُ الله تعالى: سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ فيه مُبالَغةٌ في تعظيمِهم؛ لأنَّ السَّلامَ وقَعَ منه تعالى بغيرِ واسِطةٍ [631] يُنظر: ((تفسير العليمي)) (5/492). .
8- في قَولِه تعالى: سَلَامٌ قَوْلًا إثباتُ أنَّ اللهَ تعالى يقولُ ويَتكلَّمُ [632] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة يس)) (ص: 207). .
9- في قَولِه تعالى: مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ إشارةٌ إلى أنَّهم إنَّما وصَلوا إلى هذه المنزِلةِ برَحمةِ اللهِ [633] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة يس)) (ص: 210). .

 بلاغةُ الآياتِ:

1- قولُه تعالى: إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ كَلامٌ مُستَأنَفٌ، مَسوقٌ لِتَقريرِ أحوالِ أهلِ الجَنَّةِ؛ إغاظةً لِلكُفَّارِ، وتَقريعًا لهم، وهذا ممَّا يُقالُ لِمَن حَقَّ عليهم العَذابُ؛ إعلامًا لهم بنُزولِ مَرتَبَتِهم عن مَراتِبِ أهلِ الجَنَّةِ؛ إعلانًا بالحَقائِقِ؛ لِأنَّ ذلك عالَمُ الحَقائقِ، وإدخالًا لِلنَّدامةِ والحَسرةِ عليهم على ما فَرَّطوا فيه مِن طَلَبِ الفَوزِ في الآخِرةِ؛ فإنَّ الإخبارَ بحُسنِ حالِ أعدائِهم إثرَ بَيانِ سُوء حالِهم ممَّا يَزيدُهم مَساءةً على مَساءةٍ، وهذا يُؤْذِنُ بأنَّ أهلَ الجَنَّةِ عُجِّلَ بهم إلى النَّعيمِ قبْلَ أنْ يُبعَثَ إلى النَّارِ أهلُها، وأنَّ أهلَ الجَنَّةِ غَيرُ حاضِرينَ ذلك المَحضَرَ، وفي مِثلِ هذه الحِكايةِ زِيادةُ تَصويرٍ لِلمَوعودِ، وتَمكينٌ له في النُّفوسِ، وتَرغيبٌ في الحِرصِ عليه وعلى ما يُثمِرُه [634] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/21)، ((تفسير البيضاوي)) (4/271)، ((تفسير أبي السعود)) (7/172)، ((تفسير ابن عاشور)) (23/41)، ((إعراب القرآن وبيانه)) لدرويش (8/216). .
- والتَّعبيرُ عن حالِ أهلِ الجنَّةِ هذه بالجُملةِ الاسميَّةِ إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ قبْلَ تَحقُّقِها بتَنزيلِ المُتَرقَّبِ المُتَوقَّعِ مَنزِلةَ الواقِعِ؛ لِلإيذانِ بغايةِ سُرعةِ تَحقُّقِها ووُقوعِها، ولِزيادةِ مَساءةِ المُخاطَبينَ [635] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (7/173). .
- وفائِدةُ ذِكرِ الظَّرفِ -وهو الْيَوْمَ - التَّنويهُ بذلك اليَومِ بأنَّه يَومُ الفَضلِ على المُؤمِنينَ المُتَّقينَ [636] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/41). .
- والظَّرفيَّةُ في قَولِه: فِي شُغُلٍ جَعَلَتْ تَلَبُّسَهم بالشُّغُلِ كأنَّهم مَظروفونَ فيه، أيْ: أحاطَ بهم شُغُلٌ عن مُشاهَدةِ مَوقِفِ أهلِ العَذابِ، صَرَفهمُ اللهُ عن مَنظَرِ المُزعِجاتِ؛ لِأنَّ مُشاهَدَتَها لا تَخلو مِنِ انقِباضِ النُّفوسِ، ولكَونِ هذا هو المَقصودَ عُدِلَ عن ذِكرِ ما يَشغَلُهم؛ إذْ لا غَرَضَ في ذِكرِه [637] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/41). .
- قَولُه: فِي شُغُلٍ التَّنكيرُ للتَّعظيمِ والتَّفخيمِ، أي: في أيِّ شُغُلٍ، وفي شُغُلٍ لا يُوصَفُ، أي: أنَّهم مُستَقِرُّونَ في شُغُلٍ، وأيِّ شُغُلٍ، في شُغُلٍ عَظيمِ الشَّأْنِ، مُتَنعِّمونَ بنَعيمٍ مُقيمٍ، فائِزونَ بمُلكٍ كبيرٍ، وما ظَنُّكَ بشُغُلِ مَن سُعِدَ بدُخولِ الجَنَّةِ الَّتي هي دارُ المُتَّقينَ، ووَصَل إلى نَيلِ تلك الغِبطةِ، وذلك المُلكِ الكَبيرِ، والنَّعيمِ المُقيمِ، ووَقَعَ في تلك المَلاذِّ الَّتي أعَدَّها اللهُ لِلمُرتَضَيْنَ مِن عِبادِه؛ ثَوابًا لهم على أعمالِهم، مع كَرامةٍ وتَعظيمٍ، وذلك بعْدَ الوَلَهِ والصَّبابةِ، والتَّفَصِّي مِن مَشاقِّ التَّكليفِ، ومَضايِقِ التَّقْوى والخَشيةِ، وتَخطِّي الأهوالِ، وتَجاوُزِ الأخطارِ، وجَوازِ الصِّراطِ، ومُعايَنةِ ما لَقيَ العُصاةُ مِنَ العَذابِ [638] يُنظر: ((تفسير الزمخشري- مع الحاشية)) (4/21)، ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (13/68)، ((تفسير أبي السعود)) (7/173). ؟!
- وأيضًا في تَنوينِ شُغُلٍ تَنويهٌ بأنَّ ما همْ فيه مِن شُغُلٍ أعلَى مِن أنْ تَرْقَى إليه رُتبةُ البَيانِ، أو يَستَطيعَ وَصْفَه اللِّسانُ، كما أنَّ في إبهامِه تَعظيمًا لِمَا همْ فيه مِنَ البَهجةِ والتَّلذُّذِ، وإيجازًا انطَوى تَحتَه ما لا يُعدُّ ولا يُحْصى مِن ضُروبِ المَلاذِّ الَّتي يَستَمتِعونَ بها في الجِنانِ، وأنَّ ما عَداها يُعَدُّ كَلَا شَيءٍ، كما أنَّ فيه تَصويرًا لِمَا أعَدَّه اللهُ لِعِبادِه المُتَّقينَ مِن ضُروبِ المُتعةِ وأفانينِ اللَّذَّةِ مِنِ افتِضاضِ أبكارٍ، وسَماعِ أوتارٍ، وتَزاوُرٍ في العَشايا والأسحارِ، وقد أكَّدَه بأنَّهم فاكِهونَ ناعِمونَ، لا يَشغَلُ بالَهم ما يَشغَلُ بالَ أهلِ الدُّنيا مِن تَصاريفِ الحياةِ، ومَشاغِلِ السِّنينِ، ولا يُنغِّصُ صَفوَهم هَمٌّ طارئٌ، أو غَمٌّ نازِلٌ، وأنَّ كُلَّ ما تَمتَدُّ إليه الأعيُنُ، وتُسافِرُ نَحوَه الظُّنونُ مِن صُنوفِ المَلاذِّ حاضِرٌ لَدَيهم، يَنالونَه وهمْ مُتَّكِئونَ على الأرائكِ، مُتَمدِّدونَ تَحتَ الظِّلالِ ممَّا وَرَدَ وَصْفُه مُجسَّدًا، وذلك كُلُّه على طَريقِ الكِنايةِ [639] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (4/271)، ((تفسير أبي السعود)) (7/173)، ((إعراب القرآن وبيانه)) لدرويش (8/218، 219). .
2- قولُه تعالى: هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلَالٍ عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ جُملةٌ واقِعةٌ مَوقِعَ البَيانِ لِجُملةِ إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ ...؛ لِبَيانِ كَيفيَّةِ شُغُلِهم وتَفكُّهِهم، وتَكميلِهما بما يَزيدُهُم بَهجةً وسُرورًا مِن شَركةِ أزواجِهم لهمْ فيما هُمْ فيهِ مِنَ الشُّغُلِ والفَكاهَةِ [640] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (7/173)، ((تفسير ابن عاشور)) (23/42). .
- والضميرُ (هُمْ) في قَولِه: هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ يَحتمِلُ أنْ يَكونَ مُبتَدَأً، وأنْ يَكونَ تأكيدًا لِلضَّميرِ في فِي شُغُلٍ وفي فَاكِهُونَ، على أنَّ أزواجَهم يُشارِكْنَهم في ذلك الشُّغُلِ والتَّفكُّهِ والاتِّكاءِ على الأرائكِ تَحتَ الظِّلالِ [641] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/22)، ((تفسير أبي حيان)) (9/76). .
- والجارَّانِ فِي ظِلَالٍ عَلَى الْأَرَائِكِ صِلَتانِ للخَبرِ مُتَّكِئُونَ، قُدِّمَتا عليهِ؛ لِمُراعاةِ الفَواصِلِ [642] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (7/173). .
3- قولُه تعالى: لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ بَيانٌ لِمَا يَتمَتَّعونَ به في الجَنَّةِ مِنَ المَآكِلِ والمَشارِبِ، ويَتلَذَّذونَ به مِنَ المَلاذِّ الجُسمانيَّةِ والرُّوحانيَّةِ بعْدَ بَيانِ ما لَهُم فيها مِن مَجالِسِ الأُنْسِ، ومَحافِلِ القُدسِ؛ تَكميلًا لِبَيانِ كَيفيَّةِ ما هُم فيه مِنَ الشُّغُلِ والبَهجةِ [643] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (7/173). .
- والفاكِهةُ: ما يُؤكَلُ لِلتَّلذُّذِ، لا لِلشِّبَعِ، كالثِّمارِ والبُقولِ، وإنَّما خُصَّتْ بالذِّكرِ لِأنَّها عَزيزةُ النَّوالِ لِلنَّاسِ في الدُّنيا، ولِأنَّها استَجلَبَها ذِكرُ الاتِّكاءِ؛ لِأنَّ شَأْنَ المُتَّكِئينَ أنْ يَشتَغِلوا بتَناوُلِ الفَواكِهِ [644] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/43). .
- ثمَّ عَمَّمَ ما أعَدَّ لهم بقَولِه: وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ، ويَدَّعُونَ يَجوزُ أنْ يَكونَ مُتَصرِّفًا مِنَ الدُّعاءِ، أو مِنَ الادِّعاءِ، أي: ما يَدْعون إليه، أو ما يَدَّعونَ في أنْفُسِهم أنَّه لهم بإلهامٍ إلهيٍّ، وصِيغَ له وَزنُ الافتِعالِ؛ لِلمُبالَغةِ [645] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/43). .
- وكَلِمةُ (ما) في قَولِه: وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ مَوصولةٌ، أو مَوصوفةٌ، عبَّرَ بها عن مَدعُوٍّ عَظيمِ الشَّأْنِ، مُعَيَّنٍ أو مُبهَمٍ؛ إيذانًا بأنَّه الحَقيقُ بالدُّعاءِ دونَ ما عَداهُ، ثم صرَّحَ به رَوْمًا لِزيادةِ التَّقريرِ بالتَّحقيقِ بعْدَ التَّشويقِ، أو هي باقيةٌ على عُمومِها، قَصَد بها التَّعميمَ بعْدَ تَخصيصِ بَعضِ المَوادِّ المُعتادةِ بالذِّكرِ، وفي ذلك دَلالةٌ على أنَّهم في أقصى غايةِ البَهجةِ والغِبطةِ. وقولُه: مَا مُبتدأٌ، و(لَهَمُ) خبَرُه، والجُملةُ مَعطوفةٌ على الجُملةِ السَّابقةِ، وعدَمُ الاكتفاءِ بعطفِ مَا يَدَّعُونَ على فَاكِهَةٌ؛ لِئلَّا يُتوهَّمَ كَونُ (ما) عبارةً عن تَوابعِ الفاكهةِ وتَتِمَّاتِها [646] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (7/173، 174). .
4- قولُه تعالى: سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ استِئنافٌ قُطِعَ عن أنْ يُعطَفَ على ما قَبْلَه؛ لِلاهتِمامِ بمَضمونِه، وهو الدَّلالةُ على الكَرامةِ والعِنايةِ بأهلِ الجَنَّةِ مِن جانِبِ القُدُسِ، فبَعْدَ أنْ أخبَرَ بما حَباهم به مِنَ النَّعيمِ، مُشيرًا إلى أُصولِ أصنافِه؛ أخبَرَ بأنَّ لهم ما هو أسْمَى وأعْلَى، وهو التَّكريمُ بالتَّسليمِ عليهم [647] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (23/44). .
- وتَنكيرُ سَلَامٌ لِلتَّعظيمِ، ورَفْعُه لِلدَّلالةِ على الدَّوامِ والتَّحقُّقِ؛ لِأنَّ هذا القَولَ صادِرٌ عن رَبٍّ رَحيمٍ في مَقامِ التَّعظيمِ، وكان جَديرًا بأنْ يُفخَّمَ أمْرُه ويُعظَّمَ قَدْرُه، ويَكونَ جُملةً مُستَقِلَّةً مَفصولةً عمَّا سَبَقَ، وتَنوينُ قَوْلًا دالٌّ على التَّعظيمِ، وتَنوينُ رَبٍّ لِلتَّعظيمِ أيضًا، ولِأجْلِ ذلك عُدِلَ عن إضافةِ (رَبٍّ) إلى ضَميرِهم، واختِيرَ في التَّعبيرِ عنِ الذَّاتِ العَلِيَّةِ بوَصفِ الرَّبِّ؛ لِشِدَّةِ مُناسَبتِه لِلإكرامِ والرِّضا عنهم بذِكرِ أنَّهم عَبَدوه في الدُّنيا، فاعتَرَفوا برُبوبيَّتِه [648] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (4/271)، ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (13/73، 74)، ((تفسير أبي السعود)) (7/174)، ((تفسير ابن عاشور)) (23/44). .